نبيل حواصلي
الحوار المتمدن-العدد: 2860 - 2009 / 12 / 16 - 19:40
المحور:
الادب والفن
»حسناء, حسناء, تعالي ناوليني درهمين من الخميرة من بقال الحي !! ؟ هذا الصوت الرقيق تسلل إلى قلبي قبل أذني, انه صوت أنثوي , سلس ,عذب وحنون , رفعت رأسي إلى شرفة المنزل الموجود في الطابق الثاني , فلمحتها وهي تحاول إرجاع خصلات شعرها الأسود التي تحجب رؤيتها عما يجري في الزقاق الضيق، حيث أختها حسناء تلعب وهي بالفعل حسناء صغيرة تشبه أختها التي تناديها ,بهرني جمالها، قامة متوسطة، وجه مستدير يفيض بياضا، وصدر ناهد ونظرات مركزة لا تخلو في عمقها من حشمة وخجل , دق قلبي لصوتها كما خفق لجمالها ولطفها , أخذت جانبا من الزقاق لعلي استمتع ثانية برؤية قوامها الممشوق غير أن شيئا من ذلك لم يحصل ,تحركت من مكاني لتمويه الجيران أنني ابن سبيل في محاولة ثانية لألمحها .
احترت في أمري وفي هذا السقوط المفاجئ في حب صوت رقيق لامرأة رقيقة أيضا .......حملت حسناء الخميرة إلى المنزل الذي أطلت منه تلك الفاتنة ورجعت إلى وسط الزقاق، لتتمم لعبة الحجلة مع فتيات الحي بينما بقيت مشدوها إلى تلك الشرفة انتظر إطلالة القمر من جديد؟!! وكم كنت أتمنى نفاذ شيء ما من المطبخ لتنادي ثانية أختها وانتهز الفرصة لرؤيتها , داهمني أكثر من مرة الحمالون والباعة المتجولون بفعل شرود ذهني نحو تلك الشرفة ,مر الوقت بسرعة كبيرة، صوت المؤذن ينادي الصلاة الظهر وحركة الزقاق بدأت تخف وأظن أن العجين قد أصبح جاهزا للطبخ , أسرعت إلى اقرب مقهى , دخلت فوجدته غاصا عن أخره ومزيج روائح مختلفة تنبعث من بابه الضيق، أخذت مكانا لي إلى جانب الزبائن وهم خائضون في لعب الورق ورشف كؤوس الشاي , طلبت قهوة سوداء وأشعلت سيجارتي الرخيصة ,انبعث دخانها و أنضاف إلى ذلك الفضاء الضيق والملوث بروائح المدخنين والحشاشين , أخذت أفكر في طريق توصلني إلى تلك الفتاة الجميلة حقا : أأكتب لها رسالة؟أم أذهب إلى أهلها ؟! انهالت علي أسئلة كثيرة, أحسست برنين في ذهني وشرود أخذني إلى عوالم أخرى حاولت استحضارها أمامي فجاء ت عارية و بياض جسدها الناصع يطرد العتمة من فضاء المقهى، خصلات شعرها الأسود تجاوزت صدرها الممتلئ المحمول بصدرية حمراء، أحسست بقشعريرة تلف جسمي،انتصب أيري وأحسست بألم في صدري، حاولت مخيلتي تجاوز تلك الصورة المثيرة فلم تستطع، دخلت المرحاض، قبضت عليه بين كفي و أصابعي ليرفق بي و يريحني،استغرق ذلك مني وقتا فاق وقت قضاء الحاجة،سمعت طرقا على الباب فأسرعت للتخلص من الغريزة بهذا الشكل الشاذ؟؟ يا له من صباح تعس ؟!!ما كنت سأصل إلى هذا لو بقيت ملفوفا في الفراش استيقظت للبحث عن عمل فصادفت فاتنة خجولة، أخذت وعيي وتركيزي....؟!
وأقسمت على رؤيتها مرة ثانية، حتى وان تطلب الأمر زيارتها في منزلها ومصارحتها بما أصبحت أعانيه , عبرت الأزقة الملتوية إلى منزلنا وشمس الصيف الساطعة ترسل أشعتها الذهبية، تنعكس في عيون المارة كلما مر الحمالون بالأواني النحاسية المصقولة المحمولة فوق اظهر دوابهم , وهم يلتمسون من المارة توخي الحذر وفسح المجال لدوابهم المروضة على السير في تلك الأزقة الضيقة :" عنداك"!؟ رد بالك الله يرحم الوالدين !؟ وعندما يرون سياحا عجزة يلتقطون صور زخارف المعمار أو يشاهدون النقوش البديعة على الأبواب الخشبية يحذرونهم أيضا بلغات مختلفة ...... «
واصل حسن طريقه وهو غير آبه بما حوله, خياله جامح, يحاول استحضار تلك الملامح بقوة حتى ترتسم في ذهنه خوفا من تلاشيها, غارق في تساؤلات: " ماذا لو كانت من أسرة ثرية وقبلتني زوجا لها ؟." ثم ما يلبث ينبهه وعيه: " كيف ستكون من أسرة ثرية وهي تسكن هذا الحي الشعبي وتشتري درهمين من الخميرة ؟!!". " قد تكون تشتغل وهي الآن في عطلة، في منزل أبوها ؟؟!"
المهم كل التخمينات تحفزه على الالتقاء بها و مباشرتها في موضوع الزواج، ثم تصل به حيرته وتخميناته إلى سؤال واقعي : " كيف يمكن أن تقبلني زوجا و أنا عالة على أسرتي , معطل عن العمل ؟؟!".
يتلاشى الحلم وتنجلي الاستفهامات على صوت المؤذن وهو ينادي لصلاة الفجر :" الصلاة خير من النوم "... ما إن ينتهي حتى يغوص حسن في تساؤلات ميطافيزيقية ودينية، حول وجود الإنسان ومصيره وتعاسته في الحياة ، يغذي تأمله هدوء الليل وسكونه , فيردد: » صحيح الصلاة خير من النوم , لكن النوم أيضا ضروري « يتكوم في الفراش ثانية ويحاول أن ينام على أمل استقبال يوم أخر من مسيرة الحياة الصعبة، وكم يتمنى أن يكون أفضل من سابقيه. حاول حسن إشراك أقرب الناس إليه( أمه) في ما أصبح يعانيه, غير انه يبدو غير مقتنع بذلك، فالحاجز المادي يقف حاجزا دون قبول ذلك من طرف أمه، إذ لا معنى للحديث عن الزواج في غياب العمل والسكن القار... يردد:" كل هذه الدنيا بمدنها وعقارها وثرواتها ومعادنها، لا املك فيها حتى قوت يوم من الحنطة ؟!! ما هذا الظلم ؟! «
أزمة وحب واشتياق، ماذا عساه أن يفعل؟!أليس من حق العاطلين أمثاله بناء عش وتكوين أسرة !؟. أليس هذا هو معنى الكبت بكل معانيه الجنسية والنفسية والسياسية ؟! يقولون :عاش محمد شكري مكبوتا وفجر ذلك الكبت في الكتابة والأدب , وماذا كان عساه أن يفعل ؟ أيكتب عن حياة البذخ والترف والغنى الفاحش وجاريات القصور ؟؟! كتب عن حياته، حياة الفقر والهامش !. أعجب حسن بكتابات هذا الأديب وخصوصا سيرته الروائية ( الخبز الحافي , زمن الأخطاء, ....) يجد في كتاباته جسرا ينقله إلى الحانات الساخبة ودور الدعارة الساخنة وسنوات القحط أواسط الأربعينات من القرن الماضي،عوالم شكري قريبة في الكثير من ملامحها من عالم حسن. لقد أحب شكري لا لشيء ولكن لأنه صوت المهمشين والمقهورين الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء يقول عنه :" شكري ظاهرة اجتماعية ونفسية ,وليس شخصية أدبية وفقط , تستحق الدراسة والبحث لا المحاكمة الأخلاقية, انه تعبير عن زمن قاس وعن أزمة لا زلنا نعيش آثارها وعن تشبث كبير بالحياة قل نظيره"غير أن اختلافه مع شكري، يكمن في عدم التزامه السياسي أي عدم اكتراثه بالفعل السياسي. وبينها هو في عالم شكري بمغامراته وتحدياته عاد به ذهنه إلى صورة تلك الحسناء التي تسكن خياله. أخد ورقة وقلم وكتب إليها :" تحية طيبة وأشواقا حارة وبعد,لا أخفيك آنستي العزيزة مدى إعجابي بك ورغبتي الجامحة في التحدث إليك ومعرفتك عن قرب , سنحت لي الفرصة أن رأيتك مرة واحدة وأنت تنادين أختك الصغيرة من شرفة منزلك، ومنذ ذلك اليوم وأنا مفتون ومتشوق لرؤيتك مرة ثانية، لكني لم أستطع وكأنه قدر لي أن أراك مرة و أتعذب دائما, وهذه بطاقتي : أنا الآن في أواخر العقد الثالث من عمري , حاصل على الإجازة في الآداب , ابن لأسرة فقيرة , توفي أبي فوجدت نفسي مكلفا بالأسرة، التي تضم أمي وأخي ياسر وأختي فاطمة ,أعمل مياوما حيث اشتغل يوما وأتعطل أياما هذه وضعيتي تبدو صعبة، لكني معجب بك أحلم بان تشاركينني الحياة ونبني عشنا ويكون لدينا أطفال وو...وفي انتظار ردك، على أحر من الجمر، تقبلي آنستي العزيزة أسمى التحيات والمتمنيات."
المعذب حسن الراجي.
رش حسن قليلا من العطر على تلك الرسالة ووضعها في ظرف أبيض وقصد الحي الذي تسكنه تلك الفاتنة، وصل وانتظر ظهور الطفلة الصغيرة حسناء , وما إن بدت له حتى نعادى عليها :
- حسنـــــــــاء, حسنــــــاء !؟
جاءت غير متحفظة , قبلها ومنحها قطعة الحلوى فامتنعت، ثم أقنعها فأخذتها في المرة الثانية , وقبل أن تنصرف , منحها ذلك الظرف وطلب منها إيصاله إلى أختها الكبيرة فلم تمانع , قبضت على الظرف باليد اليسرى وعلى قطعة الحلوى باليد اليمنى وانطلقت مسرعة نحو المنزل، وقف يرقبها وعلامات الفرح بادية على محياه وهو متيقن من أن أشواقه ستصل إلى تلك الحسناء . انتعشت أحلامه ونفسيته بفعل هذه المبادرة التي أقدم عليها ...
ومرت ليلة الانتشاء والفرح واستيقظ باكرا للبحث عن يوم عمل , قصد الساحة الفسيحة بقرب الحي الذي يسكنه حيث يجتمع العمال المياومون من مختلف المهن والحرف يضعون أمامهم وسائل تميز مجال اشتغالهم، انضم حسن إلى هذا الجمع وهو متيقن من أن أكثرهم لم يحصل على فرصة يوم عمل ...
وصلت الرسالة إلى المعنية بالأمر, أخذت وقتا طويلا لقراءتها وتأملها ,ذكرتها عباراتها الرقيقة بعبارات الغزل التي كان يبعثها لها رفيقها في الجامعة حينما كانا يفترقان أيام العطلة الصيفية, اغرورقت عيناها بالدموع , سرحت بها ذاكرتها إلى مرحلة الحياة الجامعية حيث عرفت مبادئ الالتزام السياسي ومفهوم المثقف العضوي في مجتمع مثخن بالجروح وحيث ذاقت أيضا طعم الحب الممزوج بظروف الحظر العملي والقانوني الذي يطال الحرم الجامعي, امتزجت عندها دموع الذكرى بدموع الواقع المأزوم، فهي أيضا معطلة عن العمل وحاملة لكابوس فقدان الحبيب الأول الذي فضلت أن تعيش على ذكراه متحدية عائلتها وأقاربها الذين نصحوها بتجاوز الماضي ومحاولة نسيانه وفتح صفحة جديدة ..!.
أخذت العنوان من على الظرف الذي حمل إليها تلك الرسالة,وبدأت تكتب ردا يحترم مشاعر ذلك الإنسان الذي كتب إليها : " تحية تقدير واحترام وبعد , وصلتني رسالتك بطريقة خاصة , كما أرسلتها , أشكرك على عبارات الإعجاب والتقدير،وأقدر مشاعرك الرقيقة فهي بلا شك نابعة من قلب إنسان يحترم نفسه , أدعوك إلى تفهم وضعيتي ولا تعتقد أنني رفضتك لوضعك المادي، فانا مثلك أيضا بنت هذا الشعب الكادح , ووضعيتي خاصة جدا : أنا إنسانة عاطلة عن العمل , أعيش حياة خاصة , كانت تجمعني علاقة حب برفيقي أثناء مرحلة الدراسة الجامعية ,قبلت به صديقا مقربا لي عن اقتناع تام بشخصيته ومبادئه وقناعاته التي قاسمته إياها، والتي كلفته في أحد الأيام حياته، حين سقط صريعا في الحرم الجامعي في ظروف استثنائية ؟!!؟ ومنذ ذلك اليوم وأنا أعيش على ذكراه وفاء له ولالتزامه ولوطنيته الصادقة , وإذ أجدد لك متمنياتي بالتوفيق,أطلب منك أن تتفهم موقفي وظروفي الخاصة جدا. " أختك زبيدة.
وصلت الرسالة إلى منزل حسن، احتفظت بها الأم، وبمجرد أن عاد، منحته ذلك الظرف، مزقه على الفور، أمسك الورقة بين يديه وبدأ يقرأها بلهفة وعندما انتهى تيقن أن الحلم و إن كان مشروعا، فهو غير قادر على تغيير وضع
#نبيل_حواصلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟