|
تعريف الأسطورة
طارق الهاشم
الحوار المتمدن-العدد: 2817 - 2009 / 11 / 1 - 02:01
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
يمكن تعريف الأسطورة بأنها محاولة من الانسان لتبرير ما هو قائم من انساق طبيعية أو صناعية في محيطه، وهي تستمد قوتها من ذاتيتها بغض النظر عن صحة وجودها الموضوعية، تختلف الاسطورة عن التفاسير للواقع بصورها المختلفة >كتب بحوثالحقيقةحقيقتها< الخاصة على كل الحقائق الأخرى التي تلفظ بالكامل أو تتحول الى مفسر للحقيقة الوحيدة- الحقيقية· وإذا بدا هذا الكلام مغرقاً في التفلسف، فإن الأمر يعود لطبيعة الأسطورة الذاتية دائماً وغير الموضوعية، حتى في وجود أثر موضوعي للحقيقة الاسطورية، وحتى نبتعد عن التعميم فإننا نطرح مثالاً أسطورة >الأصل القردي للانسان< ، فبرغم استناد هذه الأسطورة الى جملة من المشاهدات العلمية والدراسات المتأنية- التي يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها- فإن الأسطورة حال تشكلها في نهايات القرن التاسع عشر أصبحت أكثر من حقيقة علمية، فقد بذل آلاف العلماء والباحثين في مجالات تتراوح بين الإناسة وحتى علوم الرياضات مجهودات ضخمة في محاولة للبناء على النظرية أو تفسيرها، مكونين لاهوتاً كاملاً حول -حقيقة- لم تتأكد مطلقاً· ولكن لا تحاول اخبار أي من المؤمنين بالاسطورة بأنك لا تعتقد في حقيقتها، فذلك سوف يفتح عليك أبواب جدل لا ينتهي· وفي الغالب سيحيلك المجادل الى الاسطورة نفسها كتأكيد لوجهة نظره· وهنا مدركاً أن لن يكتب لك النجاح في محاولتك الخائبة إما أن تذعن لوجهة نظره أو تتحول الى مجرد مكابر أحمق لا يستطيع رؤية الشمس في قارعة النهار· ومن هنا يتضح أن للأسطورة مجموعة من الخصائص المميزة لجنسها، فهي أولاً: قد تكون صحيحة أو كاذبة· ولكن هذا لا يهم لأن ثانياً: الناس- أو بعضهم يصدقونها· و ثالثاً: تفسر ما حدث في الماضي وتوضح لمصدقيها ما يتوقع منهم فعله في المستقبل لانها، رابعاً: تستمد مشروعيتها من تصديق الناس لها واعتمادها كأمر لا يتطرق له الشك· و خامساً وأخيراً: غير قابلة للنقض أو يؤدي نقضها الى تقويض أسس العالم الذي يعيش فيه المؤمنون بها· والجدير بالذكر أن الاسطورة قد تكون قديمة جداً >مثل أساطير الأديان الطوطمية مثلاً< أو حديثه مثل تلك التي تتحدث عن اغتيال كنيدي مثلاً· ويمكن النظر للدولة على أنها كائن حي مكون من قسمين متداخلين، الأول هو أسطورة الدولة نفسها- مثلاً الآباء المؤسسون والدستور في الولايات المتحدة أو اتصال محمد بن عبد الوهاب بآل سعود في المملكة السعودية· ولكل دولة أسطورة مختلفة تحدد في أذهان المؤمنين ما يجب أن تكون عليه، وتبرر للقسم الثاني، وهو البيروقراطية، أفعاله غير المحبوبة بالطبع الانساني- جمع الضرائب كمثال- ويجب أن لا تتجاوز البيروقراطية حدود الاسطورة والا تعرضت للمقاومة من قبل الذاكرة الجمعية للأمة، فمثلاً لا تستطيع السعودية إقامة البارات في أراضيها ولا تستطيع الولايات المتحدة تقييد حرية التعبير بسبب تعارض كلا الفعلين مع الاسطورة لكلا الدولتين· وبقدر ما تقترب البيروقراطية - جهاز تنفيذ الاسطورة- من المثل التي تطرحها الاسطورة، بقدر ما تكون الدولة مستقرة· وعندما لا تلتزم البيروقراطية بموجهات الاسطورة، فإن الدولة تواجه حالة من التململ· ولكن المشكلة لن تكون في البيروقراطية فقط، وانما ستتجه الى الاسطورة نفسها، وستتم مهاجمتها· وان استمر الحال على ذلك وقتاً طويلاً ستصاب الاسطورة بالهزال، وستسقط نازعة معها الاحساس الداخلي لدى المواطن بشرعية الدولة· وعندها تتحول أعتى الدول الى هباء تذروه الرياح·
ويمكن ملاحظة هذه الحالة بوضوح في انهيار الاتحاد السوفيتي، وذلك لتآكل الأسطورة المؤسسة نتيجة ابتعاد البيروقراطية عن الالتزام بالمثل الأخلاقية العالية جداً- وغير المعقولة التي تفرضها الاسطورة· وفشل جهاز الدولة في تحقيق وعود الرفاه- الذي يمثل لب أسطورة الشيوعية- لكل الناس، الأمر الذي أصاب الناس بصدمة جعلتهم يتحولون بالجملة عن الايمان بشرعية الاتحاد السوفيتي· ويمكن المجادلة طبعاً بتأثير الحرب في افغانستان وبالضغط الاقتصادي الذي ولده سباق التسلح والدعاية الغربية المغرضة الموجهة بذكاء· ولكن كل تلك العوامل استهدفت بالذات شرعية الأسطورة، مما جعل تقويض الدولة أمراً سهلاً- نسبياً- وغير مكلف على الاطلاق· ويلاحظ أن الاسطورة بحد ذاتها تتكون في جميع الأحوال سواء رغبت الدولة في تكوينها أو لم ترغب· ولكن من الأفضل بالتأكيد وضع الأسطورة من قبل مفذلكي الدولة نفسها لتحديد ما يرغب الناس في الايمان به· ويجب أن تكون بسيطة وغير معقدة وقابلة للمط والتطوير· وذلك لإعطاء تفسيرات مختلفة للأسطورة في حال تغير الظروف· وعند صناعة الأسطورة تجب مراعاة أن هناك أساطير لن تمنح الدولة أي نوع من الاستقرار، مثل أسطورة الثورة الفرنسية مثلاً، الأمر الذي يفسر الاضطرابات المستمرة التي تجتاح ذلك البلد الغني والقوي كل فترة قصيرة، فبالنسبة للفرنسيين تستمد أية ثورة على النظام مشروعيتها من الأسطورة المؤسسة لفرنسا نفسها· وذلك يضع المدافعين عن النظام على نفس المستوى من الشرعية الذي يمتلكه الثائرون عليه، وبالتالي فإن معدل البطالة لا يمكن أن يفسر انتشار المشاكل والمظاهرات في الضواحي الفرنسية، وإنما يجب النظر الى العمق- لوجدان الأمة- لمعرفة سبب الاضطراب· وما دمنا في فرنسا فثمة أمر آخر يجب ذكره، فأسطورة فرنسا الملكية كانت جان دارك، واستمدت الملكية الفرنسية شرعيتها من هذه الفترة التي قامت فيها هذه الفلاحة بقيادة الفرنسيين لطرد الانجليز بعد رؤيتها للقديسة كاثرين· وبالتأكيد فإن أي شخص يعرف القصة سيلاحظ أن الأسطورة حوت التالي: 1/ فرنسا يجب أن تكون أمة مستقلة· 2/ فرنسا يجب أن تكون موحدة· 3/ فرنسا يجب أن تكون مؤمنة >كاثوليكية< · 4/ فرنسا يجب أن تكون ملكية· وقد استطيع اضافة: 5/ الانجليز مجموعة من الانذال· وقد ساهمت هذه الأسطورة في بقاء الملكية في فرنسا الى أن هزمتها الأسطورة المضادة >الثورة الفرنسية< وهي الاسطورة التي مازالت في الخدمة حتى اليوم· أما بالنسبة للأمم التي لا تملك الأسطورة مثل العديد من الدول الأفريقية المضطربة اليوم، فإن امكانيات البقاء تعد أمراً في غاية الصعوبة، فبدون أسطورة جامعة في بلد مثل السودان، ينحو الجميع للايمان بأساطير أخرى مثل الديمقراطية العابرة للحدود بصيغتها الاميركية، وهي أسطورة على الموضة هذه الايام، أو وضع الثقة في الاسطورة القديمة للممالك الاسلامية من طنجة وحتى جاوه· و· و··· والمشكلة أن المواطنين لا يستطيعون الاتفاق على رؤية موحدة لبلادهم بدون الايمان بأسطورة موحدة· وقد كانت الثورة المهدية وشخص الإمام محمد مناسبتين تماماً لتكوين أسطورة سودانية خالصة، خصوصاً لأن المهدي لم يحكم السودان الا لفترة قصيرة جداً، أي أنه تقريباً بلا أخطاء· ولكن عيب هذه الأسطورة الوحيد هو مطالبة أبناء الإمام بالسلطة، ففي كل زمان في المائة عام الاخيرة وجد فرد من آل المهدي مطالباً بالسلطة· ولأن باقي السياسيين لا يرغبون في منحه إياها، فقد ساهموا في تقويض الأسطورة باذلين كل جهودهم لمنع تحققها· وكانت النتيجة بلداً تلاحقه الازمات السياسية والاضطرابات المصطنعة مثل مسألة الهوية واليوم أنظمة الحكم المختلفة· ولن يتم القضاء على كل هذه الأزمات دون رؤية موحدة يتفق عليها السواد الأعظم من المواطنين· وثمة أبطال مختلفون يمكن صناعة أسطورة من كل واحد منهم تكون جامعة مانعة، فإن أردنا الوحدة الوطنية مثلاً يشكل >علي عبد اللطيف< نموذجاً طيباً، وإن كانت الحكمة والمقاومة، فإن عثمان دقنة- قادر على تشكيل الأسطورة وهكذا، المهم هو وجود الأسطورة نفسها والاتفاق عليها، وان لم توجد صناعتها
#طارق_الهاشم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر: الدولار يسجل أعلى مستوى أمام الجنيه منذ التعويم.. ومصرف
...
-
مدينة أمريكية تستقبل 2025 بنسف فندق.. ما علاقة صدام حسين وإي
...
-
الطيران الروسي يشن غارة قوية على تجمع للقوات الأوكرانية في ز
...
-
استراتيجية جديدة لتكوين عادات جيدة والتخلص من السيئة
-
كتائب القسام تعلن عن إيقاع جنود إسرائيليين بين قتيل وجريح به
...
-
الجيشان المصري والسعودي يختتمان تدريبات -السهم الثاقب- برماي
...
-
-التلغراف-: طلب لزيلينسكي يثير غضب البريطانيين وسخريتهم
-
أنور قرقاش: ستبقى الإمارات دار الأمان وواحة الاستقرار
-
سابقة تاريخية.. الشيوخ المصري يرفع الحصانة عن رئيس رابطة الأ
...
-
منذ الصباح.. -حزب الله- يشن هجمات صاروخية متواصلة وغير مسبوق
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|