|
نظرية النشوء والتطور (الحلقة الرابعة)
إبراهيم جركس
الحوار المتمدن-العدد: 2848 - 2009 / 12 / 4 - 15:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
*المحاور الرئيسية في نظرية التطور 4) أصل الأنواع Origin of Species (( ... إني لعلى تمام الاعتقاد بأن الأنواع دائمة التحول، وأن الأنواع التي تلحق بما نسميه الأجناس اصطلاحاً هي أعقاب متسلسلة عن أنواع طواها الانقراض، على نفس الطريقة التي نعتبر بها الضروب التابعة لأي نوع، أعقاباً متسلسلة عن النوع ذاته. وإني فوق ذلك لشديد الاقتناع بأن الانتخاب الطبيعي هو السبب الأكبر والمهيء الأقوى لحدوث التحولات، ولو لم يكن السبب الأوحد الذي تفرد بإبرازها إلى عالم الوجود)) [تشارلز داروين، مقدمة كتاب أصل الأنواع].
على الرغم من أن عنوان هذه الفقرة كان هو العنوان الذي اختاره تشارلز داروين لكتابه، إلا أنه بالكاد كان قد حدد مشكلة كيفية ظهور أنواع جديدة إلى الوجود. فآليته (الانتقاء الطبيعي) تتعلق بالتغيرات أو التحولات التي تطرأ على الأنواع بمرور الوقت، لكن هذه الآلية لوحدها لن تكون كافية لإنتاج أنواع جديدة، حيث أن بالكاد ستعدّل وتحفظ الأنواع القديمة. تظهر الأنواع الجديدة فقط إذا تزايدت أعداد الكائنات من مختلف الأنواع، أو إذا انفصل نوع ما إلى فرعين. وقد اقترح داروين مبدأه الذي أطلق عليه اسم "مبدأ التنوع": من خلال التماثل مع الانتقاء اللاصطناعي، ومن خلال مناشدة الكثير من المناطق والأماكن المختلفة للاقتصاد الطبيعي. فقد قال أن الأنواع الأكثر تنوعاً ينزعون إلى أن يكونوا محافظين، ثم ينقسمون إلى أنواع متفاوتة بشكل تدريجي، تصنيفات نوعية، وفي النهاية إلى أنواع متمايزة ومختلفة. إن نواة تفسيره هذا كانت "التنوع التكيفي التدريجي". إن نظرية الداروينية المحدثة عن أصل الأنواع _للتنوع Speciation_ تختلف عن نظرية داروين وخصوصاً في مسألة التشديد على العزلة الجيولوجية كدافع ضروري لتشكل الأنواع، بالإضافة إلى مسألة أخرى وهي التأكيد على آليات العزلة الجينية. نظرية التنوع التي أقرتها الداروينية المحدثة تعتبر صرح ضخم من دون أدنى شك، كما أن هناك حجج تدعم التنوع من دون العزلة الجغرافية ، ومن دون الرجوع إلى التدرجية الداروينية. يمكن للأنواع الجديدة أن تبرز دفعة واحدة من دون شك. فمضاعفة عدد في الخلية هو عمل شائع جداً: يحدث ذلك إذا انقسمت الكروموسومات، كما يحدث قبل الانقسام الطبيعي والسليم للخلية، إلا أن الخلية قد تفشل في انقسامها. هذه الخلية عاجزة عن إبراز بويضات أو حيوانات منوية سليمة وصحيحة، لأن الكروموسومات ستتشارك في رباعيات، وليس في ثنائيات كما يستلزم إنتاج الخلايا الجنسية السليمة. لكن في حالة التهجين بين نوعين مختلفين سيكون هناك سلالات عقيمة بسبب التنافر بين مجموعتي الكروموسومات، فعملية تضاعف الكروموسومات سترسخ الخصوبة (حيث أن كل كروموسوم بات له شريك كي يرتبط معه). كما أن التخصيب الذاتي يمكن أن يبرز إلى الوجود أنواع جديدة متوسطة بين الأبوين. وهناك العديد من أنواع النباتات والحيوانات التي ظهرت بهذه الطريقة، وبعضها تشكل أو تم تشكيله داخل المختبرات. إن التنوع عن طريق انقسام الكروموسومات Polyploidy هو انقسام فوري ولحظي، أنواع جديدة بالكامل قد تنحدر من فرد ذاتي التلقيح، فالحوادث أو الطفرات Mutations هي السبب، والعزلة الجغرافية ضرورية جداً. هذه الطرق الأربعة جميعها مستقاة من نموذج الداروينية المحدثة عن التنوع، والذي يشدد على عامل العزلة الجغرافية [والذي سنتحدث عنه لاحقاً] والتغير الانتقائي التدريجي الذي يحدث مع مرور الوقت، والجماعات بدل الأفراد. وبين هذين الطرفين، هناك نموذج ثالث للتنوع والذي بات في الوقت الحالي على درجة كبيرة من الأهمية، كما أنه يلقى الكثير من الدعم والموافقة والتأييد، ويطلق على هذا النموذج اسم "التوازن الفاصل Punctuated Equilibrium" والتنوع الكمي هو البديل. هناك مجموعة من علماء الجينات المدعمين بالأدلة والبراهين وجدوا أن الأنواع المتشابهة أو المتقاربة تكون متباينة أو متفاوتة في ترتيب التركيبة الجينية أو الكروموسومات، حيث أنها تقوم بترسيخ الطفرات الطارئة على كروموسوماتها خلال تاريخ وجودها. فعلى سبيل المثال، تختلف الكروموسومات عند البشر عن مثيلاتها عند الشامبانزي، ويظهر هذا الاختلاف في انعكاس تسعة كروموسومات، واندماج اثنين. سواء أكانت الطفرة الواضحة في المادة الوراثية ترجع بشكل رئيسي إلى معدلات قابلة للقياس، أو أن كل طفرة مفردة تطرأ على الكروموسوم هي شيء فريد ونادر، فأن كلاً منهما يعتمد على الصدفة القائمة على الأقل على عمليتي انفصال للكروموسوم، حيث يتبع ذلك إعادة ترتيب المادة ودمجها. الكائنات الحية ذات الطفرات الكروموسومية المتباينة _أي التي ترثها من أحد الأبوين_ عادة ما تظهر علامات خصوبة منخفضة، أما تلك التي يتم وراثتها من كلا الأبوين _أو المتجانسة_ فهي كاملة الخصوبة. لذلك بإمكان الطفرات الكروموسومية أن تتصرف كآليات العزل الجيني، حيث أنها تقوم بتفضيل التزاوج بين الأفراد الذين يحملون الطفرات _أو النسل الجنيس_ وبدلك فهي تسبب التنوع. ولكن بما أن الطفرات الكروموسومية نادرة وفريدة من الناحية العملية، إلا أن الطريقة الوحيدة التي يمكن للكائنات المتجانسة أن تتكاثر من خلالها هي عن طريق التزاوج والتناسل مع النسل المنحدر من الفرد الذي كان يحمل الطفرة الأصلية. هذا النموذج: "التنوع الكروموسومي" يمثل عملية انقسام الكروموسوم على أنها تنوع وذلك بعدة طرق: لا يتطلب الأمر عزلة جغرافية، بل إن الصدفة هي السبب الرئيسي وليس عملية الانتقاء الطبيعي، التناسل بين أفراد متحدرين من فرد واحد أمر ضروري للغاية، وقد تظهر أنواع جديدة خلال بضعة أجيال، مع تأسيس لمجتمع متجانس من أجل الطفرة. ............................... هناك مجموعة ثانية من الحجج التي تدعم فكرة التنوع الكمي جاء بها علماء الطبيعيات القديمة، والذين فشلوا بشكل عام في إيجاد دليل على التغير التدريجي في الأحافير والمستحاثات. وبدلاً من ذلك، تظهر أحافير الأنواع بشكل مفاجئ ومباغت، وتبقى على حالتها هذه خلال فترة زمنية قد تطول أو تقصر، ثم تختفي بنفس الطريقة التي المفاجئة والفظة التي ظهرت بها. كما أن نفس نوع البيانات كان متوفراً لداروين وزميله الجيولوجي تشارلز لايل (1797- 1875). وقد بنى لايل نظريته معتمداً على تلك البيانات، لأجزاء متفرقة من عملية الخلق لأنواع على "يد قدرة فائقة للطبيعة". أما داروين الذي آمن أن الانتقاء الطبيعي هو القدرة الحقيقية الفاعلة، فقد حاول البحث والتفتيش في البنى الجسدية للمستحاثات عن العيوب الخلقية، وكان يأمل أن الاكتشافات المستقبلية ستظهر وتكشف عن النقلات التدريجية التي تكلم عنها. أما في الوقت الحالي، فقد تخلى أخيراً بعض علماء الطبيعيات عن ذلك الأمل وأخذوا الأحافير والمستحاثات من حيث قيمتها الظاهرية، كسجل فعلي لعملية التطور. فقد استنتجوا أن عملية التنوع تحدث بسرعة كبيرة وضمن الجماعات الصغيرة، حيث أن النقلات والتحولات التدريجية بين الأنواع تزول وتتلاشى. فإذا لم يحدث التغير خلال التاريخ المدوّن للنوع، فلا بد وأنه قد حدث خلال زمن معين، خلال التاريخ غير المدون للجماعة الأساسية الصغيرة. من هذه الأفكار جاءت النظرية التي تقول أن الأنواع تطلق باستمرار وبشكل عشوائي فروعاً صغيرةً يكون معظمها مصيره الهلاك والاندثار، ولكن قد ينجح البعض منها في الاستمرار والبقاء. وكما في النظرية الكروموسومية للتنوع، ليس الانتقاء الطبيعي هو المسؤول عن مظهر هذه الفروع، إلا أنه يعمل علة مستوى أعلى، أي أنه يقوم بالاختيار بينها واصطفائها. إن التغيرات التطورية الرئيسية لا تطبق عملها في انتقاء الفرات الطارئة على الجينات أو الكروموسومات، بل على الأنواع، مجموعة من الأنواع، ومن خلال عملية عشوائية بالكامل. .............................. أما المجموعة الثالثة من العلماء هم أتباع علم البيولوجيا الجزيئية، فالتقنيات المتطورة في الوقت الحالي مكنت العلماء من معرفة تسلسل الكنليوتيدات في المادة الوراثية DNA، وفي الحمض النووي المرسال RNA. عندئذٍ أصبح بالإمكان مقارنة محارف الشيفرة الوراثية مع سلسلة الأحماض الأمينية في البروتين الذي تم تركيبه على أساس الرسالة الواردة في الحمض المرسال RNA، فالشيفرة الوراثية غزيرة ووفيرة للغاية. هذه الطروحات الثلاثة المستقلة: الكروموسومات، الأحافير، والبيولوجيا الجزيئية، تتلاقى من الوجهة التنوعية المستقاة من قلب الداروينية المحدثة. فهذا الاختلاف والتباين مثير للدهشة. فهو يتمحور بشكل رئيسي حول ثلاثة أمور هي: الزمن، عدد الأجيال أو الأفراد، والانتقاء الطبيعي. إلا أن هذه المحاور الثلاثة _الاثنان الأولين من ناحية الكم_ هي أساسات علم الجينوم السكاني. فالداروينية المحدثة تعتمد على المزج بين الانتقاء الطبيعي وعلم الجينوم التجريبي والجماعي/ السكاني. والذين يعتمدان بدورهما على تجنب التأثيرات العشوائية عن طريق اعتبار عدة أجيال وعدة أفراد. فعلم الجينوم الجماعي قد يفسر التنوع أو الاستقرار أو التغير التدريجي ضمن الأنواع. فالقوة المحركة والدافعة لكافة هذه الأفكار التي وردت سابقاً حول التنوع هي أن تلك العوامل قد لا تكون لها أية علاقة بأصل الأنواع. بمعنى آخر، إن مبادئ علم الجينوم الجماعي قد تم توجيهها نحو وجهة خاطئة في الهرم: فهي تفسر سلوك الجينات في الجماعات، إلا أنها غير مناسبة إطلاقاً عندما يتم اعتمادها كتفسير لتاريخ الحياة. فهي في النهاية، نقد جوهري للداروينية المحدثة وتقترح أن الانتقاء الطبيعي ليس له أية علاقة بأصل الأنواع.
5) السلوك Behaviour من إحدى المجالات المتنامية للداروينية المحدثة هو علم البيولوجيا الاجتماعية Sociobiology، وهو يتمحور حول التفسيرات التطورية لمظاهر السلوك، وخصوصاً في التفاعلات الاجتماعية ضمن الأنواع. وقد بدأ داروين في عمله هذا بتفسيرات _في سياق نظريته في الانتقاء الطبيعي_ لمجتمعات الحشرات: النحل، النمل، والقائمة على أساس التضحية الذاتية أو السلوك الغيري من قبل الأفراد أو الجماعات. علم البيولوجيا الاجتماعية المعاصر هو مزيج من علم الجينوم الجماعي وعلم دراسة السلوك [الإيثولوجيا] ونظرية اللعبة التي تفسر السلوك على أنه مجموعة من الاستراتيجيات التي تمتلك أفضلية انتقائية إذا تمكنت من زيادة أو تحسين فرصة بقاء الأفراد أو أقاربهم الذين يشاركونهم جيناتهم. من أجل أن تكون الميزات موضوعاً للانتقاء الطبيعي، يجب أن تكون _سواء أكانت ميزان سلوكية أو بنيوية_ قابلة للتوريث، أو تحت السيطرة الجينية. فلكي تتبنى الداروينية المحدثة بعض السمات السلوكية، فكل ما يتطلبه الأمر هو إثبات أنها قابلة للتكيف تحت ظروف بيئية معينة [بعض السمات والميزات تقاوم الإبداع]، وافتراض جين من أجلها. ليس هناك أي ضرر من افتراض وجود جينات نظرية للإيثار أو الشذوذ الجنسي، إلا أن نقاد البيولوجيا الاجتماعية ينظرون إلى هذه الممارسات على أنها كأمثلة على الاستبداد المخفض للجينات. أو على الخواء في نظرية بإمكانها تفسير كل شيء.
قراءات أخرى للاستزادة • The Ancestor s Tale: Richard Dawkins
#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرية النشوء والتطور (الحلقة الثالثة)
-
نظرية النشوء والتطور (الحلقة الثانية)
-
هذا هو ردي
-
ما العدمية؟
-
دكتور عالم أم شيخ مفتي؟!!
-
نظرية النشوء والتطور (الحلقة الأولى)
-
أوديب: بطل على مفترق طرق
-
الشواش: العلم الجديد
-
سيكولوجية الخضوع 2
-
سيكولوجية الخضوع والطاعة (1/2)
المزيد.....
-
بمن فيهم مجرمون.. السلفادور تستقبل مهجرين وسجناء أمريكيين في
...
-
المدعية العامة في نيويورك تتحدى ترامب
-
أ ب: الصين تعلن فرض رسوم إضافية على العديد من المنتجات الأمر
...
-
نتنياهو يمدد زيارته إلى واشنطن
-
لابيد: وقف إطلاق النار لن يسقط حكومة نتنياهو
-
هزة أرضية بقوة 6.2 درجة في إندونيسيا
-
القناة -12- الإسرائيلية: 6 إصابات بعملية إطلاق للنار قرب حاج
...
-
فضيحة تهز فرنسا.. اتهام طبيب بالاعتداء الجنسي على 299 طفلا ت
...
-
ترامب عن دور ماسك في الإدارة: موظف خاص بصلاحيات محدودة
-
السودان.. القوة المشتركة تتصدى لهجوم عنيف من -الدعم السريع-
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|