فاتنة الغرّة
الحوار المتمدن-العدد: 2854 - 2009 / 12 / 10 - 21:46
المحور:
الادب والفن
أنتويربن-بلجيكا/ فاتنة الغرة
للوهلة الأولى تشعر أنك تدخل عرضا تجريبا لمخرج حديث العهد, يريد تقديم شكلا لا اعتياديا من المسرح, الا أن المخرج يطل عليك بعرض يبدأ النضج فيه والتجريب أيضا منذ اللحظة الأولى, ليطلب منك بلغة ليست لغته الأم أن تختار قسما من المشاهدين لتنضم إليه, هكذا هو العرض, ولذا تأخذك قدماك او اختيارك إلى نصف المسرح الذي تبدأ منه الحكاية أو تنتهي. بهذا بدأ المخرج العراقي حازم كمال الدين عرضه لمسرحيته الجديدة عند مرقد السيدة.
حازم كمال الدين من المخرجين القلائل الذين تجد عندهم لسعة التجربة الأولى والعمل الأول ونضج التجربة الطويلة فهو يتعامل كما في أعماله السابقة، بصورة رئيسية، مع عناصرالحركة والتعبير الجسدي والإيمائية, ويلجأ أحياناً الى استخدام الميميك, وبتعبير آخر إن مسرح حازم كمال الدين ليس فقط عمل معاصر بل أنه يعتمد على خصوصية نادرة في العمل المسرحي.
وفي عمله "عند مرقد السيدة", يستكمل فيه المخرج المتميز حازم كمال الدين مشروعه الإخراجي والكتابي, الذي بدأه منذ أكثر من عشرين عاما, قدم من خلالها الكثير من الأعمال المسرحية التي لاقت نجاحا نوعيا, وقد كان هذا العمل الذي أنتجته جماعة زهرة الصبار للمسرح ومركز المونتي للفنون، بدعم من وزارة الثقافة الثقافة البلجيكية، مدينة أنتوربن وبنك سيرا, استكمالا لمسيرة الفنان, فقد طرح العمل إشكالية التغريب داخل المكون الرئيسي للإنسان وأقصد به الروح والجسد, من خلال عرض تجاورت فيه الموسيقى مع صوت الراوي مع الايقاع الجسدي والاوبرالي, الذي تطلقه الروح للشخصية المركزية في المسرحية, هذه الروح التي عبر عنها بامرأة هلامية الوجه تتحرك ببطء بإيقاع جسدي ملفت بين الجمهور, الذي اختار المخرج مشاركته العمل كجزء منه لا كعنصر منفصل عنه, وهو ما دأب كمال الدين على فعله في مسرحياته, حيث ان ما يراه أحد المشاهدين في المشهد يراه الثاني بطريقة أخرى، ومن زاوية مختلفة، زمانية، مكانية ونفسية. بحيث حاول أن يخرج كل مشاهد من مسرحيته بتأويل لا علاقة له بتأويل المشاهد الآخر.
وهو يرى أن بهذه الطريقة يفقد المسرح سلطة المقولات، والشعارات، ويكتسب طاقة أخّاذة كالكلمات غير المدوّنة في الحضارات الشفاهية التي تقبل تأويلات تناقض بعضها بعضا.
تأتي الشخصية الثانية في العمل, وهي امرأة تروي الحكاية في أداء يتنوع بين الحكواتية والتمثيل, تسرد قصة سلوى منصور, الصحافية العراقية التي تعاني الاضطهاد في مجتمع يضطهد المرأة فقط لكونها امرأة, ويتم التطرق في الحديث إلى أسماء نساء تم اغتيالهن من قبل نظام صدام, أو من قبل الأمريكان أو غيرهم , فيما يقوم في النصف المختفي من المسرح, والفاصل بينه وبين هذا الجزء ستارة وحشد من المشاهدين, قسم آخر يشكل جوهر القصة, وفيه ترى صندوقا زجاجيا ممتلئا حتى النصف بمادة كالحصى, فيما تنزل سماعات الأذن من السقف لتجعل المشاهدين على تواصل مع الصوت الآتي من الداخل, وما إن تضع السماعة على أذنك حتى يصل إليك صوت خشخشة وكأنها لشيء يجاهد للخروج, ثم صوت امرأة وكأنها قامت للتو من رقادها, وهي التي مثلت دورها الفنانة البلجيكية "تانيا بوبه" وهي الشخصية المركزية في الرواية, هي صوت الجسد الذي يستفيق بعد طول رقاد في أداء درامي يجعلك تلهث خلفه طوال الوقت, ولا يريح عينيك من المتابعة.
سيدة الوركاء التي نراها هنا هي تعبير -بشكل ملحمي يعود بنا الى جلجامش- عن تحدي المرأة للرجل وما ينتج عنه من ردات فعل تنفيها إلى قبور متعددة تتوزع في البلاد.
يقول كمال الدين على لسانها في لغة نثرية عالية:
" أراني أهبط إلى الأرض من الآن فصاعدا يجب عليّ أن أقضي ايامي بين البشر.
أنا آلهة منفية على الأرض.أفتح عينيّ فأراني مبحرة في مشحوف، متوغلة في أعماق المياه.أنا أترحل، أعوم، عبر القصب اللا نهائي حتى أصل إلى قرية، عند مشارف الأهوار. أرى نساء، كاهنات يتوغلن في أعماق بحر القصب.
رأيت أنني أصل قرية مشارفة لحدود صحراء الأهوار.
أتبع البشر، فارى من بعيد تمثالا كبيرا."
هذه الشخصيات النسائية الثلاث تشكل الوحدة الكلية الموضوع المسرحية الذي يتناول القمع والقهر الذي تتعرض له المرأة العربية تحديدا المرأة صاحبة الصوت وصاحبة اللا, ونجد هذا متجليا في النص المكتوب للمسرحية حيث يقول كمال الدين:
" هنا امرأتان تشتعل فيهما جذوة الكلام. فتنسرد الحكايا بوضوح رغم الارتجال المتواصل ورغم أن لغتهما غريبة عن بعض. ثمّة اختلاط للحكايا يدفعنا للادراك بأنّ المرأتين تتحدثان عن همّ واحد. قصة واحدة لكنها قصتان.يوريديس فيرمان صحافية أوربية وسلوى منصور كاتبة عراقية، تقتسمان زادا واحدا اسمه سيدة الوركاء. المرأتان تعملان على تفكييك وتركيب تاريخ منسي لبلاد تنقرض، أو تحتضر، وبذلك يتسلط الضوء على كيفية تعامل الاوربي مع هذا الاحتضار/الانقراض."
يقول كمال الدين على لسان يوريدس في المسرحية :
"العالم ليس مبنيا على خطأ. أنت على خطأ. يجب عليك أن تسايري العالم. يجب أن تندمجي. إذا قاومت العالم تتعرضين للنفي، ولن تجدي عملا، لن تجدي حبيبا, عليك أن تتماشين مع القواعد والشروط والاعراف والتقاليد. التقاليد العريقة ليست خاطئة. أنت على خطأ. القواعد الحياتية موجودة لكي تضمن لنا التقدم. وأنت عليك أن تفككي نفسك وتعيدي تركيب نفسك. يجب أن تتعاملي بنسبية مع الأشياء. ابحثي عن القرابات مع الأشياء ولا تبقي على الهامش اتقلي الهامشية وتقدمي تحت الضياء الناصعة" وهي ربما رسالة المسرحية التي يريدها ان تصل الى المتلقي.
عند مرقد السيدة عمل يبقى في تاريخ المسرح لانه يشكل علامة فارقة فيه ومن الخسارة الا يتم طرح هذا العمل للمشاهد العربي في الدول العربية كي يستطيع التواصل مع ما ينتج عربيا في الدول ااوروبية والغربية وبقي ان نقول ان العرض من تحقيق: تويكي بوس أوت، فابيان دو لا تهاور، بيرت حيليه، حازم كمال الدين، تانيا بوبه، كارل ريدرز، إيمانويل سخوت آرت، إنه فان باله.
#فاتنة_الغرّة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟