أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبدالمنعم المحجوب - ممارسة عالَمَين















المزيد.....

ممارسة عالَمَين


عبدالمنعم المحجوب
كاتب وباحث

(Monem Mahjoub)


الحوار المتمدن-العدد: 863 - 2004 / 6 / 13 - 08:26
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


توضّعت العولمة في أدبيات العلوم الاجتماعية على مساحة واسعة تشمل تقريباً جميع التبادلات المادية والرمزية العابرة للحدود القومية، سواء كان موضوع هذه التبادلات مواداً أو أنشطة أو أفكاراً ومعلومات أو أنماط محددة من التطبيقات، على قاعدة التفكير في مجال كوني للسريان والانسيابية يتجاوز الحدود المحلية والقومية التي احتضنت ونظمت مراحل تاريخية طويلة من تطور علاقات التبادل بين الدول والأمم، وهي المراحل التي تبدأ من منتصف القرن الثامن عشر وحتى منتصف الأربعينات من القرن العشرين.
وإذا شئنا تخطّي المحاولات المضنية للإحاطة بتعريف العولمة، إذ يبدو أن تواطؤا عاماً يدفع الباحثين ويجمعهم على تجاوز التعريفات للبحث مباشرة فيما يمكن تسميته تطبيقية العولمة، فإننا لا نستطيع إهمال أن تجاوز الثقافات القومية لصالح ثقافة ما منمّطة يشكل ما يشبه الأطروحة الأساسية لأي تفكير بصدد العولمة. إننا نستطيع مثلاً اللجوء إلى تعميمات صوريّة أو أن نتابع الظواهر بالتقصي والتحليل، أو أن ننظر كيفما شئنا في تجليات العولمة المختلفة؛ لكن عملنا هذا، وفي جميع الحالات، سيكون محدّداً بطبيعة المجالات والحقول التي ننظر منها أو عبرها. وهكذا سنجد دائماً أن التعريفات والمفاهيم تتكامل بنسب محددة لتنتج أطروحة عامة تتخلل هذه الجهود النظرية، وتتلخص في تجاوز الحدود القومية في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع.. وبالرغم من نوعية هذه الجهود فإنها تتدافع لتنتج مقاربة عامة للعولمة، وكأن ما في العولمة من شمولية وتجاوز يلقيان بظلالهما على كل بحث يتعلق بها.
إننا نتحدث أيضاً عن مستقبل ما، عن وضع تتكون ملامحه ولا يكفّ عن التحوّل التدريجي، وهو وضع يعتمد على الاستجابات المحتملة التي تبديها مختلف المجتمعات للتغيرات التي تداهمها، وهذه مسألة لا تسمح لنا بقدر كبير من اليقين. بل أننا سنجد أنفسنا نتحدث بينما ترافقنا أوهام عديدة عن مثل هذه الاستجابات غير القابلة للقياس.
فإضفاء الكونية تحوّل من حالة التلقائية التي مرت بها الثقافات والحضارات الكبرى عبر التاريخ في فترات انتشارها وحلولها وتآثرها، إلى حالة أخرى تتميز بقدرتها الفائقة على تحويل الثقافة إلى برنامج، وعلى امتصاص التفاعلات وتوظيفها استراتيجياً لتذويبها وإعادة تنميطها. ولكن الاستجابات تظل أعقد بكثير من الاستباقات الافتراضية؛ إنها خارج القراءات المستقبلية التراتبية التي تصبح فيها الأوضاع في السنوات والعقود المقبلة حاصلَ تضعيف بسيط للمؤشرات الإحصائية والبيانات.
لعلنا في حاجة، أساساً، إلى تفعيل المخيلة. فالعولمة تواجه بابل حقيقية، ضاجّة ومتداخلة، ولا نتحدث عن الألسن، كما لا نستطيع أن نهملها، بقدر ما نتحدث عن الثقافات المتنافرة والمتضافرة في آن واحد. ثقافات العالم، حتى تلك المعتبرة هامشية وضئيلة الأثر.
في تحليل العلاقة بالآخر كان يحدث أن نمر عبر الخطاب لكي نصل إلى العالم (تودوروف)، لكننا في عملية العولمة نجد أن السياق قد انعكس تماماً، فما يحدث هو أن الآخر يمر عبر العالم لكي يثبِت خطابه، انه انتقال من "تذويت" العالم إلى عولمة ذاتٍ ما متصَوّرة قابعة هناك، في ركن ما، سلبية، منفعلة، وقابلة دائماً لأن تكون انعكاساً.
لكن مفهوم الآخر لا يتعيّن إلا بالنسبة لمركز تتصل فيه عمليتا الإنتاج (المادي والرمزي) والتبادل (أو فرض التبادل) وهما عمليتان تصدران اليوم عن الغرب، متجسداً في الولايات المتحدة الأمريكية، في حين يبدو العالم متحصناً وراء ثقافاته القومية وحدوده التاريخية، ولكنه قابل في الوقت نفسه للانخراط في علاقة التبعية والهيمنة، بل ومضطر لذلك لأسباب بنيوية يحتمها انتشار ونفاذية النظام الرأسمالي كونياً، وهي عملية ليست اختيارية ولا مجال فيها للتعاقد الإرادي.
نحن نتحول بفعل تأثير منتظم نتعرض له، نكتسب قيماً جديدة، ونمارس أنماطاً جديدة، ونتبنى بالتالي ثقافة جديدة، أي أننا نندرج تلقائياً في استراتيجيات "الآخر" لنصير جزءا من نظامه. إننا لا نمرّ عبر خطاب العولمة لنصل إلى وضعها، بل نتحوّل كأفراد إلى جزء من هذا الخطاب، نصير موضوعاً له. وفي عالم جرت عولمته فإن الأفراد هم حاملو الخطاب لا صانعوه، انهم ذوات منفعلة لا فاعلة، وينحصر إسهامهم الرئيسي في الاستقبال والاستهلاك والاستتباع. انهم بعبارة أخرى مجالات تبادل السلع المادية والرمزية، وما يجري في عالم كهذا إذن هو تحويل الآخرين إلى مجال لنفاذ خطاب العولمة وجعلهم في نفس الوقت يستبدلون صورة الآخر في ثقافاتهم وذلك بتصييرهم هم أنفسهم انعكاساً لهذا الآخر بالذات، الآخر الذي كان مقاوَماً ومرفوضاً ونداً وعدواً وغريباً طوال قرون عديدة.
الآخرون من منظور العولمة هم الذين يعزلون أنفسهم وراء حدودهم القومية. إنهم مواطنو الدول التي صنعت نفسها عبر التاريخ بالتطابق بين الأمة والثقافة، وهو ما أنتج شكلاً سياسياً مستقراً طوال المراحل التاريخية السابقة.
وفي التعميم فإن العولمة تتجاوز الدولة القومية إلى محيط إنساني أوسع، وهذا مقترن مباشرة بتفتيت الاقتصادات مركزية التخطيط لصالح نظام السوق، كما أنه من المفترض أن يؤدي إلى الانتماء إلى هوية عالمية تصنع ثقافة المستقبل، ثقافة لا ولاء فيها لمعتقد على حساب آخر، ولا سيطرة فيها لأيديولوجيا محددة باستثناء العقلانية التي غادرت الفلسفة لتأخذ شكل "البراكتوبيا" (ألفن توفلر) كمناخ عالمي عام ينتجه التقدم العلمي وتنشّطه إنجازات التقنية وممكناتها.
إلا أن هذا التعميم لا يفضي إلا إلى تأكيد نفسي على أطروحات العولمة واستحالة مقاومة تيارها وعدم جدوى الإعراض عنها، محمّلاً بتوجّه ضمني يؤكد أن عالماً تتحقق فيه هذه الأطروحات سيكون فعلاً قادراً على تذويب الحدود بين الأمم، وإلغاء المسافة بين الذات والآخر، أي خلق متطلبات التجانس الكامل بين الثقافات وتصفية الخصوصيات وتمايز الهويات وتفاضلها الذي شكّل دائماً قوة دافعة لها عبر التاريخ ومثّل مبرراً لوجودها واستقلالها وعملها من أجل اكتساب القوة وتنمية مجالاتها الحيوية وتحقيق مردوديات مادية ورمزية أكبر.
إن العولمة بوجهة نظر متساهلة هي يوتوبيا جديدة أضافها التطور الاقتصادي والتقني تحت غطاء ثقافي وسياسي عالمي مرن، تنضاف إلى اليوتوبيات القديمة التي أبدعتها تأملات الفلاسفة وأحلام الشعراء، لكنها من منظور آخر ليست سوى شكل جديد من أشكال الصراع بين الحضارات يسعى فيه الغرب في ظل سيطرة النظام الرأسمالي إلى أن يعولم انتماء الآخرين من خلال ارتباطهم بمنظومة الإنتاج والتبادل التي يمثّل الغرب دون غيره مركزها، ويعود إلى الغرب دون غيره نتائج انتشارها ونفاذيتها.
هذا التعارض في فهم وتقييم عملية العولمة ينعكس ولابد على سيرورتها. فبقدر ما تبدو العولمة مكتسحة وأخّاذة وهي تتجه شرقاً ليخوض الغرب من خلالها صراعه الحضاري الأخير ضد الآخرين متمثلاً هرمجدون ونهاية التاريخ، بقدر ما تبدو مقبلة أيضاً على الغرق في مقاومات متضافرة على مستوى العالم، أي أن التجانس بين الأمم الذي تستند إليه مؤسسات العولمة سيكون تجانساً ضد العولمة، وخلقاً لعولمة أخرى، مضادة، خاصة وأن "الآخرين" هؤلاء مؤهلون ثقافياً وتاريخياً لتنظيم استجاباتهم لأطروحات العولمة برفضهم للتطويع والامتثال والتطبيع وبالانفتاح على آفاق إنسانية وحضارية على قاعدة التنوّع والشراكة والتكامل، أي على قاعدة العالمية لا العولمة. ويمكننا هنا أن نتصور شرقاً كبيراً يجمع الأفارقة والمسلمين والبوذيين والكونفوشيوسيين، إنه تصور لا يبدو متسقاً للوهلة الأولى، ولكن استراتيجيات المصلحة والمنافحة تستطيع بسهولة أن تذيب الحدود القومية والدينية في كل واحد، وباستطاعتنا أن نلجأ إلى شواهد تاريخية عديدة.
لكن إذا أقمنا تصوراً كهذا على هذه القاعدة سيكون أيضاً بإمكاننا أن نمنح العولمة باعتبارها تغريباً للعالم إمكانية كبيرة للمرور وإحراز نقاط إضافية باسم التاريخ والمستقبل!
نتقدم إذن بين قراءات متعارضة ومتعادلة تقريباً، نستطيع أن ننظر إلى آليات عولمة الأمم والدول باعتبارها جاذبة وقادرة على الاستمرار في إنجاح مشروعها، إلا أننا لا نستطيع أن نهمل الوجه الآخر الذي تصبح فيه العولمة طاردة وآيلة للتعثر بفعل ما تنطوي عليه من إزاحة لهويات الآخرين ومن تحقير لإسهاماتهم، وبفعل ما يبدو أنها تؤدي إليه من إحلال لنمط واحد على حساب أنماط متعددة، وتقديس لفكرة واحدة على حساب شطب مجمل الأفكار التي شكّلت حتى الآن تراثاً للإنسانية ورصيداً لها.
***
نتعاطى إذن أطروحتين متقابلتين، حاسمتين في متطلباتهما، وفي اشتغالهما الصاخب كنقيضين. كما تبدوان مقبلتين على جدل لا يتصاعد بغير النـزوع إلى التدمير، وبالأحرى تدمير كل منهما لذاتها، دون التفكير في تحقيق توليفة، التوليفة المستحيلة هذه المرة، إنهما تحجمان كل مرة عن اتخاذ خطوة أخيرة، بينما يتقدم تواتر (تبادل للتوتر) فعال وضروري لاستمرار اللعب. العولمة وما بعد العولمة (الصيغة المدّعاة للعالمية أو للعولمة المضادة) ستتعايشان لفترة غير قصيرة، وسوف تحلاّن نموذج الحداثة وما بعد الحداثة (الصيغة الكاوسية للتقدم في الزمن أو الحداثة المضادة!)، متوفرتين معاً، وفي كل مكان من العالم، وفي الوقت نفسه، على أسباب الاشتغال كفضائين متجاورين، منتظمين في انفصالهما وإقامة الحدود بينهما؛ ومع ذلك متماسين ومتقايضين، تفرض عليهما آليات التبادل المادي وممارسة العالم المشترك أن يتصلا في صيغة "حاجة-إشباع" كما أنهما قادرين على أن يتمانعا باستعادة الخصوصيات القومية للذات كلما جاء الأمر إلى إبراز السيماء الثقافي وتحرير الصوت الخاص في تأويل العالم.
هكذا يصنع النموذجان تاريخاً واحداً مشتركاً للعالم. لكن ما هو العالم هنا؟ إنه فضاء التبادل والتمانع الضروري للاستمرار، يجري فيه خَفْض اسم التاريخ لأن الإدعاء الحاسم بالنسبة للطرفين هو الحضور والفاعلية: الراهنية. إن عالمين يُكتب تاريخهما، وبينما يتجادلان ويستمر توترهما سيصنعان ويغذيان السياقات التراكمية لتاريخ افتراضي يُستعاد فيه نسج الثنائيات القديمة المتناسلة (الكوني/ الأممي، الفردي/ الجماعي، الموضوعي/ الذاتي، الآخر/ الذات، الطبيعة/ الثقافة، العقيدة/ التاريخ، الداخل/ الخارج، ...) كانط ملقًى به، هذه المرة "إلى قلب المجهول للعثور على جديد"(*) وليس هيغل. الجديد الذي لن يتم تحيينه، لأننا نظل مشدودين إلى الأبعد محققين فقط رجاءنا بلوغ النهاية دون أن نعرف ما هي.
نعم، لم يعد العالم مقلوباً، صار متقلّباً، وإذا تذكرنا الجدل فإن وضعاً آخر صار يتخذه، لقد أصبح فوهة سوداء، الفوهة السوداء التي تستطيع أن تمتص الضربات المتوالية من الداخل، بينما يستمر العالم في تقلّبه دون أن يتوقف عن ذلك، ودون أن يملك الجميع إلا التمسك به جيداً. إن ذلك يحدث كإمكانية يتيمة، فالعالم الذي يتقلّب ما زال حتى الآن عالمنا الوحيد.

(*) الجملة الأخيرة في قصيدة "الرحلة" لبودلير (*)



#عبدالمنعم_المحجوب (هاشتاغ)       Monem_Mahjoub#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مشتبه به بقتل فتاة يجتاز اختبار الكذب بقضية باردة.. والحمض ا ...
- في ظل استمرار الحرب والحصار، الشتاء يضاعف معاناة نازحي غزة و ...
- قصف إسرائيلي عنيف يزلزل الضاحية الجنوبية لبيروت
- صدمة في رومانيا.. مؤيد لروسيا ومنتقد للناتو يتصدر الانتخابات ...
- البيت الابيض: لا تطور يمكن الحديث عنه في اتصالات وقف النار ب ...
- نائب رئيس البرلمان اللبناني: لا توجد عقبات جدية تحول دون بدء ...
- استخدمت -القرود- للتعبير عن السود.. حملة توعوية تثير جدلا في ...
- -بيروت تقابلها تل أبيب-.. مغردون يتفاعلون مع معادلة حزب الله ...
- مشاهد للجيش الإسرائيلي تظهر ضراوة القتال مع المقاومة بجباليا ...
- ماذا وراء المعارك الضارية في الخيام بين حزب الله وإسرائيل؟


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبدالمنعم المحجوب - ممارسة عالَمَين