|
بين مفاوضات مُفْلِسَة ومقاوَمة عاجزة!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2850 - 2009 / 12 / 6 - 11:24
المحور:
القضية الفلسطينية
كلَّما جرَّب الفلسطينيون، أو بعضهم، ما يسمَّى "خيار الحل عبر التفاوض السياسي"، انتهت تجربتهم إلى نتائج لا تَصْلح إلاَّ لاتِّخاذها دليلاً على أنَّ هذا الخيار أقرب إلى مملكة الوهم منه إلى العالم السياسي الواقعي والحقيقي؛ ولا بدَّ، بالتالي، من نبذه، والتخلِّي عنه؛ ولكنَّهم كلَّما جرَّبوا، أو جرَّب بعضهم، ما يسمَّى "خيار الحل عبر المقاوَمة المسلَّحة"، انتهت تجربتهم إلى نتائج لا تَصْلح إلاَّ لاتِّخاذها دليلاً على أنَّ هذا الخيار غير مُجْدٍ، ولا يُحقِّق لهم شيئاً يُعْتَدُّ بوزنه إذا ما قيس بالميزان السياسي الواقعي.
لِنَتَّفِق أوَّلاً على أنَّ تجربة الخيارين لم تُعْطِ، حتى الآن، وفي حيِّزها الفلسطيني، من النتائج إلاَّ ما يقيم الدليل على أن القيادة الفلسطينية، بوجهيها، قد فشلت في أن تهيِّئ وتُعِدَّ لتجربة الخيارين أسباب نجاحها، فثمَّة سؤالان للنجاح، أو لتحويل الفشل إلى نجاح، لم يُجَبْ عنهما فلسطينياً بعد، ألا وهما: لماذا فشلت تجربة خيار الحل عبر التفاوض، وتجربة خيار الحل عبر المقاومة المسلَّحة؟ وكيف يمكن التأسيس لتجربة ناجحة لهذا الخيار ولذاك؟
وأحسبُ أنَّ الشرط الأوَّلي لنجاح هذا المسعى الذي لم يبدأ بعد (من وجهة نظر الواقع) هو نَبْذ وهم التضاد الميتافيزيقي بين الخيارين، فإنَّ أي فلسطيني يستمسك بأحد الخيارين، نابذاً، في الوقت عينه، الخيار الآخر، لا يُمْكِنه إلاَّ أن يخوض التجربة (أي تجربة الخيار الوحداني) بما يَجْعَل فشلها أمراً حتمياً.
الوهم بعينه، فلسطينياً الآن، هو أن يفاضِل الفلسطينيون بين الخيارين، فلا مفاضَلة بين شيئين لا وجود لهما في الواقع السياسي الحقيقي الذي يعيشه الفلسطينيون.
إنَّ "مهمَّة الساعة" لدى الفلسطينيين، والتي يعيِّنها لهم واقعهم السياسي الحقيقي، ليست أن يتَّفِقوا على الأخذ بخيار المقاوَمة المسلَّحة، مع نَبْذ خيار التفاوض السياسي؛ بل أن يتَّفِقوا على الأخذ بـ "خيار التأسيس لخيار المقاوَمة، ولخيار المقاوَمة المسلَّحة على وجه الخصوص"، فخيار المقاومة المسلَّحة هو الآن كخيار التفاوض السياسي لا وجود له في الواقع السياسي الحقيقي الذي يعيشه الفلسطينيون؛ ولا بدَّ أوَّلا من السعي إلى إظهاره إلى حيِّز الوجود، فالمرء لا يستعمل شيئاً لا وجود له، أو كفَّ عن الوجود.
دعونا أوَّلاً ننظر، بعيون لا تغشاها أوهام، إلى خيار المقاوَمة المسلَّحة (ضدَّ إسرائيل أو الاحتلال الإسرائيلي) انطلاقاً من (وليس في) قطاع غزة.
في داخل القطاع، "المحرَّر" والمحاصَر من جهاته الأربع، ومن البر والبحر والجو، لا وجود لجنود أو مستوطنين إسرائيليين، ولا وجود، بالتالي، من وجهة نظر منطقية صرف، لمقاوَمة فلسطينية مسلَّحة.
قطاع غزة، إذا لم يَغْزُه الجيش الإسرائيلي برَّاً، فإنَّه يمكن أن يكون فحسب منطلقاً لأعمال عسكرية فلسطينية ضدَّ إسرائيل، تُسْتَعْمَل فيها، على وجه الخصوص، الصواريخ والقذائف و"القنابل البشرية".
مصر الآن، ولجهة علاقتها بالمقاومة الفلسطينية المسلَّحة في قطاع غزة، لا يمكنها أن تكون كسورية لجهة علاقتها بمقاتلي "حزب الله" في لبنان، وفي جنوبه على وجه الخصوص، فسيناء "الشرعية" ليست بممرٍ لأسلحة وذخائر للمقاتلين الفلسطينيين في القطاع. وبحر القطاع ليس كبحر لبنان لجهة ضعف الحصار العسكري الإسرائيلي له، فالحصار الإسرائيلي لبحر القطاع يكاد أن يمنع منعاً مطلقاً وصول أسلحة وذخائر إلى المقاتلين في قطاع غزة.
ولقد تبيَّن أخيراً أنَّ تهريب أسلحة وذخائر إلى القطاع أصبح من الضآلة بمكان، فاشتدت الحاجة بالتالي إلى التصنيع والتطوير الذاتيين للسلاح والذخيرة هناك.
وحتى الآن، لا يملك المقاتلون الفلسطينيون في قطاع غزة من الفاعلية القتالية أو العسكرية للسلاح والذخيرة ما يسمح لهم بردع إسرائيل عن مهاجمة القطاع عسكرياً؛ أمَّا إسرائيل فتملك، عبر جيشها، من قوى الموت والدمار ما يردع حركة "حماس" هناك عن ضربها بالصواريخ، وعن السكوت عن قيام منظمات فلسطينية أخرى بأعمال عسكرية ضد الدولة العبرية انطلاقاً من القطاع الذي تسيطر عليه "حماس".
قطاع غزة هو الآن في سعيٍ إلى أن يُكيِّف كل أوجه حياته مع واقع الحصار، ومع واقع انفصاله (إسرائيلياً) عن الضفة الغربية، ومع واقع اشتداد الحاجة لديه إلى أن يقي نفسه شرور ومخاطر آلة الحرب الإسرائيلية.
سياسياً، ما هو الخيار الذي يمكن أن يُتَرْجَم به هذا الواقع الحقيقي لخيار المقاوَمة المسلَّحة هناك؟
حركة "حماس" النابذة لخيار الحل عبر التفاوض السياسي، والذي أخذت به "المنظَّمة" و"السلطة"، اختارت ما يشبه هذا الخيار لجهة ضآلة، لا بل انعدام، أهمية ووزن نتائجه العملية والواقعية، ألا وهو خيار "الهدنة العشرية"، أي التي تستمر عشر سنوات مع إسرائيل، إذا ما لبَّت الدولة العبرية شروطاً فلسطينية عدة، في مقدَّمها أنْ تنهي احتلالها لكل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في حرب 1967، وبما يسمح للفلسطينيين بأن يؤسِّسوا لهم في تلك الأراضي دولة مستقلة ذات سيادة، تتَّخِذ من القدس الشرقية عاصمة لها.
إنَّ تعاظُم الأسباب الموضوعية (في المقام الأوَّل) لأزمة، ولاشتداد أزمة، خيار المقاومة المسلَّحة (ضدَّ إسرائيل انطلاقاً من قطاع غزة) يسمح، أو قد يسمح، للدولة العبرية بأن تحصل على "هدنة عشرية"، أو أقل منها أو أكثر، من غير أن تَجِد نفسها مضطَّرة إلى تلبية أي شرط من تلك الشروط، فـ "الأمن في مقابل الأمن" يكفي وحده الآن أساساً لاتفاق ضمني بين إسرائيل و"حماس" المسيطرة على القطاع.
قطاع غزة هو الآن، أو حتى الآن، في واقع تكاد حقائقه (الموضوعية في المقام الأوَّل) أن تُجْمِع على أنَّ خيار الحل عبر المقاوَمة العسكرية، انطلاقاً منه، هو أقرب إلى مملكة الوهم منه إلى العالم السياسي الواقعي والحقيقي.
وفي الضفة الغربية ينتظر خيار المقاوَمة المسلَّحة مصيراً مشابهاً للمصير الذي لقيه في قطاع غزة؛ وربَّما أكثر سوءاً، فما الذي سيفعله المقاتلون الفلسطينيون هناك، والذين لا يملكون من السلاح والذخيرة إلاَّ ما يقلُّ كثيراً عمَّا يملكه أشقاؤهم في القطاع، عندما تقرِّر إسرائيل "الانفصال" عن الفلسطينيين، أي عن المدن والقرى والمخيَّمات وسائر المراكز السكَّانية الفلسطينية في الضفة الغربية (المستثناة منها القدس الشرقية)؟!
إسرائيل الماضية قُدُماً في بناء "الجدار الأمني" قد تُخْرِج كل جنودها ومستوطنيها إلى غرب هذا "الجدار"، أو إلى مناطق محاذية له شرقاً، محتفظةً، في الوقت نفسه، بسيطرتها العسكرية المباشِرة على المناطق والمنافذ الحدودية للضفة الغربية مع الأردن.
إذا فعلت ذلك (وكل شيء يؤكِّد أنَّها سائرة فعلاً في هذا الاتِّجاه) وإذا ما تمخَّض هذا الانفصال الإسرائيلي الجديد عن الفلسطينيين عن نشوء كانتون أو اثنين.. في الضفة الغربية فإنَّ البقية الواقعية الباقية من خيار الحل عبر المقاوَمة المسلَّحة تصبح أثراً بعد عين.
حتى قبل أن تقرِّر إسرائيل وتُنفِّذ انفصالها الثاني عن الفلسطينيين، لم تَعْرِف الضفة الغربية من المقاوَمة الفلسطينية المسلَّحة ما يُلْحِق ولو خسائر (بشرية ومادية) طفيفة في الجيش الإسرائيلي، أو ما يتسبَّب بجعل المستوطنين يشعرون بافتقارهم إلى الأمن والأمان، وبجعل ميلهم إلى المغادرة والرحيل، بالتالي، أقوى من ميلهم إلى البقاء والاستقرار.
وفي انفصالها الثاني عن الفلسطينيين، ستحتفظ إسرائيل بسيطرة دائمة على مناطق فلسطينية تقع غرب "الجدار الأمني"، ويتركَّز فيها (وينمو) الاستيطان اليهودي، وبسيطرة مؤقَّتة على مناطق تقع شرق هذا "الجدار"؛ وقد تقيم فيها ما يشبه "المستوطنات" لتُوَطِّن فيها "عرب إسرائيل"، أو بعضهم، عملاً بمبدأ التهويد الديمغرافي الكامل (أو شبه الكامل) لدولة إسرائيل؛ ثمَّ تَخْرُج من هذه المناطق لجعلها تلتحق بالمدن الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي خرجت منها من قبل.
لقد انتهى خيار الحل عبر التفاوض السياسي إذ اقتنع كلا الطرفين (إسرائيل والفلسطينيين) بأنَّه مهما أفْرَط في التنازل والاعتدال والمرونة لن يعطي الآخر إلاَّ ما هو دون الممكن أن يقبله؛ ولم يبقَ على إسرائيل، بالتالي، إلاَّ أنْ تنفصل عن الفلسطينيين؛ ولكن بما يجعلهم في واقع موضوعي يُفْقِدُ خيار الحل عبر المقاوَمة المسلَّحة جُلَّ واقعيته.
ولا شكَّ في أنَّ وجود "سلطة" للفلسطينيين، في الأراضي (الفلسطينية) التي احتلتها إسرائيل، في حرب 1967، انبثقت من اتفاقية بين منظمة التحرير الفلسطينية (بصفة كونها الممثِّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني) والدولة العبرية، وتتمتَّع بـ "الشرعية"، ومُعْتَرَف بها دولياً، أساء كثيراً، وكثيراً جدَّاً، للقضية القومية للشعب الفلسطيني، وعاد بالنفع والفائدة على إسرائيل في سعيها إلى جَعْل نزاعها التاريخي مع الفلسطينيين عديم الأهمية الإستراتيجية، وإلى إفراغه مِمَّا انطوى عليه من مخاطر عليها، وإلى تمكين "الحقائق الإسرائيلية" من القضاء على البقية الباقية من "الأوهام الفلسطينية"، التي استنفدت مهمَّتها الكبرى مع إقامة الفلسطينيين لتلك "السلطة".
وإذا أردتم دليلاً قوياً على ذلك، فسوف تحصلون عليه من خلال إجابة السؤال الآتي: "هل كان ممكناً أن تنهي إسرائيل، من طرف واحد، وجودها العسكري والاستيطاني في داخل قطاع غزة، وأن يترتَّب على هذا الإنهاء ما ترتَّب عليه من نتائج وعواقب، لو لم يكن من وجود للسلطة الفلسطينية في القطاع؟
والآن، أصبحت حركة "حماس"، وعبر حكومة هنية، هي وحدها السلطة الفلسطينية في قطاع غزة المحاصَر إسرائيلياً من البرِّ والبحر والجو.. حصاراً مباشِراً أو غير مباشِر.
وحقائق الواقع في القطاع، والتي لا يخالطها وهم، تؤكِّد لنا وتُثْبِت أنَّ "السلطة" هناك لا تملك، عملياً وواقعياً، شيئاً من مقوِّمات "الخيارين معاً": "خيار الحل التفاوضي"، و"خيار الحل عبر المقاومة العسكرية". إنَّها لا تستطيع حتى إنهاء الحصار المضروب على القطاع لا من طريق التفاوض ولا من طريق القوَّة العسكرية.
إنَّ كل ما تستطيعه الآن هو تثبيت "الهدنة طويلة الأجل وغير الرسمية" مع إسرائيل، درءاً لمخاطر آلة الحرب الإسرائيلية عن هذا الشريط الساحلي الفلسطيني، والتكيُّف مع حالة الحصار (الأساسي) طويلة الأجل، والإبقاء على حالة الانفصال طويلة الأجل مع الضفة الغربية.
أمَّا في الضفة الغربية فلا شيء يمنع حكومة نتنياهو من أن تؤسِّس من طرف واحد لواقع جديد هناك لا يختلف من حيث الجوهر والأساس عن الواقع الذي أسَّسته إسرائيل في عهد حكومة شارون في قطاع غزة؛ ولكنَّها ليست في عجلة من أمرها، فالوضع القائم الآن في الضفة الغربية، وبكل أوجهه، ليس بالوضع الذي يشدِّد لديها الميل إلى تغييره بما يجعله مشابهاً للوضع القائم الآن في قطاع غزة.
إنَّها، أي حكومة نتنياهو، تريد لأوهام الحل عبر التفاوض أن تظل هي المسيطرة على خيارات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى أن يتأكَّد لديها أنَّ تلك الأوهام قد استنفدت مهمتها.
هنا (أي في الضفة الغربية) أيضاً تتحدَّث حقائق الواقع التي لا يخالطها وهم عن إفلاس "الخيارين معاً": "خيار الحل عبر التفاوض" و"خيار الحل عبر المقاومة العسكرية".
ولكنَّ هذا الإفلاس المزدوَج أنتج وهماً ثالثاً، أو خياراً ثالثاً من خيارات الوهم، هو خيار الحل من طريق ثالث، أي من غير طريقي "الحل عبر التفاوض" و"الحل عبر المقاومة العسكرية".
وهذا الطريق الثالث هو طريق زجِّ المجتمع الدولي في معركة الفلسطينيين لانتزاع دولة لهم، من الاحتلال الإسرائيلي، مستقلة وذات سيادة، يشمل إقليمها كل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967، وتكون القدس الشرقية عاصمة لها.
ولن ينتظر الفلسطينيون طويلاً حتى يقتنعوا بأنَّ هذا الخيار هو الوهم بعينه، فالمجتمع الدولي، ممثَّلاً في مجلس الأمن، وفي "الرباعية الدولية"، لن يعطيهم هذا الذي يتوهمون أنَّه شيء قابل للتحقيق.
إنَّ التغيير الوحيد، في الحال الفلسطينية، والذي أراه ممكناً الآن، من وجهة نظر الواقع الموضوعي السيئ بالنسبة إلى الفلسطينيين وقضيتهم القومية، هو أن تنهي إسرائيل من طرف واحد وجودها العسكري والاستيطاني في جزء كبير من الضفة الغربية، لا يشمل القدس الشرقية، وتقطنه الغالبية العظمى من الفلسطينيين، فتتولَّى السلطة الفلسطينية هناك، "عن اضطِّرار"، الإدارة والحكم، فتُعْلِن، أو لا تُعْلِن، قيام دولة فلسطينية. بما فعلته، وتفعله، في قطاع غزة، تريد إسرائيل أن تأتي للمفاوض الفلسطيني بمزيد من الأدلَّة العملية على أنَّ "خيار المقاوَمة (وفي شكلها العسكري على وجه الخصوص)" لن يأتي للفلسطينيين، وللقائلين به وملتزميه، إلاَّ بمزيد من الموت والدمار والكوارث والمآسي، وأنَّ ترجمة الفلسطينيين لنتائجه بمكاسب سياسية لهم هي من الوهم بمكان.
وفي الوقت نفسه، أرادت للمفاوضات التي أجرتها مع السلطة الفلسطينية أن تأتي للقائلين بخيار المقاومة العسكرية بمزيد من الأدلَّة العملية على أنَّ "خيار التفاوض" لن يأتي للفلسطينيين، وللقائلين به وملتزميه، إلاَّ بما يُمْعِن في إضعاف وتقزيم مطالبهم وحقوقهم السياسية والقومية الأساسية. ويكفي أن تسأل "المفاوِض الفلسطيني" عن البديل من "خيار الحل عبر التفاوض" غير المثمر حتى ترى في "جوابه" ما يؤكِّد لكَ أنَّ استعصاء، أو غياب، هذا البديل هو السبب الأهم الذي يغري إسرائيل بمزيد من التشدُّد التفاوضي. ويكفي أن تسأل "المقاوِم الفلسطيني" عن البديل من "خيار الحل عبر المقاومة (المسلَّحة)"، حتى ترى في "جوابه" ما يؤكِّد لكَ أنَّ استعصاء، أو غياب، هذا البديل هو السبب الأهم الذي يغري إسرائيل بتشديد الحرب والحصار على قطاع غزة. ليس عن سابق وعي وتصميم، ومن دون أن تقصد، تُنْتِج إسرائيل، لدى الفلسطينيين، "إرهابيين" و"انتحاريين" وظاهرة "الإرهاب الانتحاري" (القنابل البشرية).
هكذا تكلم بيرس، من قبل، في خطاب ألقاه أمام أعضاء "النادي التجاري والصناعي" في مدينة تل أبيب.
وأوضح قائلا :"نحن نسعى عبر جملة من الإجراءات والتدابير إلى منع الإرهاب.. ولكن سعينا هذا يفضي، أيضا، إلى إفقار الفلسطينيين، وتغذية الميل إلى الإرهاب الانتحاري لديهم بالتالي".
كان ينبغي لبيرس مادام عاقدا العزم، هذه المرة، على أن يكون جدليا في تفكيره السياسي، أن يكتشف، أوَّلاً، أنَّ في "الاحتلال"، فحسب، يكمن سر "المقاومة"، فالتاريخ لم يعرف، قط، ولن يعرف، أبدا، احتلالا لم يُنتج نقيضه الطبيعي والحتمي،"المقاومة".
وكان ينبغي له أن يتذكر أن الفلسطينيين هم الذين اخترعوا شكل المقاومة بالحجر.. هذا الشكل الأكثر إنسانية وتحضرا بين أشكال المقاومة.
ولكن، ماذا كانت النتيجة؟
لقد أغرقوا مقاومتهم هذه في بحر من الدماء، وقضوا على الأمل في السلام في نفوسهم؛ ثم عرَّضوهم لضغوط جهنمية للنيل من قوة إرادتهم السياسية، وإرغامهم، بالتالي، على رفع الراية البيضاء.
لو كانوا حريصين، حقا، على منع "العنف" و"الإرهاب"، وعلى الحيلولة دون نشوء ظاهرة "القنابل البشرية"، لوقفوا من المطالب الفلسطينية المحقة والعادلة مواقف تُقنع الفلسطينيين بجدوى خيارين: خيار المقاومة بالحجر، وخيار الحل عبر المفاوضات.
إنهم، بدلا من ذلك، أقنعوا الفلسطينيين بعدم جدوى كلا الخيارين.
وجرَّب الفلسطينيون، في مقاومتهم، أساليب قتالية مشابهة للأسلوب الفيتنامي؛ ولكنهم فشلوا لأسباب موضوعية. كذلك فشلوا في "تعريب" صمودهم ومقاومتهم. إنَّ إسرائيل تملك من السلاح والتكنولوجيا العسكرية والتفوُّق العسكري النوعي والإستراتيجي ما لا يمكننا امتلاكه في الوقت الحاضر، بكل ما تشتمل عليه "عبارة الوقت الحاضر" من معانٍ إستراتيجية دولية، تتجسد عربيا في العجز عن الحرب والسلام؛ ثمَّ في العجز عن درء المخاطر الإستراتيجية الإسرائيلية، في المقام الأول، ليس عن الأمن القومي العربي فحسب، وإنما عن الوجود القومي العربي، حتى أنَّ العرب ما عادوا يملكون من سياسة لا تقوم، في جوهرها وفي واقعها، على الاستخذاء لمشيئة عدوهم القومي. ولكن، أما من خيار آخر يمكن أن يأخذ به العرب في صراعهم مع عدوهم القومي هذا والذي يملك ما يعجزون عن امتلاكه من التفوق العسكري النوعي والإستراتيجي؟ الجواب، أو بعضا مهما منه، جاءت به التجربة القتالية لـ "حزب الله"، التي هي بالنسبة إلى الدول والحكومات العربية "السهل الممتنِع"، فالعرب، دولا وحكومات، تَنظر إلى تشبُّهها بـ "إسرائيل العسكرية" وبـ "حزب الله"، في تجربته القتالية، على أنه المستحيل بعينه بالنسبة إليها، فعجزها عن هذا لا يضاهيه إلا عجزها عن ذاك. لقد نجح "حزب الله" في أن يُفْقِد الجيش الإسرائيلي القدرة على خوض الحرب البرية في جنوب لبنان حتى أنَّ إسرائيل ما عاد في مقدورها احتلال أرض من الجنوب اللبناني إلا إذا أفرغتها أوَّلا من السكان، لتُدمِّر، من ثم، المباني والمنازل على رؤوس المقاتلين. "حزب الله" لم ينجح في حماية البنية التحتية المدنية للبنان لكونه لا يملك شيئا يُعتد به من قوى الدفاع الجوي؛ ولكنه نجح في درء المخاطر العسكرية الإسرائيلية عن بنيته التحتية، فلم يفقد من السلاح والمسلَّحين، ومن قواه القتالية الأخرى، إلا الشيء القليل، فأصاب إسرائيل بعجزين: العجز عن احتلال الأرض في الجنوب اللبناني، والعجز عن عقلنة حربها عن بُعد، أي بسلاح الجو على وجه الخصوص، فرأيْنا ما رأيْنا من جنونها الحربي. ولو كانت صواريخ "حزب الله" أكثر دقة في أصابتها الأهداف، وأعظم في قوتها التدميرية، وأطول مدى، لألحقت بإسرائيل من الخسائر البشرية والمادية ما ردعها أكثر فأكثر عن ممارسة هذا الجنون الحربي. على أنَّ الأهم من كل ذلك، في التجربة القتالية لـ "حزب الله"، هو قوة الدافع القتالي لدى مقاتليه، وقوة الدافع إلى الصمود والاحتمال لدى قاعدته الشعبية. وهنا يكمن معنى "الممتنِع" في عبارة "السهل الممتنِع". وهنا، أيضا، ينتفي مبرِّر علامة التعجب في تساؤلنا عن السبب الذي يمنع دولنا وحكوماتنا من أن تتشبه بـ "حزب الله" في تجربته القتالية، فهذا النموذج يؤيِّده "العقل"؛ ولكن تنبذه "المصالح"! وهذا النموذج هو الذي يتحدَّى الفلسطينيين أنْ يؤسِّسوا له، ويأخذوا به، بكل أبعاده ومعانيه ومستلزماته. وغنيٌّ عن البيان أنَّهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً من غير التعاون مع العرب، وإعادة تعريب صراعهم ضدَّ إسرائيل بما يجعل لمقاومتهم لها، ولاحتلالها، عُمْقاً عربياً. وإلى أن يتحقَّق ذلك، يصحُّ موقف "المفاوض" إذا ما سأل "المقاوِم" عمَّا أحرزه خيار "الحل عبر المقاومة (العسكرية)" من مكاسب للفلسطينيين؛ كما يصحُّ موقف "المقاوم" إذا ما سأل "المفاوض" عمَّا أحرزه خيار "الحل عبر التفاوض" من مكاسب للفلسطينيين. واحسبُ أنَّ فشل الطرفين الفلسطينيين المتصارعين في حلِّ نزاعهما بما يؤسِّس لـ "خيار (ثالث) جديد" يقوم على تقويم التناقض بين "الخيارين القديمين" هو ما يُلْحِق بالفلسطينيين وقضيتهم القومية مزيداً من الضرر. وكلا الطرفين لم يستوفِ بَعْد، إذا ما كان ممكناً أن يستوفي، شروط تغيُّره بما يذلِّل العقبات من طريق إنشاء وتطوير هذا "الخيار الثالث"، الذي ليس له حتى الآن، وفي الطرفين، من قوَّة تسنده أو تتبناه. ولعلَّ هذا هو ما يجعل هذا الخيار يبدو من "المنطق" الذي تلفظه "حقائق الواقع الفلسطيني". والمأساة تَعْظُم إذا ما عرفنا أنَّ الطرفين يعترفان بأنَّ استمرار نزاعهما، مع مواقفهما التي تصلح وقوداً لهذا النزاع، هو ما تريده إسرائيل، وتسعى إليه، ويخدم مصالحها وأهدافها؛ ولكنَّهما يُظْهِران عجزاً عن الخروج من مساريهما، وكأنَّهما نهر لا يملك تغييراً لمجراه. ولا شكَّ في أنَّ يد المفاوِض الإسرائيلي، ويد المحارِب الإسرائيلي، لن تتوقَّفا عن العمل معاً بما يؤدِّي إلى تكريس وترسيخ ما يعانيه الفلسطينيون الآن من انقسام سياسي وجغرافي وديمغرافي، فاستمرار واتِّساع وتَعَمُّق هذا الانقسام هو الطريق الأقصر إلى جَعْل القضاء على جوهر القضية القومية للشعب الفلسطيني هو جوهر الحل النهائي. وتُفضِّل إسرائيل أن يتحقَّق لها ذلك عبر المفاوضات السياسية، فإذا استعصى على المفاوِض الفلسطيني قبول هذا الحل النهائي الإسرائيلي، فلن تتردَّد إسرائيل، عندئذٍ، في إغلاق بوَّابات "الجدار الأمني"، الذي استكملت بناؤه في عمق أراضي الضفة الغربية، وتَرْك الفلسطينيين شرق الجدار يحاولون "استقلالاً" كالذي حاوله، ويحاوله، أشقاؤهم في قطاع غزة. ولِمَ لا تأخذ إسرائيل بهذا الخيار، عندما تفشل في جعله جوهر الحل النهائي الذي تنتهي إليه المفاوضات، إذا ما حقَّق لها الأمن الذي تريد، وضَمِن لها سيطرة دائمة على القدس الشرقية، وعلى أجزاء أخرى كبيرة ومهمَّة من أراضي الضفة الغربية، وأبقى "يهودية" دولتها بمنأى عن مخاطر "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين؟! لِمَ لا تأخذ به وهي تتوقَّع أن يؤدِّي اشتداد حاجة الفلسطينيين في "الشطرين"، أي قطاع غزة وبقايا الضفة الغربية، إلى الاتِّصال الجغرافي عبر أراضيها إلى التوصُّل إلى اتِّفاق على حلٍّ نهائي لا يختلف في أساسه وجوهره عن "حل الأمر الواقع"؟! وليس من سبيل إلى درء هذا الخطر الإسرائيلي، كما نرى، سوى أنْ تكون السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية قد حُلَّت من قبل، فهذا "الانسحاب" الإسرائيلي الأحادي الجانب، والمحتمل، يجب، إذا ما تحقَّق، أن يقترن بوجود حالة فراغ في السلطة والإدارة الفلسطينيتين، حتى يصبح ممكناً فتح أبواب القضية الفلسطينية ثانيةً أمام "التعريب" و"التدويل".
إنَّ أسوأ "حلٍّ" بالنسبة إلى الفلسطينيين هو الآتي: أنْ تُعْلِن حكومة نتنياهو إنهاء الحكم العسكري الإسرائيلي للفلسطينيين في الضفة الغربية من طرف واحد، فتُخْرِج جنودها ومستوطنيها من الجزء الأكبر من أراضي الضفة الغربية الواقعة شرق "الجدار الأمني"، والذي لا يشتمل على القدس الشرقية، فتتولى السلطة الفلسطينية هناك ملء الفراغ، أي الإدارة والحكم، وأنْ يُعْلَن من ثمَّ قيام الدولة الفلسطينية، وأنْ تحظى هذه الدولة باعتراف دولي، وأنْ تشرع هذه الدولة تَحِلُّ ما أمكنها حلُّه من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ضمن إقليمها الصغير هذا، وأن تبدأ (عبر وسطاء في مقدَّمهم الولايات المتحدة) مفاوضات طويلة الأجل بين "الدولتين" للتوصُّل إلى اتفاقيات في أمورٍ من قبيل السيطرة على الجسور والمنافذ البرية مع الأردن، وتوسيع إقليم هذه الدولة تدريجاً في اتِّجاه "الجدار الأمني"، وتسهيل عبور الأفراد والبضائع بين الضفة والقطاع، وإدارة الأماكن الدينية والأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية.
إنَّه الحل الانتقالي طويل الأجل، الذي قوامه، من الوجهة العملية الواقعية، الدولة ذات الحدود المؤقَّتة، والسلام الاقتصادي، والمفاوضات طويلة الأجل بين "الدولتين". وهذا الحل يمكن أن يبدأ بشيء من "الشرعية الدولية" له، فيستجيب لها الفلسطينيون بإعلان قيام دولتهم، فترد إسرائيل على هذين التطوُّرين بذلك "الانسحاب الأحادي الجانب".
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أعداء -السببية- يَنْعُون -السبب-!
-
هذا التمادي في شتم العرب!
-
الطريق الملتوية إلى -الدولة ذات الحدود المؤقَّتة-!
-
رياضة بروح سياسية.. وسياسة بروح رياضية!
-
طاب الموت يا طابة!
-
-نعم- للقرار الدولي.. و-لا- لإعلان الدولة!
-
مسار -الدولة من طرف واحد-.. ماذا يعني؟
-
عندما يجوع البشر لوفرةٍ في الغذاء!
-
بعض من ملامح -البديل- الفلسطيني
-
ما هي -المادة-.. وكيف يُمْسَخ مفهومها ويُشوَّه؟
-
كيف تُدَجِّن شعباً؟
-
خرافة -الدولة- في عالمنا العربي!
-
-قرار عباس-.. كيف يمكن أن يوظَّف في خدمة الفلسطينيين؟
-
السَّفَر في الفضاء.. كيف يكون سَفَراً في الزمان؟
-
بلفور.. -الأسلمة- بعد -التعريب-؟!
-
الحُبُّ
-
90 في المئة!
-
خيار -السلام- أم خيار -اللا خيار-؟!
-
-بالون أوباما- إذ -نفَّسه- نتنياهو!
-
فساد شيراك..!
المزيد.....
-
برلمان كوريا الجنوبية يصوت على منع الرئيس من فرض الأحكام الع
...
-
إعلان الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. شاهد ما الذي يعنيه
...
-
ماسك يحذر من أكبر تهديد للبشرية
-
مسلحو المعارضة يتجولون داخل قصر رئاسي في حلب
-
العراق يحظر التحويلات المالية الخاصة بمشاهير تيك توك.. ما ال
...
-
اجتماع طارئ للجامعة العربية بطلب من سوريا
-
هاليفي يتحدث عما سيكتشفه حزب الله حال انسحاب انسحاب الجيش ال
...
-
ماسك يتوقع إفلاس الولايات المتحدة
-
مجلس سوريا الديمقراطية يحذر من مخاطر استغلال -داعش- للتصعيد
...
-
موتورولا تعلن عن هاتفها الجديد لشبكات 5G
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|