|
أخبار الهدهد... وجذوة الشعر المتقدة
جمال البستاني
الحوار المتمدن-العدد: 2841 - 2009 / 11 / 27 - 18:46
المحور:
الادب والفن
قراءة في مجموعة الشاعر وديع شامخ " ما يقوله التاج للهدهد"
جمال البستاني – سدني
إن تجربة الشاعر العراقي وديع شامخ لم تنشأ من فراغ، بل جاءت من خلال سعي حثيث وتجريب وتنقيب عن جوهر الشعر العميق . ولا أغالي اذا قلت ان " وديعا" تميز عن الكثير من أقرانه بخاصية تحسب له، وهي انه لم يمتثل لشروط الاغتراب المكاني عن لحظته الشعرية ، بل ظل متمسكا بجمرة الشعر، إنه شاعر الجذوة المتقدة التي لم تنطفيء أبدا ، ذلك قدره وهو ،كما يبدو،سعيد بذلك. دعوني الآن أدخل عالم وديع شامخ الشعري، بدءا من العنوان نبدأ بالتساؤل، لماذا أطلق ذلك العنوان المفارق والغريب وهو " ما يقوله التاج للهدهد"؟، انه عنوان مثير وفيه من الايحاء الكثير . لم يكن اعتباطا أو وليد رغبة عابرة في صناعة عنوان جاذب وصادم معا ، بدليل انه لم يقل " مايقوله الهدهد للتاج" وهو ما نعرفه عن الهدهد في الميثيولوجيا والتاريخ بأنه طائر موكول له وحده بمهمة التجسس والإخبار، أما التاج فهو رمز " السلطة" والقهر . الهدهد هنا مغلوب على إمره بل لا أمر له ليغلب عليه.، فالعنوان إذن مقصود تماما من قبل الشاعر، وتلك قصدية معرفية تنم عن وعي الشاعر بالتاريخ وتقلبات الزمن . هناك ارتباط وعلاقة زمانية ومكانية بين لحظة الشاعر العابرة وبين تاريخ يدينة الشاعر بقوة ليس عبر تدوينه، بل مساءلته بأدوات شعرية وبوعي لتاريخ الألم الممزوج بالمرارة والحسرة وهناك تربص وإدانة لأخطاء التاريخ ، ان في ذهن الشاعر تساؤلات فلسفية عميقة ،، لا يعطينا جوابا لها بل يتركنا نبحث عن سر وجودنا ، انه يضعنا في دوامة ذلك السؤال الكبير والعميق عن الوجود الانساني . الشاعر وديع يضعنا في حقله الواسع الاخضر ولكن بسوداوية !! كيف تسنى له ذلك؟؟ انها الموهبة الشعرية المعجونة بالرؤيا العميقة والوعي بجوهر الشعر الحقيقي لا غير . وهنا نرى الحكمة الشعرية الذي تتضح في المقطع التالي من نص " نور في نهاية النفق ص12" لا تشرح للقملة سر المبيدات أشرب صباحك وترا للابدية لا تجعل وظيفة أصابعكَ أشارة للنهاية التقاويم تمطر رأسها لسلّة اليوم لاتدع النهارات تسكب قيلولتها على الرؤيا ................... الملاحظة التي يخرج منها القاريء لمجموعة" ما يقوله التاج للهدهد" ، هي أن الشاعر لم يتقولب في مناخ واحد كما في مجاميع كثيرة لشعراء اخرين ، بل انه يمتلك تنوعا في التكنيك والموضوعات ، وقصائده َسلِسلة جدا وتذكرني بقصائد الشاعر الفرنسي الكبير " جاك بريفير" لنلاحظ نص " كرنفال ص54" لقد تعرت الموسيقى ماذا تريدين من شحاذ اللذة ؟ التوبة في قوس والرب لا يمطر مرتين. تعرّي ايتها الرغبة الآتية ، وأنا أتكاثف على الزجاج وأمطر ، منتظرا مجيئك في زحمة الكرنفال. ............... وظيفة الشعر
السؤال هنا .. هل ان للشعر وظيفة أخرى؟؟ نعم . لقد اوجد وديع شامخ وظيفة أخرة للشعر وهي ان ننصت بكل حواسنا وبعمق وان نفكر ، ونعيد حساباتنا تجاه الكون والوجود والمصير الانساني برمته . إن الشعر لديه صعقة ولكنها صعقة غير قاتلة ، بل صعقة لذيذة تعيدنا الى بداية السؤال دائما ، كما نرى في النص المعنون" غابة الشوك .. او لمن افتح بابي ..ص45" لم يعد لديّ متسع لإنفاق أحلامي على قارعة الحياة . مضيت.. الى مجاهل روحي ، اتسكع بها . أخرج بيضة السؤال من دجاجة العقل ... الى أين امضي انا المقذوف بصرخة الى الحياة أنا الحيمن السائر سريعا الى نصف قبره! بذا يكون وديع شامخ قد امتلك رؤيا شعرية ناضجة ، وادوات عالية الاتقان والمهارة .. وهذا يعني وجود مخيلة خصبة ووعي حاد ومجسات مرهفة تلتقط مايدور حولنا بدقة من أحداث ووقائع .. ان الشاعر يضعنا في لحظة التاريخ المرّ دون جغرافية محددة . قد نكون معه أو ضده فيما يدونه من اخبار تاجه والهدهد لكننا نشعر دائما بلذة الشعر وانطلاقه . انه شاعر الانعتاق من قوالب ومحددات الشعر . في نص " حدائق الحياة.. 86" أشدو وتصمت الببغاء الريش لا يسع القفص القفص يعني أنك لا زلت تغني الغناء لا صنو له ثمة حياة هناك لابد من السير اليها بأقدام حافية من القرون والببغاوات ! ......... الشاعر وأسئلة الوجود والألم
هناك تردد لوجع أبدي، لكن الشاعر هارب بأسلئته التي يبثها علينا دون أجابة ويتركنا في حيرة مع اسئلته المثيرة والتي تحمل في طياتها الشفافية المفرطة في العمق. هكذا يتم التساؤل في نص " اي جنون ص87 ".. أن تركب حمار اليقظة للوصول الى معنى الحلم أن تصبح واعظا للحمقى أن تقف في الطابور لقضاء ذات الحاجة الطمأنينة ماخورة واليقين قبعة ، عرق الجبين لا يعني حسن المساجلة . الندم الرخيص يعلّق يومه على شماعة الجبين البليل. يمطر الندم ويرغي ، طوافانات من الثغاء على الرقاع الأول .. الذي ينعم بطمأنيته خالصة.. عند وديع شامخ هناك سفر من الوجع والذكريات الموجعة في آن واحد ، إذ ان وعي الشاعر يحيلنا الى منظقة الوجود ، وجودنا نحن . أنه خطاب للآخر الذي يسمع دواخلنا ويفكر عنا ، نحن المسكونون بالألم ، انه الهاجس الجمعي والسؤال الذي يبثه الشاعر بقوة في نصه " خارج النفق.. ص8" بين الرأس والجسد والقلب ، لابد من فضّ الاشتباك.. من ْ يسأل وردة الليلك عن سوادها ؟؟ من يُوقظ زهرة الصباح؟ أيام رأسي تتكوم على متاهة الجسد. .....هكذا يبوح الشاعر دون تزييف او تملق ، حتى ترى ملكوت الشعر لديه لا يتأتى من خلال اللعب بالكلمات أو الفلذلكات الاسلوبية التي شاعت في الشعر الحديث وخصوصا في قصيدة النثر ، ان الشاعر يمتلك اسلوبا شعريا ناضج فكريا ، طارحا من خلال نصوصة رؤية واسئلة جدلية حول مصيرنا " كبشر " في العالم ، انه يتمثل الوجدان الانساني عامة، وكأنه يحمل عنّا أثقالا مهوله .. يالها من أحمالا ثقيلة ، ويالها من لذة حين يدوّن اسراره وأسرارنا في نص " المهلكات يطرقن الباب .. ص 57" هذا الباب لا يحفظ سرا كان ريحا ، تناهبته الوشاية .. كان صوفا أدركه نول الساحرات . كان حجرا .. فباتت الأصنام على خلوته ، صار خشبا ، فأينعت مطارق النحاس على كوابيسه .. أين يذهب الباب والملوك يصنعون رعاياه. ................. تجربة ناصعة الجبين
أخيرا ربما لا يعرف الكثير من القراء الظروف التي أحاطت بتجربة الشاعر وديع شامخ ، فقد شهد الشاعر الحروب الطاحنة التي جثمت على صدر العراقيين منذ الثمانينات ، والتي تسببت في تشتيت المبدعين في جبهات القتال وفي حرب قذرة ودون معنى ، ومنها رعونة احتلال الكويت وفترة التسعينات وحصارها ، لقد كان وديع شامخ واعيا لمغريات اللعبة ، لذا ابتعد عن بيع ضميره للطاغية وكان شاهدا وضحية ، مبتعدا ومهمشما بقصد عن لعبة المؤسسات الثقافية والاعلامية " انذاك" وعلى عكس الكثيرين من الذين باعوا أنفسهم للشيطان والذين قايضوا الحياة تحت معاطف الديكتاتور مقابل نصوص صفراء لوثت الحقل الثقافي العراقي وشوهت ذائقة الانسان الجمالية . وكان وديع شامخ أمينا على تجربتة ،يصغي الى نداء روحه مع دويّ المدافع والموت اليومي المجاني ، يطوّرها بدأب وصبر وثقة مسنودة بموهبة ووعي حادين، حتى كان له ما أراد من خلال ما نشره من إبداع شعري ونقدي في حقل الأدب والسياسية والتاريخ وحيثما سمحت له الظروف الجديدة قبل وبعد سقوط النظام الديكتاتوري في العراق . فقد كان حصاده : نشر مجاميعه " سائرا بتمائمي صوب العرش، البصرة 1995" ودفتر الماء ، بغداد 2000، ومايقوله التاج للهدهد ، دمشق 2008، وكل هذه المجموعات طبعت على نفقة الشاعر ودون دعم او مباركة من مؤسسة رسمية ، هذا غير الدراسات والمقالات في حقول الادب والتاريخ والسياسة التي نشرت في معظم الدوريات والصحف والمجلات العراقية والعربية، وهو الآن يعيش في استراليا في ولاية سدني و يستعد لإصدار مجموعته الشعرية الجديدة " مراتب الوهم " وروايته المخطوطة منذ عام 2004" العودة الى البيت ".
#جمال_البستاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
حماس تدعو لترجمة القرارات الأممية إلى خطوات تنهي الاحتلال وت
...
-
محكمة برازيلية تتهم المغنية البريطانية أديل بسرقة أغنية
-
نور الدين هواري: مستقبل واعد للذكاء الاصطناعي باللغة العربية
...
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|