|
القوميه العلمانيه
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 2862 - 2009 / 12 / 18 - 11:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
المشروع القومي الديمقراطي، ذو الأفق الاشتراكي، يقتضي ضرورةً، إطلاق مشروع معرفي ملازم. والعلمانية عنصر بناء أساسي في المشروع السياسي وفي المشروع المعرفي على السواء. ذلك لأنها مدخل ضروري إلى العقلانية وجذر للديمقراطية، وأساس في بناء الدولة القومية. وتشكل مع الديقراطية مضمون القومية الحديث.
في الوطن العربي تواجه العلمانية بمواقف مختلفة ومتباينة، يجمعها قاسم مشترك هو رفض العلمانية، مجابهتها أو الإزورار عنها. فالفكر الديني يضعها في معارضة الدين، ويرميها بالزندقة والإلحاد. كما ترميها تعبيراته واستطالاته "العصرية" بالتخريب، وترى فيها مظهراً من مظاهر التبعية للغرب،وتعبيراً عن هيمنة "النخبة" المتغربة.
والفكر القومي بشقيه التقليدي، والتقليدوي الجديد، يحولها، بسبب من ازدواجيته، إلى ثورية سياسية ومحافظة أيديولوجية، يحولها إلى شعار فارغ من أي مضون، ويعزلها عن إطار الممارسة النظرية والعملية، وعن إطار المشروع السياسي النهضوي. إن تقليدويته، عفويته وشعبويته، ولا تاريخيته، حولت قوميته إلى دين وجعلت من الدين (وهوهنا الإسلام) مضموناً للقومية يتظاهر في اللغة والتاريخ والثقافة والعادات والأخلاق ووحدة الشعور والمصير.. ووحدة الأرض.
والفكر الماركسي الدوغمائي ذو الملامح الستالينية أشاح عن العلمانية جملةً وتفصيلاً، في سياق إ شاحته عن القومية والديمقراطية. فالماركسية في نظره تجب ما قبلها، وليس ثمة علاقة بين العلمانية والعقلانية والقومية والديمقراطية والاشتراكية. فكل منها تنتمي إلى عالم خاص مختلف، وعالم الماركسي الدوغمائي هو ملكوت الاشتراكية وحسب. وفي القراءة الستالينية للماركسية - اللينينية تكمن الحقيقة الناجزة، والمطلقة، وفيها علم ما تقدمم وما تأخر.
كما أن عملية الانتقال، الجارية الآن في الوطن العربي، من الدين- المعتقد إلى الدين - الملجأ او الملاذ، وبروز الدين الإحتجاجي والأيديولوجية الكفاحية بسبب من الهزائم المذلة التي منيت بها الأمة، وتنامي الاستبداد، وتراجع الحركة القومية الديمقراطية والاشتراكية، وإخفاق الأيديولوجيات الليبرالية والقومية والماركسية والستالينية، وتنامي الهيمنة الإمبريالية، واشتداد وطأة التبعية والنهب والاستغلال.. وازدياد حدة التناقضات الاجتماعية ـ السياسية مع غياب الوعي المطابق بهذه التناقضات وبحاجات التغيير.. عملية الانتقال هذه تحاصر التوجهات العلمانية وتقلص أكثر فأكثر حظوظ العقلانية وتحول حركة الاحتجاج السلبي على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى حركة ارتداد معادية للتقدم والعلمانية وحرية الفكر والإبداع.
حركة ارتداد تقودها الجماعات الدينية المتطرفة التي هي الوجه الآخر لعملة النظم القطرية المستبدة لخدمة مصالح وأهداف الفئات والقوى الاجتماعية السائدة والحاكمة، والتي تخدم في نهاية المطاف في الحفاظ على البنى والعلاقات والأوضاع القائمة وخصوصاً الدولة القطرية.
نقد هذه المواقف، ونقد الحرب الأهلية المتفجرة في لبنان وجنوبي السودان والكامنة في أقطار عربية أخرى، و الكشف عن عواملها وأسبابها الثاوية في بنى وعلاقات المجتمع التقليدي التابع والمستباح، ونقد واقعة نقص الاندماج القومي، وتشظي الوعي العربي وتأخره..
يستحضر العلمانية ويجعلها ضرورية وراهنة، ضرورة وراهنية المشروع النهضوي نفسه.
إن التناقض الاجتماعي - السياسي بين قوى المحافظة والتقليد الرجعية من جهة، والقوى الثورية من جهة أخرى، والذي ينعكس، على الصعيد الثقافي، تناقضاً بين القومية التقليدية ذات المضمون الديني والقومية الحديثة والثورية ذات المضون العلماني - الديمقراطي، يؤكد أن ضرورة العلمانية وأهميتها وراهنيتها تتناسب طرداً مع عداء القوى التقليدية المحافظة لها، وذعرها منها.
الازورار والصد عن العلمانية الذي تبديه الأيديولوجيا العربية التقليدية، والذي يعكس موقفاً محافظاً واستثنائياً، يحرم الفكر العربي من أمكانية استثمار الغنى والتنوع الذي تنطوي عليه التعددية ويسد قنوات التواصل والحوار والتفاعل الخلاق بين القوى والاتجاهات والتيارات والمذاهب السياسية والثقافية والاجتماعية المختلفة والمتباينة ويحول بالتالي دون توحيد الوعي العربي وتحقيق الهوية التي تعني وعي الذات بدلالة الآخر على إعتبار أن الإنسان هو مرآة الإنسان.
لذلك كان لابد من تقديم العلمانية، والكشف عن منطوياتها السياسية والاجتماعية والمعرفية والثقافية، والكشف كذلك عن علاقاتها الجدلية بالعقلانية والديمقراطية والقومية، وموقعها في المشروع النهضوي العربي، مشروع الثورة القومية الديمقراطية.
ـ العلمانية لغوياً مشتقة من العلم ( بفتح العين ) والعالم، العالم الدنيوي، عالم البشر الذين يصنعون تاريخهم بأنفسهم، وإذ يغيرون أشكال الطبيعة إنما يغيرون أنفسهم أيضاً، البشر المعرفين بالعمل، والإنتاج وصنع الأدوات وبالتالي بالعقل والمعرفة والحرية، البشر الذين أثناء إنتاجهم الاجتماعي لحياتهم " يدخلون في علاقات محددة وضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية. ويشكل مجموع علاقات الانتاج هذه البنيان الإقتصادي للمجتمع،أي يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وأشكال إجتماعية. فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام ليس وعي الناس بالذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم..
هذا التحديد اللغوي يلقي ضوءاً على مفهوم العلمانية كنمط من الحياة حيث الدين مقابل الدنيا، وحيث استقلال العقل عن المسبقات الدينية، وحرية الفكر ضد احتكار التقليد الديني للمعرفة، كل ذلك في إطار نظرة إلى الإنسان على أنه مقياس القيم وهدف كل تقدم، ومحور العالم.
إن تاريخ الإنسان، إنسان العمل والمعرفة و" الإيمان" هو في أحد وجوهه ومساراته العميقة تاريخ الاتصال والإنفصال، التجاذب والتنابذ، التداخل والتخارج بين السحر والمقدس والدين من جهة و العلم والفلسفة والعقل من جهة أخرى.
ـ على المستوى الحياتي أو الوجودي للفرد، ثمة تناقض لا يجوز إهماله بين الرغبة والحاجات التي تمليها الدوافع الطبيعية، و " إلحاح الفهم والتعقل " الكامن في أعماق الإنسان والمعبر عن خصائصه النوعية، هذا التناقض لا يفصح عن نفسه إلا من خلال علاقة الفرد بالطبيعة، وعلاقته بالأفراد الآخرين أي من خلال العمل الاجتماعي، من خلال تلك الشبكة المعقدة من الظاهرات والعلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية. إن عمليات التوصيف الأيديولوجي للفرد التي يلعب فيها الدين دوراً أساسياً والتي يعيد المجتمع من خلالها إنتاج نفسه في الأفراد وفي العلاقات الاجتماعية، تحاصر في الفرد خاصية الفهم والتعقل، تحرفها أوتخنقها، وتجعله يرى بعين المجتمع ويفكربعقله.
التوتر الداخلي بين الرغبة والتعقل على مستوى الفرد المحدد بالنوع والمجتمع، والمعرف بالعمل الاجتماعي يشير إلى جدلية تطور الحاجات وجدلية تطور المعرفة بالتلازم، وانتقالها من المعرفة الحسية المستندة إلى التجربة الحسية والملاحظة المباشرة التي مكثت في الذاكرة الجماعية، إلى المعرفة العقلية التي تشمل التصورات الأسطورية والفلسفية التي تنعكس فيها الروابط والعلائق والقوانين العامة للواقع الموضوعي على نحو خاطىء أو صحيح، والتي مكثت كذلك في الذاكرة الجماعية، وفي الممارسة الاجتماعية على صورة حقائق إجتماعية شغالة.. ثم إلى المعرفة العلمية التي تعنى باكتشاف الحقائق الموضوعية ( الحقائق العلمية) وقوانين الطبيعة والفكر والتاريخ، المعرفة العلمية الناجمة عن بسط سلطان العقل على سائر ميادين الحياة ومجالات عمل العقل. لذلك فإن العلمنة كانت دائماً حاضرة في تاريخ الإنسان.
الرهان الفلسفي والتاريخي للعلمانية هو الانتقال من المعرفة الإسطورية إلى المعرفة العقلانية، من الوعي الأيديولوجي إلى الوعي الواقعي العلمي.
إن التوتر الدائم والمستمر بين الأيديولوجي والواقعي، يجعل مسألة العلمانية راهنة دائماً في التجربة البشرية إن عدم إمكانية حسم معركة من هذا النوع حسماً تاماً ونهائياً، عدم القدرة على تصفية الخصم دفعة واحدة وإلى الأبد، يفتح مجال التشكك، ويطلق شتى الأوهام من عقالها. لذلك ينبغي التأكيد أن العلمنة هدف يتطلب افتتاحاً باستمرار مادام التتناحر الاجتماعي - السياسي قائماً ومستمراً بين الاجتماعي - السياسي قائماً ومستمراً بين الطبقات،لأن الإنسان لا يبدأ إلا حيث ينتهي القهر والاستغلال.
إن استمرار شكل معين من الوعي الاجتماعي (الدين مثلاً) على مر العصور يؤكد أن القهر والاستغلال والاستلاب هي القاسم المشترك بين هذه العصور جميعاً حيث الثورات الاجتماعية كانت دائماً، وإلى عهد قريب حداً، في مصلحة الأقلية (الثورة الأشتراكية فقط في مصلحة الأكثرية) وحيث للأيديولوجيا، فضلاً عن وظيفة التبرير والتسويغ، وظيفة تكييف أو توصيف الأفراد وفق هذه المصلحة.
ـ حصر العلمانية في المجال الثقافي، ومعارضتها بالدين يحول العلمانية إلى الحاد فارغ، وبدون أن ننفي أو نتجاهل وجود تيار علمانوي، الحادي، نؤكد أن العلمانية ليست نقيضاً للدين، ولا حتى نقيض التعصب الديني إنها ضد الوثنية وضد سلطة رجال الدين، وتدخلهم في حياة الإنسان، وضد سلطة النصوص والأرثوذكسيات على اختلافها، دينية وغير دينية، ونقيض دين محدد في لحظة محددة وظروف وملابسات محددة. دين كف عن كونه انسانياً وعقلانياً ومستقبلياً. وهي، أي العلمانية، بالتأكيد ضد المذهبية بوصفها حركة نقض ودينامية تدمير ذاتي للمجتمع والأمة، وللثقافة والاخلاق.
إن الغاء المذهبية لا يعني الغاء المذاهب، بل على العكس، يعني إلغاء الحواجز التي تحول دون تواصلها وتفاعلها واندماجها، ويعني توحيد وعي الأمة بذاتها واعادة بناء هويتها على أسس أموية وديمقراطية، وذلك من خلال كشف العلاقات والروابط بين "السيادة العليا" والسلطات السياسية في التاريخ العربي - الإسلامي، ومن خلال الكشف عن تاريخية العقل العربي وآليات تكون الأرثوذكسيات والعقول المنافسة في إطار الإسلام وضمن المشروطية الأجتماعية، وإبراز الدور الإيجابي لتلك العقول المنافسة بغية تقييم مفهوم العقل العربي - الإسلامي التعددي والديالكتيكي.
ـ العلمانية، علىالصعيد المعرفي، تعني تحرير العقل من المسبقات والمطلقات، تحرير الفكر من الأوهام والخرافات وتحرير الإنسان من العبودية التي تمتد جذورها إلى تقسيم العمل وظهور الملكية الخاصة، وتركز الثروة وظهور الطبقات... والدولة والدين وظهور سلطة الدين ودين السلطة، العبودية التي تنفي حرية العقل فتنفي كل حرية سوى حرية الأعمى أن يظل أعمى وحرية البشر المسحوقين في الموت جوعاً وقهراً إن التسليم بأن ثمة مصدراً واحداً وحيداً للمعرفة هو السماء، وأن للظاهرة سبباً واحداً وحيداً، قائماً خارجها، وأن الحقيقة قد انبثقت في التاريخ مرة واحدة وإلى الأبد انبثاقاً كاملاً ونهائياً، وإن هذه الحقيقة الناجزة المطلقة والسرمدية مكنونة في كتاب (نص) صالح لكل زمان ومكان، فيه علم ما تقدم وما تأخر، ويتضمن شؤون الدنيا والدين في الأولى والأخرة... وأن عملية استنباط هذه الحقيقة من النص فوق طاقة الانسان العادي البسيط، وفوق طاقة الأمي ورجل الشارع، ورجل الدنيا، وإن لرجال الدين بامتياز الحق في استنباطها، وفي التفسير والتأويل والافتاء والتشريع... إن كل ذلك يؤسس سلطة رجال الدين، و"الاستبداد الديني) ويؤسس بالتالي للاستبداد السياسي واستبعاد واستعباد الشعب. فإن "بين الاستبدادين السياسي والديني مقارنة لا تنفك، متى وجد أحدهما في أمة جر الآخر، أو متى زال زال رفيقه، وإن صلح - أي ضعف - أحدهما صلح الثاني." و "ما من مستبد سياسي إلى الأن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله وأقل ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم ألى مذاهب وشيع متداعية تقاوم بعضها بعضاً فتتهتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ
كل ما يقال عن احتلال الدين موقعاً هاماً، وممتازاً في الوجدان الشعبي، وثقافة الأمة، ووعي الإنسان.. صحيح واقعياً، ومفهوم، ولكن "بدلاً من أن نضيع الوقت في إقامة التضاد والتعارض بين العقل الديني والعقل العلمي خارج المشروطية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، فإن من الأفضل أن تجري تقيماً شاملاً للمصير أو (القدر) العام الذي عرفه العقل في المناخ و البيئة الإسلاميين الذين يتحدثون عن التناقض بين الدين (مطلقاً) و العلمانية إنما يقيمون تعارضاً مصطنعاً واشكالية زائفة لا تخدم إلا في تبرير وتسويغ الأوضاع القائمة الدفاع عنها.
التعارض قائم واقعياً بين العلمانية و السلطة الدينية سلطة النص، والمقدس، بين العلمانية والاستبداد الديني - السياسي وسلطة رجل الدين وتدخله المباشر في حياة الإنسان، بين العلمانية وكل سلطة أو مؤسسة أو رأي يرى أن كافة الأفكار والتصورات الميتافيزيقيية والسياسية والحقوقية والأخلاقية السائدة أو التي كانت سائدة هي محض أفكار وتصورات دينية، وينظر بالتالي إلى الإنسان على أنه إنسان ديني، وإلى جميع العلاقات الإجتماعية والسياسية والحقوقية والأخلاقية على أنها علاقات مكرسة دينياً ولا فرق في ذلك بين رؤية رجال الدين والتيولوجيين أو رؤية أيدولوجيين "علمانيين" يستمدون مناهجهم وأدواتهم المعرفية ورؤاهم من الدين نفسه ويعزلون جانباً أوجوانب منه لمعارضتها مع جوانب أخرى، لأن رجال الدين و هؤلاء الأيديولوجيين يلتقون في نقظة مركزية واحدة هي معارضة الكلام بالكلام وخوض معارك وهمية ضد طواحين الهواء.
التعارض، بل التناقض، قائم بين العلمانية وسلطة النص، بما في ذلك النص غير الديني، لكن المقدس كالنص الماركسي أو القومي أو الليبرالي، بين العلمانية وسلطة السلف بما ذلك أيضاً السلف غير الديني، بين العلمانية والوثنية، التي ترى أن الدين هو الذي يصنع التارخ وليس التاريخ هو الذي يصنع الدين، وترى أن الدين يجب الواقع والتاريخ، أن التاريخ هو فقط التاريخ الديني التوحيدي. إن التاريخ لا ينحل في الدين، والتناقضات التي شكلت تاريخ الإنسان وحضارته لا تنحل في الصراع المزعوم بين "الدين والعلم" بين "الأصالة والمعاصرة" بين "المجتمع والدولة" أي بين "المجتمع والنخبة"
ـ ليست العلمانية، ولا ينبغي أن تصبح، مذهباً أو عقيدة أيدولوجية تمارس سلطة الضبط والتدخل والحجر، ومصادرة حرية العقل. بل هي حرية العقل وحقه في ارتياد الفضاءات الفكرية المباحة والمحظورة أوالمحرمة واقتحام سائر ميادين العمل والمعرفة سائر ميادين الحياة العلمانية تعني أيضاً نزع طابع القدسية عن الأفكار وطابع العصمة عن البشر وترى أن مناقب الرفعة والشرف والأخلاق والكرامة.. مرتبطة بما يقدمه الفرد لمجتمعه ووطنه ومواطنيه إن حبلها السري موصول بالعقل والعقلانية التي هي أشمل وأعمق من الوضعية الوضعانية والتجربية والبرغمانية، العقلانية بما هي عقل الواقع وجدله.
العلمانية والاندماج القومي: يعاني المجتمع العربي من نقص فى اندماجة القومي يتجلى في الانقسامات العمودية والتحاجز الاجتماعي الذي تغذية أيديولوجيا تقليدية، تسهم في تكوين سيكولوجية إنثنائية وعدائية تعبر عنها الحرب الاهلية الكامنة و المتفجرة. الانقسامات العمودية والتحاجز المجتمعي، تعيق حركة التقدم إن لم تلجمها لأنها تبدد طاقة المجتمع وتشل قوى الامة وتخرج الصراع الاجتماعي من أطرة السياسة لتحولة إلى صراع ديني او مذهبي وألى شكل من أشكال التدمير الذاتي.
منذ وضع حديث (الفرقة الناجية ) على لسان النبي العربي محمد بن عبد الله والامة العربية، تعيش حالة انقسام وتشرذم رسخت في الممارسة العملية والفكرية نفي الأخر وعدم قبول الرأي المعارض، وتكفير المعارضة وتكرس ذلك في نشوء أرثوذكسيات وعقول متنافسة،ومتنافية لاتزال تعيد إنتاج أوهام الخصوصية، والهوية المخفضة إلى انتماء مذهبي. الانقسامات العمودية، والوعي المقابل لها،تسد قنوات التواصل والحوار والتفاعل الخلاق وتحول دون تحقيق الاندماج القومي وتحرم الأمة من امكانية استثمار أفضليات التعددية، وتلجم الصراعا ت الاجتماعية السياسية،وتعيد إنتاج واقعة تشظي الوعي الاجتماعي وتأخره. لذلك فإن العلمنة التي تكشف عن الروابط الجدلية بين السيادة العليا والسلطات السياسة وتفسر ظاهرة الانشقاق ونقص الاندماج القومي بأسبابها الموضوعية، التاريخية، وتؤسس لتاريخية العقل وتاريخية الفكر، وتخرج الدين من دائرة العلاقات الاجتماعية والسياسية، هي المدخل الضروري لتحقيق الاندماج القومي، الشرط اللازم لتحقيق تحررالأمة وتقدمها وبناء وحدتها القومية ودولتها الديمقراطية وتحقيق سيادة الشعب وبناء مواطنيه حديثة.العلمنة في هذا المجال هي الشرط الضروري لإطلاق تناقضات المجتمع وصراعاته الأفقية،الطبقية، التي توحد وتبني وتطور في إطار المشروع القومي الديمقراطي العلمنة هي.مشروع الأكثرية،أكثرية الأمة وهي تتحول من أكثرية دينية أومذهبية أو قومية الى أكثرية سياسية،أكثرية يرقى وعيها إلى درجة تعي معها مسؤليتها المباشرة عن الأقلية أو الأقليات،وتعي قانون جدلية القهر أوجدلية الظلم حيث الظالم هو المظلوم لأن الأكثرية.عندما تضطهد الأقلية أو تتخلى عن مسؤوليتها التاريخية إزاءها، عندما تغمطها حقها وتصادر حريتها، عندما ترفض حقها في الاختلاف والمغايرة والمعارضة إنما... تضعف نفسهاوتعيد إنتاج شروط تأخرها وتحاجزهاو تزرع بذور شقاقها وضعفها وعوامل تدميرها الذاتي. العلمانية مشروع أكثري بقدر ماهي مشروع عقلاني. العلمانية والديمقراطية: قبل أن نقول إن الديمقراطية حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه.. يحسن البدء من الألف - باء وليس من الياء.
الديمقراطية شكل ممارسة الحرية في المجتمع والدولة، مشكلة الحرية التي يتحدث عنها الفلاسفة تتقوم في ازدواجها وتناقضها الداخلي، فهي مطلقة ونسبية في آن. وهي كذلك لأنها في أصل منشئها مشكلة الإنسان، إنسان العمل والمعرفة والحرية، الإنسان المتناهي واللامتناهي في آن (رغم إمكانية فناء الجنس البشري بكارثة نووية، وعندئذ ينتهي كل شيء بالنسبة للإنسان).
الإنسان النوع، اللامتناهي والكلي، بوصفه طبيعة واعية ذاتها ومتجاوزة ذاتها باستمرار، كائن معرف بالعمل. ميدان عمله الطبيعة والمجتمع، أي الواقع الموضوعي. والعمل الإنساني - الاجتماعي أبو الفكر، والطبيعة أمة، والحرية بالتالي هي وعي الضرورة.
من الجذر الواقعي للإنسان نستنتج الجذر الواقعي للحرية. من الجذر المادي للإنسان نستنتج الجذر المادي للحرية على اعتبار المادة مقولة فلسفية تدل على الواقع الموضوعي القائم خارج وعينا وإحساساتنا وفي استقلال عنهما. الإنسان النوع، اللامتناهي، والكلي لا يوجد إلا في الخاص والفردي، ولذلك فهو متناه وكذلك عمله وفكره وحريته بالضرورة حرية الانسان مطلقة وحرية الفرد مقيدة ونسبية تعبر عن ذلك واقعة تموضع الإنسان، تموضع خاصيته النوعية،أي العمل في منتوجاته ومن ثم ضياعها في الملكية الخاصة التي هي أيضاً نزع الملكية. الديمقراطية بوصفها شكل ممارسة الحرية، مقيدة ومحددة بمستوى تطور العمل والوعي، وبمستوى تطرو الملكية وتقسيم العمل والوعي الاجتماعي المقابل لهما وبمستوى تطور التنظيم الاجتماعي، ومشروطة بالتالي بالتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج.
التداخل والتقاطع بين العلمانية والديمقراطية، والتفاعل الجدلي بينهما يرجع إلى الجذر الدنيوي،الواقعي، المادي للإنسان وللحرية، وإلى اعتبار الإنسان سيد الطبيعة ومحور العالم ومقياس القيم، وإلى اعتباره صانع تاريخه الخاص وسيد مصيره في هذا السياق، العلمنة سيرورة تقدم في التاريخ وفي المعرفة نحو استعادة الإنسان ذاته والقضاء علىاستلابه الذاتي بأشكاله " المقدسة " وغير المقدسة وتحقيق حريته إزاء الطبيعة وإزاء المجتمع والدولة.
إن القضاء على استلاب الإنسان يعني القضاء على تخارج الإنسان والطبيعة، الواقع والفكر والمادة والروح. والديمقراطية في أحد مستوياتها هي المساواة السياسية والحقوقية والاجتماعية والإقتصادية والأخلاقية، ولهذه جميعاً جذرها العلماني لأنها تنطلق من أصل لايمكن إهماله أو تجاهله وهو المساواة الأنطلوجية (الوجودية). لذلك فإن سائر أشكال عدم المساواة ناجمة عن استلاب الإنسان وانتقاص كيانه الإنساني.
المساواة الوجودية متجسدة في تساوي العمل الإنساني وتماثله في الماهية. مساواة تنبع من قيمة الإنسان وأهمية الفرد وكون العقل صفة نوعية وقاسماً مشتركاً بين أفراد النوع. مساواة نابعة من آدمية الفرد وحقوقه وحرياته.. وهذه المساواة تضمنها العلمانية. فإن ماهو جذري وذو قيمة حاسمة في عالم الإنسان هو الإنسان ذاته. إنسان العمل والإنتاج والمعرفة، إنسان الخلق والإبداع والحضارة ضد إنسان الإيمان الأعمى والعجز والتواكل والزهد والتصوف والتأمل والحلم والطاعة والامتثال والرضا والتسليم أي العبودية. المساواة هي مساواة في الحرية ضد المساواة في العبودية.
الديقراطية بجذرها العلماني ونسغها الإنساني ومحتواها الاجتماعي هي مدخل إلى ملكوت الحرية وسيادة الإنسان وسيادة الشعب.
والديمقراطية تعني الحوار، والاعتراف بالآخر، والاعتراف بنسبية الحقيقة واحتمال خطأ الذات، واحترام الرأي الآخر والاستماع اليه والتفاعل معه وعدم تفكيره وإدانته أو الوشاية به لدى السلطات كأنه خيانة عظمى، وهي الاعتراف بحقيقة مستقلة عن الذهن يحاول الجميع الوصول إليها دون التضحية بالموضوع من أجل الذات. في بحثه الشيق والعميق عن " الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر يرجع الدكتور حنفي أزمة الديمقراطية إلى غياب الحوار بسبب من غياب الحرية وغياب مقدمات الحوار الموضوعية. وهو يحصر جذور أزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر في خمس مجموعات هي:
-حرفية التفسير أو النصوصية التي تلغي الحرية لصالح الالتزام بحقيقة مطلقة، مسبقة، مكتوبة بصياغة واحدة أبدية، وتوحد عقلية السلطة السياسية مع السلطة الدينية ضد الإنسان، إذ تعتمد كلتاهما على التنزيل: تنزيل الأمر من السلطة إلى الشعب، وتنزيل المعرفة من السماء إلى الأرض، وتلغيان بالتالي حق المراجعة والمناقشة والحوار.
-والثانية تكفير المعارضة الذي شاع منذ انتشار الأحاديث الموجهة للسلوك والأذهان، وخاصة الأحاديث الموضوعة لغايات سياسية وأيديولوجية واجتماعية كحديث "الملة الناجية"، وأصبحت "كل الفرق الضالة هي كل أنواع المعارضة للسلطة القائمة، كما أصبحت الفرقة الناجية هي حزب الحكومة".
-والثالثة سلطوية التصور: إن تصور العالم في الفكر العربي - الإسلامي تصور سلطوي، مركزي، إطلاقي، أصبح فيما بعد أساس تصورنا للعالم وأساس نظمنا السياسية: "فالله مركز الكون وخالقه، يسيطر على كل شيء، لـه صفات فعالة في الكون، قادر على ما لا يكون، وعالم بما يستحيل، لا يقف أمامه قانون طبيعي، ولا ترده حرية إنسانية. لا يستطيع الإنسان أن يفعل إلا اذا تدخلت الإرادة الإلهية لحظة فعله وجعلته ممكناً، وإلا استحال الفعل.." في هذا التصور تختفي الإرادة الإنسانية، ويتوارى العمل والعقل ويتحدد الإنسان بالإيمان الذي لا يخالطه أويساوره الشك. ومن هذا التصور تنبع فكرة الزعيم الأوحد المنقذ الأعظم والقائد الملهم.. والحاكم الفرد الذي لا تني الشقة تزداد اتساعاً بينه وبين المحكومين. وبقدر ما يزداد صلفاً وكبراً وغطرسة و عسفاً يزداد المحكومون صغاراً وذلاً وهواناَ. انه تصور يعطي القمة كل شيء ويسلب من القاعدة كل شيء بل يسلب من القاعدة كل شيء.. ويعطيه للقمة.هذا التصور يقسم البشر إلى خاصة، أوعليه القوم، وسادة وسراة واشراف ونقباء... الخ من جهة وإلى عوام ورعاع ودهماء وسواد الناس و... الخ. والعوام في نظر الكواكبي "هم قوةالمستبد وقوته، بهم عليهم يصول ويطول يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ، وان نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة
-والرابعة: تبرير المعطيات، لقد كان عمل العقل في تراثنا الفلسفي - يقول الدكتور حنفي - عملاً تبريرياً خالصاً، أي إنه يأخذ المعطيات وينظرها ويحيلها إلى معطيات مفهومة يمكن البرهنة عليها، مفتقراً إلى الحياد والروح العلمية وجرأة النقد والمعارضة. أمام هذه الوظيفة للعقل ذي المصدر الإلهي يستحيل الحوار. لأن المعطيات مقبولة سلفاً ولا توضع موضع الشك والنقد.
-والخامسة: هدم العقل. منذ كان هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس وقضاؤه على الفلسفة وعداؤه لكل اتجاه حضاري عقلاني، وتنكره للعلوم الإسلامية بما فيها علوم الكلام والفقة والحكمة - باستثناء علوم التصرف - وهدمه منهج النظر ودعوته لمنهج الذوق، وتركه الحقيقة وسلوكه الطريقة، ونقده للعلم الإنساني وانتظاره العلم اللدني.. كل ذلك كان بداية هدم العقل واستقالته وهو أداة الحوار. ومنذ ذلك الحين أصبح الله، و السلطة، والجنس مقدسات ومصادر للتحريم "فالله يحرم أكثر مما يحلل، والسلطة تعاقب أكثر مما تثيب، والجنس للحرمان أكثر منه للإشباع".
أليست هذه المجموعات الخمس التي تشكل جذور أزمة الديمقراطية في وجداننا المعاصر، تعبيراً عن غياب الوعي بضرورة العلمانية وبالتالي غياب العلمانية من الفكر والممارسة؟ ان الديمقراطية بالحوار والحرية والاعتراف بالآخر.. ليست ممكنة إذا لم تكن العلمانية مدخلها ونواتها.
خارج إطار مشروع سياسي، قومي ديمقراطي، وخارج إطار رؤية استراتيجية منفتحة وعقلانية، أعني واقعية ثورية، تبدو مسألة الديمقراطية فاقدة جوهرها وتبريرها، مفقرة وهزيلة تخدم كغطاء أيديولوجي "حديث" لأهداف سياسية محافظة. وكذا العلمانية. وتتحولان معاً (الديمقراطية والعلمانية) إلى خطابين متنافيين متعادمين في حقل السجال الأيديولوجي والمماحكات اللفظية، وإلى شعارين مشحونين بالاستفزاز والتحدي، يثيران مشاعر طائفية وردود فعل أكثر مما يؤسسان لوعي حديث يخدم في نقد وتجاوز الواقع القائم.
خارج إطار المشروع القومي الديمقراطي وبدون وعي علماني - ديمقراطي، كوني وتاريخي، ثوري وحديث، تتحول مفاهيم العلمانية والديمقراطية والأمة والوحدة القومية... الخ إلى أصنام مصمته صماء خالية من أي توتر وبالتالي من أي حركة وحياة مفاهيم ـ أوثان متخارجة متنافرة لا تقوم بينها روابط من أي نوع وليس لها أي محتوى، ولا يستدعي بعضها بعضاً بالضرورة، سرمدية تلغي فكرة التاريخ ومفهوم التقدم وتتعالى علىالواقع. وأوثان تتطابق ماهيتها مع هويتها، وتطابق الماهية والهوية يعني إلغاء الفروق وإعدام التنوع والتعدد والاختلاف والتباين. التطابق بين الماهية والهوية في ذهن مشيخي - وثني هو أساس عدم الاعتراف بالآخر وأساس عدم قبول التعدد والاختلاف وتكفير المعارضة ولا جدوى الحوار، وهو أساس العنف المدمر المنفلت من عقاله ومن رقابة العقل، العنف المتضمن في الخطاب والسلوك، في الفكر والممارسة.
المشروع السياسي القومي - الديمقراطي هو الذي يعطي المفاهيم مضمونها ونظام ترابطها، أو نسق علاقاتها. هو الذي يستدعي هذا المفهوم أو ذاك بوصفه ضرورة تاريخية، منطقية، وليس بوصفه "موضة" أو تقليعة أو هوى.
إن بنية الأفكار والمفاهيم والمقولات، وعلاقاتها المتغيرة، ونظام بناء هذه العلاقات لا يتحدد في ضوء "المسألة الأساسية في الفلسفة" (أولوية المادة أوالوعي) أو في ضوء العلاقة بين الفكر والواقع فقط، ولا على أساس قانون التطور الرئيسي: وحدة وصراع الأضداد وحسب، بل على أساس الممارسة العملية الحية، في الطبيعة والمجتمع. وبذرة العلمانية تكمن في هذه الممارسة.
الاجتماعي - السياسي قائماً ومستمراً بين الطبقات،لأن الإنسان لا يبدأ إلا حيث ينتهي القهر والاستغلال.
إن استمرار شكل معين من الوعي الاجتماعي (الدين مثلاً) على مر العصور يؤكد أن القهر والاستغلال والاستلاب هي القاسم المشترك بين هذه العصور جميعاً حيث الثورات الاجتماعية كانت دائماً، وإلى عهد قريب حداً، في مصلحة الأقلية (الثورة الأشتراكية فقط في مصلحة الأكثرية) وحيث للأيديولوجيا، فضلاً عن وظيفة التبرير والتسويغ، وظيفة تكييف أو توصيف الأفراد وفق هذه المصلحة.
ـ حصر العلمانية في المجال الثقافي، ومعارضتها بالدين يحول العلمانية إلى الحاد فارغ، وبدون أن ننفي أو نتجاهل وجود تيار علمانوي، الحادي، نؤكد أن العلمانية ليست نقيضاً للدين، ولا حتى نقيض التعصب الديني إنها ضد الوثنية وضد سلطة رجال الدين، وتدخلهم في حياة الإنسان، وضد سلطة النصوص والأرثوذكسيات على اختلافها، دينية وغير دينية، ونقيض دين محدد في لحظة محددة وظروف وملابسات محددة. دين كف عن كونه انسانياً وعقلانياً ومستقبلياً. وهي، أي العلمانية، بالتأكيد ضد المذهبية بوصفها حركة نقض ودينامية تدمير ذاتي للمجتمع والأمة، وللثقافة والاخلاق.
إن الغاء المذهبية لا يعني الغاء المذاهب، بل على العكس، يعني إلغاء الحواجز التي تحول دون تواصلها وتفاعلها واندماجها، ويعني توحيد وعي الأمة بذاتها واعادة بناء هويتها على أسس أموية وديمقراطية، وذلك من خلال كشف العلاقات والروابط بين "السيادة العليا" والسلطات السياسية في التاريخ العربي - الإسلامي، ومن خلال الكشف عن تاريخية العقل العربي وآليات تكون الأرثوذكسيات والعقول المنافسة في إطار الإسلام وضمن المشروطية الأجتماعية، وإبراز الدور الإيجابي لتلك العقول المنافسة بغية تقييم مفهوم العقل العربي - الإسلامي التعددي والديالكتيكي.
ـ العلمانية، علىالصعيد المعرفي، تعني تحرير العقل من المسبقات والمطلقات، تحرير الفكر من الأوهام والخرافات وتحرير الإنسان من العبودية التي تمتد جذورها إلى تقسيم العمل وظهور الملكية الخاصة، وتركز الثروة وظهور الطبقات... والدولة والدين وظهور سلطة الدين ودين السلطة، العبودية التي تنفي حرية العقل فتنفي كل حرية سوى حرية الأعمى أن يظل أعمى وحرية البشر المسحوقين في الموت جوعاً وقهراً إن التسليم بأن ثمة مصدراً واحداً وحيداً للمعرفة هو السماء، وأن للظاهرة سبباً واحداً وحيداً، قائماً خارجها، وأن الحقيقة قد انبثقت في التاريخ مرة واحدة وإلى الأبد انبثاقاً كاملاً ونهائياً، وإن هذه الحقيقة الناجزة المطلقة والسرمدية مكنونة في كتاب (نص) صالح لكل زمان ومكان، فيه علم ما تقدم وما تأخر، ويتضمن شؤون الدنيا والدين في الأولى والأخرة... وأن عملية استنباط هذه الحقيقة من النص فوق طاقة الانسان العادي البسيط، وفوق طاقة الأمي ورجل الشارع، ورجل الدنيا، وإن لرجال الدين بامتياز الحق في استنباطها، وفي التفسير والتأويل والافتاء والتشريع... إن كل ذلك يؤسس سلطة رجال الدين، و"الاستبداد الديني) ويؤسس بالتالي للاستبداد السياسي واستبعاد واستعباد الشعب. فإن "بين الاستبدادين السياسي والديني مقارنة لا تنفك، متى وجد أحدهما في أمة جر الآخر، أو متى زال زال رفيقه، وإن صلح - أي ضعف - أحدهما صلح الثاني." و "ما من مستبد سياسي إلى الأن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله وأقل ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم ألى مذاهب وشيع متداعية تقاوم بعضها بعضاً فتتهتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ
كل ما يقال عن احتلال الدين موقعاً هاماً، وممتازاً في الوجدان الشعبي، وثقافة الأمة، ووعي الإنسان.. صحيح واقعياً، ومفهوم، ولكن "بدلاً من أن نضيع الوقت في إقامة التضاد والتعارض بين العقل الديني والعقل العلمي خارج المشروطية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، فإن من الأفضل أن تجري تقيماً شاملاً للمصير أو (القدر) العام الذي عرفه العقل في المناخ و البيئة الإسلاميين الذين يتحدثون عن التناقض بين الدين (مطلقاً) و العلمانية إنما يقيمون تعارضاً مصطنعاً واشكالية زائفة لا تخدم إلا في تبرير وتسويغ الأوضاع القائمة الدفاع عنها.
التعارض قائم واقعياً بين العلمانية و السلطة الدينية سلطة النص، والمقدس، بين العلمانية والاستبداد الديني - السياسي وسلطة رجل الدين وتدخله المباشر في حياة الإنسان، بين العلمانية وكل سلطة أو مؤسسة أو رأي يرى أن كافة الأفكار والتصورات الميتافيزيقيية والسياسية والحقوقية والأخلاقية السائدة أو التي كانت سائدة هي محض أفكار وتصورات دينية، وينظر بالتالي إلى الإنسان على أنه إنسان ديني، وإلى جميع العلاقات الإجتماعية والسياسية والحقوقية والأخلاقية على أنها علاقات مكرسة دينياً ولا فرق في ذلك بين رؤية رجال الدين والتيولوجيين أو رؤية أيدولوجيين "علمانيين" يستمدون مناهجهم وأدواتهم المعرفية ورؤاهم من الدين نفسه ويعزلون جانباً أوجوانب منه لمعارضتها مع جوانب أخرى، لأن رجال الدين و هؤلاء الأيديولوجيين يلتقون في نقظة مركزية واحدة هي معارضة الكلام بالكلام وخوض معارك وهمية ضد طواحين الهواء.
التعارض، بل التناقض، قائم بين العلمانية وسلطة النص، بما في ذلك النص غير الديني، لكن المقدس كالنص الماركسي أو القومي أو الليبرالي، بين العلمانية وسلطة السلف بما ذلك أيضاً السلف غير الديني، بين العلمانية والوثنية، التي ترى أن الدين هو الذي يصنع التارخ وليس التاريخ هو الذي يصنع الدين، وترى أن الدين يجب الواقع والتاريخ، أن التاريخ هو فقط التاريخ الديني التوحيدي. إن التاريخ لا ينحل في الدين، والتناقضات التي شكلت تاريخ الإنسان وحضارته لا تنحل في الصراع المزعوم بين "الدين والعلم" بين "الأصالة والمعاصرة" بين "المجتمع والدولة" أي بين "المجتمع والنخبة"
ـ ليست العلمانية، ولا ينبغي أن تصبح، مذهباً أو عقيدة أيدولوجية تمارس سلطة الضبط والتدخل والحجر، ومصادرة حرية العقل. بل هي حرية العقل وحقه في ارتياد الفضاءات الفكرية المباحة والمحظورة أوالمحرمة واقتحام سائر ميادين العمل والمعرفة سائر ميادين الحياة العلمانية تعني أيضاً نزع طابع القدسية عن الأفكار وطابع العصمة عن البشر وترى أن مناقب الرفعة والشرف والأخلاق والكرامة.. مرتبطة بما يقدمه الفرد لمجتمعه ووطنه ومواطنيه إن حبلها السري موصول بالعقل والعقلانية التي هي أشمل وأعمق من الوضعية الوضعانية والتجربية والبرغمانية، العقلانية بما هي عقل الواقع وجدله.
العلمانية والاندماج القومي: يعاني المجتمع العربي من نقص فى اندماجة القومي يتجلى في الانقسامات العمودية والتحاجز الاجتماعي الذي تغذية أيديولوجيا تقليدية، تسهم في تكوين سيكولوجية إنثنائية وعدائية تعبر عنها الحرب الاهلية الكامنة و المتفجرة. الانقسامات العمودية والتحاجز المجتمعي، تعيق حركة التقدم إن لم تلجمها لأنها تبدد طاقة المجتمع وتشل قوى الامة وتخرج الصراع الاجتماعي من أطرة السياسة لتحولة إلى صراع ديني او مذهبي وألى شكل من أشكال التدمير الذاتي.
منذ وضع حديث (الفرقة الناجية ) على لسان النبي العربي محمد بن عبد الله والامة العربية، تعيش حالة انقسام وتشرذم رسخت في الممارسة العملية والفكرية نفي الأخر وعدم قبول الرأي المعارض، وتكفير المعارضة وتكرس ذلك في نشوء أرثوذكسيات وعقول متنافسة،ومتنافية لاتزال تعيد إنتاج أوهام الخصوصية، والهوية المخفضة إلى انتماء مذهبي. الانقسامات العمودية، والوعي المقابل لها،تسد قنوات التواصل والحوار والتفاعل الخلاق وتحول دون تحقيق الاندماج القومي وتحرم الأمة من امكانية استثمار أفضليات التعددية، وتلجم الصراعا ت الاجتماعية السياسية،وتعيد إنتاج واقعة تشظي الوعي الاجتماعي وتأخره. لذلك فإن العلمنة التي تكشف عن الروابط الجدلية بين السيادة العليا والسلطات السياسة وتفسر ظاهرة الانشقاق ونقص الاندماج القومي بأسبابها الموضوعية، التاريخية، وتؤسس لتاريخية العقل وتاريخية الفكر، وتخرج الدين من دائرة العلاقات الاجتماعية والسياسية، هي المدخل الضروري لتحقيق الاندماج القومي، الشرط اللازم لتحقيق تحررالأمة وتقدمها وبناء وحدتها القومية ودولتها الديمقراطية وتحقيق سيادة الشعب وبناء مواطنيه حديثة.العلمنة في هذا المجال هي الشرط الضروري لإطلاق تناقضات المجتمع وصراعاته الأفقية،الطبقية، التي توحد وتبني وتطور في إطار المشروع القومي الديمقراطي العلمنة هي.مشروع الأكثرية،أكثرية الأمة وهي تتحول من أكثرية دينية أومذهبية أو قومية الى أكثرية سياسية،أكثرية يرقى وعيها إلى درجة تعي معها مسؤليتها المباشرة عن الأقلية أو الأقليات،وتعي قانون جدلية القهر أوجدلية الظلم حيث الظالم هو المظلوم لأن الأكثرية.عندما تضطهد الأقلية أو تتخلى عن مسؤوليتها التاريخية إزاءها، عندما تغمطها حقها وتصادر حريتها، عندما ترفض حقها في الاختلاف والمغايرة والمعارضة إنما... تضعف نفسهاوتعيد إنتاج شروط تأخرها وتحاجزهاو تزرع بذور شقاقها وضعفها وعوامل تدميرها الذاتي. العلمانية مشروع أكثري بقدر ماهي مشروع عقلاني. العلمانية والديمقراطية: قبل أن نقول إن الديمقراطية حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه.. يحسن البدء من الألف - باء وليس من الياء.
الديمقراطية شكل ممارسة الحرية في المجتمع والدولة، مشكلة الحرية التي يتحدث عنها الفلاسفة تتقوم في ازدواجها وتناقضها الداخلي، فهي مطلقة ونسبية في آن. وهي كذلك لأنها في أصل منشئها مشكلة الإنسان، إنسان العمل والمعرفة والحرية، الإنسان المتناهي واللامتناهي في آن (رغم إمكانية فناء الجنس البشري بكارثة نووية، وعندئذ ينتهي كل شيء بالنسبة للإنسان).
الإنسان النوع، اللامتناهي والكلي، بوصفه طبيعة واعية ذاتها ومتجاوزة ذاتها باستمرار، كائن معرف بالعمل. ميدان عمله الطبيعة والمجتمع، أي الواقع الموضوعي. والعمل الإنساني - الاجتماعي أبو الفكر، والطبيعة أمة، والحرية بالتالي هي وعي الضرورة.
من الجذر الواقعي للإنسان نستنتج الجذر الواقعي للحرية. من الجذر المادي للإنسان نستنتج الجذر المادي للحرية على اعتبار المادة مقولة فلسفية تدل على الواقع الموضوعي القائم خارج وعينا وإحساساتنا وفي استقلال عنهما. الإنسان النوع، اللامتناهي، والكلي لا يوجد إلا في الخاص والفردي، ولذلك فهو متناه وكذلك عمله وفكره وحريته بالضرورة حرية الانسان مطلقة وحرية الفرد مقيدة ونسبية تعبر عن ذلك واقعة تموضع الإنسان، تموضع خاصيته النوعية،أي العمل في منتوجاته ومن ثم ضياعها في الملكية الخاصة التي هي أيضاً نزع الملكية. الديمقراطية بوصفها شكل ممارسة الحرية، مقيدة ومحددة بمستوى تطور العمل والوعي، وبمستوى تطرو الملكية وتقسيم العمل والوعي الاجتماعي المقابل لهما وبمستوى تطور التنظيم الاجتماعي، ومشروطة بالتالي بالتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج.
التداخل والتقاطع بين العلمانية والديمقراطية، والتفاعل الجدلي بينهما يرجع إلى الجذر الدنيوي،الواقعي، المادي للإنسان وللحرية، وإلى اعتبار الإنسان سيد الطبيعة ومحور العالم ومقياس القيم، وإلى اعتباره صانع تاريخه الخاص وسيد مصيره في هذا السياق، العلمنة سيرورة تقدم في التاريخ وفي المعرفة نحو استعادة الإنسان ذاته والقضاء علىاستلابه الذاتي بأشكاله " المقدسة " وغير المقدسة وتحقيق حريته إزاء الطبيعة وإزاء المجتمع والدولة.
إن القضاء على استلاب الإنسان يعني القضاء على تخارج الإنسان والطبيعة، الواقع والفكر والمادة والروح. والديمقراطية في أحد مستوياتها هي المساواة السياسية والحقوقية والاجتماعية والإقتصادية والأخلاقية، ولهذه جميعاً جذرها العلماني لأنها تنطلق من أصل لايمكن إهماله أو تجاهله وهو المساواة الأنطلوجية (الوجودية). لذلك فإن سائر أشكال عدم المساواة ناجمة عن استلاب الإنسان وانتقاص كيانه الإنساني.
المساواة الوجودية متجسدة في تساوي العمل الإنساني وتماثله في الماهية. مساواة تنبع من قيمة الإنسان وأهمية الفرد وكون العقل صفة نوعية وقاسماً مشتركاً بين أفراد النوع. مساواة نابعة من آدمية الفرد وحقوقه وحرياته.. وهذه المساواة تضمنها العلمانية. فإن ماهو جذري وذو قيمة حاسمة في عالم الإنسان هو الإنسان ذاته. إنسان العمل والإنتاج والمعرفة، إنسان الخلق والإبداع والحضارة ضد إنسان الإيمان الأعمى والعجز والتواكل والزهد والتصوف والتأمل والحلم والطاعة والامتثال والرضا والتسليم أي العبودية. المساواة هي مساواة في الحرية ضد المساواة في العبودية.
الديقراطية بجذرها العلماني ونسغها الإنساني ومحتواها الاجتماعي هي مدخل إلى ملكوت الحرية وسيادة الإنسان وسيادة الشعب.
والديمقراطية تعني الحوار، والاعتراف بالآخر، والاعتراف بنسبية الحقيقة واحتمال خطأ الذات، واحترام الرأي الآخر والاستماع اليه والتفاعل معه وعدم تفكيره وإدانته أو الوشاية به لدى السلطات كأنه خيانة عظمى، وهي الاعتراف بحقيقة مستقلة عن الذهن يحاول الجميع الوصول إليها دون التضحية بالموضوع من أجل الذات. في بحثه الشيق والعميق عن " الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر يرجع الدكتور حنفي أزمة الديمقراطية إلى غياب الحوار بسبب من غياب الحرية وغياب مقدمات الحوار الموضوعية. وهو يحصر جذور أزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر في خمس مجموعات هي:
-حرفية التفسير أو النصوصية التي تلغي الحرية لصالح الالتزام بحقيقة مطلقة، مسبقة، مكتوبة بصياغة واحدة أبدية، وتوحد عقلية السلطة السياسية مع السلطة الدينية ضد الإنسان، إذ تعتمد كلتاهما على التنزيل: تنزيل الأمر من السلطة إلى الشعب، وتنزيل المعرفة من السماء إلى الأرض، وتلغيان بالتالي حق المراجعة والمناقشة والحوار.
-والثانية تكفير المعارضة الذي شاع منذ انتشار الأحاديث الموجهة للسلوك والأذهان، وخاصة الأحاديث الموضوعة لغايات سياسية وأيديولوجية واجتماعية كحديث "الملة الناجية"، وأصبحت "كل الفرق الضالة هي كل أنواع المعارضة للسلطة القائمة، كما أصبحت الفرقة الناجية هي حزب الحكومة".
-والثالثة سلطوية التصور: إن تصور العالم في الفكر العربي - الإسلامي تصور سلطوي، مركزي، إطلاقي، أصبح فيما بعد أساس تصورنا للعالم وأساس نظمنا السياسية: "فالله مركز الكون وخالقه، يسيطر على كل شيء، لـه صفات فعالة في الكون، قادر على ما لا يكون، وعالم بما يستحيل، لا يقف أمامه قانون طبيعي، ولا ترده حرية إنسانية. لا يستطيع الإنسان أن يفعل إلا اذا تدخلت الإرادة الإلهية لحظة فعله وجعلته ممكناً، وإلا استحال الفعل.." في هذا التصور تختفي الإرادة الإنسانية، ويتوارى العمل والعقل ويتحدد الإنسان بالإيمان الذي لا يخالطه أويساوره الشك. ومن هذا التصور تنبع فكرة الزعيم الأوحد المنقذ الأعظم والقائد الملهم.. والحاكم الفرد الذي لا تني الشقة تزداد اتساعاً بينه وبين المحكومين. وبقدر ما يزداد صلفاً وكبراً وغطرسة و عسفاً يزداد المحكومون صغاراً وذلاً وهواناَ. انه تصور يعطي القمة كل شيء ويسلب من القاعدة كل شيء بل يسلب من القاعدة كل شيء.. ويعطيه للقمة.هذا التصور يقسم البشر إلى خاصة، أوعليه القوم، وسادة وسراة واشراف ونقباء... الخ من جهة وإلى عوام ورعاع ودهماء وسواد الناس و... الخ. والعوام في نظر الكواكبي "هم قوةالمستبد وقوته، بهم عليهم يصول ويطول يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ، وان نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة
-والرابعة: تبرير المعطيات، لقد كان عمل العقل في تراثنا الفلسفي - يقول الدكتور حنفي - عملاً تبريرياً خالصاً، أي إنه يأخذ المعطيات وينظرها ويحيلها إلى معطيات مفهومة يمكن البرهنة عليها، مفتقراً إلى الحياد والروح العلمية وجرأة النقد والمعارضة. أمام هذه الوظيفة للعقل ذي المصدر الإلهي يستحيل الحوار. لأن المعطيات مقبولة سلفاً ولا توضع موضع الشك والنقد.
-والخامسة: هدم العقل. منذ كان هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس وقضاؤه على الفلسفة وعداؤه لكل اتجاه حضاري عقلاني، وتنكره للعلوم الإسلامية بما فيها علوم الكلام والفقة والحكمة - باستثناء علوم التصرف - وهدمه منهج النظر ودعوته لمنهج الذوق، وتركه الحقيقة وسلوكه الطريقة، ونقده للعلم الإنساني وانتظاره العلم اللدني.. كل ذلك كان بداية هدم العقل واستقالته وهو أداة الحوار. ومنذ ذلك الحين أصبح الله، و السلطة، والجنس مقدسات ومصادر للتحريم "فالله يحرم أكثر مما يحلل، والسلطة تعاقب أكثر مما تثيب، والجنس للحرمان أكثر منه للإشباع".
أليست هذه المجموعات الخمس التي تشكل جذور أزمة الديمقراطية في وجداننا المعاصر، تعبيراً عن غياب الوعي بضرورة العلمانية وبالتالي غياب العلمانية من الفكر والممارسة؟ ان الديمقراطية بالحوار والحرية والاعتراف بالآخر.. ليست ممكنة إذا لم تكن العلمانية مدخلها ونواتها.
خارج إطار مشروع سياسي، قومي ديمقراطي، وخارج إطار رؤية استراتيجية منفتحة وعقلانية، أعني واقعية ثورية، تبدو مسألة الديمقراطية فاقدة جوهرها وتبريرها، مفقرة وهزيلة تخدم كغطاء أيديولوجي "حديث" لأهداف سياسية محافظة. وكذا العلمانية. وتتحولان معاً (الديمقراطية والعلمانية) إلى خطابين متنافيين متعادمين في حقل السجال الأيديولوجي والمماحكات اللفظية، وإلى شعارين مشحونين بالاستفزاز والتحدي، يثيران مشاعر طائفية وردود فعل أكثر مما يؤسسان لوعي حديث يخدم في نقد وتجاوز الواقع القائم.
خارج إطار المشروع القومي الديمقراطي وبدون وعي علماني - ديمقراطي، كوني وتاريخي، ثوري وحديث، تتحول مفاهيم العلمانية والديمقراطية والأمة والوحدة القومية... الخ إلى أصنام مصمته صماء خالية من أي توتر وبالتالي من أي حركة وحياة مفاهيم ـ أوثان متخارجة متنافرة لا تقوم بينها روابط من أي نوع وليس لها أي محتوى، ولا يستدعي بعضها بعضاً بالضرورة، سرمدية تلغي فكرة التاريخ ومفهوم التقدم وتتعالى علىالواقع. وأوثان تتطابق ماهيتها مع هويتها، وتطابق الماهية والهوية يعني إلغاء الفروق وإعدام التنوع والتعدد والاختلاف والتباين. التطابق بين الماهية والهوية في ذهن مشيخي - وثني هو أساس عدم الاعتراف بالآخر وأساس عدم قبول التعدد والاختلاف وتكفير المعارضة ولا جدوى الحوار، وهو أساس العنف المدمر المنفلت من عقاله ومن رقابة العقل، العنف المتضمن في الخطاب والسلوك، في الفكر والممارسة.
المشروع السياسي القومي - الديمقراطي هو الذي يعطي المفاهيم مضمونها ونظام ترابطها، أو نسق علاقاتها. هو الذي يستدعي هذا المفهوم أو ذاك بوصفه ضرورة تاريخية، منطقية، وليس بوصفه "موضة" أو تقليعة أو هوى.
إن بنية الأفكار والمفاهيم والمقولات، وعلاقاتها المتغيرة، ونظام بناء هذه العلاقات لا يتحدد في ضوء "المسألة الأساسية في الفلسفة" (أولوية المادة أوالوعي) أو في ضوء العلاقة بين الفكر والواقع فقط، ولا على أساس قانون التطور الرئيسي: وحدة وصراع الأضداد وحسب، بل على أساس الممارسة العملية الحية، في الطبيعة والمجتمع. وبذرة العلمانية تكمن في هذه الممارسة.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطائفيون و اليبراليون الطفوليون
-
حول مقال توني بلير ما اشجعك
-
اوباما تحول الى طرفه بن العبد
-
العلمانيه ليست ترفا اجتماعيا
-
حرية التعبير والتشهير بالاديان
-
المشهد الفلسطيني2
-
التجربه الماليزيه ونجاحها لم يات من فراغ
-
وفاء سلطان لم تات بجديد
-
المصالحه الفلسطينيه
-
جولد ستون والسلطه الفلسطينيه العظمى!
-
لماذا نعهر مفكرينا؟
-
الازمه الحضاريه العربيه وطريق الانفاق5
-
الازمه الحضاريه العربيه وطريق الانفاق4
-
الازمه الحضاريه العربيه وطريق الانفاق3
-
الازمه الحضاريه العربيه وطريق الانفاق2
-
الازمه الحضاريه العربيه وطريق الانفاق
-
منتدى البحث عن حلول في الفلسفه
-
يهودية دولة اسرائيل
-
الأزمة الاجتماعية في بلدان الوطن العربي وغياب الأسس المادية
...
-
الاسلام السياسي مصلحه فؤويه
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|