سحر أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 2817 - 2009 / 11 / 1 - 12:11
المحور:
الادب والفن
بابلو نيرودا : الأيام الأخيرة!
فرناندو أليغيريا
ترجمة سحر أحمد
أجدُ من الصعوبة أن أكتب عن بابلو نيرودا لأبدد حزناً خاصاً, أو أزيح ثقلاً شديداً عن القلب. وأخشى أن أثير حزن القاريء, لكنني أعلل النفس بأنه يتفهم صعوبة الأمر, وعسى أن لا يجد في كلامي مجرد حدادٍ على الميت, بل رؤية لمعركة فريدة, يخرج فيها الموت خاسراً.
منذ أيامٍ خلت, في مدينة سانتا برباره المشمسة التي تعصف بها رياح البحر, شاركتُ في حفل العزاء الجميل الذي أقيم لتأبين نيرودا. ترأس الحفل الأستاذ كينيث ريكسروت, الذي تحدث بصوتٍ هاديءٍ جليل, فكان يناغم كلماته مع هدير البحر, وعزف الجوق الموسيقي الصغير, الذي كانت أنغامه تتفجر صعوداً ونزولاً كلما هبت الريح. فكرت بما سأقوله لهذا الجمع من الطلاب والأساتذة الذي سحرته الأنغام في شعر نيرودا, وارتوى من شعوره الفياض لشيلي, وحبه العميق لماتيلدا.
قلت ببساطة أن نيرودا حاضرٌ بيننا. أراه باسماً, هادئاً في سيره, أو محلقاً أحياناً, يصغي إلى الريح والكلمات, إلى صرخة النورس العالية. ينظر إلى ذاك المتسابق هناك, يعدو بسرواله القصير في نهاية المضمار. يتوقفُ قليلاً لينظر إلينا مذعوراً, ويمضي في سبيله. إنها الحقيقة, فنيرودا مثل ذاك الميت في قصيدة الشاعر فاييخو لم يمت حقاً. سيموتُ معنا, في كل حركة من حركات عصرنا, موتاً شاملاً, عميقاً ذا دلالةٍ واضحة. سيموت أولاً هنا, ثم هناك, ثم في الأبعد. سيموت في نفسي, ثم في الآخرين رجالاً ونساء, من دون إيقاعٍ واضح, ولكن مع إيقاع الفصول, والبحر, والنجوم, والشجر الذي ينمو بكل هذه الأشياء ويكبر, يستريح من حياته, يتنفس أخيراً كلَّ الأجواء, وكل الأتربة, وكل الأزمان. تلك هي عناصر موته.
لذا, أريد قبل أن يطول بنا الوقت, أن أسجل بعض الملاحظات عن الصديق الذي أحببته, والشاعر الشجاع الذي واجه أخيراً حقيقةَ موته مسربلاً كعادته ببساطةٍ وصعوبةٍ ساحرتين. والمهم بالنسبة إليَّ أن نيرودا أستطاع في موته السريع أن يغير حقيقة الموت إلى فعلٍ مضاد في غاية الروعة والرهافة, إلى تلميحٍ وجرأةٍ واستحياءٍ ووجعٍ وسكينة. ودليلي على ذلك مزدوجٌ, أولهُ القصائد العشر التي نشرها نيرودا في مجلة "الأزمة", في آب 1973. وثانيه اللقاءات بيننا في آب 1972 , وأيلول 1973. تلك الأيام التي كنت أراه فيها يسافر من باريس إلى نيويورك, ومن نيويورك إلى سانتياغو وجزيرة العبد, ثم يعودُ إلى سانتياغو, تلك الرحلة من الإبتسام إلى قناع الموت.
* * *
أول ما تجدر الإشارة إليه ترتيب تلك القصائد. يبدأ نيرودا بقصيدة "تكافلات", وينتهي بقصيدة "أغنية حب". يُرسل إلى رئيس تحرير المجلة ملاحظاته بطبع القصيدتين بحروف مائلة. هكذا صادقَت على شهادة وفاة نيرودا اثنتان من قصائد الحب, وكأنهما الميدالية التي يصادق وجهاها, الصورةُ والظل, على الحياة ويؤكدانها. والثاني أننا كنا في نيويورك, وكانت معنا زوجته ماتيلدا, كذلك زوجتي كارمين. كنا نسكن غرفتين متجاورتين في الفندق, وكنت أعرف أن نيرودا مصابٌ بمرضٍ عضال كان قد عُولج منه في باريس, لكنه يرفض الحديث عنه, غير أن حالته الصحية واضحة تكشفها بعض التفاصيل الثانوية. كنا نأكل ونشرب بخبرةٍ منحنا إياها وطننا الأصيل, وبشراهةٍ لالتهام الدنيا بأفعالٍ عنيفةٍ وصامتة. وكانت ماتيلدا تُعنى بزوجها برقة, لكن بحزم.
سرعان ما صرنا نعتني به جميعاً, وجاءت خاتمة ذاك الرجل الذي قال مرةً: "ما زالت هناك خطوةٌ ," في مقصف الفندق. لم يقل شيئاً. حدث فصلٌ مريع في عيادة الأسنان, بعدها استأجرنا سيارةً وذهبنا لشراء المحار. انتهى النقاش نهاية غير متوقعة. يشيخُ المرءُ, طبعاً يشيخ. لا حاجة لتذكيره بذلك. نظرة من أحدهم كافية, كلمة أو إيماءة.
قال نيرودا: "يبدأ الموتُ بالساقين." تبادلنا النظرات. كلانا يعرف أن مثل هذا الموت لا يبدأ من الساق. لا أدري تماماً لماذا إدّعى نيرودا لاحقاً في جزيرة العبد أنه يعاني من روماتيزم سقيم يلتصق بساقيه كالضباب, ومن دون أن يلمح إلى المرض المستعصي الذي كان يزحف على عموده الفقري وينخر فيه. في صباح الأحد التاسع من أيلول, نصحته ديليا دومنغويث قائلة أن هذا الروماتيزم سيختفي بقدوم شمس أيلول, فأجاب نيرودا بأن الشمس القادمة ستحرقه, وأنه لن يرَ شمس هذا الربيع.
أمسك نيرودا كالرجل الحكيم بالمحارات الرائعة, ولم يبدُ أنه يلتقطها, فكانت تلتصق بأصابعه حين يقلبها ليتفحصها ويقربها من أذنه. يزنها في يده, فتصبح نجوماً وكهوفاً وسماوات وأشواكاً وأجراس وآذان وشفاهاً. يختارها ويصنفها بدقة, ثم يسقط في الكأس قطعةً بحرية أثارت فضوله, ويعيد البقية إلى صندوق الكرتون المبطن بالقطن.
ثالثاً : كنا في صالة الفندق ننتظر قدوم الناشر الأمريكي. رفع نيرودا الكأس عالياً وكأنها حبة بصلٍ شفافة, وقال إنه لا يشرب المارتيني إلاّ في الولايات المتحدة, لأن الأمر لا يكون لائقاً في بلدٍ آخر غيرها. جلسنا ونظرنا إلى السم الفضي الرائق الزعاف في ظل الأضواء التي تنشرها المصابيح القديمة والستائر الحمر. جمدت رؤوسنا, وأصبحت صدورنا كالصفيح. تنفسنا بصعوبة, ونظرة سريعة على أفواهنا تدل على أننا أصبحنا تنيناتٍ تتجشأ لهباً صافياً, لكنه سرعان ما ينطفئ. ألقى نيرودا كلمةً في نادي الجمعية الدولية للكتاب في نيويورك, وأحاطت به جموعٌ غفيرةٌ. رأيتُ وجهه يشحب والرماد يعلق ببدلته السوداء. أحاطوا به, واندفعوا إليه ليحاصروه في الزاوية حتى غاب وسطهم. هو الآن في صالونٍ صغير مخملي ناعم, تلتف حوله مجموعة طيبة من الأصدقاء, يتنفس ويشرب جرعاتٍ من الشمبانيا وكأنه ملاكمٌ فقد توازنه في الجولات الأخيرة. قال آرثر ميلر مرةً أن نيرودا شجرة, وهذه الشجرة الآن تنوءُ في سيرها المتثاقل إلى الحمام, وتمشي بخطواتٍ ثقيلةٍ متعبة. قال يلملم خطاه: "صحتي متردية, وسأعودُ في تشرين الثاني إلى شيلي من دون أن يعرف أحد." لكن الجميع عرف الخبر.
* * *
لكننا حين نعود إلى القصائد العشر الآنفة, نجد إثنتين تشيران مباشرةً إلى الموت, وتعكسان بوضوح تأمل نيرودا السري فيه. الأولى بعنوان "حيوانُ الضوء", وهي اعترافُ الشاعر بعزلته, بالحلقة المسدودة حوله, وبأولئك الذين لن يستطيعوا ملامسة أعماقه بعد الآن. تقاعد الشاعرُ, وانسحب من دنيا الشعر. لا أحد معه غير أمواج البحر والنجوم, وهما صديقان مرهونان بالزمن. لم يبق غير شيء صغير, لكنه شاسع في الوقت نفسه. هرب نيرودا قلقاً, ينوءُ بالمدن التي على منكبيه, وحبال البلدان حول رقبته, لا هرباً من الناس الذين قالوا وفعلوا الكثير, بل من حواره الذي لا ينتهي مع النفس. "لا اكتشافات بعد اليوم". الأمر واضح. "لا قول بعد اليوم". ثم ينهي نيرودا قصيدته ببساطة وحيداً, لا أحد معه غير الصمت وصوت البحر قائلاً : " إنتهى الأمر". تنزل هذه الخاتمة الفادحة ستارةً من حجر. يطفئ نيرودا الأضواءَ بلا تردد. يستعد, وهو ذلك الفاعل العظيم في حياته, للعمل في ذلك الصمت العظيم الذي هو موته.
أما قصيدة "أغنية حزينة لكل المتعبين", فلعبة إنفرادية, أو هي معادلة الإنجاز العظيم بالبطلان, والساعات بالفراغ. هي تذبذب الرجل المقسوم على نفسه, إنها الإيقاع الخالد للحياة والموت. تتسرب القوة البسيطة الكامنة في الأفكار الرئيسة المتكررة من أصابعه وكأنها حبات السبحة. إبتهال حكيم, وصلاةٌ حزينة, لن ينتهيا بعد اليوم.
وفي قصيدة من "كتاب التساؤلات", أربعة مفاتيح لمعرفة فضول الرجل الأولي البعيد : الفراشة الجاهلة بحروف أجنحتها, والنحلة التي لا تعرف الطريق, والنملة التي لا تدري عدد القتلى في معسكرها, والإعصار الذي نسيَ أسمهُ بعد أن تهدأ الفورة. لا الحب, ولا المعرفة قادران على إجابة الرجل الذي يظلُ ينظر إلى الزمن المدفون, ولا يستطيع المرء الإمساك بالأمل إلاّ وهو محتار على شفا حفرةٍ من الموت :
أو هل ما أرى من بعيد
ما لم أحيَهُ بعد؟
* * *
وحين يلخص نيرودا تجربته الشعرية, فأنه يعي البعد الشخصي الذي أعطاه للكلمات, ولكن من دون أن ينسى التأثير الذي أحدثته هذه الكلمات في نفسه. يسمي أولاً الأشياء, ثم يحفر خلفها, وينقب في لبابها بحثاً عن الصوت والصدى, عن الفعل السري الذي يبوحُ بكنه الشيء ومعناه. فالـ"عضو" صوت بِكرٌ, اسمٌ يبدو وكأنه وُضِع جزافاً, لكنه يثبت رمزاً لمعركة الشاعر مع البلاغة, مع لا عقلانية العقل, مع البحث الملتهب عن الكلمة الساحرة التي لا تُخبر أحداً, لكنها توصله إلى مصيره. إنها ردةٌ داخلية, ألماسةٌ في بيدر, زهرةٌ تتفتحُ وتذوي, دفاعٌ عضوي, تِيهٌ عضوي, تعاقبٌ عضوي, كلمةٌ خضراءٌ فواحةٌ تهتزُ كالسيف.
يبدو أننا اقتربنا من النهايات المحتمة, ومن توكيدات يتردد صداها في عالمٍ تتكشفُ فيه الرموز القديمة, وتسقط ثمارها على الأرض. وقصيدتا "البطل" و "الوضعُ اللا مبرر" هما صورتان لهجوم الموت العنيد الحاقد. والبطل في الأولى رجلٌ يمضي عارياً, فيلسوفٌ صلب لا يلين لدعاوى الناس, تغطيه الحراشف السود. وهو آخر عراة الحضارة العظام, يعكس في عُريه مسيرة التأريخ وكأنه افتتاحية قديمة في صحيفةٍ ميتة. يموتُ على دكة داره بسبب قساوة الشتاء. أما القصيدةُ الثانية, فتُشير إلى عائلةٍ ما, إلى أبناءٍ, أخوة وأخوات. إلى عالمٍ يستولي عليه الأموات ويحتلونه بتفنن ,شبراً بعد شبر. أمواتٌ وقحون, طفيليون, يقطعون الحرث والنسل, يحرقون الأخضر واليابس. يدخلون أولاً حجرة الجلوس, ويملئون الكراسي, والمناضد, والمطابخ. يقتحمون الحمامات ليصبغوا الجماجم, ثم يطردون الناس الكرماء الصابرين إلى أقصى الحديقة, فيحتمي هؤلاء بشجرة البرتقال. يتسلق الأموات الشجرة, ويتكاثرون على أغصانها بجدٍ ومثابرة حتى لا يبقى لأولئك الناس من خيارٍ غير تسليم أنفسهم بقناعةٍ ورضا إلى المقبرة.
* * *
ثمة حقيقة أخرى: فالجراحةُ أشراطُ مِشرطٍ عقيم. ينتشر الداءُ الحرون كالزئبق المراق. وحقيقةٌ أخرى غيرها, فنيرودا, ذلك الطويل القوي المتمهل, المتشامخ الودود في الوقت نفسه, المجبول على الحب العظيم والرقة البالغة, صانع السماء والأرض, يبولُ, ويؤكدُ مكابراً, غير مبالٍ, على خروج الدم مع البول. وقصيدة "البوّالُ الكبير" إعترافٌ مباشر, وصريح بالمرض الذي أوصى به الموت: سرطانٌ زاحفٌ على البروستات!
مضت شهورٌ حتى جاء الوقتُ الذي يحسب فيه الزمنُ بالأيام والساعات. ونيرودا طريح الفراش في جزيرة العبد, يكف عن العمل. يضطرب البحر, ويُغلق أمواجه دونه, وسرعان ما تصبح رياحهُ الأربع هي رياح حملَته البحرية المربّعة. تلتفُ مؤامرةٌ محكمةٌ مطواعةٌ كالأفعى. الناس يدرونَ ما سيكون. توقف إيقاعُ الحياةِ في المنتصف. ينظر الناسُ إلى بعضهم بريبة. تطوفُ بالمدينة ثُلةٌ من الرجعيين المعروفين, على وجوههم إبتسامة طولها ميل. عملاءٌ دوليون يهبطون ويقلعون من مطار بودايول, حاملين معهم حقائبَ مريبة. يكتبُ نيرودا رسالةَ إستغاثة إلى أصدقائه في أوربا والأمريكتين وأفريقيا وغيرها من البلدان, يدعوهم فيها للقدوم ونصرة شيلي, لدحر الانقلاب وإنقاذ الأمة الاشتراكية الصغيرة التي ستُذبح. كان صوت نيرودا واضحاً, ثابتاً.
التاسع من أيلول, يوم الأحد الكئيب. هدوءٌ يسبق العاصفة. عرفتُ أن نيرودا طلبني بالهاتف. لم يكن يعرف أنني في سانتياغو. يقترحُ على ديليا دومنغويث الاتصال بي في كاليفورنيا. التقطتُ السماعة, فأجابت ماتيلدا من جزيرة العبد. كنت أسمعُ نيرودا يقول بصوتٍ عالٍ: قولي له أن يأتي اليوم, ومن الأفضل أن يأتي حالاً, اليوم. إنه في الفراش, وواضحٌ من صوته أنه مشغولٌ بعمله وأوراقه. إتفقنا على الذهاب يوم الثلاثاء, الحادي عشر من أيلول. سأذهبُ على طريق الدار البيضاء, لا على طريق أنطونيو التي تسيطرُ عليها عربات الفاشيين. الثلاثاء, إنفجرَ عصيان القوات المسلحة.
وهذا آخر الأشياء التي عرفتها: نيرودا مريضٌ تماماً, يمنحهُ طبيبه بضعةَ أشهر للحياة. لكني لا أدري إن كان هو قد عَرِف الحقيقة. طائرات الهوكر هنتر تقصف المونيدا. يسقط الرئيس الليندي برصاصٍ غير معروف. يحملُ العمال الأسلحة على إمتداد الوطن. يسقط مصنع سومار. تسقط الجامعة التكنولوجية. تسقط الليغا, والهيرميدا. يتحدر الكادر الدامي للإتحاد الشعبي من تلال بالباريسو. محاكماتٌ صورية, وإعداماتٌ سريعة في تاماكو, وفالدفيا, في كونثون, وبياغوا, وأنتوفاغاستا. يريد نيرودا, الفاغر العينين وقد التحى الآن, رؤية كل هذا الموت, فيسحب قدميه إلى منتصف الطريق ليعرف فجأةً أنه قد أصبحَ أخيراً وجهاً لوجه مع الحقيقة. فالعالم الذي صنعهُ بيتاً بيتا, خطوةً خطوة, والوطنَ الذي بناه من الرمل والحجر, من الفحم, من النحاس والملح الصخري... الوطنَ الذي بناه من الطين, من الضباب, من الحنطة, من الصخر, من الثلج .. الوطن الذي سماه, وغنى له طوال السنين, وطن الفلاح والعامل, يسقط عليه كالسقف القديم, ويتهدم كحائط من اللَبِن. لم يبقَ غير الصمت, غير البحر الشامخ, غير ساحلٍ بعيدٍ, وزورقٍ واحد.
ليس للقصائد الثماني المنشورة في مجلة "الأزمة" أية علاقة مباشرة بديواني نيرودا الأساسيين "إقامةٌ في الأرض" و "أغنية الجموع". يواجهُ نيرودا في الجزأين الأولين من ديوان الإقامة موتاً أساسياً في مسيرة الحياة الخالدة. بلىً محتوماً عنيداً مستفحلاً. بذرة تدمر نفسها في خضمِ بحثٍ غامض. عمياء ثابتة, تبحث عن جوٍّ لن يتكرر. عن سويقة قُطِعت, وماتت. صورة عالم راهن يحمل العبء الميت لمستقبلٍ يعكسُ خراب الماضي, يرى أنه سيكون جزءاً من هذا التفسخ الذي ينتشر ويحيط به من الداخل والخارج.
يصف هرنان لويولا هذا التصور للموت في ديوان الإقامة, فيقول: "يرتبط ذكر الزمان في قصيدة "طيف السفينة" ( والإشارة هنا إلى غرق السفينة فور أفريك عام 1932) بفكرة البلى والتفسخ, بالغرق البطيء للأشياء في بحر الموت. وبالمقارنة الدقيقة, نجد الأمر نفسه في مسرحية "موت جواكان". لكن ديوان الإقامة لا يقدم صورة البلى والخراب بالتلميح إلى الزمن, أو النسيان, أو الموت. عليه, فإن إعادة مثل هذه التلميحات لا تفسر قدرة هذا الديوان على نقل الإحساس بالانهيار الدائم. ويحقق نيرودا هذا التأثير عبر شواظٍ متواصلة من الصور المتآكلة والتماثيل."
ويشير الكاتب أيضاً إلى فكرة الموت في شعر نيرودا الشاب: لا بسبب الألم البلاغي فحسب, بل لتأكيد الحياة أمام الموت المتأصل في الإثارة الحسية الفاعلة في ديوان "غموض", وديوان "عشرون قصيدة حب, وأغنية يأس واحدة".
نرى هنا تصوراً ناضجاً للموت, لا لأنه حدثٌ فريدٌ قائم بذاته, ولكن عمليةً تقاس بنتائجها المادية وتصوراتها الميتافيزيقية: دمارٌ وفراغ. ينجحُ نيرودا في استخدام رمزين قويين هما البحرُ والزمن, ويحيلهما إلى التجارب المتراكمة لظاهرة الاغتراب, وإلى الحالة الشخصية للألم. ويستمرُ في البحث عن إجابة لهذا الألم مقترباً بنفسه من الطبيعة المسالمة للأشياء التي لا تشعر بتآكلها ودُنُوِها من الموت, كالأحجار والأكياس والأشجار والمرايا والأوراق والقيود.
وفي ديوان "أغنية الجموع", ينظر نيرودا إلى الموت من ناحيةٍ تاريخية, لا التأريخ اللانهائي, بل العرض اليومي لحوادث الموت الذي يلفه لا محالة. مثال ذلك شجرة الخريف, وحوادث الموت التي تغطيه كالقماش المرقّع. موتٌ جماعيٌ يخاطبهُ من قلعة ماشابيشو, أو يجتاز ببطء أعماق البحر العظيم. وصيته وثيقةٌ تاريخية, سياسية الهدف. بيانٌ بصراعِ الحياة. هي شهادة إيمانه بحزبه, الحزب الشيوعي الشيلي.
الموتُ في القصائد المنشورة في مجلة الأزمة هو موت الشاعر نفسه, مختومة بإسمه. إنها التجربة المتممة لرجلٍ ادخر الأيام لتلك الليلة الكبيرة, للكنوز المخبوءة, لتماثيل الجص, ونجوم كاذبة من الصفيح يزينُ بها قبره. هذا الرجل المريض المُرتّق, المحارب الماهر العنيد, ينتظر الموت بعزمٍ وثبات. حقاً يبدأ الموتُ بالساقين, وسرعان ما يصل إلى التَراق, كالجوع القاتل في المعدة, وكالظلام الدامي. وباختصار, هو الموت الذي سرعان ما يشخصهُ الدكتور أوريغو. قلتُ أن نيرودا ماتَ بسبب نوبة قلبية, أعقبت مأساة الحادي عشر من أيلول في شيلي, وبجانبه ماتيلدا, زوجتهُ ورفيقة عمره التي أشرفت على مراسم دفنه القاسي.
أعتقدُ أن نيرودا واجه اللغز الأخير بوعيٍ تام, وحوّلهُ بلغةِ الحب والاستسلام إلى الفاعلية المادية للعالم كما رآه. وما أراد نيرودا تأكيده شيئاً في غاية البساطة: كان نيرودا قبل كل شيء شاعر الحب, وأكثر المحاربين إقداماً وقوةً وفرحاً, فأنتصر على الموت. وهذا ما جعله يطلب من رئيس التحرير أن ينشر قصيدتيه عن الحب بالحروف المائلة. ما الذي يقوله فيهما؟ ما الذي لم يقله نيرودا عن الحب في شعره؟
لأنه من دون المضي خلف الحاضر
وهو حلقة ضعيفة
نلمس رمل الأمس
وفي البحر يعلمنا الحب
البهجة المعادة.
كان الزمن, ولا يزال, حلقةً ضعيفة, دوّامةً تأخذ من الرقة إرادتها ومنطقها الخاصين, إرادة البحر ومنطقه في حركته الحكيمة الدائبة. سيبقى الزمن فيما يدعوه نيرودا "تكافلات" ومن أهمها ماتيلدا, وكل ما في داخلها. قصيدة "أغنية حب" أغنيةٌ عاطفيةٌ راقصة, ريتورنيلو عذبة, أغنيةٌ لمجدِ الحنان المتألق النضر, موسيقى وامتلاك.
بابلو! الوطن, عائلتي وعائلتك, أنا وأنت, والعالم. رموا الموت في عيوننا, وفرّقونا كما فرقت الريحُ أوراقنا, وطننا الذي
تُرك فارغاً
بلا أبواب,
بلا بيوت,
بلا أضواء,
بلا برتقا لٍ ,
وبلا أموات
وطننا على سفح التل, على شاطئ النهر, بجوار البحر. البالوعات مفتوحة, وفي الظلمة, وأنا أتطلعُ إليك, رأيتك تنظر إلينا والأشياءُ تغرق, ظلٌ أحمرٌ لا يزول. تمضي الساعات من بندقيةٍ إلى أخرى, والتابوت الأسود يتهادى في الريح. سيقولون إنها قصةٌ معروفةٌ. ذلك النوع البسيط من المواقد الحجرية, والأمير الذي ينتظرنا عند الباب. لكنني أفضّلُ معنىً آخر مختلفاً قليلاً: إنها القصة البسيطة للإنسانية ومصائرها الراهنة. لا طقوس, المهم عوائلنا والدعاءُ باللطف – عسى أن تتأخر التوابيت!
تُظهر القصيدة ثقةً بالاتجاه الوحيد للزمن: نحونا, ضدنا. إنه كالريح المذعورة, يسلبنا الفسحة الوحيدة, والتي هي في الحقيقة لم تكن لنا قط.
#سحر_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟