|
الصحافة و التحريض بصدد الكرة بين مصر و الجزائر
أحمد عصيد
الحوار المتمدن-العدد: 2839 - 2009 / 11 / 25 - 21:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تبين من تبعات ما جرى بين مصر و الجزائر من وقائع هزلية و أحداث مضحكة أمران اثنان: ـ الأول قدرة الحكام و السلطات على استغفال شعوبهم و تخديرها إلى الحدّ الذي يستطيعون معه التحكم في عواطف الجماهير و توجيهها الوجهة التي تضمن انصراف الناس عن الإنشغال بأوضاع البلد. ـ و الثاني القدرة العجيبة لوسائل الإعلام على الإنخراط في هذه اللعبة غير النظيفة و التلاعب بعواطف الناس إلى حدّ التهييج الخطير الذي يحول مواطنين متمدّنين إلى حشود بدائية. و الطريف أنه خلال هذا كله صدرت عن الأطراف المتناحرة مواقف و ملفوظات كشفت عن الكثير من المكبوتات السياسية التي كانت تغيبها عادة التعابير الخشبية و المجاملات الباردة، فبعد الإعتداء الشنيع للمصريين على الفريق الجزائري الذي عومل بمصر كما دعت إلى ذلك صحافة "أم الدنيا" أي كفريق من "يهود إسرائيل" اللعب معه كمثل "الجهاد" ضدّ الصهاينة، سأل أحد الصحفيين الغربيين لاعبا جزائريا كيف يفسر هذا السلوك العنيف رغم أنّ المصريين "إخوان" للجزائريين، أجاب اللاعب الجزائري بالفرنسية مستنكرا : " إخوة ؟ هؤلاء همج متوحشون لا علاقة لنا بهم !". و هو ما ردّ عليه المصريون بعد مباراة الحسم بالسودان و التي تلتها أحداث لا تقل توحشا عما جرى بمصر بنعت الجزائريين بـ "البرابرة المتوحشين" . لقد اشتغلت طاحونة الإعلام المصرية بشكل جهنمي لإعداد الجمهور المصري للمباراة ضدّ الجزائر، أدّت إلى تصوير هذه المباراة كما لو أنها مسألة حياة أو موت لمصر، و كما لو أنها البوابة السحرية التي ستحرر المصريين من كلّ أعبائهم و تدخلهم الجنّة، و لم تطأ أقدام الفريق الجزائري أرض الكنانة إلا و قد صار بانتظارهم جمهور لا يتلهف فقط إلى رؤية هزيمتهم في الكرة، بل و قبل ذلك إلى التمتع بمرأى دمائهم تسيل قبل المباراة. و معلوم أن بلدا نخرته الوهابية المتطرفة حتى النخاع، و يحكمه نظام عسكري يراهن على استعمال الدين في السياسة بهدف التخدير، لا يمكن أن يغفل إقحام الدين في الكرة، فإذا كانت الكرة تفترض رابحا و خاسرا، فمن المؤكد حسب التعاليم الوهابية أن الله سيكون مع من يذكره أكثر و بشكل يومي، و لهذا كان شعار المباراة الحاسمة بين مصر و الجزائر هو "أدعوا لمصر ! " الشعار المرفق بصور صوامع المساجد و مشاهد المصلين الرافعين أكفهم إلى السماء، حتى أن المرء من خارج الأوساط المصرية ليتساءل هل يتعلق الأمر فعلا بمباراة في الكرة أم بطقس من الطقوس الدينية كالحجّ أو رمضان . و الغريب أن المصريين ـ و قد انهزموا في الكرة ـ لم يشعروا قط بأن إلاه الوهابية الذي تضرعوا إليه قد تخلّى عنهم، أو على الأقل تساءلوا عن مقدار مردودية الدعاء و الإبتهال في أمور ككرة القدم. في الجانب الآخر بالجزائر تزايدت النقمة على "الفراعنة" بعد الإعتداء الذي تمّ ضدّ لاعبيهم، و برز على وجه الخصوص موقف اللاعبين القبايليين الأمازيغ الذين يمثلون أغلبية الفريق الجزائري، و الذين أذكوا على الانترنيت حربا حامية الوطيس لخصها الفنان و السياسي القبايلي فرحات مهني في القول: شكرا للكرة التي فصلتنا عن "الأمة العربية" الواحدة الممتدة من المحيط إلى الخليج، و التي جعلت المشارقة يعترفون بأننا "بربر" . و هي الخلاصة التي تداركها الرئيس الجزائري في رسالته الخشبية التي ذكّر فيها بـ"الأخوّة العربية" و التاريخ المشترك. أما النظام المصري موطن الداء الحقيقي بالنسبة لمصر و المصريين، فيبدو مما جرى أنه كان قد أعدّ سيناريوهين اثنين، واحد بعد الفوز و الآخر في حال الهزيمة، سيناريو الفوز يعمل على تحويل انتصار في الكرة إلى مجد للنظام الحاكم، حيث يكون الجمهور في فورة الحماس و الفرح مستعدا لقبول كل شعارات السلطة و معانقتها بحرارة و نسيان الماضي الأليم و لو لبعض الوقت، أما سيناريو الهزيمة فيتمثل في تحويل أنظار الناس الساخطين نحو البلد الفائز و تحويله إلى شيطان و صبّ كل النقمة و كل اللعنات على رأسه، لأن نقمة الجمهور لا ينبغي بأي حال أن تنقلب على السلطة أو المسؤولين. و هنا نشطت مرة أخرى و بشكل هستيري الآلة الإعلامية المصرية المشكلة من ترسانة ضخمة من القنوات و الصحف التي تواطأت جميعها على خطاب واحد : ما جرى خطير جدا و ينبغي الإنتقام للمصريين بقطع العلاقات مع الجزائر. و تناسلت العبارات العجائبية من مثل "مصر هي الأخت الكبرى لكل الدول العربية و لا تستحق ذلك" و مثل :" كيف يمكن بعد هذا أن يكون هناك تضامن عربي أو أخوة عربية ؟" و مثل: " مصر هي التي حررت الجزائر من الإستعمار كما حررت كل الدول العربية، و هذا هو جزاؤها " إلخ إلخ... لم يعد أحد يتحدث في مصر عن الكرة، و لا عن مدى قوة أو ضعف الفريق المصري، و لا عن سياسة الدولة في المجال الكروي، أصبح ثمة موضوع واحد لا غير : ضرورة إرضاء المصريين باتخاذ قرار سياسي مباشر و حاسم لمعاقبة الجزائر، كل الجزائر شعبا و دولة، انتقاما لمصر العريقة، الأخت الكبرى، و صونا لكرامتها. لم يتحدث المصريون عن السلوكات المخجلة التي صدرت عن الجمهور المصري قبل مباراة الذهاب، و التي هي سبب كل الوقائع التي حدثت بعد ذلك، و هو ما يعني ضمنيا بأن المصريين لم يعترفوا بخطئهم، و أنهم على استعداد لتكراره، كما ظهر من كل هذه الوقائع مقدار تخلف "الأخت الكبرى" و "أم الدنيا" عن ركب القيم العصرية، و مدى إغراقها في قيم القرون الوسطى، قيم الثأر و الدعاء و الرجم بالحجارة، و ظهر أيضا و بالملموس مقدار الخطر الذي تشكله الصحافة في بلد متخلف على عقول الناس، عندما تجعل وظيفتها الرئيسية هي التحريض و التهييج. و قد كان لنا بالمغرب مثال حي في جريدة اختارت نهج التحريض و التهييج، و هي تظن بأنها ستبيع نسخا أكثر، و انتهى الأمر بتجمهر العامة أمام بيت مواطن من المثليين بالقصر الكبير و رشقه بالحجارة بشكل مثّل إهانة حقيقية للمغرب الذي تتطلع قواه الحية إلى الإنتماء إلى العصر، بينما هناك من يحلم بإعادته إلى عصور الهمجية الأولى باسم حراسة القيم و حماية الثوابت و التقاليد. يدلّ هذا على أن المغاربة أيضا ملزمون بالبتّ في موضوع الصحافة و التحريض، في إطار تعميق الوعي بأخلاقيات المهنة، و التمييز بين حرية الصحافة، التي هي حق مبدئي، و بين مسؤولية المنابر الإعلامية التي قد تحول سلطتها إلى وباء فتاك.
#أحمد_عصيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مزيدا من المساجد للفقراء و المهمشين
-
الحرية للصحف قبل المسؤولية
-
القذافي و الأمازيغ
-
هل الرابطة الدينية هي أساس الوحدة بين المغاربة ؟
-
هل المغاربة -كلهم مسلمون- ؟
-
رمضان عقيدة دينية أم قرار للدولة ؟ في مغزى رسالة زينب و من م
...
-
-أخلاق- رمضان
-
العنصرية بين العرب و إسرائيل
-
أزمة الثقة في المؤسسات
-
مهازل الخلط بين العلم و الدين
-
حول ما سمّي -الظهير البربري- في الكتاب المدرسي، على هامش الح
...
-
ملاحظات حول الكتاب الأخير لمرشد جماعة العدل و الإحسان
-
عودة إلى موضوع التنصير و الأسلمة
-
الإنفجار الديمغرافي الإسلامي في مواجهة تقدم الغرب: آخر ابتكا
...
-
التبشير المسيحي و التبشير الإسلامي
-
ملاحظات حول مفهوم -الأمن الروحي للمغاربة-
-
عنصرية إسرائيل بين عصا البشير و عمامة نجاد
-
مظاهر الميز ضد الأمازيغ و السود و اليهود بالمغرب إلى الوزير
...
-
نداء من أجل الحرية
-
أبعاد التواطؤ بين الإسلاميين و السلطة
المزيد.....
-
سوريا.. فيديو حراسة موكب أمير قطر بدمشق ولقطة مع أحمد الشرع
...
-
-سيفعلان ذلك-.. تصريح جديد لترامب عن مصر والأردن وخطة استقبا
...
-
الحوثيون على قائمة الإرهاب: ماذا يعني ذلك لليمن؟
-
بعد الدمار.. نازحون فلسطينيون يعودون إلى شمال غزة وينصبون خ
...
-
تحذير لمكاتب الكونغرس الأمريكي بعدم استخدام تطبيق -ديب سيك-
...
-
اليونان.. قرار بإزالة طوابق فندقية مخالفة قرب معبد الأكروبول
...
-
الصليب الأحمر يدعو إلى عمليات نقل -آمنة وكريمة- للرهائن
-
قنبلة نووية في متناول اليد!
-
السعودية.. فيديو يشعل تفاعلا لشخص وما فعله بمكان عام والأمن
...
-
-بلومبيرغ-: شركات العملات المشفرة تبرعت بملايين الدولارات لح
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|