|
قصة قصيرة : سيجارة
بشير زعبيه
الحوار المتمدن-العدد: 2847 - 2009 / 12 / 3 - 02:56
المحور:
الادب والفن
هل كان يحدث ذلك لو أن الأمر تعلق بامرأة ليست مارلين.. أو أن مارلين نفسها اتخذت وضعا غير تلك الجلسة وأن الفتى لم يكن هو الفتى. ايرلندية من أقصى الصقيع الأوربي اقتحمت فجأة هذا التكرار اليومي الركب من مادة البلادة والتلاشي البطيء،كأنما بعثت كي لا يكون أمام هذا الفتى المدجج بمخزون ربع قرن من شمس ذاك الشاطيء الأفريقي الا أن يستجيب . هنا .. على مسافة نزهة عاشقين من ضفتي (بردى) الاسمنتيتين ومجراه الكئيب ومشهد ( قاسيون ) الحاضن وعبق الشام القادم من (الحميدية) و(السوق العتيق) ... أية مفارقة وأي استهزاء بهذا الامتداد الجغرافي الذي من حجر وماء .. وأية روح عجيبة هذه التي هبطت مع مارلين .. قبل قليل كان حضورها مبعث استياء زاده حقيبة رجال الأعمال التي كانت تتدلى من يدها ثم أراحتها فوق ركبتيها عندما جلست على أحد الكرسيين المحاذيين للمكتب .. - دعنا من هذه الفرنسية .. هناك من ينتظرنا في الخارج .. لكن أحمد الواقف بنصف انحناءة خلف المكتب يواصل كعادته دور المبالغ في الترحيب ولا أدري لماذا كان انطباعي الأول بأن الفتاة فرنسية .. ربما هي طريقة تصفيف شعرها الكستنائي القصير المقصوص باستقامة موازيا لخطي الحاجبين .. أو هو الفستان المزهر البسيط الخالي من أية اضافات سوى ثلاثة أزرار تنتهي عند أسفل الصدر .. لكني أسمعها تبدأ حديثا بالانجليزية .. وألاحظ أن أحمد تعمد أن يتجاهلني ويحاول التقاط المعنى العام لحديث الفتاة موافقا على كل شيء بينما لايبدو عليها أنها طرحت تفاصيل .. وأرسم أنا عند باب المكتب شكل المتهيء للخروج وأخاطبه باستياء أكثر : - يا أخي تأخرنا .. وهنا تفتح الفتاة الحقيبة وتخرج منها عينات من قماش على هيئة دفتر ، ثم تضعها فوق المكتب وتتصفحها أمام أحمد مع شرح تبديه بطريقة آلية مسترسلة وبجمل محفوظة توحي بأنها تعيدها للمرة المائة على الأقل .. حدث هذا قبل قليل والآن مارلين تتوسد ذراعي على السرير .. لاحقيبة ولا حتى الفستان المزهر .. خط الشعر القصير فقد استقامته بنما تسللت احدى يديها بكسل جانبا ودون أن تحيد رأسها عن ذراعي تسحب من مكان ما سيجارة .. تباعد بين شفتيها فيما تدني السيجارة بالكسل نفسه نحو وجهها .. تديرها بحذر حول نفسها بين باطني السبابة والابهام .. بيدي الحرة أتناولها برفق واعتدال لأوجهها بعناية نحو الشفتين المهيأتين في اللحظة التي ينسدل فيها جفنا مارلين في نصف اغماضة ثم اغماضة كاملة عندما تنطبق الشفتان تماما على السيجارة .. كان لصوتها وقع استفزازي وهي تتناول رزمة الدفتر القماشي وتعرضه ولولا خبرتها الضاهرة في طريقة الشرح التي تعززها بلغة اليدين اليدين لكنت أجد صعوبة في فهم سبب وجودها في هنا .. كانت الكلمات تخرج من بين شفتيها بتدفق عجيب دون أن تتيح لأي من الحاضرين فرصة التقاط خيط متماسك من الحديث .. لكننا الآن بطلاقة ، كلانا يفهم ما يريد الآخر .. صوتها ينساب ببطء ولا أدري ان كانت نطقت فعلا أم لا ، انما المؤكد أن وقتا ليس بالقصير قد مضى ونحن هكذا .. وكانت السيجارة الثانية أوشكت على الانتهاء و مارلين على حالتها بعينين نصف مغمضتين قبل أن تغمضهما ببطء غير أن شفتيها بدأتا أكثر جدية هذه المرة .. وأحاول أن أسحب السيجارة من فمها بعد أن فقدت شكلها الصلب المستقيم وتحولت الى ما يشبه أنبوبا من الرماد آخذا في الانحناء ، غير أن محاولتي ترتد أمام مقاومة مباغتة من الشفتين ، وفي هذه الماجهة العابرة يفقد أنبوب الرماد صموده ويبدأ في السقوط ، عندها أنجح في سحبه بينما أسمع آهة مكتومة من مارلين شبه النائمة .. أسحب جذعي قليلا من تحت اللحاف الصيفي وأسند ظهري الى لوح السرير الموازي للحائط .. أغمض عيني عن قصد مفسحا في المجال المعتم أمامي حيزا لتداعي الحدث .. ايقاعه سريع .. أحاول أن ألملم من جزئياته ما يوحي بسياق منطقي متكامل : شق غامض على شكل مثلث مقلوب ليس مظلما تماما , قاعدته حقيبة مارلين حين أراحتها على ركبتيها ورأسه نقطة التصاق الركبتين المضمومتين المنثنيتين تحت الحقيبة جعل كل شيء قابلا للانقلاب .. وكلما انثنت مارلين بجذعها جانبا لتحادث أحمد مشيرة الى قطع القماش على سطح المكتب تميل معها الركبتين في حركة تفقد الشق غموضه اذ تنفصل أضلاع المثلث فيما يجعل كل شيء أيضا قابلا لاعادة النظر .. ولذلك فاستيائي من وجود مارلين واتهامي المسبق لأحمد بدا لي أنه كان قرارا متسرعا ، فقد كان يمكن استيعاب أن الانتظار بعض الوقت لن يشكل كارثة في كل الأحوال ، وأن الموعد الذي كان ينتظرنا يمكن تعويضه بمكالمة هاتفية وحسمه باعتذار من جملتين .. تجبر ضرورة الحركة أن ينفرج الوضع القائم ما بين الركبتين قليلا فينحرف شكل المثلث تماما ليجبرني على الانحراف أيضا الى الداخل وأنا الذي كنت عند الباب أصنع وضع المتهيء للانسحاب .. أواصل انحرافي باتجاه المقعد المقابل لمقعدها ، تفصلنا منضدة زجاجية السطح وضعت لتكمل الشكل التقليدي للمكتب .. قبل أن أجلس تمتد يدي نحو الدفتر القماشي الصغير وكأنّ مارلين انتبهت أخيرا لوجودي فتتابع بعينيها مبتسمة حركة يدي وأنا أتصنع تفحص نوعية القماش ، ثم أجلس قبالتها باسطا الدليل القماشي على المنضدة ويبدو أن ذلك أراحها أكثر حيث شملتني على الفور بعملية الشرح المتقنة ؛ نوعية القماش ؛ مكان صنعه ؛ طريقة البيع والتسديد؛ الأشخاص الذين اندرجوا ضمن قوائم زبائن شركتها؛ السفارات والمؤسسات .. ورغم تواضع المامنا باللغة الانجليزية الا أنه كان لدينا من السخاء في هزّ الرأس بالموافقة والابتسامة الدائمة الأقرب أحيانا الى ضحكة تأبى مارلين الا أن تفجرها عالية حين تدخل في نسيج شرحها المطول مفارقات طريفة صادفتها خلال خلال عملها كمندوبة متجولة لاحدى شركات بيع الأقمشة .. نضحك .. أنظر الى أحمد .. بدوره يرميني بنظرة جانبية ، احساس مشترك بأن كلينا يفهم بوضوح ما يهندسه رأس الآخر .. وتطول ضحكتنا .. اذ ربما وجدنا فيها تعويضا عن نقص الاستجابة والتعاطي باللغة ، ولم أستبعد أن مارلين بحكم الخبرة تفهم الهندسة القائمة الآن بنشاط وراء الحوار الظاهر على السطح ، ويصبح الحديث عن الأقمشة موضوعا ثانويا يحسمه اتفاقنا أو اتفاقها هي على اختيار صنفين من معروضها على الأقل ، ويهيء أحمد فرصة مناسبة لدعوتها الى الغداْ ، ولا أدري أي مدخل حاسم وجده لطرد أدنى احتمال في ذهن مارلين يوحي اليها بأن الدعوة تعني بشكل أو آخر الاتجاه الى أحد المطاعم .. هكذا أصبح الأمر يتعلق بأكلة شعبية ينحدر أصلها من الشاطيء المقابل لبلدنا ..ويمضي أحمد في محاضرته عن الوجبة والدعاية لها وأساعده بدوري في جهد واضح من كلينا محاولين افهامها بأننا نتحدث عن شيء اسمه البهارات الشرقية لزوم الأكلة .. هزت رأسها مرحبة وعقبت بجملة نطقت خلالها اسم الهند فعرفنا أنها استوعبت الحديث, وعرفنا أيضا أنها فهمت تلقائيا أن الغداء سيكون بأحد بيتينا .. أما أنا .. فهاهي مارلين تميل بظهرها الى الأمام وتدير جذعها منزلقة في بطء يسمح لها بسحب رجليها من تحت اللحاف ثم تأخذ وضع الجالسة على حافة السرير بقدمين على الأرض وبالبطء نفسه تقف فاردة ذراعيها ثم تثنيهما نحو الكتفين في تمطط قططي كأنها تمارس طقسا يتيح لسائر خلايا الجسد لذة الاستمتاع بشيء ما فيما بقايا دخان سيجارتها يغادر فضاء الحجرة عبر خيط ضوء تسلل من شباك الغرفة المقابل . ( تمت )
#بشير_زعبيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأشجار لا تموت دائما واقفة
-
العرب وايران..صناعة العداوة
-
الخيبة.. أو (رياضة الكراهية)
-
الرهان علي الوقت الضائع
-
- صناعة الجوع -
-
كان هذا هو الموجز
-
كم يلزم من الوقت ليتغيروا ؟!
-
أنظر حولك وتفاءل !
-
أبعد من اختلاف .. أقرب الى فتنة
-
2700 ليتر من المياه لصناعة قميص واحد !! ..حروب تخفي الحروب
-
دائرة
-
من ضرب العراق بايران الى ضرب العراق بالعراق..
-
الصديق الذي قتلته -النشرة-
-
قصة قصيرة :الأجندة
-
قصة قصيرة
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|