لطيف شاكر
الحوار المتمدن-العدد: 2855 - 2009 / 12 / 11 - 08:33
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كثيرا ما نجد خلطا بين ضريبتي الجزية والخراج , فلذلك بجدر بنا اولا ان نوضح الفرق بينهما فالجزبة هي الضرائب المفروضة علي الرءوس اما الخراج فهو ضريبة الارض او الضريبة العقارية وهما يختلفان عن ضريبة ثالثة تعرف بالمكوس وهي ضريبة تفرض علي التجارة . هذا بخلاف ضريبة الارتباع التي تكلمنا عنها بالمقال السابق واضافة الي ضرائب اخري سيأتي ذكرها في حينه ,وموضوعنا الان هو عن الجزية كما هو واضح من عنوان المقال وسنفرد مقال ثان عن الخراج حتي تكون الصورة جلية امام القارئ .
فبعد غزو العرب لمصر – بعد معاهدة بابليون الاولي – فرض العرب علي اهل مصر ثلاث اختيارات اما الجزية او الاسلام او استمرار القتال وقد اختار المقوقس--وكان روميا خائنا يبحث عن النجاة لحياته ويسعي لولاية مصر مرة آخري تحت راية الغازي العربي-- الجزية وهناك نص ذكره القريزي ج1 "فاجتمعوا علي عهد بينهم واصطلحوا علي ان يفرض علي جميع من بمصر اعلاها واسفلها من القبط دينارين عن كل نفس من بلغ الحلم منهم واستثنوا الشيوخ والاطفال الصغار والنساء.." وهذا ماحدث ابان الغزو .
الا ان هذا المقدار تغير فيما بعد وواضح في قول عمروبن العاص لصاحب اخنا الذي يسأله : اخبرنا ماعلي احدنا من الجزية فيصبر لها فقال عمروبن العاص:وهو يشير الي ركن الكنيسة ولو اعطيتني من الارض الي السقف مااخبرتك ماعليك انما انتم خزانة لنا ان كثر علينا كثرنا عليكم وان خفف عنا خففنا عنكم "ابن عبد الحكم فتوح مصر".
وكانت الجزية تدفع نقدا بالدنانير الذهب وكانوا المصريون يعرفون تلك الضريبة في اوراق البردي المكتوبة باليونانية باسم دمزيا اما في البرديات العربية باسم الجزية.
وقد طبق عمرو بن العاص الاية" ﴿قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة 29). اي وهم اذلاء, وكثيرا ما اصطدم بهذه الاية ولا اعرف المغزي والقصد من اذلال دافعي الضريبة يقول القرشي يقف الذمي بين يدي عامل الجزية ذليلا فيلطمه المحتسب بيده علي صفحة عنقه أد الجزية ياكافر ويخرج الذمي يده من جيبه مطبوقة علي الجزية فيعطيها له بذل وانكسار ومسرحية اداء الجزية هذه تعكس الصورة القبيحة للاحتلال العربي البغيض ووسط هذا الجو الكئيب كان طبيعيا بروز سلسلة من التناقضات العنصرية بين العرب والمصريين اصحاب البلد وبين العرب انفسهم من جهة اخري طالما انهم من فئات غير متجانسة, وطالما ان نشأتهم الاولي زرعت فيهم الولاء القبلي الصرف.... وهنا لي سؤال لماذا يتم الدفع بالاهانة والتصغير في حين ان هدف الاحتلال هو المال والغنائم اليس بالاولي ان يكرموا دافعي الضرائب كعادة كل انظمة العالم بما فيهم نظام الامبراطوريات الرومانية والبيزنطية والذي اخذ منهما النظام العربي في جبي الضرائب دون المعاملة والسلوك والاخلاق في تحصيل الضرائب وهم كانوا ايضا جشعون, لكن لم يكتب عنهم التاريخ ابدا مثل هذه التصرفات المهينة فقد كان العهد بين المحتل وصاحب البلد هو سداد الضرائب المجحفة , وكانوا يستخدمون الحصيلة في بناء السدود واصلاح البلاد.. وليس في مصادرتها اول بأول للخليفة في مقره, حتي لو اخرب مصر لاصلاح المدينة كقول عمربن الخطاب والويل كل الويل في تأخيرها .
والجزية في عهد هشام بن عبد الملك كانت تفرض علي الرؤوس اي علي الافراد او علي القرية ككل وفي هذه الحالة اذا توفي احدهم عليهم ان يدفعوا جزيته .
ولقد امر عمر بن عبد العزيز ان يجعل جزية موتي القبط علي احيائهم .
وكانت الجزية يعفي منها من اسلم وتفرض جزيته ايضا علي الاقباط .
دفع الاقباط جزية الروم بعد اقناع المقوقس عمروبن العاص بهذا وذلك مكافأة له عن خيانته ,في حين ان الاقباط لم يكن لهم دور في الحرب لانهم كانوا ممنوعين من حمل السلاح في العصر البيزنطي واستمر الحال في الاحتلال العربي .
وعادة كانت الجزية تفرض في شهر محرم من كل سنة ولكن اوراق البردي تثبت انها جبيت في فترات مختلفة فخضعت لاهواء وامزجة الوالي والجباه ,مما ارهق الفلاح واضطر الي الهروب, الا انه فور العثور علي الهارب يصحبوه الي بلدته لدفع الجزية بعد جلده بالسياط وتعذيبه باشد العذاب ولم يعد مسموحا بترك الفرد بلدته والاستقرار في منطقة اخري.
ويذكر ساويرس بن المقفع عن عبدالله بن السارح "لم يرفق بأحد حتي ولو بهدف تسكين جانب علي حساب جانب فاشتد علي الكنيسة ومع الشعب القبطي واشتد حتي مع جنوده العرب من ذوي الاصول اليمينية" ولم يكن مهتما سوي بجمع الاموال وشحنها الي الخليفة.
ويقول د.احمد صبحي منصور :وفرض الجزية فى عصر الخلفاء الراشدين كان هو التربة التى نبت فيها مصطلح أهل الذمة واضطهادهم وما نتج عنه من آثارسيئة ولو لم يرض عمر بن الخطاب بفرض الجزية عليهم لكانوا على قدم المساواة مع العرب، ولكن أن يفرض عمر ثم عثمان الجزية على رؤوس الأفراد من الأمم الأخرى فالمعنى أنهم عنصر أقل شأنا ومواطنون من الدرجة الثانية، ثم سار الأمويين على طريق التصعيد فى الاضطهاد للأقباط فى مصر وللموالى فى العراق . ففى ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر صودر البطرك مرتين، وأمر عبد العزيز- وهو بالمناسبة والد الخليفة عمر بن عبد العزيز- بإحصاء الرهبان وأخذ منهم الجزية، وهى أول جزية أخذت من الرهبان.
وتولى مصر عبد الله ابن الخليفة عبد الملك بن مروان فاشتد على النصارى، واقتدى به الوالى التالى قرة بن شريك فأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا بمثلها من قبل على حد قول المقريزى. وأقام الأمويون مذبحة للأقباط سنة 107 هجرية حين ثاروا فى شرق الدلتا بسبب جشع الوالى عبد الله بن الحبحاب..
وفى خلافة يزيد بن عبد الملك تطرف الوالى أسامة بن زيد التنوخى فى اضطهاد الأقباط، فصادر أموالهم ووسم أيدى الرهبان بحلقة من حديد، وكل من وجده منهم بغير الوسم قطع يده، وفرض غرامات على الأقباط، وصادر الأموال من الأديرة، ومن وجده من الرهبان فى تلك الأديرة بلا وسم ضرب عنقه أو عذبه، وهدم الكنائس وكسر الصلبان.
ويقول ساويرس بن المقفع ان عبدالله بن سعد لم يرفق بأحد في جمع الضرائب فاشتد مع الكنيسة واشتد مع الشعب القبطي واشتد حتي مع جنوده العرب من ذوي الاصول اليمنية . ويقول(وحدث في ايامه غلاء عظيم لم يحدث من زمان اقلاديوس الكافر وفي عهده كان الموتي مطروحين في الشوارع والاسواق مثل السمك الذي يرميه الماء علي البر لايجدون من يدفنهم واكلوا بعضهم بعضا ولو لم يترأف الرب بكثرة مراحمه ويزل ذلك الغلاء بسرعة كان قد فني كل من في كورة مصر لانه كان يموت كل يوم من الناس ربوات لايحصين)
وكان مسلمة بن مخلد كان يستخدم اسلوب احراق المتمردين والرافضين لدفع الضريبة ,وفي زمن قرة بن شريك الذي كان شرها للمال يقول ساويرس انه نهب جميع مال البيع حتي الادوات الذهبية والفضية التي تستخدم في تناول الشعب كطقس الكنيسة, كما استولي علي اموال رجال الكنيسةو زاد مقدار الضرائب المفروضة علي الناس. وكان الاقباط يفرون من القري بنسائهم واولادهم من قسوة رجال قرة الظالم وولي قرة رجلا قاسيا ومشهور بالوحشية ليجمع الاقباط الهاربين من قراهم .
وبعد موت قرة تولي واليا اسمه اسامة كان افظع من السابق حيث كان يأمر بقطع احد اعضاء جسد الهارب من ثقل الضريبة او قلع عينه. وكان يقتل بعضهم تحت عقوبة السياط بل كان من شراهته للمال أمر الولاة ان يقتلوا الناس ويحضروا اليه مالهم ويأمرهم بأن اي موضع نزلتموه انهبوه فعملوا علي خراب البيوت وقتل النفوس, ويقلعون العمد والاخشاب ويبيعون ما يساوي عشرة دنانير بدينارواحد.... وكل من معه شئ يخاف عليه كان يظهره لئلا يعاقب.
ومن الضيق والضنك هم الناس ببيع اولادهم واذا اعلموا الامير بهذا لم يرق قلبه ولايرحم بل يزيد.ويذكر د.جاك تاجر في كتابه اقباط ومسلمون عن اسامة انه حكم علي الرهبان بقطع رؤوسهم او جلدهم حتي الموت اذا هربوا او لم يسددوا ماعليهم .
ومن شدة قسوته التي لاتحتمل وخوفا من قيام ثورة في البلاد اصدر عمربن عبد العزيز امرا بعزل اسامة تمهيدا لمحاكمته الا انه مات وهوفي طريقة للمحاكمة وكان عصرة من اسوأ العصور .
ويقول المقريزي في كتابه المواعظ والاثارج2( ان الحكام العرب كانوا يتمادون في فرض الضرائب ليس علي الشعب القبطي فقط كما كان يفعل السابقون, بل كانوا يفرضون علي الكنيسة ورجالها ورهبانها اتاوات متزايدة بل يقبضون عليهم ويعذبونهم ويروي المقريزي (انه بمجرد اعلان حفص بن الوليد127ه اعفاء كل من يسلم من الجزية بادر حوالي اربعة وعشرين الفا من الاقباط واعتنقوا الاسلام تخلصا من قيود الجزية وشتي انواع الضرائب والاضطهادات الاخري).
ومن جانب آخر كان اسلام القبط يعفيهم من بعض المظالم , ولكنه لايفتح لهم باب الاندماج الكامل في حياة العرب ,ولايسمح لهم بحالة التساوي الكامل معهم .وظل الاصل القبطي مدانا وكأنه وصمة تطارد صاحبه حتي بعد اعلان اسلامه ودخوله الحياة الجديدة في وضع ادني مرتبة من السادة ذوي الاصل العربية والعنجهية القبلية .
اما القانون الروماني كان للمصري الحق في اكتساب جنسيتهم طالما ارادوها و التزموا بها ويقول اساتذة القانون فكانت كلما امتدت رقعة الإمبراطورية لاحقتها القوانين إلى الحدود الجديدة، وتطلب تعليم رجال القانون، وإرشاد القضاة، وحماية المواطن من الأحكام الظالمة غير المشروعة، تطلب هذا تنظيم الشرائع وصياغتها في صورة مرتبة يسهل للمواطن معرفتها والوصول إليها.
و حينما هب الامير الروماني بجلد بولس الرسول صرخ احدهم انه روماني فاجاب الامير اما انا فبمبلغ كبير اقتنيت هذه الرعوية فقال بولس اما انا فقد ولدت فيها . اي كان يمكن اكتساب الجنسية الرومانية بالولادة في مقاطعات الامبراطورية الرومانية او حتي بشراءها حتي يتمتع بحقوق بجنسية الحاكم كاملا .
ودعنا نختم هذا المقال المؤلم علي النفس بقصتين:
لما وصل عبدلله بن عبد الملك الي كورة مصر خرج البطريرك ليستقبله ويسلم عليه فلما نظر اليه الوالي استخف به وسأل من هو هذا قالوا له انه اب جميع النصاري فأخذه وسلمه لواحد من حجابه وقال له (أفعل به ماتريد من الهوان الي ان يقوم بسداد ثلاثة الاف دينار) فتدخل احد الشمامسة والتمس من الوالي الافراج عنه ومصاحبته ليستعطي الشعب القبطي عليه لجمع هذا المبلغ الكبير من منهم حتي يتركه الوالي لحال سبيله.
تم اما القصة الثانية ستجد الرحمة متجلية بأكثر وضوحا مما سلف:
في عهد اسامة بن يزيد ان ارملة قبطية أخرجت بعد وفاة زوجها سجلا لها ولولدها اليتيم ,حتي يتمكن من العمل فتعيش من أجر عمله , وفي رحلة البحث خرجت به من الاسكندرية الي مدينة صغيرة تسمي اغراوة, وهناك خرج الصبي الي البحر يشرب ماء فخطفه تمساح والسجل مربوط معه وأمه تبكي وتحترق عليه, فرجعت الي الاسكندرية وهي باكية فلذة كبدها ,واعلمت الامير الكافر ماجري عليها فلم يترأف عليها, بل اعتقلها حتي وزنت عشرة دنانير بسبب السجل ولنها دخلت المدينة بغير سجل, وباعت ثيابها وكل مالها وطافت تتصدق حتي أوفت العشر دنانير (سناء المصري عن ساويرس بن المقفع )
وقصة ثالثة للتأكيد علي الرحمة والعدل معا
فى سنة 1176 م الموافقة 572 هـ تمرد وعصى اقباط قفط ولم يدفعوا الجزية فذهب العادل أخو صلاح الدين اليوبى إلى تلك المدينة وصلب ثلاثة ألاف قبطى وذكر المقريزى فى تاريخه أن العادل قصد للأخذ بثأر إخوانه المسلمين بصلب ثلاثة ألاف قبطى من سكان قفط على الأشجار المحيطة بالمدينة وأستعمل أحزمة الأقباط وعماماتهم واسطة لصلبهم .
في قول مأثور يقول الالوسي في بلوغ الارب في معرفة احوال العرب ج1ص144 " انهم اتم الناس عقولا واحلاما واطلقهم السنة واوقرهم افهاما واستتبع ذلك لهم كل قضية واورثهم كل منقبة جليلة " وعجبي .....!!!!!
والي ضريبة آخري ..فمازال بالبقرة دما بعد نفاد لبنها
لطيف شاكر
#لطيف_شاكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟