|
تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة
جعقر كمال
الحوار المتمدن-العدد: 2856 - 2009 / 12 / 12 - 22:19
المحور:
الادب والفن
الجزء الثاني نتناول: الشاعر عبدالكريم كاصد عودة على بدء إلى ما جاء في مقدمة الجزء الأول من هذه الدراسة، نحاول أن نسلط الضوء في هذا الجزء على المكونات الإبداعية المميزة، وذلك بالتطرق بالتفصيل إلى القامات الأدبية المثلى، وطموحنا في هذا الجزء محاولة الوصول إلى قراءة تفصيلية في القصيدة المكانية المدورة عند الشاعر عبد الكريم كاصد المجدد لبنية هذه القصيدة، كما أوضحنا سابقا، في جزئنا الأول، والذي تناولنا فيه الشاعر سعدي يوسف، نستطيع بواسطتها تلمس السبيل نحو نوع من التقنين الإجرائي لما توصل إليه هذا المشروع التجديدي من تأثير وقبول، أو رفض عند البعض متلقياً أديباً، أو متلقياً عادياً، وحتى لا يبقى هذا التجديد الخلاق، غير مفهوم لدى الكثير من الأدباء أنفسهم، وحتى لا تبقى مفردات مشروع هذه القصيدة عاصية على القراءة، أحاول أن أسلط الضوء على أهمية ركائزها الجادة وهي: أولاً: أهمية مخارج صيغ أدواتها. ثانياً: كيفية لعبة المدور البنائي بثنائيته المتكافئة شكلاً ومضموناً. ثالثاً: تداعيات أسلوبية الإيقاع في صناعة التناسق اللغوي بين الألفاظ وملاقحة معانيها. رابعاً: متداعيات الشاعر الإلهامية، والخصوصية البلاغية التي تحتدم اشتقاقاتها بين اللغة والبناء. الإلهام هنا يعتبر متعاطياً إيجابياً مع ثقافة ووعي أدوات الشاعر، ونعني: التجاذب الكيفي الذي يحكم إنتاج سعة التخيل، فالبناء الخارجي يعتمد الصياغة الذاتية للحركة التي تنمو بإعادة مفاهيم البنية الداخلية، بإيحاءات متلاقية لا ستضعف ولا تتشتت فيها الأدوات، إنما تبقى تدور بحيوية ببنى تفاصيل أدوات أوسع، يحكمها قانون تقابل الأشياء لا تجزئتها، كالتقابل الإلزامي بين الفكرة ومعانيها، وبين النص وأدواته. ولكي نسلط الضوء أكثر على براهين ودقة متلاقيات مضامين البناء الداخلي في الجملة الشعرية عند كاصد، نكشف عن تلامح التواترات الحسية من عميق خلجات ذائقتها الصوتية، التي تؤدي إنسجامها التام مع المكون الحسي الباطني، حيث تتساوى المهارة البيانية واللغوية باقتصار نبضها الشعري المنتظم إلى الشكل، وبها يتصاعد الصوت ونغمية متقنة وهادئة إلى المتلقي. ولهذا ومن أجله سعيتُ لأن أدخلَ مباشرةً لمختاراته الشعرية الجديدة، وسأقصر هذه الدراسة على بعض قصائد هذه المجموعة الشعرية، وذلك بربط معرفة الوعي الواقعي ببنائها الفني ودقة أنسجة كيفيته، حيث الإضافة الأنموذجية لسمات إبداعية خاصة، من وحي العناصر المكونة لهذا التجديد على النحو التالي: 1- مكانية: مثل قصيدة :"الفصول ليست أربعة"*. "سيرة محلة صبخة العرب" كونها حكمت استدعاء الماضي بكل انفعالاته، من سلبيات سياسية واجتماعية. وإيجابيات فكرية تمثلت في وقوف الشاعر جنباً إلى جنب مع أبناء شعبه ضد الدكتاتورية البعثية المذهبية، وقد اقترن استقراء المكان بإطار متكامل غير قابل للبديل العاطفي بين الدال الإنساني، والمدلول غير الفاعل للتجزئة في المفهوم الانتقائي لمصطلح فلسفة أفضلية المكان، وهذا يقودنا إلى أن الشاعر عندما سلط الضوء على مكان" محلة صبخة العرب" إنما أراد الكشف عن أهمية منتج هذا الحي لقامات ذات وزن معرفي وأدبي كبير من عائلة واحدة تميزت بمنتجها الإنساني الكبير، أي عائلة الشاعر وأخوته، وقامات أدبية واكاديمية أخرى أنتجها هذا الحي الشعبي البسيط، وهذا الرأي يصطلح مع فلسفة المثل الشعبي القائل "الكصب لو طال يرجع لأصوله". وهنا تكمن فصاحة الماهية الشعرية من خلال المنظور التأملي، باعتبار الرجوع إلى الماضي، يغذي الحسية المعنوية، كونها المحاور الأساسي والحيوي للتعبير عن منتج التلاقح الوجودي بالمكانية، ولهذا كشفت الملكة الشعرية عند الشاعر عن أصالة هويتها، و قد نسميها المعالجة بالمقدار الأسلوبي المعبر عن خصوصية التلاقح الإحساسي في ذات الشاعر، بمطاوعة المشاعرية الذاتية وارتباط حنينها بذكريات المكان، عندما استدعى التاريخ المتمثل بالأسطورة "آلهة سومر" كمشاهدة حية في عيون هؤلاء: وقورون كآلهة من سومر تحفّ بهم النراجيل كالجواري في مقاهي المدينة بيوتهم قد تخلو من الخبز ولكنّها نادراً ما تخلو من الضيوف يتلخص هذا الاتجاه بالحنين إلى مسقط رأس الشاعر، ليسلط الضوء عليه ويذكي العلاقة بين ذاته، وذات المجتمع. إذ أننا نلمس في هذه القصيدة، عبر محاورها المنتظمة، بإيقاع نبض رشيق الحركة، يوعز إلى أن مصير الإنسان ليس منعزلاً، بل هو جزء من المجتمع والتاريخ. فاللغة الشعرية المكانية تنتظمها معالجات خفية، تحاورها الخاطرية العاطفية حيث تعود به إلى اقتضاءات تعبيرية تنجسم مع المسوغ العقلي الذي يحتفظ في جانبه العاطفي بماضيه، وخاصة إذا كان ماضي المكان هو الذي وضع الشاعر على أول خطوات الإبداع، ومن جهة أخرى فالمكانية ملازمة لمشاعرية الإنسان مهما علت قدراته العلمية أو الأدبية، وبالتالي فهي منقولة بحواسه إلى حيث يستوطن، فالنظام العقلي الذي يجعل من النفس أن تناجي المكان الأول، لا يخضع للقوانين المجتمعية الانتقائية، بمدلولات الأفعال والأصوات التي تتقارب مخارجها في المكان البديل، لأنها لا يمكن أن تلغي حساسية استلهام معاني الطفولة والصبا والمراهقة. 2 - إشارية: مثل قصيدته: "نوافذ" المكتوبة حديثاً، والتي سميّت مختاراته الشعرية هذه بها. المعبرة عن تلازمية الشيء بإشاراته التعبيرية، وتحديث فعل الدلالات الإيعازية للرؤية الإبداعية المجددة، وقد ارتبط هذا الفعل بمحورين أراد لهما الشاعر النجاح: - حسية، تثير للأشياء شهوتها الجمالية، لتعبر عن المنتج الداخلي للمقياس البحثي، في عموم المحاور التي طرقت القصيدة أبوابها. - معنوية، تهتم بدراسة وظائف الأصوات المجردة من بصريتها، والمعلنة في أشياء أخرى، وهي الإطار المتمثل بالشكل في قوله: أحبُ النافذة تدير وجهها إليّ وفي صورة أخرى تتضح عنده محاكاة اللابصري، فنجده محاوراً بصيغة السؤال في قوله: لا أدري لماذا تدخل الأشباح من النافذة ولا تدخل من الباب؟ ولي أن أتمنى على كل من يروم للأدب مسعى، أن يقرأ هذه القصيدة كونها تمنح الخيال، وتشد القارئ إلى معالجات تحثه على الكتابة، أو الرسم أو حتى التغني بها. فالموهبة ودافعها الإلهام هي ميزة الشاعر الحق، كونها أحد أهم محققات التمييز القائمة كمعطى أساسي في بنى القصيدة، يوعز لثقافةٍ تميزت بشموليتها الموضوعية بكافة الفنون والعلوم، فأصبح الشعر موسوعة يضم في ديوانه كل العناصر التي تطرح مشروعاً جامعاً، يمنح الصورة حقيقة المعبر الموضوعي عن الأشياء. قلنا إن العلاقة العاطفية بين الشاعر والاشياء، جاء التعبير عنها بلغة شعرية تدور فيها المعاني على نسق واحد، في كثير من القصائد، إنما هي موحاة إليه من الخلية الإبداعية في العقل، والقرآن يقول: "أوحينا إليكَ روحاً" "الشورى 52 " والموحي هنا العقل الموعز لصاحبه بتنفيذ الأشياء. والقصيدة روح تحقق للدلالة نوعية الجدل، فهي تتكلم وتعني وتثقف وتمثل وتمتاز عن غيرها من المكونات الأدبية، وهي في الوقت ذاته تفرض قربها الروحي من الآخر من لدن إحساساتها ومعانيها. بهدف إحداث نقلة نوعية في بنية ثقافة القارئ، لأن الشعر مصب تنويري يفعل الانسجام المشاعري لإنسانية الفرد. وفي هذا المنحى يأخذنا إليوت إلى رأي: "إن الشاعر إذ يعبر عن ما يشعر به الآخرون، إنما يغير هذا الشعور بزيادة وعي الناس له، وهو يجعل الناس أكثر وعياً بما يشعرون به سلفاً، ولذلك فهو يعلمهم شيئاً عن أنفسهم". وبهذا يمكن أن نقول أن الشاعر قد أضاف أشياء جميلة ومهمة أدت مهمتها، ما دامت كينونته المنتجة مرتبطة إلى حد بعيد بهذه الخصائص: الخصوصية المنتجة لطبيعة خصوبة الخيال عند الشاعر. القيمة التأويلية وتميزها قوة مصادره. وبذلك يصبح للوعي دورٌ فاعلٌ في تسيير مشيئة الإبداع، واخضاعها إلى كل ما هو متغير ومستحدث في الرؤى والتفاعلات التنويرية، التي ترتبط بين ماهو مقنع مطلق، وبين ما هو نسبي واقعي، عبر المؤثر الوجداني العاطفي. من خزين رؤى ومجسات المساحة التي تمتاز بها تجربته، المقرونة بالمعطيين التاليين: - الوحي: هو المنتج العقلي، الذي يؤدي بدوره إلى تكامل البناء في وحدة النص، أي مستنتج القيمة. - التجربة: هي النسبية الحياتية، التي تحتفظ بمقدار معين من الوعي التخصصي الذي يميز تجاربها، مقابل تجارب الآخرين من حيث منتجهم الإبداعي. وهذان العاملان يعبران عن المنطلقات الملموسة، التي تؤسس علاقة نوعية بين الموسوعة الفكرية في ثقافة الشاعر، ومنتج أدواته، هذه من جهة، ومن جهة أخرى: احتدام التداعيات بين المعاني وألفاظها، ضمن النسق الحيوي الخلاق المتحد بملائمة كيفية البناء. وعلى هذا الأساس تمتاز القصيدة التي تولد من رحم الوحي والتجربة الناجحة، في الذوق والرقة والرشاقة، كما هو الحال في قصيدة "صبخة العرب". التي تعني للمشار المكاني دلالاته الاجتماعية العاطفية من رحم لغتها الفنية المدورة، كونه المكان الذي ترعرع ونما به الشاعر عبدالكريم كاصد، وهذه القصيدة تعبيرٌ عن وفاء الشاعر لمسقط رأسه، وما احتوى المكان من تداعيات ورؤى وسجال ثقافي وعاطفي، فقد سجلت هذه القصيدة توسعا معنويا في كيفية بسط معطيات الديباجة الشعرية، من منظور قدرة الشاعر على محاكاة المكان، وقد برع في الشعر المكاني أهم الشعراء العرب أمثال: امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، والشاعر سعدي يوسف، والشاعر أبو القاسم الشابي، والشاعر عباس بيضون، والشاعر الذي نحن في صدد دراسته في هذا الجزء عبدالكريم كاصد، وغيرهم. والشعر المكاني تناوله السياب في كثير من قصائده الخالدة ومنها: "غريب على الخليج، " كما هو الحال في قصيدة: "منزل الأقنان" وقصيدة: "جيكور والمدينة" وغيرهما من قصائده العظيمة. كثير من الشعراء يحكمهم المزاج، مع أني ضد هذا العنوان، لأنه لا يتساوى مع المؤسس الإبداعي للذات المنتجة، فالمزاج منتج أناني يعبر عن: أنا ولا أحدً غيري، وفي الوقت ذاته تجده حسوداً مقولبا بالأنا المضخمة، لا الأنا الدالة على حكمة واستقلالية الذات المؤسسة لخصوصيتها، لأن الأنا الثانية تكشف عن الصورة غير الملحنة، كونها تشع من الماورائي التخيلي في قيمتها ونوعية المكون الإبداعي الإيجابي، حين تكشف عن إيعازات انفصالها عن المكون التقريري، إلى مكون انفعالي حسي تتجاذبه الإيماءات والنزوعات النفسية اللاهية مع الانفعال الحسي المكون الأساسي للعاطفة. وقد أوردنا هذا الشرح من باب الاحتراز، لا أن نعني شخصاً بعينه، إنما هذه أزمة تطرح إشكالياتها على مستوى واسع، سواء أكانت في الجسد الأدبي العربي أم حتى في الآداب الأوروبية، والمطلوب إعادة النظر في كل النصوص وكشف صحيحها من رديئها، وهي دعوة لكل النقاد العرب أن يكشفوا عن الكتابة الرديئة، وعن العث، والسرقات، وغيرها. وفي الجانب الآخر أن يخصصوا للشعر النسائي قدراً كبيراً من المنطق والاستحسان القيمي بين الشاعرة الحقيقة، وبين أخرى بينها وبين الشعر فضاء لا محطة فيه، وتأكيدنا أخلاقي إنساني لتأكيد أهمية الشاعرة الحقيقة التي تمتلك القدر الكبير من الفصاحة اللفظية، وتميز أدواتها لما تنطق به من وحي شاعري بديع، وما تجمع من اصناف الكتابة الراقية. فهناك شواعر عربيات معاصرات على مستوى عال من الأهمية بمكان كا: الشاعرة العراقية لميعه عباس عماره، والشاعرة اللبنانية جومانة حداد، والشاعرة العراقية أمل الجبوري، والشاعرة المصرية فاطمة ناعوت، والشاعرة الكويتية سعاد الصباح، " وإن كان لنا مأخذ عليها، حين كتبت قصيدتها الشهيرة: "سيف العرب" لكن هذا جانب سياسي لسنا في صدد تناوله، والشاعرة العراقية الشابة ورود الموسوي ذات القصيدة النبيهة الخلاقة، وكأن شعرها تنساب خلجاته في روعة معانيه، وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى في الديباجة اللغوية. والشاعرة السعودية مي كتبي، والشاعرة حليمة مظفر، والشاعرة العراقية بلقيس حميد، والشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بنيس، والشاعرة المغربية نجيبة العبدلاوي الحائزة على الجائزة الأولى للمساهمة الهولندية للشعر، والحائزة أيضا على جائزة أدب الهجرة لعام 2000، وعلى جائزة "كونسبيند" الهولندية، والشاعرة والمترجمة الجزائرية د. ربيعة جلطي، فكل واحدة من هؤلاء الشواعر تميزت بحس شعري فني أخاذ، مجدٍ للأساليب الكتابية المتطورة، ولا أنوي المفاضلة بين هؤلاء المبدعات والمتميزات حقاً، لأنه لا يوجد شاعر أو شاعرة يوصف بالمستوى العظيم، أو الأفضل، أو الأكبر، إنما هناك قصيدة عظيمة. وعليه ومن أجل أن نستمتع بهذه القراءة ننظر بالشاعرية المحصنة والمتعافية من كل غثاثة، والخالية من العثرات، والصافي بيانها من المربكات غير المبنية بناء حسناً، كالأحرف المتماثلة، التي تتكرر في البيت الشعري الواحد أكثر من مرة، حيث تجد الحروف المتكررة أضاعت معاني الكلام، بل أضافت إليه ثقلاً وركة، مبتعدة به عن الفصاحة، فيضعف الغرض الفني، ويهد قوة الترابط الإيصالي اللغوي ببعضه، وفي الوقت ذاته يبعد القارئ عن النص. كما عبر عن هذا الوعي: قُدَامَةَ بن جعفر في كتابه "الخصائص" بقوله عن المعاظلة: " هو إدخالك فيه ما ليس من جنسه وإلزامه إياه ومثله. بقول أوس بن جعفر: "وذاتِ هِدْمٍ عارٍ نواشرُها = = تُصْمِتُ بالماءِ توْلباً جدعاً". والمعاظلة تعني كل ما يكسب الكلام تسطيحاً فتهويماً وتداخلاً بلا إفادة، أي بُعد الكلام عن السلاسة، وعدم فهم طبيعة المفردات والجمل، مما يؤدي إلى عدم فهم المعنى. والدليل في هذا: وأزور من كان له زائراً = = وعاف عافي العُرْفِ عرِفَانه لاحظ تكرار الراء والفاء اللذين حمّلا البيت ثقلا، لأنني أعتقد أن الشعر، وخاصة العمودي يعتمد البناء وصولاً إلى كمال وحدة المتلاقيات الفنية واللغوية بموسقتها، على أساس إجادة استخدام الألفاظ على أحسن وجه، حتى تتصف قراءتها بالمعبر الحقيقي عن المتعة، أما إذا كانت الأدوات المؤسسة للشعر سليمة معافاة من كل رداءة، فهذه تأخذ القارئ وتشده إلى بلوغ معانيها، والاستمتاع بالذائقة الفطرية المتقنة في تشذيبها وتحصينها بالأدوات الناجعة. فالشعر مجسات نبض خفيف الإيقاع، حسن اللفظ، بليغ المعنى، رقيق السبك، ورشيق كقول الشاعر البليغ: قالت بنات العم: ياسلمى، وإن = = كان فقيراً مُعدماُ؟ قالت: وإن. لاحظ الجزالة والحنان والبلاغة والرشاقة في هذا البيت الشعري وأسلوبه البديع الذي لا تقاوم جمالية إشاراته وإيحاءاته. وشاعرنا عبد الكريم كاصد يقودنا في متلاقياته الحريرية بالكثرة من الجزالة، وكأن لغة الكلام استسلمت لقدرته، للوصول بها إلى رقي مراتب الجمال، إشعاراً ببلاغتها، عبر دواونينه الشعرية الكثيرة ومنها: الحقائب، النقر على أبواب الطفولة، الشاهدة، وردة البيكاجي، نزهة الآلام، سراباد، دقات لا يبلغها الضوء، قفا نبك، زهيريات، ولائم الحداد، هجاء الحجر. وله في المسرح أيضاً: المجانين لا يتعبون، حكاية جندي. وفي الترجمة عن الفرنسية: كلمات جاك بريفير، أنا باز، سان جون بيرس، قصاصات، يانيس ريتسوس. وفي الترجمة عن الانكليزية: نكهة الجبل، سانتيوكا تانيدا، وفي الحوارات معه وأهمها الحوار: الشاعر خارج النص، مع الكاتب المبدع والمتميز الأستاذ عبد القادر الجموسي، والمقابلة هذه منحت الدلالات المعرفية قيمة تنويرية، حين أشارت إلى مساهمات الشاعر في الكثير من المجالات الأدبية، في أغلب المحافل الثقافية، والتي كان ومازال مساهما وفاعلا في رفد الثقافة العربية، موازينها وجمالياتها وتميزها، متنقلا بالتجديد إلى الضرورة الإبداعية أن تأخذ أولوياتها العربية مقابل الآداب العالمية، ولو تصفحنا قصيدته المعبرة في رؤيتها عن المأساة الكبيرة التي أوضحها الشاعر عبر متلاقيات الألم ومعانية المؤثرة في النفس البشرية، عن أولئك السياسين الذين هربوا من جحيم النظام العراقي السابق: الغرف في ظلام الغرفْ تنهضُ الآن وحدك تبحث عن علبةٍ للثقاب تُراكَ نسيتَ ؟ عرضتَ ثيابكَ كلَّ أثاثك للبيع تذكر قرقعة العجلات وهي تحملها، وسط همهة الشرفات والصغار الذين يطلون فوق السلالم ها أنت تبتعدُ الآن تُسرعُ بين النوافذ تُصغي لوقع خطاك الغرف القيمة الاحتمالية لتغذية الطفرة الإبداعية لبلوغ سلم النجاح، تقوم على أساس إذكاء هَوَس المغايرة في المفاهيم، واللعب على مجانسة الأدوات وتشذيب قوانينها، إلى حيث الاستدلال الاستقرائي في عرض تميز الأدوات المكونة لهذا النص أو ذاك، باعتبار الاستقراء الإستنتاجي الأول للقصيدة يبوح عن كشفٍ احتماليٍ عند البعض، وفي الوقت ذاته ينتج عن وعي يحلل مدى قناعته بالمحتوى الدلالي لعموم البنية، بشقيها الداخلي والخارجي، ولكن ما أن تعير القراءة تركيزاً في البحث والتحليل تجد أن مفاتيح النص قد دارت دورتها الكاملة في الكشف عن القيمة الدالة على أهمية هذه الكتابة. وفي هذا المقطع الذي يبتدئ ملهمة الشاعر "الغرف". اعتمدت القصيدة: بناء المشهد المسرحي، وحاله يستهوي عرضاً خاصاً للتعبير عن الحيرة البشرية ونواتها الشاعر، الذي أصبح المعمد الروحي لهذه الجماعة، لأنه يكشف عن الظروف الصعبة التي يعيشها صحبته في مواجهة منفى الروح عن الوطن، ويعالج الايضاح الذي يجب أن يؤدي إلى الخلاص من بنية الظلام في الغرف، ولذا صار يبحث عن ضوء ينير النفس المتمثل في عود الثقاب، ومثاله أراد لهذه الاستعارة أن تنتج دورتها المدورة، برفع الوهم المتمثل في ظلام الذات، والسياق العام هنا أن تكون ثيمة "علبة الثقاب" ظاهرها من الدلالة على الإيحاء بأن الذات هي المفعول به بالمطلق المادي، الذي ينتجه تمني الضياء، المنقذ المتمثل في قدسية عود الثقاب، ومن جهة أخرى أدى الشاعر مقابلاته الفنية التي تمثلت في: "ظلام الغرف،" والغرف دلالة مكانية استقرائية، يعود إليها الشاعر كون مضمونها الداخلي ينشر أجنحته الفنية على سهل المشهد بأجمعه، حيث تجده كلما ينتهي من بناء، يعوم بالدلالة على أن عطفها يعود إلى ما تقدم فيشركه في وحدة المفهوم الدائري التشكيلي للمجانسة الذاتية لبلوغ النص حكمته، والقصد أن يبقى الشاعر يقود رأس الخيط، إلى اكتمال نسيج وحدته، التي تعتمد اعتماداً بالغاً على أهمية البنية الحرفية، ولذلك جاء التدليل يوزن مرجعيته على الفعل الأول بحواراته بين الذات / والمكان، حيث يشير إلى الدقة في بنية المونولوج الذي يتصافى إيقاعه بين الخارج المتمثل في: " تُسرعُ بين النوافذ" وبين الداخل غير المكشوف على الآخرين الذين هو جزء منه في: "تصغي لوقع خطاك الغرف". والغرف هنا أصبحت تصغي، وهي معلومة مادية بحته، أنارت مشاركة الجامد بالحدث وهذا تميز بلاغي خصب. لأن الشعر منطق تأويلي بامتياز، ولي أن أشير إلى أن المعنى في مفردة "تُسرعُ" لا تشير إلى الوهم الاصطلاحي المسوغ في الروح، كالخوف من الظلمة، إنما هي على جهة المساءلة والذهول من ملاحقة الضياع له، في هذه الصورة المحكمة بالتناسق الموضوعي، التي مثلت الرخاء اللغوي في: "تنهضُ الآن وحدك" ويصافيها بالمتمم الدلالي: "تُراكَ نسيتَ؟" والنوافذ: أرادها أن تكون المقابل النفعي بمواجهة ظلام الغرف، فهي تمنح النفس شهيقاً صافي المتعة من بوح فضاء يأخذه إلى إطلالة على ضياء الحرية، لأن النوافذ واعز رمزي يمثل التضاد لمفهوم الظلام. وفي الوقت ذاته يأخذ بالدلالة لتكون معبراً حسياً ومشركاً لوظيفة المعنى، بنسيجها الداخلي المتوازي مع الشكل بهذه الصورة: "ها أنت تبتعدُ الآن" أن تكتمل قيمتها التي تحوم على كشف الدلالات إلى ثبوتيتها البينة، على نسق يبني الشمولية في وحدة ترتيبها المحكم. من صيغ لغوية تحكم إحاطة المعنى بمناقشة أحوال المكان ومؤثراته الكيفية على النفس، تنشدها الجملة: "تصغي لوقع خطاك الغرف". لأن هذه الحركة الشعورية المؤسسة للفن التصويري المدور في اللفظ المشترك، حققت إنجازاً لمعانيها على جهة التفضيل البنائي للنص، بما يحفظ للتقنية الفنية العودة إلى النواة، أي المركز. وهذا يعني أن الصورة كيان خاص واحد، والقصيدة بأكملها هي كل هذه الصور توحدت في الذات الشاعرة، فأصبحت المعبر الحقيقي عن كيان متماسك أدى إلى وحدة المضمون. كيف تتخذ الكفُّ شكلَ المفاتيح مقطوعة وتحدّقُ في الباب بالزائرين؟ كيف لم تبصر الزائرين؟ يعدّون في بيتك الشاي يستقبلون النساء ويقتسمون الغرف إذن لابد من الملائمة لأجل تبيان المقصود من التوصيل الاستقرائي التأسيسي ، في بيان الغرض من التشبيه، لأن يصل التعبير إلى أهدافه الموحية، إلى أن: "الكف". المشبهُ به، أدت الإيجاز في الفعل المحقق للإيعاز: "المفاتيح". المشبّه بأحوالها، بحيث تتناسق في ذات الفعل التعبيري عن الشيء وأدائه، فكلاهما المحركان الأساسيان لمحورية "تتخذ"، فجاءت الجملة الشعرية تدور في قراراتها المبنية على الإيعاز بالشيْ في هاتين المعنيين، ثيمتا: "الكف و المفاتيح". أما ما أوحيت به المفاتيح للبلاغة من مسوغ مطلق الدلالات، فهو قدرة الشاعر على محاكاة غير العاقل بإحياء مبتغاه، ليومئ إلى أن هذا الشيء يؤدي فعله الذاتي، وحال الشعر يتسامى بمكوناته على كل الجهات وجمعها بسلة تسمى القصيدة، وهذه قدرة ليس بالهين إحياؤها، لأن تتسامى اللغة باصطلاحها التعبيري كي تحقق للصورة الشعرية أهدافها في: "الكف تأخذ شكل المفاتيح" تحدق في الباب بالزائرين الذين، "يقتسمون الغرف". والغرف هي النواة المكانية التي تدور حولها الحياة، فإما تهجرها وإما تنتهي فيها. والسؤال: "كيف" دل اختيار الملائمة بين: الكف والمفاتيح، معنىً لا يخلو من تأويل المشاعرية الحسية التي لها القدرة على أن تكشف وتتلمس الأشياء ببياناتها؟ وهذا تفعيلٌ لمحاكاة المكان وإحياء عناصره الواقعية، أن يجعل من القارئ يتفطن لبراعة الترتيب، والتخصيص القيمي عبر معالجاته الفكرية لما يمنح الكلام إيضاحه الدلالي. أنت حين طرقتَ الفنادق في الفجر يقتادك النوم، غادرت عند الظهيرة يستيقظ النائمون وعند الظهيرة هل يصعد الماء؟ أنصتُ أسمع وقع خطىّ في الممرات يصطفق الباب ُ تهتز منشفةٌ فوق حبل الغسيل تلامس في الريح سطَحَ الغرفْ يتواصل الشاعر العزف على الصور الشعرية مسجلاً دورة الحياة الذاتية أن تسير بجوهرها الميتافيزيقي، سواء بأوقاته العبثية، أو الجادة، ليتشكل الزمن معبراً عن حياة بثّ فيها الركود، في قوله: "عند الظهيرة يستيقظ النائمون" والصورة في المقطع السابق: "ويقتسمون الغرف" هو إطناب على جهة التتمة والتكملة لما أراد أن يوصل الشاعر للمتلقي ربط الدلالة التامة على المعنى، وإيضاحاً لها في الصورة التالية: "وعند الظهيرة هل يصعد الماء؟ وبهذا يكون قد أدى المقصود الفني للبناء الشكلي والداخلي بآن، وهذا هو ديدن الشاعر عبدالكريم كاصد باهتماماته القيمة بالحرص على البناء كوحدة دلالية على وجهين: - أحداهما أن تكون القصيدة تتحرى البليغ في تأدية المعنى. - وثانيهما أن يوجز للألفاظ بياناتها، ويكثف من فنيتها في سلة بما يغني من جزالة المضمون، وحلاوة طبقاته الفصيحة. والقول الذي أود أن أوصله للقارئ الكريم، أن الشاعر حقق للجملة الشعرية المسلمات الفنية واللغوية منجزها الصوتي، فبدلاً من أن يقول: يستيقظ النائمون عند الظهيرة، وهنا ضعف كبير لأن المعنى يميل إلى الاستعارة الغير ملزمة للنص، وفي الوقت ذاته تشكل خللاً لغوياُ. لكنه قال وهو الأصح: "عند الظهيرة يستيقظ النائمون". وهكذا احترز من الخطأ البنائي في جلالية اللغة، في مطابقة الكلام لتمام المراد من بوح معطيات الحبكة الجمالية. والظهيرة، عنوان للجد والعطاء والقوة، وانتصاب الزمن وفحولته القصوى، لكن الظهيرة في هذه القصيدة شكلت القاسم المشترك بين الخمول، "عند الظهيرة يستيقظ .."، وبين صعود الماء التواتري إلى الأعلى، مع أنه وضع المعنى بصيغة السؤال بالجملة الشعرية الثانية: "هل يصعد الماء" المعطوفة على ما قبلها: "وعند الظهيرة" والواو تقدم هذه الجملة المركبة للملاءمة ولأجله جاز العطف، لا التعليل، لأن تركيب الجملة جاء منسجماً مع فنية التقطيع الجوابي، فوجود الواو نحسبه نافعاً للضرورة البلاغية، كقول القرآن: "يخادعون الله و هو خادعهم" وهذه الصورة القرآنية هي من المتقابلات لغة ومعنىً. وصعود الماء يشكل قلقاً وحيرة للشاعر، ولكي نفهم جيداً مغزى هذا السؤال المحير يجب أن نفهم ظرف القصيدة، تطابقاً نفسياً مع ظروف الشاعر، وهذه أهمية كاصد تجدها في كثير من أعماله: يزرع جوهر المعنى بقلب النواة ويقودها إلى مكان معين في فسلجة النص، ويشتغل على أساس خفق انتظام النبض، ليكمل دورته الكبرى، مغذياً إحساسات المكونات الشعرية، فالاحتمال الأول لصعود الماء، هو الانتظار، قد يرتبط بالحضارة الصناعية إذا أراد لثيمة الصعود المباشرة بواسطة جهاز معين، أما الاحتمال الثاني: وهو الصعود الفيزيائي للبخار وربطه ربطاً معرفياً بزمن الظهيرة، كونها الأعلى في درجة الحرارة، وفي قصيدة: "الفصول ليست أربعة". يدلنا الشاعر إلى وصول درجة الحرارة في زمن الظهيرة، في مكان صبخة العرب بلغت أقصاها في الكون في هذا البيت الشعري: "كادت الظهيرة أن تشعل الحطب" إذن أصبحت المقارنة واضحة بين النار، واحتدام درجة الحرارة عند الظهيرة. فالدائرة الدلالية أصبحت تحكمُ معطياتٌ ساغها الرمز "الظهيرة". إلى مفهوم معرفي يتيح للمعنى نضوج وحدته وملاقياته التي بلغت كلَّ غايةٍ في محاورها الداخلية. تنهض الآن وحدك تنقل كفيّك في الضوء تنقل كفيّك في الظلّ تفتح نافذةٌ، وتغلق نافذةٌ ثمّ تسأل كيف؟ كيف أصغيت للغرفات وهي تنبض بالناس كيف ارتميت حزمة من مفاتيح يحملها الزائرون عودة للمكون الإحساسي في ما يشغل الذات في محاولة لإيقاظ العزيمة، من المؤثرات السلبية الناتجة عن القلق الذي يصاحب وحدة النفس، حيث تحوم الآلام في سياق دورتها المعبرة عن اشكالياتها، ولهذا تجد الجملة المفتاح التالية تتكرر: "تنهض الآن وحدك" ولكنها في هذا الباب تصب في سياق يحمل للنص إيعازات مختلفة، وهي تشكل مستويين في الإفادة لمقصود تعدد معانيها وهما: - المقود الأساسي. للأخذ بالنص إلى التصافي التعبيري بأحكام المتلاقيات القيمية في المكون الشعري. - خصوبة التوالي الإرهاصي، الحسي، التأويلي، لإتمام خاصية ظنون التخيلي، لما تنتجه العاطفة المعبرة عن شاعرية الذات المستمعة والرائية للأحداث. وغير ذلك فالصورة التي عبرت عن قيادتها للقصيدة بأكملها حيث أصبحت النواة التي تشع من فيها التعابير النبيلة، والإحساسات الدافئة، والمعالجات، وهذه الجملة أحالت التشبيه إلى حال الغرف الهابطة منها والنازلة أعمدتها، "للعصافير تسكن اعشاشها في السقوفْ،" يمكنني أن أتذوق حلاوة هذه الصورة المشاعة عند كثير من الشعراء. فالشاعر بدر شاكر السياب يقول: " ذوائبُ سدرةٍ غبراءَ تسكنها العصافيرُ"والشاعر جعفر كمال يتآلف حزنه عن جلالية العصافير فيقول: "العصافير ، العصافير سرب المعاني المحملات بالعشق فرت إلى معالي النجم الأخضر وحيداً عدت من الأعشاش اليابسة وعندما دونت إلى موقد الجمر أردته دفئاً ودنوت فأحنيت أجنحة العصافير." وعودة إلى الشاعر عبدالكريم كاصد الذي عبر عن المصير الإنساني بقوله: "كيف أصغيت للغرفات / وهي تنبض بالناس". فالتشابيه الخفية جعلها مقاصد مضمنة بحوائج ساكنيها، والإيلامات التي وقعت عليهم، ومعاناة أبطالها العديدين، المشبه العميق بهم بدون إشارة للأسماء أو حالة الشخوص الموسومة بهذه المكونات: "الصغار، الزائرين، النساء، الجنود، المهاجر، النائمون، الناس." كون التشكيل الفني ليس تشكيلاً سردياً، إنما هي إيماءات وإشارات وحسيات تتلاقى في معانيها وأوصافها مدركة إرهاصات نبوغها، وهذا نحو: "هل قلت: رائحةٌ في الغرف" وقوله: هل رأيت الغرف، كيف تلفظ في الفجر سكانها" وقوله: غرفُ للمنازل تهبط عارية" وقوله: "غرف للجنود المصابين واليطغات" وقوله: غرف للمذابح" وقوله: غرف للمهاجر يُسندُ أحزانه لرصيف". كل هذه المعالجات حققت نجاحاً موصولاً للقارئ بدون تعقيد أو عنٌ في الصياغة، بل حبكة تتأتى فتنصب متلازماتها بتقدير له مذاقه الخاص في بنية تهذيبها، فالتشبيه الحاصل وهو ضروري وليس تقريرياً كما يظن البعض، وهذا هو منتج إحساسي دافئ، أجلى ما يكون من الوصف المباشر، فالإحياء والإماتَةُ هنا مجاز في الظلم والقسوة، في قوله: "غرف للهياكل مشدودة للمراوح" وقوله: "غرفٌ للمذابح". خاصة وأن هذا الشعر الحسي، هو معبر عقلي، يتساوى مع تداعيات ما يحفظه العقل من ظلم الحكومات العربية لشعوبها في سجون كارثية، وتفننها في تعذيب الإنسان لمطلق حصول رأيه، كالهياكل المشدودة للمراوح، وغرف أخرى تعد للمذابح. وما أكثرها بشاعة وظلماً، وقد حقق الشاعر استدعاء لمآثر ظلم الدكتاتوريات العربية التي أورثت الحكم لأبناء الرئيس، كما حدث في سوريا، والأردن، والمغرب، وحكومات الخليج، باستثناء الكويت. وربما ما سيحدث في مصر، واليمن، وليبيا، وكأن هذه العائلات الحاكمة وحدها هي التي تستوعب قيادة هذا البلد أو ذاك، وما تبقى من الشعوب سوى نعاج تقاد!! "تنهض الآن وحدك تنقل كفيّك في الضوء" هذه الصورة الشعرية التي قلت عنها في تحليلي الذي استهل تناول هذه القصيدة، على أنها نواة هذا العمل، بينما نجدها في إيقاع آخر تنهض برقي معانيها وتركيبها الضوئي، تركيباً بلاغياً موسيقياً، فيه الكثير من الحسية النبيلة، ،انظر إلى مركبها الإيقاعي الفني كيف تساوى سلمه الموسيقي بنغمية مطلقة الانسجام والإفادة، قربت من وحدة معاني النص بأكمله، فجعلته وحدة متراصة، وجلية الوضوح في مكونها الحسي الداخلي، المنشور إيقاعه على الشكل بنضوج مثمر ومؤثر وفاعل، ولهذا المقطع من القصيدة قوة محركة للفعل القيادي، الذي يأخذ النص إلى الفصاحة صورة بصورةٍ، ومعنى بمعنى، جعلها مألوفة حازت من اللطافة والرقة ما لا يخفي حالتها عن القارئ، فقوله: " تنقل كفيّك في الظل" صورة وكأنها تطريز للكلمات بوعي أنامل ماهرة، أدت إلى إفادة ومتعة بلا ريب، تتصاهر فيها كل محصلات الإبداع الحقيقي، وكأن هندسة المعاني نزلت من مشكاة دقيقة الفتحات، يطوف في عيونها الإحساس بلاغة محببة، لأن الكلمات الأربعة تنقت فتحاورت، تلاقحت فأنجزت معنىً كبيراً ذا شاعرية متزنة، أعلنت عن حيوية الصوت الهاتف في المكون اللغوي.. فالكفان تنتقلان في الظل كصوت يسموٍ للآخر، عبر مجسات تومئ إلى انتظام النبض الإحساسي البصري. "الاستعارة أرسخ عرفاً في القواعد المجازية" كما عبر عنها: يحيى بن حمزة العلوي. عن كتاب "أسرار البلاغة" للجرجاني. والسؤال هنا: هل يعد التشبيه من المجاز؟ فإذا كان كذلك، وهذا ما أدافع عنه في شرحي، كون هذه القصيدة حيكت بحكمة الشاعر على بيانين وهما: أولاً: البيان في الاستعارة. والثاني: استعارة المحسوس للمحسوس. كقوله: " أنت أطفأت وجهك بالماء" وملحق الجملة: "في فندق" فالمستعار هو الماء، والمستعار له هو وجهك، وثيمة أنت المتمثلة في الضمير: أنا، كما هو الحال في وجهك، والمعنى وجه أنا، أنظر إلى حُسن ما ذكره من ملائمة تلوح بفلسفة مطعمة بفنية غاية الخصوبة، والمعنى جزل مشبع بالشجن، ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبي: وإن جادَ قَبْلَكَ قومٌ مضوا فإنّكَ في الكَرَمِ الأوَّلُ "وتوهجتَ في الشرفات". الخاتمة: جاءت أشبه بعرض المتعة الرومانسية المطعمة قليلا بالواقعية المصابة بالخلل، والخالية من عذريتها، بعيدة عن مآثر النص. فلو قال: - والشرفات نأت بعيدة - لكان لتمام المعنى أكثر خلودا للمعاناة التي تداعى بها النص بأكمله: وحاز على دلالة الشرط والجزاء بآن. وهذا يأخذني إلى قول: هيوبرت دريفورس الذي تناول هيدغر بالنقد والتحليل في قوله المشاع: "يحتاج المرء لأن يكون محدداً. و تناولي للشاعر عبدالكريم كاصد الذي حصل في أكثر من إفاضة، في الصحافة الورقية والاكترونية، إنما كونه يعتبر واحد من الرموز المميزة على صفحة ازدهار الأدب الستيني في الوطن العربي، ولأهمية قصيدته المجددة في ديوان الشعر العربي، وخاصة ما تميز به في القصيدة المدورة، وقد سبق لي وأن شرحت مفهوم المدور الشعري في دراسات سابقة عن الشاعر. أما ما نتناوله الآن قصيدة ذات قدر كبير من الأهمية، لما تتمتع به من ذائقة شعرية، وقوة نحوية في مؤثراتها الوجدانية، وبديعها الذي يتسع للعاطفة متعة حسن البيان، وكمال الهيئة شكلاً ومضموناً، لإيعازات تدفق الصور الناظمة لتلاحق الأخيلة، ببصرية العواطف والرؤى والتهيئات، فثمة غناء معرفي، وثراء مدهش في التصوير، وملاحقة الصوت في مساراته الحميمية. أُسَطرَ القصيدة على لوحتي كما هي، ومن ثم أتناولها بالتحليل والمكاشفة ونقدها بالسلب والايجاب، عربات الأحلام أجلْ ياصغيرتي أنا ذلك النمسُ الوفيّ "من يعيد دمي إليّ؟" أنا ذلك الغزالُ المسحور اتوسدُ سمائي وأبكي أنا تاجكِ الذهبي وأميراتك الصغيرات في عربات الأحلام *** في هذه المملكةِ الشاسعة سأهديك بيتاً صغيراً بحجم الكف في هذه المملكة الشاسعة ستهدينني شيئاً كبيراً بحجم السماء هو أنت *** كلّما دخلتُ مملكة بهيئة ملكٍ أوشحاذ جلستُ إلى نافذة قلبي وتطلعتُ إلى شرفتك العالية وأشعلتُ قنديلنا بالقصص *** حين تكونين سمكة سأكون بحيرةً هل رأيتني؟ حين تكونين طائراً سأكون هواءً هل سمعتني؟ *** سأمضي بسلةٍ وأعود بسلتين سأمضي بعربة وأعود بحصانين ونضحك وحين نسير معاً تسير دميةٌ صغيرةٌ وطائرٌ كبير يسألنا فلا نردّ *** إذا ما لمحتني بين سربٍ من الطير وكنت طائراً ولم تعرفيني فأنظري جنحيَ المهيض *** في شعري أتسمعين ضربات المناجل في الليل؟ إنه الحصاد = = = من أجل الإحاطة بفهم الخصائص الأساسية للشخصية، المطلوب تناولها، علينا أولاً أن نكوّن رؤية موضوعية عن الأبعاد الثقافية والفكرية التي ميزت هذه الشخصية، وجعلتها في متناول تفكير الناقد، وقد نستطيع في دراستنا هذه تقديم تحليل موضوعي، آملاً أن يصلنا إلى نتائج مهمة، فيما يتعلق بشعره، وكتاباته القصصية، وترجماته الانكليزية والفرنسية إلى العربية، ودراساته النقدية العديدة، ومحاضراته التي تختص بالأدب والفكر، من المنظور النقدي التحديثي، وشاعرنا عبدالكريم كاصد حقق للشعر العربي والعالمي آفاقاً ناجحة ومؤثرة في الوجدان الإنساني، وقد أبدع في كشف الأسرار اللغوية بحسب ذائقته الفطرية. وتناولنا لهذه القصيدة ناتج عن أهمية هذا العمل لما يتمتع به من طابع خاص مستمد من سمات بلاغية متجانسة توكد الأنموذجي الشعري على صفحات الأدب العربي، متنقلا بمعالجة الصوت وجوابه، من لوحة إلى أخرى، موزع على تنظيم فضائي مبني على التواتر الإنسجامي العاطفي، وكل ملفوظ لهذه الوتريات الحريرية تنهض بعناصر تكوينية لتأسيس الخلق الإبداعي، وصلتها المتلازمة لغةً وفناً بالملكة الفكرية، يقول افلاطون: "للألفاظ معنى لازمٌ متصلٌ بطبيعتها أي أنها تعكس: إما بلفظها المعبر. وإما ببنية اشتقاقها" بينما يرى أرسطو "إنّ الألفاظ معنى اصطلاحيا ناجماً عن اتفاق، وعن تراضٍ في بنية النص الأدبي". وشاعرنا يأخذ ابنته سارة الجميلة، إلى حدائق ومنابع إحساساته الشاعرية، فنجده يحلق بطفولتها وشغفه الأبوي إلى مناخات مقدسة، وحاله يقتسم مساحة الزمن بين الكون وسارة، وفي ذاته يصوغ قلائد الحب البديهي المألوف في كيانه عبر موسوعيته الأدبية، وهو يدخل سارته التاريخ من أوسع أبوابه. شاعر أبهج الشعر العربي بذائقة متفردة باستقلاليتها، وحبكة بناء المتقابلات المعنوية: فالموصوف هي الابنة: "سارة". أما المطابق الحسي الموعز لمؤثرات المعاني الجلالية فهي: القيمة الشعرية، وهذا الإحساس نجده مطابقا لمشاعر تجسدت في الذات التي تمنح اسم الأب للطفلة سارة. من خلال المؤثرات الوجدانية والمعنوية، مرسومة بخصوصيتها التي لا تضع للمشاعر قياساً،ً بل تعطينا تأويلاً حاداً من التواتر النفسي العاطفي عند الشاعر لحظة النظر بوجه طفلته، أو زمن تفاعل الخيال العاطفي في مناجاته لها، والفعل هنا مرتبط بالعامل التكويني للإحساس المكشوف على نفسية الشاعر، من هنا يمكن أن نتساءل عن طبيعة عناصر هذا التلاقي الروحي بين سارة والشاعر، الذي يوحد ويشكل قاسمها المشترك هو الرابط الروحي المقدس، كونه الفاعل المؤثر لجلالية المنطق الإنساني، الذي يعبر عن المعنى الأبوي في المنظومة المجتمعية. تداخلت الرموز في هذه القصيدة فأوحت بشكل بريء إلى المتلاقيات الموحية بالتواتر الحسي والمعنوي. فثيمة " النمسُ " شكلت صعوداً دلالياً للمعنى، بحيث لا ينفصل التصور الذهني العاطفي المجرد من الشكل الخارجي، فكلمة النمس لها معان ومخارج كثيرة ومتعددة، منها الحسن ومنها السيء والرديء، ولكن روح الدلالة عند الشاعر كاصد تتسم بالمكانة التعبيرية التي تهدف إلى القول الدال على ماهية الحد اللغوي، من مبدأ المنظور النقدي الذي يعمل على ثبوت القصد، فالرمز الحسي الذي استخدمه بثيمة النمسُ إنما هو واعز لبنية صوتية تتفرد بها المعاني والأهداف، لأنه رَكبَ الجملة الشعرية لإفادة القارئ بأن مفردة "النمسُ" هي من الفصيلة الحسناء في معانيها، في قوله: "أنا ذلك النمس الوفيّ". أنظر كيف مازج مابين النمسُ والثيمة الموسومة بالوفاء، فألقى بطقوس الدلالة الخصبة في سلة معانيها، وبهذا يكون قد أكمل التميّز عن المقاصد الأخرى للنمس. "أنا ذلك الغزال المسحور" يستمر الشاعر ينهل من الرمز تغذية للمعاني في جديتها وسطوتها على المتلقي، وهو يقارب الموزون الإنساني لتحقيق: أن الشاعر إنما يغير الشعور ليجعل الآخر أكثر وعياً بما يشعر به، فالأخير قد تكون لدية مشاعر ذات طابع فريد، إلا أنها لا تمتلك الإحساس، وبهذا فهو عديم القيمة، لأنه إذا تبرأ من عاطفته أصبح عديم الذائقة. تقودني هذه الصورة الشعرية إلى أن الشاعر مستعد لكل شيء يفرح طفلته، حتى لو خرج عن هدوئه المعتاد، والمستحكم عليه أبداً، بينه وبين كل شيء، إلا أن سارة كانت طفولتها تمثل أحد منجزات سلمه الإبداعي، فكل أشيائها الجميلة هي أشياؤه المحببة لنفسه في قوله: "أنا تاجك الذهبي - وأميراتك الصغيرات" "الدمى" وهنا فهو يكون الواعز الجذاب لفرح الطفلة، وكل هذه المشاعر والمشاهد والانحيازات النفسية نحو البليغ العاطفي، مادة تتساوى مع ضحكة من فم سارة "في عربات الأحلام". سأهديك بيتاً صغيراً بحجم الكف في هذه المملكة الشاسعة ستهدينني شيئاً كبيراً بحجم السماء هو أنت في هذا المقطع من القصيدة أوجد الشاعر لقصيدته: القلب. حيث تنتظم فيه مزايا النبض موحياً بالفصاحة اللفظية، إلى ما يكون متعلقاً بالفصاحة المعنوية، خالية من الشقوق والانصداع، كما أن المعاني تستمد سياقها من قيمتها وشكلها الفني وطرق وظائفها، وقد تمثلت كل هذه المزايا في المتلاقيين البليغيّن: "سأهديك". و "ستهدينني". والمعنى المعبر عن خلجات الروح هو: "أنتِ" وقوله: "سأهديك بيتاً صغيراً بحجم الكف" وهذا مطابق لما ذكرت لا ينقسم الرمز على معنيين، إنما يساويهما بالمطابقة ما بين عمر الطفلة، وتفكيرها ومجانستها مع الشيء باختيار رفيق سلوتها، وهذا بمنزلة النص من علم البديع، لأنه جعل التفكير يتساوى مع العمر، وبهذا حقق المقصود من ثيمة: "سأهديك". لم ينه الشاعر صورته فتكون ناقصة، إنما عالجها بصيغة المتقابلات، فأراد منها: "ستهدينني شيئاً كبيراً - بحجم السماء -هو أنت" "مع أني أختلف مع الشعراء بتناولهم للرمز: "السماء" وقد شرحت هذا في الجزء الأول من هذه الدراسة". ولكنه ومع هذا القلق الفلسفي باختيار الرمز "السماء" كمعبر غير وجودي فهو ليس ملزماً بدلالاته عن المنشود المعرفي. إلا أنه من جوانب عديدة حقق للتصاهر الإنساني العاطفي ربيعه البديع. إذا ما لمحتني بين سربٍ من الطير وكنت طائراً ولم تعرفيني فأنظري جنحيَ المهيض ولكي يتم الشاعر قصيدته بنجاح لجأ للحكمة والموعظة بدون تنظير بقوله: "إذا ما لمحتني.." ويجانس معانيها بقوله المبني على عاطفة الأبوة المقدسة: "ولم تعرفيني.." بالتالي يطلق حكمته: "فانظري جنحي المهيض". انظر كيف توهجت المشاعر واستوت معرفة وحرصاً على شغف القلب، مبتدءاً رفد طفلته بالمعرفة والاتزان التربوي خطوة فخطوة.
هامش: صبخة العرب: سبق أن نشرت هذه القصيدة ديواناً تحت العنوان أعلاه، لكن الطبعة البديلة التي أعدّها الشاعر تحمل عنواناً جديداً هو "الفصول ليست أربعة". وعنوانا فرعياً هو: "سيرة محلة صبخة العرب".
#جعقر_كمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|