غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2820 - 2009 / 11 / 5 - 11:35
المحور:
الادب والفن
- 20 –
الاثنين.
حذر وترقب.. الناس حول أجهزة الراديو يتابعون إذاعة صوت العرب, ويشيحون عن إذاعة لندن وصوت أمريكا.. وأحمد سعيد يهيج للمعركة, ويبشر أسماك البحر بوجبات شهية من لحوم الإسرائيلين..
في المقهى يتحدثون عن الحرب, وجيوش العرب في مصر وسوريا, وعن مغاوير الشام, والقوات العربية التي تمركزت في الضفة الغربية, وعن النواتي, شاربه المشذب والشال والسلحلك وفرد الكرداخ المدلى في جرابه, وعن المدفع المثبت في مقدمة اللنش والشاويش الرابض خلفه, والمعلم العيماوي, الأسد العجوز القابض على الدفة.. اللنش يقوم بأعمال الدورية في الماء من الميناء إلى تلة المطخ جيئة وذهابا, وأبو سمير يدور بالطلبات على الطاولات ويداعب حليمو الذي صام عن الكلام:
- النواتي قائد البحرية يا حليمو.. لايقه عليه ريس.. آه لو تعود الأيام.
حليمو قاطع الورق, وتوقف عن لعب الثلاث ورقات, وأغلق فمه منذ الإعلان عن إغلاق المضايق.. أحد الرجال يعلق على أخبار الراديو:
- عينوا عبد المحسن مرتجى قائداً للجبهة في سيناء, قبل أن يرتاح..
سأل حليمو:
- أين كان هذا المرتجى علشان يرتاح؟
- في اليمن, دوَّخ السعودية والأمريكان.. حرقهم حرق..
- يعني قتال قُتلى.
- الحرب عايزه رجال.. هذه حرب مش لفتكَ م لفتكَ, وشغل ثلاث ورقات..
- يا خوفي تطلع الشغلة لعب ثلاث ورقات!!
وغطس في صمته, وأخذ يراقب الماء, جسده يهتز كمن لسعته القشعريرة..
المذيع يقطع مارشاً عسكرياً, يعلن عن سقوط عشرات الطائرات الإسرائيلية المغيرة, وقتل وأسر طياريها, ويهنئ أسماك البحر ويدعوها فعلياً إلى الوليمة.. ويعلن عن قيام الحرب.
المطارح تقذف الناس رجالاً ونساءً وصبياناً وأطفالاً, الوجوه مستطلعة فرحة.. واجمة هلعة و والسماء دوي متواصل, الطائرات غربان سوداء تحلق على ارتفاعات عالية تختفي في سحابات الصيف البيضاء, قذائف المدفعية المضادة للطائرات ترتفع, ترج البيوت والأبدان, تخلخل شُقف القرميد على خشب الأسطح.,. طائرات تطلق ذيولاً من دخان أبيض, يهلل الناس على الأرض.. غراب أسود يهبط باتجاه المخيم يطلق لهيباً ودخانا أسود, يهوي ويسقط في البحر.. الطيار يقفز بمظلته يتأرجح في الهواء..جموع الناس تهرع إلى الشاطئ, تراقب الطيار الهابط.. لنش النواتي يغطي الماء بصليات الرشاش, ويعود بالطيار أسيراً وسط زغاريد النساء وتهليل الرجال.. وكوثر تلوح بضفيرتها للسيارة العسكرية التي انطلقت به إلى قصر الحاكم العسكري, أول الغيث.. والميكرفون يناشد الجمهور بالتزام الهدوء, وعدم الاقتراب من اليهود الهابطين حفاظا على حياتهم, ويوجه الرجال إلى مراكز التدريب الشعبي ومراكز التبرع بالدم..
غزة ساحة الحرب خطوطها الأمامية هي خطوطها الخلفية, والبحر ظهرها.. الحواكير والكروم والأحراش فضاء واسع.. صوت المدفعية يسيطر على الموجودات.. قذائف من جميع العيارات.. وأخبار عن معركة المنطار.. التلة نار حمراء.. ومحاولات العدو اقتحام الموقع تبوء بالفشل أكثر من مرة.. عشرات القتلى والجرحى, والأخبار متضاربة متباينة...
في بيت حمدان, أم حمدان تحتضن الصغار, وتسند صفية إلى صدرها, تولول صفية, وتنتفض مع كل دبة قذيفة:
- كل الضرب في المنطار.. يا ويلي..
- اهدئي يا بنت ..المقدر مكتوب" اللي له عمر لا تهينه شدة"
صراخ يمزق الحارة يشق هدير القصف.. أم العبد سمور تشق الثوب وسط الزقاق, تعفر وجهها بالتراب وتتمرغ.. يحط الوجوم على الناس, وتصاب صفية بالخرس.. حديث عن قذيفة أخذت بيت محمد سمور في حي التفاح, لم ينج منهم غير الولد الذي كان خارج البيت وظل يجري حتى ارتمى في حضن عمته.. رفرف في حضنها يصيح " ماتوا.. ماتوا.. أخذهم المدفع" ووقع الولد لا يصد ولا يرد..
تحركت مؤشرات الراديو عن صوت أمريكا, وجرى البحث طويلاً لالتقاط صوت موسكو.. الإذاعات توزع بياناتها ومعلوماتها عن الحرب, وإسرائيل نبث الأغاني العاطفية.. أخبار عن هزائم وانتصارات, وضربة جوية عند الفجر دمرت الطائرات المصرية في مهاجعها عند الفجر وفجرت مدرجات الطيران, جنود يهيمون على وجوههم في سيناء, قتلى إسرائيليون ومصريون, وسقوط مئات الطائرات المغيرة, طلائع المغاوير والفدائيين تصل بحيرة طبريا, سقوط سعسع, ورحيل جماعي عن القنيطرة.. قصف ميناء حيفا, واختفاء أخبار الأسطول المصري, سقوط القدس, ومعارك بالسلاح الأبيض في المكبر, معارك دبابات, وضفادع بشرية خلف خطوط العدو,تدمير الجسرين بين الضفتين.. القيادة العربية العليا لم تصدر بيانات, اتصال هاتفي بين الملك حسين وجمال عبد الناصر, واتصالات مع القيادة السورية, وروسيا تطلب انعقاد مجلس الأمن للتحقيق في من أشعل فتيل الحرب, أحمد سعيد بهت صوته, ولم يعد يولم لأسماك البحر,غيّر لازمته في الراديو.. لكَ الله يا أخي.. لكَ الله.. شرم الشيخ..الجولان.. القدس.. جيش أول وجيش ثاني وجيش ثالث محاصر.. والمعركة تشتد في المنطار, واشتباك عند دوار القرم.. وقذائف تشطب مخيم الزينكو في جباليا, ودبابات إسرائيلية تدخل خانيونس بأعلام عراقية وجزائرية..قتلى ومجازر.. وهج يخطف الأبصار.. وانفجار يرج الدنيا يبعثر القرميد.. تختفي المدفعية الرابضة في كرم مصلحة شرق المخيم, طائرات تخلف المكان حفرة عميقة ابتلعت الموجودات..شظايا من عتاد وأجساد تتوزع حول الحفرة وتصل البيوت القريبة.. التحذير من الاقتراب تحاشيا من قنابل موقوتة لم تتفجر.. أحاديث عن محاولة جديدة لاقتحام المنطار, وقذاف المدفعية الإسرائيلية تسقط في حي الرمال, تصيب مبنى سراي الحكومة.. مئات الجنود يسدون الطريق المؤدية إلى قصر الحاكم, والعشرات منهم ينسحبون إلى مستشفى دار الشفاء.. الشوارع الرئيسة باتت غير مأمونة.. الناس يسلكون الطرق الفرعية إلى أحراش النصر أو الكروم في الشيخ عجلين وسكنة أبو مدين على البحر.. مخيم جباليا يتعرض لقصف شديد. يقذف سكانه باتجاه الأحراش وسوافي العطاطرة والسيفا.. معركة ضارية في دوار القرم لصد الدبابات التي اجتازت بيت حانون, متوجهة إلى الشجاعية
نهايات النهار والصيف لافح, والمساء يزحف على الأشياء, وغزة ترقبُ وتوجسً في ظلام تام إلا من نجوم تضيء السماء, أما على الأرض فلا ضوء لشمعة أو سراج قد يرشد العدو..
وفي الليل ضابط كبير قيل أنه من المخابرات العسكرية, يجتمع في المصنع مع أبي خليل والنواتي والعيماوى, تكلم الضابط فحط الوجوم على الجميع, وقع الأمر عليهم وقوع الصاعقة, وألجمت المفاجأة النواتي.. خرج العيماوي من ذهوله وقد قدحت عيناه شررا, همهم:
- أنتم حكومة وجيش خذوه بمعرفتكم.. هيَّ وقفت علينا يا سيدي!؟
- يجب تسليم الطيار إلى القيادة في مصر, جهز اللنش يا ريس, الطرق البرية غير مضمونة, واليهودي يجب وصوله سالماً.
النواتي يتطلع إلى البحر, تتكسر نظرته عند المنارة, شفتاه ترتجفان.. عتمة تحط على الصدر, تتخلق دمعة في القلب تجثم عليه ولا تصعد إلى العين.. هم الفراق مرة ألأخرى يا زهرة, واستنجد بالعيماوي:
- ما رأي العيماوي.. هل دروب الماء مضمونة؟
قاطعه الضابط بحزم:
- نسلمه في بور سعيد ونعود, فالحرب في أولها والمعارك الحاسمة لم تبدأ بعد.
وفي الليل تعانق الرجال, فبل النواتي خليل وقمر, وتيبست أصابعه على رأس كوثر التي ارتمت على صدره, قلبها يدق على قلبه:
- لا تذهب يا خال.
- سأعود يا كوثر.
وحمّلها صرة صغيرة, ومضى خلف العيماوي الذي صام عن الكلام, ونظر شزراً للضابط الذي تخلى عن بزته العسكرية, وارتدى جلباباً عتيقاً, وقبض على ذراع الطيار المذعور. وفي الماء قبض العيماوي على الدفة, وشخص إلى السماء يسترشد بنجيمات يعرفها, ويتحاشى النظر إلى النواتي, ويلعن هذا الزمن كلما اصطدمت عيناه بالأسير, يتساءل" من منا الأسير يا ترى..؟" يركبه الغم ويردد حكمة البحر "شَمِل سنة ولا تقَبِّل يوم"
الثلاثاء.
في المنطار اشتد القصف على التلة, غادر الناس الملاجئ والحواكير.. وعند الظهر صمت الموقع, وتقدمت الدبابات.. جنود المشاة يمشطون الأزقة والشوارع, يطلقون النار على كل شئ يتحرك, عمليات انتحارية تحاول إعاقة الاجتياح, واشتباك بالسلاح الأبيض عند المنعطفات, ضابط الموقع طلال يتصدى للدبابات بل آر بي جي, يعطب أكثر من دبابة, وقذيفة تنشر لحمه على صواريف صبر الحواكير.. وعند العصر وصلت الدبابات ميدان فلسطين" الساحة" وتقدمت باتجاه السراي.. وسُمع الميكروفون وبصوت نسائي رفيع يعلن عن سقوط المدينة, ويطلب من الأهالي رفع الرايات البيضاء والتزام البيوت, ويحذر المسلحين من إطلاق النار ,وإلقاء الأسلحة في الشوارع أو على عنبات البيوت, وانتظار أوامر جيش الدفاع الإسرائيلي التي سيعلنها القائد العسكري للمنطقة..
غزة بيوت مغلقة على سكانها, وأحراش وحواكير تخبيء قطعان الناس والجنود بعيداً عن مواقع الاشتباكات وأهداف القصف.. إشاعات عن مجازر ومذابح, وذكريات عن مجازر ومذابح.. وقدر حط مع غراب البين..
وفي الليل غافل حسام العجرمي أمه, وقفز من بيت لبيت حتى تعلق برقبة صفية:
- حمدان عايش يا خالة.
وفي المستشفى كان حمدان رائقا ًشاحباً شفافا, تحدث باقتضاب عن صد الاجتياح الأول في المطار,وعن دشمته التي اختفت في لمح البصر, والعراقي الذي وصل به إلى تلة أم الرقود, واطمأن عليه في كرم زيتون أبو العطا, حيث لفوه ونقلوه إلى المستشفى.. نزف دمه ولكنه لم يفقد الوعي.
وفي الليل سرى الحديث عن دبابات تحيط بالمستشفى.. مرَ الدكتور رشاد مسمار على المصابين, همس في أذن حمدان, وزوده ببعض الضمادات والأدوية, فالشظية شطبت عضلة الفخذ ولن تأتِ على العظم.
وقبيل الفجر كان حمدان يتوكأ على كتف صفية, يتوقفان عند المنعطفات بانتظار إشارة من حسام ليعبران الأزقة باتجاه المخيم.
الأربعاء
منع التجول يفرض على المدينة والأحياء, الجيش يداهم المخيم, الدبابات تتمركز عند مفترق اللبابيدي ومخيم المسيحية في الوحدة ومركز التموين.. أزقة المخيم فارغة إلا من بعض النسوة والعواجيز.. أم حسام تطارد ملهوفة, تدق على البيوت تسأل عن ابنها.. تلتقي مع سناء التي تكور بطنها, تبحث عن خميس الذي لم يرجع إلى البيت.. صبي يطل من أحد البيوت يؤكد أنه رأى خميسا وحساما يحملان بنادق ويتوجهان إلى الأحراش,, خارت أم حسام ووقعت على الأرض, وعفرت وجهها بالتراب..
- يا ويلي يا سواد ليلي..تزعفلت.
رفرفت وانتفضت وهمد حسدها.. نساء الحارة سحبتها إلى بيتها, دعكت أم حسن بصلة في منخريها, جحظت عيناها, ومات لسانها في فمها, وعندما حطت الشمس على صدر البحر, طرقت البدوية باب المصنع, ونولته طاس الحليب, وتمتمت عن الرجال الذين انسحبوا من المطار ودوار القرم إلى الأحراش, وعن جرحى تستدعي حالتهم وجود الدكتور, وعن أسلحة تجمع من الحواري والأزقة, سألها:
- هل سمعت عن العراقي
- حمدان تحدث عنه, ولكني لم أره.
الخميس.
عند الفجر دخلوا المخيم, وزرعوا السماء ن ساعتين, ثم حط الصمت الثقيل على الموجودات.. لا تُسمع سوى خشخشات أجهزة اللاسلكي, وكلمات متطايرة من لغة عرجاء.. والميكروفون يعلن عن منع التجول, وإلقاء الأسلحة على عتبات البيوت, ويطلب من جميع الذكور من سن 15-60 سنة, بالتوجه إلى أرض البلاخية رافعين الأكف على الرؤوس, ويحذر كل من يخالف أمر القائد العسكري بإطلاق النار عليه.
البيوت تقذف سكانها إلى البلاخية.. حليمو يسند أبا سمير القهوجي, يبرطم مذعوراً:
- طلعت الشغلة لفتكَ ما لفتك.
- اسكت يا حليمو..
زخات الرصاص تئز فوق الرءوس المهدولة على صدورها تحت سماء المخيم الحمراء..
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟