|
ناس وأماكن: ضيوف الذاكرة على شاطئ المتوسط
خلف علي الخلف
الحوار المتمدن-العدد: 2820 - 2009 / 11 / 5 - 01:31
المحور:
الادب والفن
[حين نعتاد الرحيل/ مرة/ تصبح كل الأمكنة/ زبدا نطفو عليه/ و نميل/ كلما مالت بنا الريح...] بالامس شب حريق في ذاكرتي، أحرق كل الذكريات القريبة، بعد أن هدأت النار تلمست رماد الذكريات الجديدة، مع الشراب والحشيش قال صوت بعيد للذكريات القديمة اقتربي! رأيتها قلت للاصدقاء[الريامي، الافندي، رؤوف] أراها عند خط الافق لا شكل لها ولا استطيع أن أشم رائحتها ولست قادرا على لمسها.. هناك.. مثل سفن بعيدة تطلب إذنا بالرسو، وليس لدي ميناء.. كان علينا امام الهجرات الكثيرة والمتجددة وتشكل ذكريات جديدة أن نحذف من «هارد الذاكرة» بعض الذكريات القديمة التي انمحت ملامحها من الشمس المعلقة عليها منذ سنين.. في نوبات بهجة ومع ذكريات جديدة؛ قلنا ما نفع هذه الذكريات التي لم يعد لها ملامح فحذفناها.. منها من كان عنيداً، لم يقبل المحو! هذه هي التي كنت احس انها على بابي ككلب باسط ذراعيه ويهز ذيله بهدوء، يطلب شيئا، أو بقايا شيء لم أعرف ماهو! لم يكن يطلب خبزا! كان ذلك واضحا من نظراته.. لو كان كذلك لرميت له رغيفا يابسا هو ما بقي من الروح أو العمر.. لكنها ما كانت تطلب خبزاً. الخبز الساخن هو غذاء الأحلام وليس الذكريات كما يرى ريتسوس الاماكن وجوه. الاماكن بشر.. الذكريات انتابتني كموجات حمى [هكذا وصف مهند الحالة فيما بعد] بدأت اشعر بوخز بخاصرتي هذا دائما يحدث عندما تقف على بابي الذكريات العصيّة على المحو، ليس وخزا متوهما؛ بل حقيقيا. الم حقيقي.. حينما اتجاهله طويلاً ترافقه شهقة! شهقة مزعجة، أُصبِح أشهق بشكل متواتر.. تنتابني هذه الشهقة عادة في آخر الليل في بار «سبيت فاير» عندما اجلس وحيدا.. - أي المدن تريد أن تعود اليها؛ قلت لخالد ؟. قال أو قلت لم اعد اذكر.. ان هناك مدنا تشعر انك لم تنته منها، تشعر انك يجب أن تعود لها.. لكنه بالتأكيد هو من قال: كاليفورنيا.. له فيها بقايا روح من حبيبة غادرت الدنيا... بالتأكيد أنا من قال لم يعد لدي مدينة أريد العودة لها.. اقف على شاطئ الاسكندرية انتظر سفنا غامضة ينزل منها اناس أعرفهم، هذا حلم يقظة متجدد يداهمني كلما مشيت على شاطئها وحيدا..لذلك لم أعد أحب المشي على شاطئها. قلت في نوبة غامضة ربما الكويت.. لم اشبع منها.. صمتُ طويلا مفكرأ بالمدن التي مررت بها؛ احب المنامة لكن ليس بما يكفي لكي تلح علي بالعودة اليها.. ولم اذكر غرفتي في الرياض التي قضيت فيها عشر سنوات لأن صديقي غير ملامحها بعد أن رحلت. عندما زرتها لاحقا لم اتعرف إليها ولم تعنيني ابداً، تذكرتها فقط حينما اعتقلوا رأفت.. بحثت عن صورة له.. فوجدتها في غرفـ/تي. يجلس على كرسي خيزران وخلفه بلوزة برتقالية لي، شابكا يديه فوق رأسه.. الرياض تبتعد رويدا رويدا تخفت من الذاكرة، بقي اصدقاء قليلون لكني اتذكرهم في المقهى فقط.. ولم تأت حلب ابدا ابدا.. قلت: إن حلب تخبو.. احس اني افتقدتها الى الابد، وازعم اني لو عدت لها لما عرفتني أو عرفتها، المدن أيضا تكبر وتهرم وتنسى.. ولم أتذكر اثينا لم تستطع أن تزاحم الأطياف الأخرى لتطل برأسها بالامس سردت سريعا هجراتي لخالد كي يعرف عم اتحدث؛ قلت له: نشأت غريباً، وانا الان هنا غريبٌ معي ابني الذي اصبح شاباً يكرر سيرتي. هنا في الاسكندرية أحس اني اعيش في مدينة ليست مدينتي الاصلية لكني سكنتها منذ زمن بعيد .. لكن كل اصدقائي واهلي و... غادروها وبقيت وحيدا. وكي اوصل الفكرة له قلت: مثل يوناني مسن مازال في هذه المدينة.. هل قرأت «مائة عام من العزلة»؟ أحس اني في تلك المدينة بعد ان اقفرت. قرأت له مقطع لنيرودا ايضا [ترى أحزن الذي ينتظر دائماً؛ أكبر من حزن الذي ما انتظر أحداً؟] نام خالد في الثالثة والنصف أو أكثر لم اعد اذكر، انا ايضا أويت الى فراشي بينما كانت الذكريات تهوم في داخلي أو فوقي لم اعد اذكر مكانها بالضبط، لم تكن حشوداً، كانت متفرقة كأني الزجاج في حوض اسماك والذكريات الاسماك السابحة، بعد كل هنيهة تنقرني ذكرى بأنفها.. على المسنجر قالت جاكي بعد أن شرحت لها الحالة التي انا فيها: أي من هذه الذكريات تريد؟ قلت لها: ذكريات الطفولة. قالت: يالله!.. أعرف تماما عم تتحدث لو استطيع أن اضمك. غفوت على جملة جاكي هذه. في الصباح لم يكن الحنين قد غادرني تماما، لكن مهند نبشه بطلب «حين نعتاد الرحيل مرة» قال أنه يريد تعديل الجملة الى «زمنا نطفوا عليه».. كانت ايضا جاكي لذلك تذكرت أن أشكرها على تعاطفها مع حالتي بالأمس. اعطتني رابطاً لما كتبته عن «بيتي الصغير الذي في كندا..» بعد أن قرأتها وجدت شيئا يشبه حالتي الاماكن نفسها الحكايات نفسها اللعب نفسها والضباب نفسه.. قلت لها تماما تماما ذلك ما احسه. الاشياء تبتعد والرؤية لم تعد تساعدنا على أن نبصرها بوضوح، نركب مشاهد متقطعة متداخلة، من أزمنة متفرقة وأمكنة كذلك، برهافة نركبها لتشكل حنينا غامضا فاقدا للزمن فاقدا للمكان.. أحس منذ الامس أن شريط سينمائي صامت يمر بسرعة كبيرة مستعرضا صور من حياتي. هناك وجوه بلا ملامح يريد الحنين أن يلامسها. لم يعد هناك من الوجوه العتيقة أحد واضح؛ هل هرمت الذاكرة باكراً، ولم تعد تتذكر إلا الوجوه القريبة؟ أظن ذلك، والدليل أن وجه «السيدة البيضاء» التي أحبها واضحاً.. هو الشيء الوحيد الذي لا زال واضحاً وهي تصر على الغياب رغم معاناتها مع الحنين مثلي، أعرف هذا لأني كنت اسندها عندما تميل بنا الريح.. الزمن ليس بعداً واحداً في ذاكرتنا، فهناك ذكريات قريبة تغيب بينما يحضر أبعد منها في خيط الزمن الذي تشده الذاكرة كأنها تنتشل به غرقى.. قلت لخالد هذا. مهند يوافق على مقولة «الحنين الى لا أحد» ويعتبر أن ذلك صورة واضحة لا تحتاج لشرح!! يضيف: المكان والزمان والرفقة هي من تجعل للذكرى معنى! لم تعد تجتمع هذه في الذاكرة فأصبح الأمر نوبات حمى. مهند الذي في دبي؛ المدينة التي يقول عنها إنه لم يستطع بناء ذاكرة فيها سرد لي حكاية: منذ اسبوع توفي زوج خالتي، وهذا الرجل كان بمثابة خالي، اعرفه اكثر مما اعرف خالي. ذكرياتنا معا كثييرة، وكلها مزيج من السياسة والعرق.. تصور حين وصلني الخبر؛ لم استطع تذكر جلسة واحدة بتفاصيلها، اريد فقط تذكر تلك التفاصيل الصغيرة والحميمة.. أنا غير قادر.. أنت تحس بألم في الخاصرة انا اعاني من نوبات حمى.. منذ شهر لم أنم كما يجب.. في الليل تصبح الامكنة والأزمنة مزيجا من الخيالات كان في بدايته ممتع.. الآن صار مرهق ومزعج. جاكي قالت لي أنت تهاجر الى الآخرين وهذا سبب الحالة التي أنت فيها، هاجر الى داخلك، انظر له جيداً - لكن داخلي فارغ يا جاكي - ليس صحيحا؛ نحن فقط لم نتعلم أن نراه جيدا. انشغلنا بمحيطنا ونسينا داخلنا. عندما تنظر له بروية ستهدأ روحك ستقودك الى هدوء تتسرب منه اشياء لم تكن تتخيلها. كان وجه «السيدة البيضاء» يحضر يكنس الذكريات من أمام بابي وينهر البعيدة منها «يلا روحو بعيد.. ماذا تريدون منه.. حرام عليكم.. اتركوه..». بالامس كانت تجلس على كرسي بعيد تبكي لم تصلها يدي لأمسح دمعها. ولا أدري لماذا كانت تذكّر الذكريات مع أنها مؤنثة، ربما لأن ذكريات الأنثى مذكّر! الافندي غادر في منتصف الليل فجأة! قال أنه سيذهب للسعودية الآن.. دهشنا! قلت له محاولا تبديد الدهشة: أحد يروح ع السعودية الآن.. يا رجل إجلس.. لكنه اصر.. وتركناه. لا ادري مالذي جعله يفعل ذلك. بعد أن غادرنا الريامي بقينا أنا وخالد فدخلت الذكريات من الباب الذي غادروا منه كان حضورهم يسد الباب بوجهها.. هل ترغب بمغادرة هذه المدينة؟ اظن مهند من سألني: قلت لا.. لا.. اعتقد، ان احساسنا هذا سيكون في اي مدينة اخرى. هذا الرحيل الذي حوّلنا الى متلقين غير متفاعلين مع اي شيء، الغى كوننا جزء من السيرورة وحولنا الى لحظات غير مدونة.. قال: قاسي هيك كتير!! رددت بيقين نبي: لا.. هذا ما اصبحنا عليه.. اي محاولة لتغير المشهد ستكون فقط نوع من الماكياج. التغيير الحقيقي هو تغيير السيناريو ولكن هذا غير وارد في حالة ذواتنا المبددة، وفي حالة أرواح موهنة لم تعد تقوى على المشي. من الذكريات التي داهمتني مشهد غير مكتمل لروحي وهي حافية تعبر جسراً! بالكاد تعرفت عليها.. تغيرت كثيراً، تلبس اشياء غريبة، لم اتبين من ملامح وجهها سوى التجاعيد وعيون غائرة بعيدة ليس لها نظرة محددة. من الساعة الثالثة فجر أمس حتى الآن السادسة عصراً وفيروز تعيد أغنية واحدة «يا مرسال المراسيل» كلما أردت تغييرها «قلبي لا يطاوعني». بعد أن غادر الأفندي والريامي ونام خالد بقيت وحيداً مع الذكريات التي اقتربت؛ رغم ذلك لم تصبح لها ملامح. تعاركت مع إحداها، واثناء عراكنا بدء أنفها ينزف. أجلستها مكاني على الكرسي ورششت على وجهها الذي بلا ملامح ماء ونظفت أثار الدم بمنديل «مطرز شوي ع الداير» ومحاك عليه اسم لم استطع قراءته. كنت اشعر بالذنب لما فعلت فالذكريات ضيوف يجب أن نغفر لها اخطاءها لأنها في بيتنا. قبل أن اعتذر لها كانت الذكرى قد اختفت وما تبقى بقع دم على ارض الغرفة! الاسكندرية – 9/ آب /2009
#خلف_علي_الخلف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رمزية افتتاحية -القبس- في تمثيل الصامتين
-
عفواً أوباما: ما كان ينقصنا خطابكم ليستمر البطش بنا..
-
الماجدي يخبئ المعنى في الحاشية
-
إنه الطيب صالح أيها الثرثارون
-
الإخوان المسلمين وتقشير الخرفان
-
فتاشات حماس تحرق غزة
-
عن اعتقال -القرآني- رضا عبد الرحمن علي
-
المفضلات الإجتماعية ما زالت شبه مجهولة عربيًا
-
عن مواقع المعارضة السورية ومطابقتها لوسائل إعلام النظام
-
والآن ماذا تفعل المعارضة السورية دون برابرة...
-
أيّها الرئيس السوداني توجه إلى دمشق فوراً
-
أبناء الأرامل ل علي العمري: رؤى فادحة تتناسلها القسوة والسخط
-
تقرير علني إلى السلطات الأمنية السورية بنفسي
-
العرب وغياب الضمير والمثال الأخلاقي
-
الجمهورية العالمية الإفتراضية: ال فيس بوك الشبكة الأسرع نموا
...
-
أنقذوا مطبوعات وزارة الثقافة السورية من جيش المنتفعين
-
الوسوم: ماذا يعرف المستخدمون العرب عنها
-
يوتيوب عربياً: رقص وجنس وحروب أديان ومعارضة سياسية
-
النظام السوري: تطويع المجتمع حسب نظرية القرود الخمسة
-
البوكر بنسختها العربية والانتصار للظل
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|