|
قمرٌ واحدٌ في كل القصائد
فيء ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 2822 - 2009 / 11 / 7 - 22:09
المحور:
الادب والفن
قراءة لمجموعة (مظلة من كلمات) للشاعر فارس عدنان
ان الانسان مدعوٌ لكي يسكن بشاعرية على هذه الارض، الشاعرية إذن ليست مجرد نوع أدبي أو شعري، بل هي جوهر الانسان، لكن هذه الشاعرية مفتقدة في الزمن الضنين...ومن ثم فان هدف الشاعر هو العمل على إرجاع الشاعرية الى الارض وأنسنتها. على الشعر أن يقيم سكناً للانسان ليس فيه إغتراب بحيث يصبح بيت إطمئنانه، وحسب هيدغر ان الشعر هو السماح الاصلي للانسان للسكنى على هذه الارض. ويبدو ان الشاعر العراقي فارس عدنان قد وضع لبنته الاولى في بيته الشعري، الذي سيأويه، تاركاً كل البيوت والملاذات الاخرى لشاغليها ومنشغلاً هو في الشعر فقط. ويشكل العنوان ( مظلة من كلمات)، مفتاحاً دلالياً كبيراً ونصاً مستقلاً قائماً بذاته لقراءة مجموعة الشاعر فارس عدنان المغترب في امريكا منذ العام 1993، الصادرة عن دار الفارابي للنشر للعام 2009. العنوان في هذه المجموعة يمثل الوحدة الدلالية الأولى الحاوية لفكرة النص بتركيز وكثافة والتي ستتفرع منها أنساق النصوص الأخرى، بالتتابع. وكلمة (مظلة) دلالة إيحائية مكانية تعيد تذكيرنا في الحال، في الحماية والامان، كأن الشاعر يذكر نفسه وقارئه، بأن كل المظلات قد تخلت عنه وأبعدته من قواميسها من وطن واهل وحبيبة، عدا مظلة كلماته/ أشعاره هذه. في الصفحة الاولى يطالعنا الاهداء التالي: الى امي وابي : رحيل مبكر جدا. الإهداء يوضح مأساة الشاعرالذي دفع ضريبة المنفى بكل عذاباتها، حين غاب أحبائه وهو في غربته، وكلما تذكرهم تجدد موتهم في ذاكرته، ويتراكم موتاً ملحقاً بموت. الشاعر، في مظلة كلماته، لا يخشى الوضوح ولا يتستر بالقناع والتخفي وراء صوراً مبهمة، وهذه ميزة تحسب له في زمن الشعر المموّه والمهتم بتجريب الأساليب اللغوية لذاتها، غالباً . نقرأ المقطع التالي وهو أول نص في المجموعة، تركه الشاعر بلا عنوان: لم أسال عن نيّة الحمام في كل هذا الطيران بل شاركته الفزع الكبير للوهلة الاولى، تتضح النظرة المتأملة السوداوية لمفردات هذا الكون كما يراها الشاعر، فهو يردّ الطيران الى الفزع، ويشارك به رغم إن الطيران حياة الحمام. ومن السيرة الذاتية المقتضبة للشاعر على الغلاف الأخير نعرف انه من مواليد مدينة الديوانية في جنوب العراق عام1966، وهذا يعني عدّه من جيل الشباب لكن ديوانه جاء مترهلاً بالحزن والغربة وعذابات المنفي المتعددة. فهو يعترف ان قلبه ورث بلاداً أتتها عواصف من كل جهاتها. نقرأ المقطع التالي من نص (غرف وصداع نصفي) :
الهاتف لايرنّ القهوة باردة الفرح لم يطرق بابي لم اسمع صوت امي وانت لم تكتبِ لي كل هذه السنوات
الشاعر يوظف مفردات خيبة حياته اليومية والمباشرة ليقيم داخل المشهد، داخل الشعور بالغربة والوحشة المطلقة واليأس الذي لا يحمل اي أُفق، كأن هاتفه موجود كي لايرنّ، وقهوته ابداً باردة. في نص قصير آخر ينطوي على صورة شعرية عميقة وبسيطة وتكسر أفق التوقع في ذات الوقت، وأحسب ان الشاعر قد اخطأ حين عنونها ب(جلاد) وكان الأجدر به ان يترك النص لقارئه كي يكتشف عنوانه : بعد أن أطفأ لفافته الأخيرة في جسدي المتعب وغادر الى بيته ليرتاح على كرسيه الهزاز ويصغي بمزاج جيد الى موزارت.
في نص بعنوان (أهي حقاً سماؤنا)، تمتزج الأزمنة والامكنة في تجلّي شعري للحظة تهيأ الشاعر/ الانا، لمشاهدة حرب تخرج بضجة أممية من شاشة التلفاز، ولتمرّ في طريقها على ضحايا القبور الجماعية وقسوة الصواريخ وهي تخرج له رؤوسها من وجه الكومبيوتر...كان الحرب تأتي من كل مكان، وتطلع من كل الشاشات، ولان الفقد واحداً، سواء كان في الزمن المعاش أو قبل عشرين عاماً، فالشاعر يعيش مفردات منفاه تذكيراً له فحسب، بفقداناته المتعددة :
يخرج هذا الصباح الثلجي من معطف المدينة ليدخل _ بلا إستئذان _ خرائطي الكئيبة قطار يسحبني من قصيدة غامضة الى فاطمة في مساء جميل قبل عشرين عاما، في البصرة، قبل انتحارها المفاجئ...
فاطمة الحبيبة التي أهداها الشاعر عدة نصوص من مجموعته، هي رمز الأنثى المفقودة في جحيم الوطن وليست الانثى /الحلم، فاطمة واضحة الملامح في عموم المجموعة، فهو يعترف لها : كلُّ قبلةٍ مع شفاه طارئة تعويضٌ خاسرٌ لغيابك
وهو يتساءل في خاتمة نص (اسم آخر لغيابك):
لم كلُّ الشوارع في هذا العالم إسم آخر لغيابك؟
لقد حول فارس عدنان مفردات الوجع العراقي الى كيان مستقل يحمل دلالاته باعتماده على ( الذاكرة الجمعية ) في التشكل الدلالي والأستعاري لها بتناوب أداء فعلها داخل النص، مرة بفعلها الرمزي، ومرة بفعلها الوقائعي. لقد هيمن قاموس الحرب بكل مفرداته (حرب، موت، وطن، بساطيل، جثث، مقبرة، سيارات مفخخة، نوافذ مهشمة، اطراف مبتورة، غائبين) وغيرها الكثير، على عموم المساحة المتنية لنصوص المجموعة، كأن الشاعر يراهن على قوة هذه المفردات في ذهن المتلقي كأدوات للتداول الإيحائي او المباشر للواقع العراقي. كما ان المكان العراقي حاضراً ايضا في نصوص المجموعة (بغداد، البصرة، الفرات، المسرح الوطني، الجسر الحديدي، المتحف الوطني، ساحة العرضات، جسر الدغارة) وغيرها الكثير. إن اللغة في(مظلة من كلمات) هي لغة توازي الواقع اليومي، تنصت لنبضاته وتسجل مأساته وترتهن لتوهجاته وأسئلته، هي لغة الانفجارات والقنابل والجنرال الذي يفتش الاحلام ...لغة لاتستمد مادتها من الخيال، بل هي تسجيل حقيقي لواقع تفوق على الخيال بكارثيته. يُبنى نص (صراحة مزعجة) الذي يهديه الشاعر الى صديقه سعد ناجي، على ثنائية ال (هنا / هناك)، محدثاً إيقاعاً إستثنائياً، الوطن هو ال (هنا) وهو مكان الإنتماء والصداقات، وبالتالي فهو مكان الشاعر البديهي، بينما ال (هناك) هو المنفى مهما تقادمت السنوات، على الشاعر فيه :
أنت هنا كنبيّ بلا شعب تحدثني عن قصائد في سريرك وانا هناك، رغم الاطلسي، أحتفي بوحدتي
النصوص لها صوت عراقي على درجة عالية من الألم، وخيبة الأمل. لكن هذا الصوت يتمسك بنبوءة الشعر فقط، كأنه موقن ان الشعراء هم من يديرون دفة هذا العالم، على الرغم انه يعيش من منفاه، كوارث وطنه أمام عينيه، وفي ذاكرته، فهو يصرح في أكثر من نص :
وطني ما عاد لي وطني لم يكن يوما لي
أو حين يعلن حقيقته التي تقتله باستمرار:
إني بلا وطن حقيقة تقتلني دائما
نصوص المجموعة بشكل عام، تمثيل آخر للحياة العراقية، كأن النص هو البيت اللغوي للحياة وكأن الحياة هي البيت الآدمي للنص المكتوب، هذه النصوص تميل الى تمثيل الواقع لا اللغة، فهي تختزل اللغة لصالح الواقع. هناك أيضا الضمير (أنا) الحاضر بقوة، لايتقصر على إشارته النحوية والصرفية، باعتباره ضمير المتكلم، لكنه يتجاوز وضعيته تلك ليصبح إشارة على ال (نحن) التي تتمثلها (أنا) الشاعر لكن هذا لايلغي إشارة الانا الأصلية (الذات الفردية للشاعر)، كأنه يؤكد مأساته الفردية بشعور جمعي : كل ليلة رجلٌ بملامح قاسية وشوارب كثة يحاورني بالصفعات بال... كي.. كي اصحو على أسرة الفزع أهرب من سجان يسرق، كل ليلة، فاكهة النوم
وهناك لمحات من الأيـغـال فـي الـمـحـظور ونـسـف الـمـقدسات الـعـقـيـمـة الـتـي تـرى فـي الـثـوابـت مـركـزا ً لـهـا، وهذا واضحاً في نص (عن تلك السنوات):
على الرصيف، كنت أتبع اسرار الكلمات والربّ يمشي معي كصديق قديم بالجينز الأزرق بلا حراس
بينما الربّ مراقب محايد في نص بعنوان (خارج الشاشة ...وقائع اخرى) :
خارج شاشة العالم F 16 ال تكتب، كل لحظة، سطور خوفنا الأبدي بينما الربّ يراقب بحياد تام
أخيراً، (مظلة من كلمات) نصوص تزخر بصدقها الباذخ وتلقائيتها الواعية، لقد خبأ فارس عدنان قمراً واحداً في مجموعته الشعرية هذه، وهذا يكفيه : لقد خبأ العراق.
المصادر: *مظلة من كلمات_ فارس عدنان (دار الفارابي 2009) *النص والحياة_ حسن ناظم_ دار المدى *هيدغر راعي الوجود_دار الثقافة
#فيء_ناصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ريح من لامكان _الشاعرة الأمريكية انتوني فلورنس
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|