|
العراق .. الجغرافيا المغيبة1
باسم فرات
الحوار المتمدن-العدد: 2852 - 2009 / 12 / 8 - 11:49
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
"أخطر أنواع الاستعمار، هو الاستعمار الثقافي" العلامة جواد علي "لا يكتفي الاستعمار بتكبيل الشعب، ولا يكتفي بأن يفرغ عقل المستََعمَر من كل شكل وكل مضمون، بل يتجه أيضاً إلى ماضي الشعب المضطهد فيحاول بنوع من فجور المنطق أن يهدمه ويشوهه ويبيده". المفكر الأفريقي فرانتز فانون
في زمن التحولات الكبرى والانعطافات المصيرية، تطفو على السطح حقيقة الجلاد الذي يقبع في لاوعي الضحية، فروح الإنتقام وعقلية التزوير والإلغاء والتهميش وتزوير التاريخ، التي طالما تذمرت منها الضحية وعانت ، تكون من أولى مهامها وأولوياتها، في أول فرصة تتاح لها، وكأن لا بد للضحية من تقديم دليل على أنها الإبن البار للمنظومة الثقافية التي تذوق ويلات سلبياتها. ومن المؤسف حقاً، أن تتفق النظرة التبسيطية المزيفة للفكر الاستراتيجي الغربي، ومتطلبات الإعلام الغربي في تغطية كارثة الثاني من آب 1990، وما تلاها ليومنا هذا، مع الروحية الانتقامية للعقل البدوي – الريفي، الذي تنتمي له الراديكالية العراقية، والذي غزا المدينة العراقية وخصوصاً بغداد، بعد تطور صناعة النفط، ليتنامى هذا الشعور لدى الطبقات المهمشة والمسحوقة، التي مازالت تعيش مرغمة بفضائها البدوي– الريفي، حتى من سكن في قلب العاصمة والمدن الأخرى، وهو ما لاحظناه جلياً في "فرهود" عام 1941 الذي مهما حاول البعض تصويره على أساس ديني، أو قومي، فإنه لا يعدو في نظرنا، أكثر من فرصة ما أن تحين للعقل البدوي المُتَرَيّف، حتى يستغلها، إنه صراع طبقي، بين المَدينيين، والطارئين على المدينة، ينتصر الطارئون فيه دائماً، وهو ما تكرر في منتصف تموز عام 1958 عندما انتصر العسكر من ذوي الخلفيات الريفية، وفي عام 1959 في مدينتي الموصل (1) وكركوك (2)، حيث خسر المدينيون، أمام النازحين الجدد والطارئين على البنية الثقافية العراقية المدعومين من راديكالية سياسية لا تفرق بين حقيقة العراق بوصفها صيرورة تاريخية وكينونة ثقافية تجمع في ذاتها وحدة التراث الرافديني والعربي الاسلامي والعراقي الحديث وبين نزاعها الدامي مع حركة القومية العربية التي لا تقل عنها تطرفاً ومراهقة سياسية، ولا تستثنى من ذلك أحداث شباط عام 1963، بالرغم من أنها كانت مواجهة بين المتريفين أنفسهم من ذوي النزعات الراديكالية، ولكن العراق ككل هو الذي دفع ثمنها(3). واستمرت انتصارات النازحين الجدد، أبناء الحاضنة البدوية- الريفية، حتى تُوّجَتْ باستباحة المدن الكبرى التي منحت العراق جُلّ منجزه الثقافي، الذي جعله يتربعُ على صدارة مشهد الحضارة العربية الإسلامية. وكم كان البلد في أمسّ الحاجة لفترة زمنية كافية من الإستقرار، لكي يتنامى الشعور المَديني عند الأجيال الجديدة من أبناء النازحين وأحفادهم، فيتبغددوا حقاً، حينها كانت الأمور أخذت مجرى آخر، يناقض ما هي عليه الآن، إذ إن هؤلاء عاملوا المدن بروحية الانتقام، فدخلوا بغداد وسواها، ليس بوصفهم مُضْطَهدين من نظام شمولي، بل بوصفهم منتقمين من بغداد نفسها، لأن اللاوعي البدوي – الريفي، المبني على بُغض القانون والمدنية عموماً، كان محركهم، فضلا عن قتل الأب، أو النموذج، المتمثل في الحاكم، الذي سَخّرَ البلاد والعباد، للتسبيح بحمده، متماهياً، مع صورة البطل الفذّ، في المخيال الشعبي، وهو عادة مخيال المهمشين والفئات المسحوقة، التي ما أن تنتصر على الحاكم – الطاغية، حتى تخلق آخر، في متوالية راديكالية لا أراها تنتهي قريباً، ولا بدّ هنا من ذكر أمرين، في غاية الأهمية، الأول: أن هذه الفئات طالما رفدت النشاطات العراقية ( رياضة، أدب، فنون ..الخ )(4) وخصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين، والأمر الثاني: أن أنظمة الحكم وخصوصاً بين الأعوام 1963 – 2003 م، تتحمل المسؤولية الكبرى(5)، على بقاء الفئة التي خرجت منها، مهمشة، تعاني من الإهمال وهو ما يفسح المجال واسعاً أمامها لخلق معادلها الموضوعي، وهنا أساطيرها التخريبية، حتى يصبح الانقضاض على الدولة، متمثلة بمؤسساتها، وبنيتها التحتية، أمراً نضالياً، وليس عملية أخذ ثأر قبلية، تتنافى مع قيمَ المدنية، والوطنية بكل تأكيد. لا يمكن نكران حقيقة، وهي أن المدن جميعاً، نتاج حراك اقتصادي – ثقافي للريف نفسه، أي أن سكان المدن، هم من جذور ريفية، مثلما جذور المجتمعات في العالم دون استثناء رعوية وزراعية، وما نعنيه هنا، لا يقلل من انسانية أهل الريف والرعاة السهليين والجبليين على حد سواء، ونؤكد أنهم ضحايا، والحكومات مع الانتليجسيا، يتحملون مسؤولية عدم الرقيّ بهم، وتقديم كل سبل المعرفة والحياة الكريمة لهم بما يجعلهم يشعرون بانتماء للمدينة وللوطن، ونظرتنا ذاتها للفئات الأخرى الأقل عدداً، لغوياً أو دينياً أو مذهبياً، فهذه جميعاً ضحية منظومة ثقافية تحكمت في المجتمع العراقي، وكان التطرف والحدية أبرز سماتها.
#باسم_فرات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
باسم فرات: العنف خلق تراجيديا الإنسان العراقي الضعيف لوقوعه
...
-
المستقبلُ وهوَ يقفلُ راجعاً
-
البِراق يصلُ الى هيروشيما
-
أدونيس والسيد الرئيس، إشكالية المثقف والسلطة
-
إلى لغة الضوء..ديوان جديد للشاعر العراقي باسم فرات
-
الاسلام بين الاسطورة والواقع، العهدة العمرية انموذجاً
-
منابع مأساة العراق وإشكالاته....مراجعة نقدية
-
علي الجميل والإكتواء بالجحود العراقي
-
جبل تَرَناكي
-
شئٌ ما عنكِ .. شئٌ ما عني
-
تاريخُنا
-
طينُ المَحبةِ
-
رحلة البحث عن الكتاب
-
آية النقاء
-
رحيل
-
منتخبات شعرية باللغة الإسبانية
-
ثلاث قصائد
-
الجنوبي
-
إحتمال نهرين
-
مصاهرة الأشجار
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|