|
(سلطان الكلام)*- وفعل الذاكرتين.. التواصلية والحضارية
حسن النصار
الحوار المتمدن-العدد: 2859 - 2009 / 12 / 15 - 19:54
المحور:
الادب والفن
(ســلطـان الـكــلام)*- وفعل الذاكرتين.. التواصلية والحضارية إن الشاعر حينما يبدأ بفعل الكتابة - الشعرية - ينطلق من ظلامه الخاص، من أرضه الجرداء، أرضه البور....هكذا ببساطة مثل الأعمى ينطلق من ظلامه الكلي فتنجلي أمامه الرؤية الخاصة ... الرؤية التي لا أظننا ندرك أسرارها لكننا نتحسس أطراف الظلام بفعل الروح... وفي المجموعة الشعرية- سلطان الكلام- للشاعر وديع العبيدي نتحسس أطراف ظلامه ، بمعنى أن الشاعر بدأ يشكل ملامحه الشعرية الخاصة من خلال أرضية محددة يسعى لـتـأسـيـس مملكته الشعرية عليها ... وانطلاقـاً مما سبق يمكننا أن نحدد فعله الشعري على أعتبار أن مساحته صارت واضحة ضمن خارطة الشعراء الممتدة. الشاعر وديع العبيدي تنبثق رؤيته الظلامية - الشعرية - من فعل الذاكرتين التواصلية والحضارية ، لكنه يستفيد من مجال الذاكرة التواصلية أكثر حيث يختص مجالها كما يؤكد الباحثون : بالأحداث التي تصل حّدتها وأهميتها إلى تغيير مسارات الحياة الأجتماعية والفكرية و...و... فنقرأ ضمن التواصلية: بعـثرتنا المسافات بعـثرتنا الرؤى بعـثرتنا التقارير والأجندة نشتهي.. فلا يشتهون نرتأي.. فلا يرتأون إذن ذاكرة - العبيدي - تتصل بالأحداث التي تستمد حدّتها من تغيير فعل الأحداث بأتجاهات لم تكن مطروقة ضمن بيت الذاكرة ، لذلك جاءت رؤيته الشعرية تحمل دلالة الأسى واللّهات في ذاكرة التعب ... وهذه الرؤية متأتية من تتابع فعلي البعثرة وتكرارها ثلاث مّرات ، حتى أنّه لايستطيع أن يعقد صلحاً مع ذاكرته التي تدفعه إلى رؤى ظلامية ، أعنى تشاؤمية. أما في قصيدة بابا نوئيل - نجد أن فعل الذاكرة الحضارية دخل - في آلية شعره ، والذاكرة الحضارية يكمن مجالها في أنها تستقي مادتها من تراكم معرفيّ لتمسي هوية الجماعة وتضرب بجذورها في أعماق التأريخ ، والشاعر- العبيدي- قد وظف ذاكرته الحضارية بايجاز شعري فنقرأ : اخلع معطفـك الجبلي لأن الثلج تأخر هـذا العام ولم تغـرب شمس اللعنات غـريباً.. قابلك المنهم أنت وكان الليل نهاراً وعلى الباب غـراب أسود.. ينعب طوال الليل ويحفـرأسفـين الهجرات... وكما أشرنا لماهيّة الذاكرة الحضارية ومادتها المعرفية... ها نحن نقف في هذا النصّ أمام مادتين معرفيتين، الأولى: الإحالة التأريخية الواضحة لبابا نوئيل وعيده الثلجي الذي وظّفه الشاعر رغم دلالة فرحه - لصالح الحزن ... بدلالة تأخر الثلج هذا العام... الثانية : الأحالة الأسطورية لمصدر الشؤم- الغراب- وما توحي به من فعل تيهان وخسارات وهجرات ... من هنا يمكننا أن نقول ، أن الشاعر - العبيدي- دمج بين الذاكرتين رغم أختلافهما، أعني أنه أستطاع أن يوظف فعل الذاكرتين لصالح نصوصه الشعرية، فنقرأ في - شجرة آدم.. وكان على غصن الشجرة طير ووراء الزهرة نهر وغناء الطير حزين يظهر من عنوان النص - شجرة آدم - أن هوية النص جماعية ، وهذه الهوية تقودنا إلى الذاكرة الحضارية ... لكن الشاعر بفعل شعري قريب إلى الهمس حوّل المسار إلى منطقة الحياة الأجتماعية التي تقود إلى الذاكرة التواصلية ، خاصةً حينما تحّدث بفعل ماضوي عن طير وزهرة ونهر وغناء حزين ، وفي هذا الفعل وما تلاه توكيد على تغير الحياة الاجتماعية ، وكأنه يقول الآن لايوجد طير ولا زهرة ولا نهر ولا غناء. إذن ثمة تغيير حقيقي في مسار الحياة الأجتماعية كما إن الشاعر- العبيدي - يوظف ذاكرته المعرفية بالاستفادة حتى من أصغر شيء في رسم الكلمة داخل النصّ . قلت إنها أوّل قصيدة أكتبها خارج ا ل حـ.......... د و د نلاحظ أن مفردة ا ل حـ....... د و د - قد أصابها البتر من الوسط بوضعه النقاط وبهذا يؤكد - العبيدي - أن الذاكرة التواصلية قد حققت أفعالها المرسومة بتغيير مسار الحياة.. إضافة للدلالة الصوتية لحرف الحاء (قبل البتر) التي تنطلق من آخر الحلق، وما يمكن ان يوحي به الجزء الثاني بعد البتر(دود) والذي يصدر من بداية اللسان والشفاه في وضع الزمّ. واذا اعتبرنا ان حرف الحاء يمثل المفتاح والأصل الجذري لكلمات : الحياة والحب والحلم والحرية والحرب والحقد، فان الجزء الثاني يجسد النتيجة التي أسفر عنها واقع الحال الجديد وهو بتعبير الشاعر وبكل بساطة مجسداً في كلمة واحدة تحمل كل المعاني مشتركة، علمياً وتراثياً (دود). و في نصّ - في موكب الشعر- نلتقي أيضاَ بالمجالين - التواصلية والحضارية في فعل الذاكرتين فنقرأ : ونغطي بالخرقة وجه الصبح إن الفصل بين وجه الصبح والوجوه بالخرقة دعوة ظلامية تجسد العيش في الظلام في دعوة تكاد تجّر الذاكرة إلى بيت لامطروق ، بيت لايصله النور في ظل الحياة، .. وبهذا تكون أو تصبح الذاكرة ظلامية ، غير أننا نـفاجـأ بمقطع آخر ضمن نفس النص، بسحب هوية الظلام من الذاكرة ومنحها هوية تأريخية مشرقة، هوية تمتد جذورها في ظلّ حضاري لامثيل لها... فنقرأ: العراق هو العراق حديقة اللّه الخلفية آدم والأفعى قابيل وهابيل الأمين والمأمون المختار والحجاج وإبراهيم هارباً... !! إنه فعل الموروث الثقافي المتأتي من إرث حضاري كبير في ظلّ ثقافة شاملة تحمل جغرافية الوطن في بيت الذاكرة العقائدية والأسطورية والتأريخية بشتى أثارها المشرقة والمظلمة... الأحيائية والقتلية... وفعل الموروث جاء ضمن جسد النصّ لرفع تلك الخرقة التي تغطي وجه الصبح وكأنها دعوة روحية مستمدة طاقتها من فعل العقيدة والتأريخ والأسطورة لرفع الخرقة عن خارطة وطننا وبيتنا العراق... في مقطع آخر يرتفع صوت الشاعر بالصمت ، صمت يحجب الذاكرة الفكرة والكلمة والحرف... فيقول : في اليوم الثاني كان الشعـراء يكنسون الكلمات من الشوارع ويصبغون الجدران بالصمت... ! الشاعر- وديع العبيدي- الذي حمل عبء الذاكرة مع بقية الشعراء الذين ملأوا الشوارع بالكلمات ، ملأوا الشوارع بمجال الذاكرتين - التواصلية والحضارية - بما تحملان من أفكار تمشي وترسم ملامح الشوارع... نجدهم بفعل قسري يمنعونهم من مجال ذاكراتهم ، يمنعوهم من استخدام أية ذاكرة، وهذه إشارة كبيرة للرفض الضمني بالتخلّي عن الهوية الحضارية والمعرفية. ومن النصوص المهمة في مجموعته - سلطان الكلام - نـصّ المستقبل/ الذي يعود تأريخه للعام 1986، رغم غنائيته وموسيقاه الحرة لكنه بفعل توظيف الرمز الأسطوري أخذ بعداً آخر، بل إن الرمز الأسطوري ، في قلب الحدث، بمعنى أن الأسطورة حملتنا إلى الذاكرة الموروثة فنقرأ : يا طفلي الراقد هذا الحين في رحم امرأة مجهولة العبيدي- هنا يرسم ذاكرة المرأة الثقافية.. التي تبدأ من ذاكرة الرحم والتي تشير إلى أوليات الذاكرة التكوينية ، ومن هذا المنظور يتكون لديها فعل الأنتماء، فمتى ما انتمى الرجل لامرأة أخرى مجهولة - الغربة- يكون رحمها قد أمحى أوليات ذاكرته التكوينية بفعل الرحم الجديد، لذلك يأتي صوت الأم مراً كمرارة الابن نفسه الذي سقط في رحم المرأة - الغربة - بعد ما سلبت بيت الرحم الأخير (الغربة) كل الذاكرة الأوّلية فيقول : آه ياولدي المرّ كأحزاني لن تلقاني.. سلمتك مفتاح الدار ومنحتك عقدة أحزاني لاتترك لغة الأسرار ياولدي ياهذا القابع فيَّ..... ذاكرة الابن هنا تنقسم إلى ذاكرتين بفعل الرحمين، لذلك يبقى يلازمه فعل الضياع والتيهان نتيجة هذا الانقسام القسري، فضلاّ عن أن الذاكرتين - الرحمين - لايتطابقان من حيث فعلهما ودلالتهما. ويبقى الشاعر- العبيدي- مخلصاً لذاكرته الرمزية التي سربت نفسها إلى أجزاء النص بفعل أقرب إلى التلقائية ، فضلاًَ عن دلالتها الظاهرة أو كما قال : نور ثورب حينما عرف الرمز .. بأنه النموذج القابل للاتصال - لذلك نصّ العبيدي المعنون بـ -الصفر الذي رأى - دلالته أشبه بمنجل يحصد من الذاكرة التي ترعرعت على أرضية لم تنبت فيها إلاّ أعشاب ضارة لا تقود إلاّ للصفريات، فنقرأ : عارياً مثل سكان الغابات أطول من كلِّ الأنهار قدمٌ على الأرض ... وعينٌ في السماء... ... دحرجتني الحضارة والسخام البشري تأريخٌ طويلٌ من التراجع ها أنا أولد مًرةً أخرى وأنتهي إلى صفر إناء من معدن" الصفر" يرنّ ويلمع الرموز المتولدة من رحم الأساطير تشير إلى عمق المأساة وتؤكد على الرحلة الشاقة التي فرضت على إنساننا ، وتكاد هذه الرحلة العذابية تشابه رحلة جلجامش بقطعه المحيطات والغابات ومواجهته الأهوال والكوارث للحصول على عشبة الخلود من جدّه- أوتونبشتم - بيد أن رحلته تقود إلى دائرة الصفر نتيجة فعل الأفعى وأكلها العشبة، وهكذا شاعر- سلطان الكلام - يعود إلى الصفرية بعد كل مرحلة. وصفرية الشاعر رغم فرديتها وذاتيتها لكنها شمولية بدلالة رؤيته البكائية لصورة الوطن فنقرأ : رأيت البصرة تبكي والنهران دموع والشاعر حينما اتسعت مجال ذاكرتيه - التواصلية والشمولية- وشملت أرض الوطن ونهريهِ - دجلة والفرات - ، شملت كذلك الموروث الديني اذ يقول : على باب أبي الشهداء ذكرتك هذا اليوم من الملفت للانتباه أن وديع العبيدي يوظف ذاكرته لإلتقاط مساحات الحزن من كلِّ الجهات ، فيذهب مرةً إلى واقعة الطفّ- ويستحضر مأساة الحسين "ع" ومرةً أخرى يُصيِّر النهرين اللذين يعدان نبع الحياة لأرضنا دموعاً، وكأنه بفعل استمرارية الدموع عبر النهرين يؤكدّ فعل استمرارية الأحزان وديمومتها... ورغم كل هذه الأفعال الذاكراتية المتصلة بالذاكرتين، سواء أكانت تراثية ، دينية، معرفية، وجعية، زمانية، مكانية، لكن تبقى ذاكرة الشاعر تعاني من الضياع والفراغ، وفعل الخوف عند الشاعر العبيدي من الفراغ يماثل فعل الخوف عند جلجامش من الفناء ، فيقول الشاعر : أشير إلى ربوة تصدر الريح عنها وتجتمع الطير عند الظهيرة مرّي عليّ.. مرّي ولا تتركي قامتي مشجباً للسكون!.. يتبين مما سبق أن الشاعر وديع العبيدي في مجموعته الشعرية - سلطان الكلام- يستخدم كل مجساته الروحية ضمن فعل الذاكرتين - التواصلية والحضارية - لكي يقترب بنفسه من تلك الأماكن التي شكلت خارطته الذاتية، فضلاً عن خشيته الكبرى من السكون - الفراغ- الذي يهدد خارطة الاشياء، يقول الشاعر الكبير بلند الحيدري : أعينهم تنبش في ذهنهم عن عظمة أخرى لجوع جديد هكذا كان فعل الشاعر العبيدي في مجمل نصوص - سلطان الكلام- وبلا شك مستفيداً من ذاكرته الماضوية في عمله الشعري للوصول إلى ملامح خاصة ومساحات شعرية جديدة - إن الشاعر الذي يحس بأنه يقف على مملكة الشعر هو الذي يستطيع استغلال الماضي في ابتكار شئ جديد- (روزنتال في شعراء المدرسة الجديدة) بقي أن أؤكد : أن سلطان الكلام نخلة شعرية سمراء غرست على ضفاف دجلة بفعل واخلاص شعري ، وبهذا تعد قامة جديدة بهيئة نخلة شعرية تضاف إلى بستاننا الشعري الواسع في العراق . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * سلطان الكلام - مجموعة شعرية للشاعر وديع العبيدي صدرت عن دار ألواح في اسبانيا عام 1999.
#حسن_النصار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
-
مدينة حلب تنفض ركام الحرب عن تراثها العريق
-
الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في ا
...
-
-الحريفة 2: الريمونتادا-.. فيلم يعبر عن الجيل -زد- ولا عزاء
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|