|
رياضة بروح سياسية.. وسياسة بروح رياضية!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2836 - 2009 / 11 / 21 - 11:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بعضٌ من الحضارة يمكن ويجب أن نراه حتى في السياسة التي أخفقت كل "الجهود والمساعي الإنسانية والأخلاقية" في تحرير المشتغلين بها، ولو قليلاً، من الميكيافيلية في مبدئها الأوَّل، مبدأ "الغاية تبرِّر الوسيلة"، وفي إعادة بناء عالم السياسة بما يوافِق المبدأ المضاد، مبدأ "الغاية تحدِّد وتقرِّر الوسيلة".
وفي عالمنا العربي، نبدى دائماً ميلاً قوياً إلى "تسييس" ما لا يمت بصلة إلى السياسة؛ وهذا يكفي دليلاً على افتقارنا إلى الحضارة في عالمنا السياسي.
"كرة القدم" هي لعبة؛ و"مفاوضاتنا السياسية" مع إسرائيل، والتي تسمَّى مفاوضات للسلام، هي، في بعضٍ من معانيها، لعبة أيضاً؛ ولكن شتَّان ما بين لاعبنا الرياضي ولاعبنا السياسي، فلعبة كلعبة كرة القدم بين مصر والجزائر خاضها الطرفان في "روح سياسية"؛ أمَّا تفاوضنا السياسي مع إسرائيل والمُفْعَم بمعاني الإذلال لنا ولمفاوضينا فنخوضه في "روح رياضية"، تحلَّيْنا بها حتى عند تعرُّضنا لاعتداءات إسرائيلية عسكرية وغير عسكرية.
ذات مرَّة، كتبتُ عن "التاريخ"، من الوجهة الفلسفية، فقلت إنَّنا، وفي كثير من أحداث التاريخ ومنعطفاته وتطوُّراته الكبيرة والمهمة، نرى عادةً الماضي يَحْضُر في الحاضر.. حتى الموتى، مع كثير من الأشياء التي ماتت، وشبعت موتاً، يُسْتَحْضرون، وكأنَّ حُكْم الأموات للأحياء، الذين يتوفَّرون على صُنْع الحدث التاريخي، لم ينتهِ بعد.. وكــأنَّ الحدث التاريخي، بمحتواه الواقعي الجديد كل الجدة، يحتاج إلى "شكلٍ" يَسْتَمِدُّ جمالاً (وجلالاً وهيبةً ووقاراً وقدسيةً) من "الماضي"، أي مِمَّا مضى واندثر وأصبح أثراً بعد عين؛ ولكنَّ "ظلاله"، من فكر، ولغة، وأزياء، وشعارات، لم تَفْقِد بعد نفوذها في عقول وأفئدة الأحياء، صُنَّاع الحدث التاريخي.
وعندما يُعْرَف "السبب"، أي عندما يُفسَّر هذا التناقض، يبطل "العجب"، فالبشر لا يستحضرون الماضي، أو أرواح الماضي، إلاَّ خدمةً لمقاصِد وأهداف الحاضر، أي خدمةً لمقاصدهم وأهدافهم. ومن أجل ذلك فحسب، نراهم يستعيرون من الماضي الأسماء، والشعارات القتالية، واللغة، والأزياء، فيبدأون العمل، أي عملهم التاريخي، وكأنَّهم يمثِّلون مسرحية على مسرح التاريخ، فهذا القائد الجديد نراه يرتدي رداء ذلك القائد القديم؛ وهذا الحدث الجديد نراه يلبس لبوس ذلك الحدث القديم، فيجتمع في العمل التاريخي الكبير "الخلق" و"التمثيل".
ذلك الحدث الرياضي في السودان، أي مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر، ليس، في حدِّ ذاته، بحدث ذي أهمية تاريخية؛ ولكنَّ مصالح سياسية فئوية ضيِّقة هي التي سعت في إلباسه لبوس الحدث التاريخي، فشحن نفوس الملايين من المصريين والجزائريين بعصبية تافهة حمقاء كريهة وبغيضة، انطلاقاً من تلك اللعبة الرياضية، يمكن أن يُكْسِب ذوي تلك المصالح "وزناً شعبياً"، يَعْجَزون عن اكتسابه من العلاقة الواقعية بينهم وبين شعوبهم.
ولقد عَرَفَت "السياسة" الكامنة في تلك "الرياضة" كيف تُلْبِس لعبة كرة القدم لبوس الحدث التاريخي العظيم، وكيف تستعير له من "الماضي"، ومن "الأموات"، الأسماء والشعارات القتالية، واللغة، والأزياء؛ فـ "الفراعنة" و"الفرعونية" و"داحس" و"الغبراء"، و"موتى آخرين"، حضروا إلى "الملعب"، وكأنَّ "مقاصِد الحاضر الحقيقية والواقعية"، أي مقاصِد "اللاعبين السياسيين" وليس "اللاعبين الرياضيين"، لا تُخْدَم على خير وجه إلاَّ بهذا الماضي المُسْتعار.
بقانون "تداعي المعاني"، تذكَّرْتُ حادثة قديمة لا تقل أهمية، فعندما احتلت الولايات المتحدة العراق جابت عربات عسكرية لـ "المارينز" المناطق الشيعية في بغداد لتَبُثَّ عبر مكبرات الصوت "أناشيد وأغاني دينية شيعية"، تُصَوِّر "وقائع مأساة الإمام الحسين بن علي وآل بيته"؛ ثمَّ حضر بعض من "المارينز" جلسات استماع لأحاديث دينية شيعية، مدارها "التبشير بعصر ظهور المهدي المنتظَر الإمام الثاني عشر من أُمَّة آل البيت".
وقال قيادي في "كتلة الائتلاف العراقي الموحَّد" الشيعية إنَّ إدارة الرئيس بوش (والرئيس بوش على وجه الخصوص) تُبدي اهتماماً متزايداً بـ "عصر ظهور المهدي"، معرباً عن اعتقاده أنَّ الولايات المتحدة لديها "خوف حقيقي من هذا الظهور".
وقد قادته أوهامه تلك إلى أن يكتشف أنَّ "أحد أهم أسباب الوجود العسكري للولايات المتحدة في العراق هو أن تكون على مقربة من منطقة الكوفة التي سيتَّخذها المهدي عاصمة له عند ظهوره (الحتمي)".
ولإقامة الدليل على أنَّ هذا "الغباء"، الذي ليس بلا أجْرٍ، على ما نعتقد، يتعدَّاه إلى "مرجعية السيستاني"، قال إنَّ الروايات الدينية للمرجعيات الشيعية تُشير إلى أنَّ من أهم "علامات الظهور الوشيك للمهدي المنتظَر منذ مئات السنين" هذا "الظهور الشيعي في الحياة السياسية للعراق".
سننتظر ظهوره طويلاً؛ ولكن كمن ينتظر سقوط السماء على الأرض. وقد نُغيِّر "أناشيدنا وأغانينا" لِنُصَوِّر فيها "وقائع مأساة اختفاء العراق"، فالعراق سيصبح أثراً بعد عين من غير أن نرى عيناً ترى ظهور "المهدي المنتظَر"، فهذا المهدي (الذي عمره الآن 1200 سنة، والذي سيبقى في السرداب حتى يشبع العالم ظلماً وجوراً وفساداً) لن يَظْهَر في عصرنا، ولِمَ يَظْهَر، فنحن الذين عُدْنا إلى عصره؟!
إنَّنا أُمَّة تفضِّل العيش في السراديب، كل متاعها الفكري كتاب "بحار الأنوار" وأشباهه، لا تثق بنفسها أبداً، فتنتظر "مهديها" كما تنتظر الفتاة الشرقية فارس أحلامها مع حصانه الأبيض.. أُمَّة لا تعيش إلاَّ في الأوهام، وبالأوهام.
وغنيٌ عن البيان أنَّ الحاجة إلى الأوهام، وإلى ما تُنْتِجه من عصبيات تافهة حقيرة، لا يحتاج إليها إلاَّ كل من يحتاج إلى خداع نفسه، وإلى أنْ يخفي عن نفسه، وعن غيره، المحتوى الحقيقي للصراع، ويبقي حماسته على مقربة من الدرجة العليا للتراجيديا التاريخية العظيمة.
ونحن العرب، كلَّما تحدَّانا المستقبل أن نصبح له أبناء، ولمعركته جنوداً، رَجَعْنا القهقرى، بعقولنا وأفكارنا ومشاعرنا..؛ ولكن، إلى أين؟ إلى عصرٍ أصبح أثراً بعد عين، وكأن لا قوَّة يمكننا امتلاكها إلاَّ تلك المستمدَّة من الماضي وأمواته وأرواحه وأشباحه.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طاب الموت يا طابة!
-
-نعم- للقرار الدولي.. و-لا- لإعلان الدولة!
-
مسار -الدولة من طرف واحد-.. ماذا يعني؟
-
عندما يجوع البشر لوفرةٍ في الغذاء!
-
بعض من ملامح -البديل- الفلسطيني
-
ما هي -المادة-.. وكيف يُمْسَخ مفهومها ويُشوَّه؟
-
كيف تُدَجِّن شعباً؟
-
خرافة -الدولة- في عالمنا العربي!
-
-قرار عباس-.. كيف يمكن أن يوظَّف في خدمة الفلسطينيين؟
-
السَّفَر في الفضاء.. كيف يكون سَفَراً في الزمان؟
-
بلفور.. -الأسلمة- بعد -التعريب-؟!
-
الحُبُّ
-
90 في المئة!
-
خيار -السلام- أم خيار -اللا خيار-؟!
-
-بالون أوباما- إذ -نفَّسه- نتنياهو!
-
فساد شيراك..!
-
في التفسير الميثولوجي للتاريخ.. والسياسة!
-
في مديح وهجاء -وادي عربة-!
-
قيادات فضائية!
-
ما هي -الدولة-.. عربياً؟
المزيد.....
-
العثور على جثث 4 أطفال في الجزائر عليها آثار حروق
-
-إعصار القنبلة- يعصف بالساحل الشرقي لأمريكا مع فيضانات ورياح
...
-
في خطوة رائدة.. المغرب ينتج أول اختبار لفيروس جدري القردة في
...
-
أذربيجان تتهم الخارجية الأمريكية بالتدخل في شؤونها
-
ماكرون يسابق الزمن لتعيين رئيس للوزراء
-
نائب روسي ينتقد رفض زيلينسكي وقف إطلاق النار خلال أعياد المي
...
-
ماكرون يزور بولندا لبحث الأزمة الأوكرانية مع توسك
-
الحكومة الانتقالية في سوريا تعلن استئناف عمل المدارس والجامع
...
-
رئيس القيادة المركزية الأمريكية يزور لبنان للتفاوض على تنفيذ
...
-
جيم كاري في جزء ثالث من -سونيك القنفذ-.. هل عاد من أجل المال
...
المزيد.....
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
المزيد.....
|