جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2824 - 2009 / 11 / 9 - 08:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الإنسان يكون صادقاً مع نفسه ومع الناس ليس عندما يقسم ويحلف على الكتب المقدسة وليس حين يقسم بخالقه ففي أغلب الأحيان يكون كاذباً ولكن أصدق المشاعر التي تخرج من الإنسان هي تلك التي تطلع من جوانبه في ساعات الذروة , هنالك لحظات تزورنا جميعنا نقول فيها الكلمة الصادقة وبمجرد أن تغيب عنا تلك اللحظة نعود للكذب على أنفسنا وعلى غيرنا وخصوصاً على من نحب.
أحياناً نقول الحقيقة دون أن يسألنا أحد عنها أو دون أن نقسم ودون أن نحلف بالأعزاء علينا , تلك هي لحظة الذروة حيث نستعيد فيها نشاطنا ونصبح فيها أكثر اطمئناناً لغيرنا وأكثر أماناً من غيرنا على أنفسنا .
أحياناً يشعرُ الإنسان بالخوف من الآخرين على نفسه ونادراً ما يشعر الإنسان بالاطمئنان من غيره إلا في ساعات الذروة .
حتى أن النفس البشرية تصفى وتهدأ وتعود مستقرة مرتاحة البال صافية الذهن بدون أي سبب وحين نبحث عن السبب نجد أن السبب هو زيارة لحظات وساعات الذروة لقلوبنا ورؤوسنا .
لا شيء من الممكن أن يجعلني سعيداً لا الخمر ولا الجنس , إنها فقط لحظات الذروة أكون فيها صادق المشاعر والأحاسيس وتجدني أكتبُ لمن أحب لأعبر عن صدق حبي وبعد أن تذهب تلك اللحظة أعودُ فيها للكذب عليه وعلى نفسي وعلى جيراني وأهل حارتي وعلى كل شخص ألقاه في الطريق .
حتى الإبتسامة التي أبتسمها للناس في الطريق لا تكون صادقة كما هي الابتسامة حين تخرج من فمي أقصد حين تخرجُ من قلبي وعيوني في لحظات الذروة , ففي لحظات الذروة حين أبتسم أبتسم من قلبي وحين أبكي أبكي من قلبي ومن كل جوانبي , إنني أكذب في غير ساعات الذروة.
هنالك في حياتنا أوقات نسميها (أوقات الذروة) متى تكون تلك الأوقات أو متى تأت لا أحد طبعاً يعرف , إنها لا تتمتع بمواعيد صادقة.
ويقال أن نجيب محفوظ كانت أوقات الذروة عنده في تمام الساعة (12) ليلاً كانت نجيب محفوظ يشعل ضوء مكتبه في الساعة الثانية عشر ليلاً وكان أهل الحي الذين بجواره يضبطون ساعات يدهم على ضوء مكتب نجيب محفوظ , وكانت كل أوقات ليله ونهاره ليست مهمة أو أنها كانت مهمة ولكن الأهم من ذلك كله هو الساعة ال 12 صباحاً.
إن بيننا وبين ما نحلمُ به مسافة خطوة واحدة نكونُ فيها قد أخذنا الجرأة في اتخاذ قراراتنا الصعبة في الحياة وخصوصاً فيما يتعلق بمستقبلنا وموقفنا من أمور تهمنا وتهم مستقبلنا , ولكن في أي وقت نأخذ تلك القرارات , طبعاً لا نعرف لأن ذلك يأت مع ساعات الذروة.
ولا أعني مستقبل الأجيال القادمة ولا أعني الأمور السياسية ولكنني أعني أمور أهم بكثير من العلاقات الدولية والسياسية والإقتصادية إنني بكل بساطة أعني أمورنا الشخصية .
إنني مثلاً أرغبُ في أن أعيش يوماً كاملاً من عُمري يساوي ملايين السنين إنني أعني أن أعيش لحظة تكون ساعة أو نصف ساعة أو حتى دقيقة أشبعُ فيها غريزتي الحيوانية وفطرتي الإنسانية , إنني مثلاً أشتاق في إحدى اللحظات لأن أتموج على جنبي الأيمن وأنا نائم كما يتموج السبّاحون في الماء أتعاركُ فيها مع النوم فيغلبني وأغلبه وأنتصر عليه ولو لمرة واحدة .
تلك اللحظات من عمر الإنسان يشعرُ فيها وكأنه ملك زمانه أو عصره أو حتى ملك يومه أو ملك الساعة التي هو فيها .
أنا الآن ملك اللحظة التي أنا فيها أمد يدي وأشبكُ أصابع أصابع كفي خلف رأسي وأمدد أرجلي وآخذُ نفساً عميقاً أخرجه من فمي وأنفي وأشعر بعد ذلك أنني استرجعت نصف طاقتي التي فقدتها أثناء النهار .
إن حياة الإنسان مليئة بالصور الجميلة وبالذكريات العطرة والإنسان حيوان مبتسم ويحمل في قلبه دفتر مذكرات يستذكرُ فيه أيامه الحلوة والمرة وتجده فعلاً يبتسم للماضي الأليم أكثر من ابتسامه للحاضر السعيد أي أن الإنسان يبتسم للماضي أكثر من الحاضر والمستقبل , وهنالك ساعات أو أوقات تكون مدتها دقيقة واحدة يشعرُ الإنسان خلالها أنه أفضل وأسعد مخلوق أو أنه يكون في حالة رضا شديد عن نفسه , في ةتلك الدقيقة تغمره السعادة بحجم الفضاء الواسع وتذهب وتنفذ وتنتهي هذه اللحظة بسرعة البرق , ويكون الإنسان معلقاً في تلك اللحظة بين أشياءه المفضلة بين ما هو مهم وما هو أهم وما هو جميل وما هو أجمل .
أحياناً أجلس بيني وبين نفسي أسترجع الماضي وأجتره اجتراراً وأكون في أروع أوقاتي , أجدُ نفسي جالساً وشارداً مثل حكيم صيني يتأمل في اليوغا والكون شارد الذهن والبال وسارح الخيال أستجمع في ذلك الوقت كل قواي وأشعرُ أنني أخذت فترة نقاوة صحية دامت لأكثر من ساعة أو ساعتين وأحياناً لدقائق.
هنالك ما هو مهم في حياتنا وهنالك ما هو أهم من كل ذلك
وهنالك المهم وهنالك الأهم , وحيث يكون المهم هنا يكون الأهم هناك.
وهنالك في حياتنا ما هو جميل وهنالك في حياتنا ما هو أجمل وحين يكون الجميل معنا يكون الأجمل بعيداً عنّا , ولا نشعرُ بكل ذلك إلا في ساعات الذروة.
وهنالك ما هو رائع وهنالك ما هو أروع .
ولكن ليس هنالك صيغة تفضيل لكلمة مُحب .
هنالك أشياء من الممكن أن نبالغ فيها كما سبق وهنالك أشياء لا يمكن أن نبالغ فيها .
هنالك أيام جميلة مضت من حياتنا ولكن أجمل الأيام هي تلك التي لم تأت بعد.
وهنالك من يقول أن الأجمل هي تلك الأيام التي مضت , كما يحدث في غالبية حياة كل العرب, لأن الأيام القادمة تكون تعيسة جداً بعكس الدول المتقدمة التي يعيش المواطن فيها كل يوم أفضل من اليوم الفائت.
لاحظوا معي كيف الإنسان المنتعش والمتقدم اقتصادياً ونفسياً كيف به كل يوم يؤكد ويصر على أن الأيام القادمة أجل من الفائتة, وأن الذي يتراجع مثل الإنسان العربي تجده يقول ويصر على أن الأيام الماضية أجمل من الحاضرة والقادمة معاً؟
ومع كل ذلك تبقى أوقات الذروة أفضل الأوقات وأهكها وأجملها على الإطلاق.
والأيام التعيسة لن تعود إذا أتت الأيام السعيدة.
وأحلى الأوقات هي تلك التي تقضيها مع من تحب ولا تشعر معه بالزمن , وكأنك تطبق على نفسك النظرية النسبيية .
وأتعس الأوقات هي تلك التي تقضيها مع من تكره وتكون مجبرٌ عليها , خصوصاً إذا كانت زوج أو زوجة؟
وأروع الأوقات هي تلك التي تمر عليك مثل البرق ولو مرت بشكل بطيء تكون غير رائعة.
وأجمل الأحلام تلك التي لم تتحقق بعد.
وأحلى قصة حب هي تلك القصة التي أنقذت العالم من الطوفان , كان الإله زيوس كبير الآلهة الأثينية ينظر للأثينيين وهم يغرقون , ولما رأى عاشقان يقبلان بعضهما البعضفي ساعة الذروة قال : مازال في هذا العالم أناس يستحقون الحياة لأنهم يعشقون سوف أرسل من ينقذهما وينقذ البشرية من الهلاك.
وهذا بعكس قصة الطوفان عندنا إذ كانت إرادة الله وراء انقاذ البشرية من الطوفان لمجرد وجود رجل تقي أو نبي أو صالح أو نوح على الأرض.
وأجمل القصص تلك التي ننام ونحن نفكر بعدم واقعيتها .
وأجمل بيت شعر هو أكذب بيت شعر .
أشياؤنا المفضلة والجميلة هي تلك التي تنبعُ من عوالمنا الداخلية فكما نكون نحن نرى العالم , العالم والناس ترانا بمنظار يختلف عن المنظار الذي نراهم فيه.
والألوان التي نراها ليس من الضروري أن يراها كل الناس أو المخلوقات فهنالك ألوان ربما لم يتعرف عليها جنسنا بعد , وهنالك ألوان تراها الفراشات وبعض المخلوقات بخلاف ما نراها نحن فهنالك من لا يرى إلا اللون الأحمر والحرارة المرتفعة وهنالك ألوان لا نراها إلا في ساعات الذروة.
هنالك مدن ضيقة , وهنالك مدن تتسع للسماء أن تنزل فيها , وهنالك مدن لا تتسع للحب أو للنقاء أو للصفاء .
وهنالك مدن تتسع للبحار وللمحيطات وهنالك مدن لا تتسع للفن وللإبداع.
أجمل المدن تلك التي يسكن فيها فنان وشاعر ملهم وموسيقار ومغني ومغنيه وراقصة وراقص يرقصون للألم أو للسرور الأهم من كل ذلك أن هنالك مدن تتسع للفن في ساعات الذروة.
وأجمل القلوب وأطيبها هي تلك القلوب التي تصاب بالسكتة أو الجلطة لأتفه الأسباب لأن ذلك دليلٌ على حساسيتها بالحياة .
وأبشع وأقسى القلوب قساوةً هي تلك التي لا تتحرك لأعظم الأسباب , وليس عندها ساعات من ساعات الذروة.
وأجمل كتاب قرأته في حياتي هو كتاب العيون حيث تخرج منه الأسرار والكلمات والمعاني في أغلب الأحيان من غير أن تسألها عن أي شيء في ساعات ولحظات الذروة.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟