|
الغزو الثقافي الصهيوني...وثقافة المقاومة
محمد بسام جودة
الحوار المتمدن-العدد: 860 - 2004 / 6 / 10 - 06:03
المحور:
القضية الفلسطينية
رغم حالة الجمود في عملية الهرولة المعلنة نحو التسريع في إقامة علاقات تطبيعية مع الكيان الصهيوني في مرحلة ما بعد استلام اليكود للسلطة في الكيان الصهيوني، وفي ظل الانتفاضة الشعبية العارمة والمجازر الوحشية اليومية التي ترتكبها قوات الاحتلال، وهو جمود نسبي حيث استمرت هذه العلاقات سراً في كثير من الحالات؛ فإن هذا الجمود العارض لا يلغي ما شهدته الأعوام السابقة من تسارع في إجراءات "التطبيع" مع العدو الصهيوني على أكثر من صعيد، وعلى امتداد الوطن العربي، ووصلت إجراءات "التطبيع" إلى أطراف الوطن العربي القصوى، وهو تطبيع سياسي تمثل في إقامة علاقات دبلوماسية (مكاتب الاتصال) واقتصادية عبر المشاركة في مؤتمرات اقتصادية إقليمية كمؤتمر عمان الاقتصادي ومؤتمر برشلونة المتوسطي، وتبادل تجاري كمشروع الغاز القطري، والمئات من المشروعات الأردنية الصهيونية، وتطبيع نفسي من خلال، تنشيط السياحة وإلغاء التخاطب بعبارة العدو في معظم وسائل الإعلام العربية الرسمية ، وتطبيع ثقافي عبر تعديل المناهج التربوية في الأردن والكويت وغيرها بحيث ألغيت منها ثقافة المقاومة وكل مظاهر العداء التاريخي بين العرب والصهاينة أو بين المسلمين واليهود، وأيضا تبادل في المجال العسكري عبر تعاون وتبادل خبراتي والقيام بتدريبات في هذا المجال بين الصهاينة وبعض الدول العربية والإسلامية . الملاحظة الأولى على هذه الإجراءات والمواقف: أنها في معظمها لا تنطوي على مصلحة للطرف العربي، كما أنها لم تأت نتيجة تطور طبيعي في العلاقات أو حتى خشية على مصالح آنية أو مستقبلية ولا حتى بتأثير الضغط والإكراه المادي أو المعنوي للعدو الصهيوني. إنما جاءت تحت تأثير الضغط الأمريكي المباشر أو غير المباشر. ما يؤكد أن معركة التطبيع مع العدو الصهيوني ليست معركة صهيونية/عربية وإنما هي معركة أمريكية وغربية في مواجهة العروبة والإسلام. وهو أمر يجري إغفاله عمداً لدى الكثير من النخب السياسية، والثقافية، ويتم عبره إغفال دور الولايات المتحدة الأمريكية في الصراع العربي/الصهيوني الذي يجري تحويله إلى مجرد نزاع قابل للتسوية عبر التفاوض، هذه السياسة التي تسمح بالانتقال الهادئ في عملية تحول الصراع إلى نزاع والنزاع إلى تسوية، من خلال عدم التصادم مع السياسة الأمريكية التي أصبحت قوة مهيمنة على العالم بشكل منفرد وعدم التصادم مع رموزها الداخلية في المنطقة من رجال حكم وأصحاب أعمال ومراكز تأثير وتوجيه إعلامي إلخ .. في مواجهة هذه الهجمة التطبيعية المبرمجة بإحكام وإتقان وتوزيع أدوار برزت المقاومة الشعبية في جزرها المتناثرة على جبهاتها المتعددة، وفي مقدمتها المقاومة الجهادية في جنوب لبنان، وداخل فلسطين المحتلة والعراق ، والصمود الشعبي والمواجه لعمليات "التطبيع" الاقتصادي والنفسي، والمقاومة المستمرة تحت الغطاء الثقافي، وهي مقاومة عفوية في معظم الأحيان، ويجري تمييعها في أحيان أخرى من خلال الدور المشبوه الذي تلعبه بعض القوى والشخصيات الوسطية التي تتسلح دائماً بعبارات الواقعية والقبول من الرأي العام الدولي وتجميع القوى على الحد الأدنى المشترك أي على أقل المواقف مقاومة ومعارضة؛ لقد تمكنت عمليات مقاومة العدو بكافة أشكالها وصيغها من منع تحول السلام الصهيوني إلى سلام دافئ وبقي هذا الاستسلام محاصراً بالكراهية والرفض الشعبيين، وهو رفض يجب تحصينه باستمرار حتى يمكنه أن يمتص هذه الهجمة التي تسجل المزيد من التقدم مع انهيار قلاع الصمود العربي الرسمي وانهيار مقاومة النظام الحاكم رغم إدراكه أنه في هذا الانهيار لن يخلق مبررات شرعية جديدة لاستمرار وجوده في السلطة بل على العكس تماماً إذ هو يتخلى عن بقايا تلك المشروعية على فرض وجودها. عملية التحصين المطلوبة تتطلب تعميق وتصليب ثقافة مقاومة وتجذيرها بين الجمهور - وسط عملية تشويه قصري وعنفي يتمثل بما يسمى بالحرب على "الإرهاب" - حتى تتقوى ردود فعله العفوية وتتمكن من مواجهة الهجمة "التطبيعية" وهنا يعود السؤال ليتكرر، عن ماهية الهجمة "التطبيعية" الدائرة رحاها على امتداد الوطن العربي؟ وهل هي حقاً هجمة ثقافية ونفسية أم أن جوهرها هو الصراع العسكري والاقتصادي، وهل مقاومة الغزو الصهيوني ثقافياً هي معركة وهمية يقودها مثقفون مترفون يبحثون عن دور في ظل غياب قسرى عن المشاركة السلطوية في النظام العربي الراهن؟ حتى يستقيم الجواب على هذا التساؤل نؤكد أن المقاومة الثقافية ليست هي نتاج الأعمال الأدبية وحدها كالقصة أو القصيدة أو المقالة، واللوحة الفنية، بل هي كل فعل يستند إلى منظومة فكرية، فالمقاومة المسلحة هي نتاج فكر جهادي، يعزز قيمة الوطن ويعلي قيم الحق والعدل والخير، والمقاومة الاقتصادية أيضاً تقوم في إحدى جوانبها على هذه القيم حين يقرر الفرد تحمل خسارة اقتصادية لمنع الربح عن خصمه إضافة إلى إعادة بناء مفهوم المصلحة ذاته بما يعزز قيماً ثقافية محددة تتجاوز المعيار المادي الكمي الآني، وحتى في مجال الإبداع الأدبي لا يستطيع أحد أن ينكر قيمة هذا الإبداع في تعزيز الجوانب المعنوية التي تعتبر عوامل هامة في إدارة الصراع وفي تحديد ومعرفة مكامن القوة المستخدمة لدى المتصارعين، من هنا كانت أهمية الشعراء في الحروب القديمة، وأهمية التحريض الإعلامي والتعبئة العقائدية والفكرية والسياسية في الحروب الحديثة. وهنا يمكننا أن نطرح تساؤلات مفادها أنه هل لهذا الواقع رصيده في المخزون الثقافي العربي؟ وهل الثقافة العربية ثقافة استسلامية؟ والجواب بالتأكيد أن الثقافة العربية نظراً لعمقها التاريخي وما مرت به من محطات تحمل الكثير من التناقضات أو التداخلات، حيث أن هناك أرضية لفكر استسلامي اتكالي يمكن التعبير عنه "بفكر الطاعة"، ونجد له أمثلة في الثقافة التاريخية، حيث "طاعة الحاكم الظالم والصبر عليه خير من الفتن". ونجد تعبيراته الشعبية في أمثلة على غرار "ألف راس ولا رأسي" و"بوس إيد الظالم وادعُ عليها بالقطع"، وهناك أيضاً فكر إسلامي ثوري حيث الحديث الشريف "خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وحيث يقول المثل "ما حدا بموت أكثر من موتة"، و"الجبان بموت ألف مرة، أما الشجاع فيموت مرة". إلا أن الثقافة الإسلامية بمجملها ثقافة مقاومة في ما يتعلق بالغزو الخارجي أو مقاومة المحتل والتي هي حق مشروع وواجب بالإجماع من أجل نهضة ثقافية مقاومة رغم المخزون الثقافي المقاوم في الثقافة الإسلامية العربية؛ فإن هذه الثقافة تعرضت لضغوط من خلال سيادة أنماط من التفكير العام التواكلي والسلبي، وتغليب النص على العقل والتي أدت إلى ازدواجية بين الفكر والممارسة، وخصوصاً في الظروف التي ينحاز فيها أولو الأمر إلى جانب العدو الخارجي، حيث يتم استخدام "ثقافة الطاعة" للحكام من أجل تمريرها وتطويعها في خدمة "طاعة العدو" .. وهو ما يستوجب تحرير الثقافة الرائجة من هذا الارتباط على الأقل، واعتبار "ثقافة الطاعة" هنا، التي لا تشكل إجماعاً ثقافياً، متعارضة مع ثقافة مقاومة العدو التي هي محل إجماع، وتغليب ثقافة المقاومة في هذا المجال وحصر الجدل حول ثقافة الطاعة في مجالها الداخلي مع إعادة صياغتها بحيث تتحول إلى ثقافة مقاومة سلمية في الداخل، ومقاومة باستعمال القوة بالنسبة للمحتل الخارجي .. وتعزيز النهضة الثقافية العربية الإسلامية كي تتمكن من مواجهة اختراقات العولمة الأمريكية الصهيونية من خلال سيادة العقل على النقل، وتدعيم دور الجماعة على حساب الفرد، دون سحق هوية هذا الفرد، وإعادة الاعتبار لمفهوم الأرض، والعمل على سد الاختراقات الثقافية التي تحاول إجهاض فكر المقاومة، في الوقت الذي يبدو فيه المجتمع داخل الكيان الصهيوني ليس موحدا وفق منظومة ثقافية موحدة ،كما يعتقد البعض فهناك العلمانيون والمتدينون ودعاة السلام والشرقيون والغربيون وفي مقدمة تلك الاختراقات مفهوما "الإرهاب" و"الانتحار"، إذ يتم توظيف هذين المفهومين في مواجهة المقاومة المسلحة، والعمليات الاستشهادية على حساب الموروث الثقافي الذي يعلي من شأن المقاومة وإرهاب العدو، ومن قيمة الاستشهاد في مواجهته، إذ يعتبر الاستشهاد أحد هدفي المقاتلين: النصر أو الشهادة. إن الثقافة العربية تضعها التحديات الراهنة في مواجهة العديد من الجبهات والأصعدة التي لا بد أن تخوضها وفق مقاييس جديدة تحقق صمودها ، ولأن المثقف العربي عرف في السنوات الماضية وضعاً مزرياً أرسته أزمات فكرية لها أكثر من دافع ،كل ذلك يفتح المجال أمام استعراض مستلزمات لابد من توفيرها ودراسات لابد من وضعها ، ففي الوقت الذي نحاول أن نرسم فيه خطوط حرية ثقافتنا الفلسطينية ، ونقاوم من اجل نيل السلام والحرية يصطدم ذلك بممارسات الاحتلال الإسرائيلي ، الذي يعيث فسادا في حضارتنا و يعيث بمستقبلنا ، تحت ما يسمي بثقافة السلام أو الحرب علي الإرهاب التي تمضغ تقاليدنا وعاداتنا وأخلاقنا ، بأضراس الحرب العنصرية البشعة . وهنا لابد من التأكيد علي ضرورة وأهمية خلق وإبداع خطاب فكري وثقافي عربي نوعي يتلاءم والمعطيات الراهنة ، يكون قادر علي توجيه موازين القوي ويسهم في رسم وتحديد فعالية وتأثير المثقف العربي . خطاب ثقافي يستحضر بقاءه ويستمد قوامه من الحاضر ، إذ نملك حينها القدرة العربية علي استقصاء صورة المستقبل وتحقيق أهدافه الثقافية والحضارية ، التي من شانها أن تساهم بشكل كبير في الحفاظ علي الموروث الثقافي العربي والإسلامي وتقوي من ثقافة مقاومتنا وتعزيزها لصد كافة محاولات الغزو الثقافي الصهيوني الذي يحاول الاستيلاء علي كل ما له علاقة بهويتنا وثقافتنا. .
#محمد_بسام_جودة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من رفح الشامخة إلى قمة الخجل والذل العربي!!!
-
أزمة الثقافة العربية وتحدياتها في ظل الهيمنة الغربية
-
إشكاليات الثقافة العربية المعاصرة وآفاق المستقبل
-
من الجدار إلى الانسحاب من غزة ماذا يخطط شارون!!! كي لا نلدغ
...
-
صفعة مزدوجة من الليكود لشارون وبوش !!!
المزيد.....
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
-
عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|