|
من أقواس المتاهة
حمودي عبد محسن
الحوار المتمدن-العدد: 2850 - 2009 / 12 / 6 - 03:35
المحور:
الادب والفن
من أقواس المتاهة
مدينة جلاد ، لا نعرف عنها شيئا ، ولم نقرأ عنها في الحكايات والأساطير ، ولا نفهم أين تقع ، ولا ندرك في أي بلد من بلدان عالمنا الثالث تستقر مثل جبل ساحر ، فقط نعرف أنها مدينة كأي مدينة جلاد في التاريخ بنيت على أرواح العبيد وجماجم الهالكين ، الجلاد له فيها أعون سريين وأزلام عاديين مدججين بالسلاح ، قساة ، قلوبهم لا ترحم ، كعادة المدن المنقرضة أو القائمة في عصرنا الحديث ، هنا والآن حاضرة في قصة - وليمة لطيور في الصباح – عن كتاب أقواس المتاهة الصادر عام 1998 عن دار أزمنة ...الشخصية الرئيسية هو ذلك الشخص المجهول الذي تطارده عيون سوداء صغيرة أو كبيرة ، حادة وقاسية ، يقدح الشرر منها ، أن مئات العيون تتربص به ، مئات العيون أهل المدينة سخرت خدمتها للجلاد ، ماذا تريد ؟ لا ندري ، يظهر أن شريعة قانون الجلاد لا تناسب الشخصية المجهول ، فقد يكون قد تحدث بسوء عن مدينة الرعب أو عن قرب موعد الطوفان أو أن الجلاد قرأ أفكاره المعارضة لزحف الأفاعي والعقارب والذئاب على الناس الأبرياء واغتصاب العذراوات ، كل شيء ممكن في مدينة الجلاد وكل شيء فن من فنون الإرهاب حتى الموت فيها فن ، لا ندري قد تكون ابتسامة الشخص المجهول رؤيتها حزينة عن الجلاد أو سمع رنة قلق في صوته على ما آلت إليه المدينة في عهد الجلاد ، إذ أفواه كثيرة تردد : عظيم ، قائد ، زعيم أوحد ، راعي الأمة ، منقذ الشعب ، محبوب الجماهير .
صاحبنا المجهول أراد أن ينقذ نفسه من كلاب سوداء جائعة شرسة بعد أن همس في أذنه الجلاد ص35 ( إذا ما فكرت بالهرب ذات يوم ) . الكلاب ستجرده بالطبع من نطق الحياة ، ومنبع الفكر ، وترمى عظامه بالتأكيد إلى قطعانها ، وتتمرغ بدمائه ، وتمسح خطومها في تراب ورمال أرض الجلاد ، فلابد له أن يفر عن عالم دولة استبداد الجلاد ، ولا يريد أن يكون محجوزا بإرادة العنف ، فها هو هنا الآن لا ملجأ له ، كل الأشياء متشابكة : الكلام ، قوة السلاح ، الكلاب ، لكن إلى أين يهج ؟ المنطقة النائية صارت حلما له ، حلم ينقضه من الموت ، لابد أن يلجأ إليها ، لابد أن يكون هروبه في غاية السرية والإتقان . اختار دليلا أمينا ، يحفظ السر ، ذكي في اجتياز حدود مدينة الفزع بحراسها وكلابها ورباياها رمز العنف الأبدي .
ويتدرج إيقاع الليل بين الظلام والنور ، بين الحياة والموت ، في حركة متخفية ، متنقلة مع جريان الوقت ، الوقت جارف تماما ، فيه إحساس بالخوف الحاضر قبل كل شيء ، وفوق كل شيء ، فقط في هذه الليلة الوحيدة يجب أن يتم الهروب ، والوصول إلى المنطقة الآمنة عبر جداول ماء ، ومستنقعات ، ووديان ، وجبال وفوق رمال وأحجار وحصى وأدغال ، بمناجاة داخلية للشخص الذات في التشتت والتذبذب لئلا تكون أحذية العساكر وكلابها المدربة تتعقب الخطوات ، فقد تشابكت اللحظات الحاضرة في الليل المظلم برتابتها الآلية المرتبطة بالرعب ، وامتزاج الأشباح في متاهة الوجود . أنه قتال مع الوقت الخصم وتغلب بنطق الخطى في الظلام ، فرتابته أضنت الشخصية الرئيسية في القصة وهو يردد في نفسه ص36 ( إذ قاومت مخاوفي ) . تلك كانت لحظات رثاء ، تفترس وحش الوقت المفزع ، تفترس وتفترس حتى تكون لحظات الوجود قد تغيرت في مولد القلق والخوف ، لأن إن شاء القدر أن يخدع في ساعات الليل الأخيرة ، وهذا هو جوهر القصة إذ تبدأ بالصوت كاستهلال وابتكار موحي للهواجس ليكون الظلام درع الليل في العطش والإرهاق بلا مأوى واضح ، فيه إيقاع الكلمات الساكنة الثقيلة بتيار الأسف والحزن والحيرة بضربات موجعة ، بضربات انتقالية مطرقة انفعال صامت للنفس . أحسن الكاتب استخدامها ، فأرادها أن تكون غامضة ، مبهمة ، كابتكار للفزع لتجبرتا رفض أي جلاد يعتلي سلطة الدولة ، هكذا نشعر أنفسنا غرباء في عالم السلطة الإرهابية .
لقد استطاع الكاتب عدنان حسين أحمد أن يكيف السيطرة على القصة بالتجلي على عمق النفس بمهارة وتقنية فنية منتجة نصا جميلا بأسلوب تظهر فيه البراعة كما يبدو من سياق القصة بالرغم من التبدد القليل والقصير في الاستخدامات ليجعل القصة مشوقة وممتعة ذات مضمون فائق لكل الأعراق والثقافات الإنسانية في نص نثري مدرك ومهم ، وباختصار وكثافة ، ويعالج اغتراب الإنسان في موطنه .
هذا وبعد يمكنني أن أقول :
- لقد أحببت قصة وليمة لطيور الصباح .
5 / 12 /2009 حمودي عبد محسن
#حمودي_عبد_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداثة في رواية المقهى والجدل
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|