|
رحلة اخرى
منذر محمد القيسى
الحوار المتمدن-العدد: 2847 - 2009 / 12 / 3 - 11:17
المحور:
الادب والفن
كان كل مايجرى من حولها لايعدو ان يكون نقاشا ترتفع حدته احيانا وتنخفض تارة اخرى .وكلما احتد النقاش من حولها كانت تتجه الى ركن من ردهة الاستقبال وتبدا فى الحديث مع لعبتها المفضلة.وحين كانت صفارات الانذار تنطلق فى ارجاء حيها الصغير .لم تكن تعرف من الخوف الا ما كان يرتسم على وجوه من تراهم مهرعين نحو ملجا اعد منذ سنين لاستقبال الفارين من الغارات الجوية.لكن تلك الليلة المشؤمة وضعت كل براءتها فى كف القدر .فقد كانت الوحيدة من اسرتها التى نجت يومها واخرجت من الملجا المحضن مثخنة بالجراح ولولا صغر سنها لما استطاع جسدها ان يقاوم تلك الالام المبرحة التى كانت تنتابها وهى راقدة شبه مشلولة فوق سرير فى احد مستشفيات المدينة .ظلت راقدة هناك لاشهر الى ان حضر احد جيرانها وزوجته اللذان حملاها الى دارهم لتقيم هناك .وشيئا فشيئا لم يعد بالامكان اخفاء ماحل باسرتها عنها .عرفت ان لها اسما جديدا صار يتداول بين من حضروا لزيارتها .انها الان يتيمة .لم تكن تعرف معنى تلك الكلمة .وكانت تسال احيانا مالذى تعنيه كلمة يتيمة .الكثيرون كانوا يشعرون برغبة بالبكاء كلما سمعوها تنطق بهذه الكلمة.كبرت هدى وكبر معها ذلك السوال الذى كان يقض مضجعها منذ تلك الايام .لماذا فقدت هى كل اسرتها؟ مالذنب الذى اقترفته اسرتهاليحدث لها ماحدث؟ كان الجميع يخشى فى بعض الاحيان حتى الحديث عن ذلك .لكن السوال ظل يطاردها.ولولا ظهور سمير قى حياتها ماكان لها ان تضع البحث عن اجابة لسوالها جانبا .فلقد كان سمير يطاردها كظلها دون ان يحاول الاقتراب منها .او حتى التحدث اليها.كانت تراه كل يوم .حتى انها اعتادت على ذلك كلما ذهبت الى مدرستها .وكانت تفتقد عدم وجوده احيانا عند خروجها .لكنها كانت ممتلئة بالخوف واحساسها بالوحدة.تلك الوحدة التى بدات تملا مساحات واسعة من حياتها عندما توفى من كانا يرعاها .وصارت حياة الاسرة التى استقبلتها كل تلك السنين تمر بظروف معيشية قاسية جدا .كانت تشعر بذلك التشتت العنيف الذى صار يضرب فى جذور عائلتها الجديدة .وكل العوائل المجاورة لها .لقد صار الناس يعانون من الفاقة فى كل شى .كانت ترى ذلك وتشعر به اذ لم تعد صغيرة .وكان سمير بمظهره الذى يوحى باليسر ووسامته المتواضعة .وسنه المقارب لسنها .يعنى طوق نجاة قد ينتشلها من حالة الضعف التىكانت تعانى منها اسرتها .وربما كان هذا مادعاها الى عدم رده حينما حاول الاقتراب منها والتحديث معها لاول مرة .وما كان يحدثها به كان يجعلها تطمئن اليه اكثر واكثر.ولم يكن هناك من يسالها عما تفعل ولماذا تفعله؟فالكل كان يجرى باحثا عن قوت يومه .ليعود اخر النهار منهكا من كل شى.ولان قدرها كان ان تفقد ذويها وهى صغيرة .كان ذلك القدر هو من ضاعف من همها وحزنها .اذ ان حربا جديدة اندلعت .ولم تعد ايامها كما كانت.كان الموت يتربص بكل شى من حولها .وصار الناس يهربون الواحد تلو الاخر نحو المجهول .كانت ترى وتسمع بكل ذلك الخراب الذى حل فى حيها والاحياء المجاورة .ولم تعد ترى سمير.وكلما ذهبت خائفة نحو مدرستها التى فتحت ابوابها لاحقا كانت تبحث فى الاركان وفى الوجوه عنه.كانت الدراسة قد توقفت .وتوقف معها ذلك الرجاء فى رويته.مر زمن ليس بالقصير منذ ان افترقا اخر مرة.ولم تعد تتوقع رويته .لكنه ذات يوم فاجاءها بظهوره.فقد كان يقف متكا الى احد السيارات الفارهة يتطلع نحو الزقاق الذى عادة ما تستدير فى سيرها منه نحو مدرستها.وحين تجاوزته متظاهرة بعدم رويته .رغبة فى اشعاره بعدم الاهتمام .استقل سيارته وتبعها .وحين اصرت على عدم الاستماع لنداءاته.استدار وقطع طريقها .توقف امامها. ونزل من سيارته مسرعا. كان ذلك يشبع رغبتها فى معاقبته ويريحها ايضا. راح سمير يسبر الىجانبها محاولا ارضاءها. وعلامات الارباك بادية على وجهه.فلقد كان يعرف كم هى حساسة ورقيقة.وكيف ان اختفاءه المفاجى من حياتها كان صدمة لها قد لاتغفرها له .ظل يسير برفقتها وهو يحاول اقناعها بمبررات رحيله المفاجى .حدثها عن الحرب وكيف ان الناس كانت تهرب الى اى مكان قد تامن فيه .كانت تسير وهى غير عابئة بما يقوله .و حين وصلت الى مقربة من مدرستها توقفت واستدارت نحوه وقالت ــ سمير ..اسمعنى الان .لقد قلت كل ماعندك. دعنى الان لانى اخشى ان تلاحظ زميلاتى وجودك معى .ولااريد ان يهمزنى احد باية كلمة ـ ولكننا لم نكمل حديثنا ياهدى قال سمير نظرت اليه بنظرة عتاب ممزوجة بغضب خفيف ــ ارجوك اذهب الان....اذهب طاطا سمير راسة وظل صامتا .فيما حثت هدى خطاها نحو بوابة المدرسة ـــــــــ كان الانهيار الذى حدث مدويا .اذ لم تعد هناك اية ظوابط تحكم العلاقات المختلفة داخل المجتمع.وكانت اعمال السلب والنهب والقتل والتصفيات بكل انواعها قد انتشرت على نطاق واسع .لم يعد يامن احد على اى شى.رغم محاولات العديد من الناس الذين كانوا اشبه بالضائعين الذين لازالوا لايفهمون حقيقة ماجرى .ان يضبطوا حركة العلاقات الاجتماعية والموسساتية داخل مناطقهم على الاقل.لكن الانحدار كان سريعا.ومع ظهور عصابات الجريمة المنظمة والتى اطلقت من معاقلها.بعد الانهيار.صار روية الجثث الملقاة على الطرقات امر مالوفا.اما الخوف مما هو قادم فقد بلغ مستويات لم يعد بالامكان السيطرة عليها.اما هدى فقد وجدت نفسها مرة اخرى وحيدة فقد قتل اثنان من تلك العائلة التى احتضنت طفولتها .ولم تعد تستطيع الخروج او الذهاب الى مدرستها خشية ان تختطف .بقيت فى عزلة طويلة لفترة لم تعد تذكر تفاصيلها .لم تعد تقوى على التفكير او البحث عن حل لما حدث لها ولاخرين غيرها.وفى ايام عزلتها تلك .فكرت فى التخلص من حياتها .لكنها تراجعت لشعورها ان ذلك يعرضها لغضب الهى .لكن شعورها بالمهانة كان يسحق مشاعرها بعنف .وهى التىاصبحت تعتاش على مايقدمه الاخرين لها من معونات بسيطة.حتى انها هزلت .وبان الضعف الشديد عليها .تعرضت للاغواء مرات عدة لكنها صمدت .وبقيت حالمة بشى ما .شى يمكن ان يكون معجزة قد تنتشلها وغيرها مما هن فيه.ولقد كانت تظن ان مجى سمير الى دارها ذات يوم هو حبل النجاة مما كانت تعانيه.اما سمير فقد كان ودودا معها بصورة لم تالفها فيه من قبل .كانت تشعر ان الذى جاءها ذلك اليوم غير الشخص الذى عرفته قبل سنين.ولانها لم تعد تحتمل ماهى عليه .غضت الطرف عن الكثير مما كانت تحس وتشعر به.عرض سمير عليها الزواج واقنعها بان يقضوا شهر العسل فى بلد اخر .كانت الاسئلة تدق تفكيرها بعنف .كيف استطاع سمير ان يجمع من المال مالديه الان .لقد كان شبه معدم قبل سنوات.ظنت انه قد يكون ممن سطو على مصارف او غيرها .لكنها استبعدت ذلك فلم تكن تريد سوى الخلاص .باية طريقة .ازاحت عقلها وربما عواطفها جانبا وبدات تفكر بطريقة مغايرة .طريقة كانت تعرف مسبقا انها لن توفر لها اسسا حقيقية للعيش والاستقرار. لكنها قررت اتياعها.اذ لم يعد لديها الكثير من القدرة على التحمل .ولذك لم تتردد طويلا فى اعلان موافقتها على الزواج من سمير والسفر معه .ولم يتاخر سمير كثيرا فى الحصول على جوازات السفر .اذ كانت تباع على الارصفة بثمن زهيد.وماهى الاايام حتى وجدت هدى نفسها فى شقة موثثة فى احدى ضواحى المدينة التى وصلوا اليها.كان شعورها بالامن هناك شى مدهش .وبدات مع مرور الايام تشعر بنوع من الاستقرار اتاح لها البحث مجددا عن اجابات لاسئلة موجلة.فلم يكن سمير زوجا لها بقدر ما كان رفيقا مونسا.وكلما اقتربت منه كان يهرب منها بطريقة او اخرى .ولم تجد تفسيرا لسلوكه ذلك .ولميمضى سوى شهر حتى عرفت حقيقة مايجرى.فلقد طلب منها سمير ان تتجهز ليذهبا معا الى حفل يقيمه صديق له.لم تساله هدى عن ذلك الصديق .من يكون؟ ذهبت معه.كان الحفل الذى ادعاه سمير عبارة عن مزرعة صغيرة بعيدة عن العاصمة.وكان صاحب الدعوى رجل ممتلى الجسم متوسط القامة .وكانت لهجته فى الحديث تدل على انه من دولة تتمتع بالثراء.وما ان انقضى المساء.حتى استاذن سمير منهما لقضاء حاجة له.ولما طال غيابه سئلت مضيفهما عنه.اعتدل الرجل فى جلسته ونظر اليها وقال ـ لقد ذهب ـ ذهب..الى اين؟ ـ لاادرى..لقد اوصلك الى ودفعت له ماطلب من مال وانصرف شعرت هدى بالغثيان ورغبة بالتقيو..ونهضت من مكانها واسرعت نحو الباب الخارجى وراحت تركض.وتركض الى ان اعياها الجرى وسط الظلام .جلست تحت شجرة صغيرة وهى تهتز من االخوف وراحت تبكى بعنف .ظلت تبكى الى ان اغمى عليها ــــــــــــــ مر زمن ليس بالقصير على ماحدث لها.ظلت تنتقل من عمل الى اخر باحثة عن لقمة عيش تضمن كرامتها التى اهدرت .ولمتكن الحياة سيئة الى الحد الذى كانت تظنه .اذ ان امراءة قادتها ذات يوم الى مكتب للامم المتحدة لشوون اللاجئين. وروت هناك كل ما حدث لها.ومن حسن حظها ان امراءة اجنبية كانت تنصت لها والتى تعاطفت معها بشدة .وخصصت راتب شهرى لها يعينها على متطلبات الحياة.وذات يوم جاءتها رفيقتها فى السكن وقالت لها ــ هدى..لقد اتصلت بك تلك المراءة وطلبت حضورك الى مكتبها غدا صباحا شكرت هدىا رفيقتها .على ماقدمته وتقدمه لها وتبادلا قبلات المودة .وفى صباح اليوم التالى ذهبت الىمكتب تلك المراءة التى اسقبلتها وسالتها عن اوضاعها وقالت لها ــستذهبين اليوم الى المكتب المجاور لانجاز بعض الاجراءات فقط.وبعدها سيتصلون بك لاحقا لابلاغك بما يستجد شكرتها هدى على ماقدمته لها من دعم.ونهضت مودعة المراءة واتجهت نحو المكتب المجاور. ـــــــــــ جلست هدى على المقعد المخصص لها داخل الطائرة .وراحت تفكر فى كل سنين عمرها التى مضت .ولم يخرجها من ذلك سوى نداء بربط الاحزمة استعداد للاقلاع .سحبت الحزام من جانبها الايمن وربطته فى المكان المخصص له واسندت جسدها الى الخلف .كانت تشعر بالقلق والخوف اذ لم يسبق لها ان استقلت طائرة .وحين ارتفعت الطائرة وحلقت صعودا نحو السماء .نظرت هدى عبر نافذة كانت الى جانبها.كانت الاشياء تحتها تصغر وتصغر الى ان اختفت .واختفى معها ذلك الماضى الاسود الذى ادمى حياتها.فلقد بدات رحلة اخرى فى حياتها .قد تجد من خلالها انسانيتها التى اهدرت .وطفولتها التىانتهكت بشكل وحشى دون ارادة منها
منذر محمد القيسى [email protected]
#منذر_محمد_القيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بقية اطلال
-
بغداد
المزيد.....
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|