|
فوضى تحت الرعاية
أحمد زكي
الحوار المتمدن-العدد: 866 - 2004 / 6 / 16 - 06:05
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
مارك لوفين توم ديسباتش، 3 مايو 2004 ترجمة : أحمد زكي مهما كانت درجة الفوضى التي يقبلها المحافظون الجدد في البنتاجون، ومكتب نائب الرئيس، وأي مكان آخر في الإدارة في عراق المستقبل وفي المنطقة عموما، يمكننا فقط بدخول الدائرة الثالثة للفوضى أن نضع صورة مكتملة للفوائد الكاملة لعالم يكون فيه العنف وغياب القانون هو جوهر السوق المفتوح.
في مثل هذا العالم الذي يمكن تسميته "بالفوضى تحت الرعاية"، كيانات الشركات العملاقة، وتوابعها، بما فيها شركات "الأمن" الخاصة التي يستعملونها، يتضامنون لجني عشرات، وحتى بلايين الدولارات من العراق ومن الحرب الكوكبية على الإرهاب، بغض النظر عن مستويات المذبحة الجارية.
ربما من العسير على الأمريكيين أن يفهموا احتلالهم للعراق في سياق العولمة؛ ولكن العراق اليوم هي بشكل واضح نقطة المركز على سطح مثل هذا الاتجاه، هي المكان الذي تصبح الفوضى فيه هي الملك بينما العوائد تجري إلى "البلد الأم" لهذه الشركات كجريان مياة الصنبور. هنا، كبداية، استخدمت القوة العسكرية للامساك بالسيطرة على أكثر السلع في العالم أهمية، البترول. فبينما المنقبون التابعون للشركات العملاقة المتحالفة مع الولايات المتحدة، يمسحون البلد طولا وعرضا، في سيارات الـ SUVs التي تشبه الماموث، الممتلئة بجنود سابقين مفصولين من الخدمة، تحولوا إلى حراس امن بمرتبات عالية، يبحثون عن فرص تحقيق أرباح من بؤس العراق، داخل المنطقة الخضراء في بغداد المحصنة بكثافة، حيث تحكم سلطة التحالف المؤقتة على لا بلد، يسن شركاؤهم أحكام ومراسم من اجل "خصخصة" كل شيئ من الرعاية الصحية إلى السجون ومن اجل وضع كل ذلك بين أيدي الشركات العملاقة تلك.
تحتاج فقط لبضع سويعات في مطار بغداد الذي لا يقل تحصينا لتراقب البيروقراطيين الاستعماريين الجدد والمتعاقدين الـ Bible Belt يمرون عبر المطار لتفهم كيف يعمل مثل هذا العالم. فأكثر الطرق إثارة لتمضية الوقت بالمطار، بدلا من التحديق في لوحات المغادرة/الوصول بتنبيهات "التأخير" التي لا يعلم المرء كم من السنوات مضى عليها، أفضل من ذلك هو الدردشة مع هؤلاء. على الأقل عندما كنت هناك، كان معظم الذين تحدثت إليهم أو الذين استرقت السمع إلى أحاديثهم من العشرين شخص أو يزيد من الرجال البيض الموجودين (وقلة من النساء)، كانوا من الجنوب أو الغرب الأوسط. بوضوح، كلهم كانوا في العراق من اجل شيئ واحد – النقود – وكانوا سعداء لقولهم ذلك. بعضهم كان في رحلة سريعة للبصرة أو كركوك ينقبون عن التعاقدات؛ والآخرين قطعوا البلد جيئة وذهابا للأشهر أو السنة السابقة من اجل مهام على شاكلة تدريب الكلاب التي تشم المتفجرات من اجل الجيش. كان هناك موظفون بالتعاقد مع وكالة المعونة الأمريكية، وعاملون في الـ RTI الدولية التي يديرها القطاع الخاص – دخلهم 100 الف دولار في السنة بالإضافة لبدلات المخاطر عن وظائف تعود بأقل من نصف ذلك في موطنهم – وزمر من المقاولين يتطلعون لحلب بعض بلايين الدولارات من المعونة التي خصصها الكونجرس لإعادة الإعمار. كانوا، كجماعة، أشبه بإنذار ينبه أن فوضى الحرب والاحتلال توفر فرص مدهشة للشركات العملاقة والأفراد لتحقيق مستويات من الأرباح، لا تراقبها القوانين والأحكام التي تقف عقبة أمام تحقيق هذه الربحية في زمن السلم وعادة ما لا تتحقق في الظروف العادية.
ولكن – انه الوجه الآخر للفوضى، حتى لهؤلاء الذين يربحون من ورائها – كل من كان في طريق المغادرة كان يغمره إحساس بالراحة والفرحة لأنه يغادر، حتى ولو كان عدد منهم يدبر للعودة مرة اخرى.
ولا حاجة للقول، انه لا يوجد أمر ما جديد حول الذين يربحون بالحرب. ولكن هناك بعض الأمور الجديدة حول الطريقة التي تتم بها في العراق. في فترة ما بعد الحرب الباردة، الشركات العملاقة الكوكبية والنخب الحكومية التي تتعاون في العمل معها، كل هؤلاء لديهم حوافز عظيمة لرعاية الفوضى الكوكبية والعنف اللذان يقومون بتوليدهما. ذلك يعطي "فتح الأسواق" معنى جديد في زماننا. كلنا نعرف من سابق التجارب، على سبيل المثال، كازاخستان ما بعد الاتحاد السوفييتي أو حتى روسيا نفسها، كيف أن الفوضى السياسية والاجتماعية قادت إلى تشكيل شبكات متنافسة من عصابات الجريمة وأحزاب سياسية فاسدة بشكل متعاظم، على رأسها عائلات قوية وأصدقاؤهم، يتنافس الجميع من اجل الثروات والنفوذ في مباراة ذات جانب أحادي وهو اقتصاد السوق الكوكبي.
الجزائر وحربها الأهلية الرهيبة خدمت كمثال بالغ الدلالة على نحو خاص كيف يمكن أن تغذي أوضاع من العنف والربحية للفوضى الواسعة كل منهما الآخر لمصلحة كل أطراف الصراع. في الواقع، تمتد جذور الحرب الأهلية في الجزائر بنسبة لها وزنها إلى سلسلة من "الإصلاحات" الهيكلية المدمرة بشكل رهيب والمسببة للفوضى التي فرضها على البلاد في أواخر الثمانينات كلا من البنك وصندوق النقد الدوليان.
حققت أثناء الحرب الأهلية كلا من الدولة وجماعات القطاع الخاص في الجزائر، بما فيها المنظمات الإرهابية المسلحة، مكاسب ضخمة من النقود عبر عمليات الخصخصة التي نسميها نحن العولمة. والأكثر أهمية، نشأت "سلطة مافيا-سياسية" شبه سرية (كما وصفتها اللوموند مؤخرا) تنافس الآن المؤسسة السياسية السابقة وكذلك المؤسسة العسكرية التي كانت لها السيادة المطلقة سابقا.
وفور ما يتكون لديك مافيا، فقط تتقدم الفوضى للامام، حيث أنها، على الأقل لوقت ما، تصبح الوسيلة الأكثر رخصا والأكثر سهولة والأكثر ربحية حتى تمضي بالأمور، ما دمت لست أنت الطرف الذي تموت بسببها ولا يضربك الإفقار الذي تسببه. لو استمرت الفوضى والعنف الحاليان في العراق، هناك قليل من الشك في ان ينشأ سيناريو مشابه هناك أيضا. في الواقع، صديقي علي يصف الوضع المحلي في المدن الشيعية كالنجف والناصرية بأوصاف مشابهة بطريقة مربكة للأوصاف الرهيبة التي جاءتنا من الجزائر في التسعينات: "جيش مقتدى الصدر المسمى بجيش المهدي هو اقل قليلا من مرتزقة ضائعين بدون وظائف في شوارع العراق. رأيتهم يسرقون الممتلكات الحكومية من اجل كسب النقود لدعم تمردهم. البوليس العراقي يخشاهم تماما؛ انهم يقفون متطلعين إليهم دون أن يفكروا في القيام بأي تصرف. الآخرين ينتهزون فرصة الفوضى لينهبوا ما تصل إليه أيديهم، حتى ولو كانت ممتلكات الناس".
كيف نميز بين الفوضى والعجز
الشيئ الهام هنا الذي يجب أن تطيقه عقولنا هو أن الولايات المتحدة تستطيع تعظيم مثل هذه الفوضى ليس فقط من خلال عجز فريد من نوعه ولكن من خلال عجز تتوفر فيه النيات المبيتة – ومن الطبيعي انه يصعب على المراقب الخارجي أن يدلل عن هذا بذاك. قد أستطيع، على سبيل المثال، أن اشعر بأثر العجز المقصود من محادثتي التي أجريتها مع المهندس المعماري العراقي الذي كان يعمل في الفلوجة. فقد شرح لي، بعد تجارب مريرة مع البيروقراطيين في المنطقة الخضراء، والمرتشين العراقيين الذين تزداد أعدادهم حولهم: "لن يتعامل مقاول عراقي شريف مع سلطة التحالف المؤقتة". في الشهور المبكرة من الاحتلال، حاول هو أن يمد يد المساعدة لسلطة التحالف المؤقتة، ولكن رغم التظاهر العلني بقابليتهم للمساءلة والحساب – بإعطاء كل القادمين فرصة للربح من عملية إعادة بناء البلد – تم تجاهل عطاءاته، رغم أنها كانت اقل من الممارسين الأجانب، أو يظهر لك احدهم بعد عدة أسابيع رغبته في المساعدة "لإتمام الصفقة" فقط مقابل آلاف من الدولارات أسفل المائدة.
مسئولو سلطة التحالف المؤقتة، على أية حال، لم يكن لديهم النية بتاتا "لإعادة بناء" العراق بالمعنى الطبيعي – وليس بالعراقيين بأي شكل من الأشكال. ما توفرت نيتهم عليه كان هو كسر ما بقي من الاقتصاد العراقي مغلقا لفتحه وتسليم الغنيمة لأصدقائهم الرأسماليين وكيانات الشركات العملاقة المتحالفة معهم. هذا هو السبب الذي يجعلنا غير قادرين على الزعم، كما قالت إحدى الصحف مؤخرا في مقال لها، بأن نزيف بلايين الدولارات في العراق هو "برهان آخر ليس إلا على عدم التحضير الكافي لهذه الإدارة للحرب، ودليل على فشلها في وضع سيناريو لما ينتظرها بعدها في العراق". مثل هذا الرأي يفشل في فهم السبب، على سبيل المثال، الذي جعل نائب وزير الدفاع في البنتاجون بول ولفوويتز ومسئولون آخرون كبار بالإدارة يرفضون الالتفات إلى التحذيرات القائلة بأن الأعمال المدنية لإعادة اعمار العراق بعد الحرب سوف تكلف ما بين 60 إلى 150 بليون دولار. بالتأكيد لم يكن هذا موقفهم لأنهم كانوا يرون أن ذلك يمكن أن يتم بتكلفة اقل.
في الواقع الـ 100 بليون دولار وما يستجد الذين تسجلهم الولايات المتحدة في قائمة النفقات حتى نهاية العام القادم على البنية التحتية ومصروفات الأشغال المدنية في العراق – نستطيع فقط تخمين مقدار ما سوف يذهب مباشرة وبشكل غير مباشر لهاليبرتون وبكتل وليس للعراقيين – بالتوازي مع التدليس، والرشوة، والسرقة، والتبديد المكتوب حرفيا في الميزانيات تحت عنوان "بنود خاصة"، عندما يتم إضافتهم إلى 250 بليون دولار للتكاليف ذات الصلة العسكرية (كل هذه المقذوفات من اليورانيوم المخضب والنابالم عالي التقنية ليست رخيصة الثمن) مخصصون عدا ونقدا من اجل الغزو العسكري والاحتلال، كل هذا المال معا يشكل سببا معقولا كبيرا للإجابة على سؤال لماذا ذهبنا إلى الحرب في المقام الأول. كل ذلك، إذا ما نظرنا إليه من زاوية معينة، يندرج تحت باب الفوضى المخطط لها وتحت الرعاية.
فقط ضع في اعتبارك أرباح الشركات الكبيرة الأساسية للسلاح والطاقة والأعمال الهندسية الثقيلة اليوم مقارنة بثلاث أعوام مضت. بعضهم ضاعف أرباحه أكثر من مرتين، كما زادت قيمة أرباح أسهمهم بنفس النسبة في بورصة الـ S&P 500 أو بورصة شركات داو جونز؛ ولا يمكن أن يضل مالكا لسيارة غافلا عن العلاقة بين الفوضى في الشرق الأوسط وارتفاع أثمان النفط، وهو ما يعني بالطبع أرباحا أعلى لشركات النفط الأساسية. بالطبع، لن يقدم مسئولون أمثال ولفوويتز على إخبار الشعب الأمريكي عن مقدار ما سوف تكلفهم العراق بشكل حقيقي، على الأقل ليس مسبقا. ولكن من الصعب أن نتخيل أن تشيني وأصدقاءه في مجمع النفط والسلاح الصناعي لا يعرفون بشكل أفضل، خصوصا وانه من المسلم به أن عقود إعادة الإعمار التي تم تسليمها يدا بيد إلى شركات مثل هاليبرتون حققت أرباح متضمنة داخلها بغض النظر عن تجاوزات النفقات الجارية.
يجب أن اعترف أن احد رفاق رحلتي من الذين يعرفون واشنطن لا توافقني على درجة الأهمية التي أعطيها لفكرة الفوضى تحت الرعاية. بالنسبة لها، تشيني وشركاه ينصب اهتمامهم، أكثر من الأرباح والفوضى، على "مد ظل الهيمنة الأمريكية. إنها جيواستراتيجية". ولكن منذ متى الهيمنة الإمبراطورية والأرباح الإمبراطورية منفصلان؟ وبالضبط من العسير جدا أن نقتصر على تفسير واحد مبسط "للعجز" عندما يتعلق الأمر بالعراق. فكما أقرت هي، "ربما عاجز هي الكلمة الخطأ. إيديولوجي هي الأقرب للمعنى".
وحتى عندئذ، أنت لا تقبض تماما على هذا المزيج الغريب من العجز الفعلي والعجز المخطط له القائم حاليا في العراق. بينما ارحل من بغداد طائرا، اصطدمت في نقاش مع سيدة تعمل مع المعونة الأمريكية (USAID) "لإصلاح" مستشفيات العراق. كنت مهتاجا لحد ما عاطفيا وأنا أغادر البلد في مثل هذا الحال من التفكك الواضح للعيان، لذلك ضغطت عليها في النقاش فورا بأسئلتي عن السبب في أن المستشفيات التي زرتها ما زالت تكاد تفتقد تقريبا لأي إمدادات من الأدوية والتجهيزات، ولا يسمح لها حتى بإرسال تقاريرها عن الوفيات أو إحصائيات اخرى سلبية – وهي إحصائيات تدل الآن على خروق واسعة – إلى وزارة "الصحة". ردت علي، وهي ترتد للخلف، أن الأطباء الذين قابلتهم ببساطة "لا يعرفون ما يتحدثون عنه. أننا نحاول تفكيك مركزية النظام ونحاول أن نجعله أكثر فاعلية". شعرت بالتأنيب للجاجتي في النقاش؛ ربما لأننا بالضبط لم نكن نتحدث عن نفس المستشفيات. لهذا سألتها إن كانت قد زارت مستشفى عراقيا. أجابتني ببساطة، وقد أدهشها بوضوح أنني قد سألت مثل هذا السؤال، "لا".
كان من الواضح أنها قد أمضت بشكل أساسي أيام أقامتها مستكينة في مكتب بالمنطقة الخضراء، مقطوعة تماما عن الفوضى التي ساهمت بأيادي قليلة في خلقها، تدفع الأوراق من مكان إلى مكان، محولة ملايين الدولارات هنا وهناك، وبدون شك تكتب التقارير عن كم أن "إصلاحات" الولايات المتحدة هي "ذات كفاءة" وكيف أن العراقيين قد تم تجهيزهم لاستعادة السيطرة على واحدة من اقل الوزارات تمويلا في الحكومة. وحيث أن معظم الأمريكيين من الجانب المدني للاحتلال نادرا ما يختلطون أو يمضون وقتا بالقدر المحسوس مع العراقيين خارج فقاعتهم الأمنية، فهم، مثلها، ليست لديهم إلا فكرة قليلة عن حقائق الواقع. وهذه، في الحقيقة، تكاد تكون المؤهلات المسبقة الضرورية لهذا النوع من التخطيط الذي يقومون به. وإلا كان عليهم، إذا ما انتهجوا سبلا اخرى، أن يستقيلوا من وظائفهم أو يقوموا بمهامها بشكل مختلف. هكذا تتعايش الفوضى والخصخصة على الجهل – ولكنه جهلا ينشأ هيكليا وبنية مسبقة على مسرح هذه الأرض. ربما تظن رفيقتي على هذه الطائرة أنها تؤدي مهمتها جيدا. من يعرف؟ من يهتم؟ على أية حال، الجهل، والفوضى، والخصخصة، والتخطيط، وأنواع الفوضى المختلفة تحت الرعاية يبدو أن ذلك كله يعمل في توافق تام على ارض العراق.
ولهذا السبب اشك أن هذه الشرائح نفسها التي من داخلها معظمنا، من خارج هذه الإدارة وحلفائها من الشركات العملاقة، يعتقد أنها ربما لا توفر لنا حتى اللغة اللازمة لنصف بدقة ما يجري فعلا على ارض الواقع. بمعنى ما، مديرو الفوضى في البنتاجون وفي الشركات العملاقة أبناء عمومتهم يعرفون بدرجة كافية ما يصنعونه في العراق وأثر الفوضى التي هي تحت رعايتهم. مجتمع كهذا نكلت به عشرون عام من حكم صدام حسين، والحرب الدائمة، والاضطهاد، والفساد، حيث حتى آيات الله وأعمارهم تزيد عن السبعين يرغبون في الوقوف أمام كاميرات التصوير مع الكلاشينكوف، كلهم يلعبون بين أيادي المنتفعين بالاحتلال. بسبب هذه الحالة، كما شرح صديقي علي، "فكرة بناء مقاومة ايجابية متماسكة لا تناسب العقلية العراقية. يمكنهم الانزلاق بسهولة إلى أي قتال ولسوف يصنعون الورطة بأيديهم ويقدمونها إلى الأمريكيين لإعطائهم المبرر من اجل البقاء هنا. المثقفون العراقيون لا يفعلون شيئا: انهم مهمومون أكثر بكراسيهم [أي، ما بحوزتهم وأوضاعهم الاجتماعية] أكثر من قلقهم على البلد أو الناس".
ربما نستطيع نحن أن نكون من المحسنين أكثر قليلا، حيث أن العراقيين أنفسهم الأكثر تدريبا والأكثر خبرة ورغبة في إعادة بناء وطنهم – المهندسون، والأطباء، والمحامون، وأصحاب المهن الأخرى – هم، مثل المهندس المعماري الذي تحدثت معه، إما يتجاهلهم مقاولو سلطة التحالف المؤقتة لمصلحة زملائهم الأكثر فسادا، أو يصبحون بأجسادهم هدفا لعمليات الاغتيال بفضل حقيقة انهم قد يخضعون للظن بأنهم يتعاونون مع الأمريكان. في كلا الحالتين، مع مثقفين محليين إما هاربون في المخبأ أو قتلى في القبور، ونشطاء دوليون يغادرون البلاد، لن تكون مفاجأة أن العراقيين يشعرون بالوحدة الشديدة ولا يملكون كثيرا في سبيل القيادة الايجابية التي تفكر للمستقبل. ماذا، بعد كل ذلك، يمكن أن يقال عن آمال مستقبل العراق، وآية الله السيستاني، "الشخصية الأكثر أهمية في البلاد"، لم يغادر منزله منذ عقد من الزمان؟
اكسرها، اشتريها، أصلحها؟
الآن قد سمع العديد من الناس انه قبل الغزو الأمريكي، وطبقا لقول بوب وودوارد مراسل الواشنطن بوست، أعلم باول وزير الخارجية الرئيس بوش عن نظرية "مصنع الخزف" للسياسة الدولية – "اكسرها، تملكها". بالطبع كسر شيئ ما هو الجزء السهل؛ ولو كان هدف على الأقل جزء من المؤسسة في أمريكا هو الفوضى فعلا (على الأقل في المدى القصير)، إذا "امتلاك" العراق لا يعني بالضرورة ان تشعر نخبنا السياسية ونخب الشركات العملاقة بالضرورة انهم مجبرون على إصلاح ما كسروه، مهما كان قدر ما يصرون على انه أمنيات قلوبهم تحلم بذلك. قد تراهم، في نهاية الأمر، يفضلون تركه بلدا مهشما – من المحتمل إلى ثلاث قطع – وحطام.
من هذا المنظور، الحالة العراقية هي حالة فريدة على نحو عسير. ففي ماخور كازاخستان وبقية اتحاد الجمهوريات السوفيتية السابق، على سبيل المثال، طريقة "العلاج بالصدمة" التي روج لها الغرب في بدايات التسعينيات أفقرت مجموع السكان، ولكنها قدمت بشكل ناجح ثرواتهم الطبيعية (النفط، والذهب، ومنتجات الغابات، وقوة العمل، والخبرات التقنية والذهنية الثمينة) إلى السوق الكوكبي بطريقة أساسية. وبالضبط كما في روسيا، الاستغلال الجنسي بصورته المجازية والفعلية ليس بعيدا عن سطح أحداث الفوضى النامية في العراق. أعداد متزايدة من الإيرانيين، في العام الماضي، يجلبون النساء وينشئون بيوتا للدعارة في أجزاء من البلد حتى يستطيع الرجال من الشيعة أن يحصلوا على "زواج مؤقت" لممارسة الجنس مع من هن مومسات بشكل واضح (وهي ممارسة، بينما هي مشروعة في الإسلام الشيعي ومنتشرة في إيران، لم تكن تلاقي ترحيبا في العراق قبل الاحتلال).
كائنا من كان هو المسئول، عن كازينو العراق ما بعد الاحتلال، الماخور، كما يبدو، يتعايش بكل الطرق الممكنة. سوف يتطلب كثيرا من المال، والدم، والنوايا الحسنة لتغيير هذه الدينامية في أي وقت قريب. في نفس الأثناء، الفوضى بطبيعتها ليست ملكية شخصية مؤكدة لأحد. وكما تتعلم إدارة بوش الدرس الآن حالا، عبارة اللحظة الراهنة هي: خذ حذرك فيما تتمنى.
--------------------------------------------------------------------------------
مارك لوفين، أستاذ التاريخ المساعد بجامعة كاليفورنيا، ايرفاين، هو المؤلف المشارك، مع بيلار بيريز وفيجو مورتنسن، لكتاب (أفول الإمبراطورية: ردود على الاحتلال) مطبعة برسيفال، 2003.
#أحمد_زكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خرجت قاطرة منظمة التجارة العالمية عن قضبانها فى -محطة سياتل
...
-
المنتدى الاجتماعي العالمي, و-أم الحركات
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|