عبد العظيم فنجان
الحوار المتمدن-العدد: 2816 - 2009 / 10 / 31 - 20:28
المحور:
الادب والفن
دليلك الى الطابق التحت أرضي من الثقافة العراقية
قراءة في كتاب " جمعة يعود الى بلاده " للشاعر خالد المعالي
عبد العظيم فنجان
" يتذكرونه حين تهاجمهم أسراب الجراد ،
فقد كان الأكثر فرحا بوصولها ،
والأكثر طاقة في انتاج حيل الايقاع بها ،
جمعها وطبخها في قدر كبيرة ،
تجفيفها وتخزينها كي تكون زادا خاصا به "
ص 9 من الكتاب
مرة ، في الصحراء عام 1980، والحرب العراقية الايرانية في بدايتها ، كنتُ منهمكا بتلقيح قطيع من الاغنام ضد فايروس الجدري ، عندما عادت الطائرة المُغيرة على مركز الطاقة الكهربائية القريب من الفرات ، في المسافة بين مدينتي الناصرية والسماوة جنوب العراق ، وكانت مسرعة جدا ، لكن طيارها الغبي أوقع خزان الوقود بالقرب من عملنا ، حيث كان عدد من رعاة الاغنام الصحراويين معي ، ومن بينهم صاحب القطيع ، الذي ارتج مع صوت ارتطام خزان الوقود بالارض ، فقال فجأة : " هذه الحرب لن ينهيها لا صدام حسين ، ولا الخميني " فسألته مازحا : " ومَن ينهيها ، برأيك ؟ " فرد بشكل حاسم : " أنا " ثم تركني ، تركَ قطيعه ، وتوجه نحو خيمته / داره ، فيما انصرفتُ مع باقي الرعاة الى العمل ، حتى دوتْ الاطلاقة التي أنهتْ حرب الحاج ونان – هذا هو اسمه – متوجهة نحو رأسه ، فقد انتحر راعي الاغنام هذا ، منهيا حربه ، على الطريقة التي لاتوفرها الا السينما ، وارتعشَ من بهاء النور الفائض من روحه قطيعُ الاغنام ، في تلك الصحراء المقطوعة عن ود العالم .
هذه الحادثة ظهرتْ على سطح ذاكرتي ، فجأة ، أثناء قرائتي كتاب خالد المعالي : " جمعة يعود الى بلاده " فأعادتني سنينا الى الوراء . وطبعا ، ليست كثيرة هي الكتب التي تفعل ذلك : الكتب المستفزة ، التي تنبش الداخل ، وتجعلنا بمواجهة حقيقية مع حياتنا ، كما أنها قليلة تلك الكتب التي يتواضع صاحبها ، ولا يتكلم من فوق ، بنظرة استعلائية الى الاشياء ، وانما يتحدث من داخلها ، بعيدا عن نية مبيتة للكشف عن الذات المدعية : العامة ، المريضة ، الشاذة ، التي عبثا ندعي طردها ، عندما نكتبُ شهادتنا ، وخبرتنا ، خاصة تجربتنا عن المحرقة الوسخة التي أتلفتْ مصائرنا ، نحن شعب الـ " شكو ماكو " . تلك المحرقة التي تناوبنا – ضدها أو معها – على رسم نيرانها من الداخل / الوطن ، ومن الخارج / المنفى .
" جمعة يعود الى بلاده " إذن واحدة من تلك الكتب التي سمحت للكشف الشخصي أن يفيض على الصفحات ببوح نادر لا نجده الا في القصيدة الكبيرة : القصيدة المكتوبة بالقلب ، لا بخبرة الالفاظ . قال الفنان التعبيري ماتيس مرة : " عندما اعمل لااريد ان افكر قط ، بل أن أشعر حسب " .
نعم ، اُنجز هذا الكتاب ليفيض شعورا ، بدون تخطيط مسبق ، بل هو يعتمد على ستراتيجية الكشف الحميمي الخالص ، ولكنه كشف بقدر مايبوح في صفحات ، بقدر مايستر ، فالمفارقة الرائعة التي اعتمدها المؤلف هي أنه يستر مـَن يشي بوبائه ، خاصة في تلك الفقرات / الرسائل التي خصَّ بها كاتبا عراقيا ما ، لم يسمّه ، لكنه عيـّنه – كما يفعل الشعر ، على رأي هيدجر – لأن الشعر يفضح بغطاء الستر ، وهو مافعله المعالي في هذا الكتاب ، الذي سيلتبس تجنيسه ، كالعادة ، لأننا نكتبُ كتبا وفي ذهننا نيـّة تجنيسها : شعر ، قصص ، مقالات ، رواية .. الخ ، واضعين أمامنا رأفة الرقيب وسماحة الناقد ، وهو الدرس الذي تجاوزه خالد في منفاه ، حيث يكتب الناسُ هناك بحرية ترفس التجنيس ، ولا تعدّه معيارا لوقف التدفق : النزيف .
وبالرغم من أن الكتاب اشتمل على معظم " المواد " التي نشرها المعالي ، وقرأناها هنا وهناك ، الا أن القاريء سيجد نفسه حتما أمام مادة واحدة : حارة وطازجة ، كأن " تيمور " الكردي قد عرفناه للتو ، أوكأننا لم نكتشف بعد المقابر الجماعية ، أو كأننا لم نعرف جحود المثقف العربي :
ومن هذه النقطة الاخيرة بالذات يبدو ملحا قراءة " جمعة يعود الى بلاده " بوصفه دليلا الى الشارع الخلفي ، والى الطوابق التحت ارضية من الثقافة العراقية .
هذه الحرارة ، وهذا الدفء الذي شعرتُ به ، وأنا التهم الكتاب دفعة واحدة ، حرّضا فيَّ أشياء كثيرة اعتبرتها منتهية ، ولم اكتبها : أضاءا فيّ مناطق كنتُ بصددها ، ومن ثم أدرتُ دفة سفينتي بعيدا عنها ، لأنني اعتبرتها بحكم الزائلة ، والالتفات نحوها مضيعة للوقت ، وللشعر .
أتذكر خالد الشاب – هل شابَ الآن ؟ - في الناصرية ، منتصف السبعينات ، أيام كانت اللمّة صافية تحت خيمة الصديق الشاعر عقيل علي : خالد كان يأتي ويذهب بشكل غامض ، حاملا معه حداء الرمل ، و حفنة من الوساوس و الشعر : لا يطول به المقام طويلا بيننا ، ثم يختفي مثلما ظهر : هناك ذكريات غائمة معه ، وهي مغمسة بقصائد علي البزاز المضغوطة ، بشطحات سهيل جلجامش ، وبحفظه المستحيل لقصائد فاضل العزاوي ، بالسكر الطويل الذي لايصحو منه القاص عبد جبر ، بالعين المنطفئة لجواد الازرقي : الذي انتحـر غرقا ، هو الآخر ، احتجاجا على الحرب ، وأخيرا بحامد الذيقاري الذي مات فيما بعد بالسكتة القلبية ، ابتهاجا بسقوط صدام . كما كانت تلك المقاهي الصيفية المزروعة على خد الفرات صيفا ، حيث مرة ، في واحدة من تلك المقاهي ، خضتُ مع خالد حوارا ، هو أقرب منه الى المعركة ، حول مجموعة حسب الشيخ جعفر :" عبر الحائط في المرآة " : كنتُ غارقا في حبها ، وكان خالد يتكلم عن قضية لم أفهمها الا فيما بعد : فيما بعد عندما تباعدت خطواتي عن الانفعال ، ادركتُ أن خالدا كان على حق في نقده للمجموعة .
عندما التقيتُ خالدا في بغداد عام 2003، بعد أكثر من ربع قرن من ذلك ، لمسته وفيا لتلك الشلة العابرة : سألني عنها ، وعن سهيل جلجامش ، فقد اعتقده ميتا : لابد أن يكون ميتا ، فالحروب مصممة لقتل امثاله من البشر ، لكن سهيلا لم يمت : استمر على منواله بنفس العبثية ، حتى وهو يخوض السجون والخنادق ، الى أن خرج منها قوي الروح ، لكن بصحة هشة : روح سهيل جلجامش كانت متناثرة طوال ماكتب خالد
.
قلت : " جمعة يعود الى بلاده " حرّض فيَّ أشياء كثيرة اعتبرتها منتهية ، ولم اكتبها ، وهاهي تظهر الان على سطح يقظتي ، فأهرب منها ، على طريقة داوني بالتي كانت هي الداء : من بين تلك الاشياء تحضر الصحراء ، لكنها في كتاب خالد غيرتلك التي اعرفها ، من خلال تجربتي في المهنة ، أومن خلال الخدمة العسكرية ، فهي تحضر ليس بوصفها أرض الانبياء ، كما يريد الاصوليون ، ولا أرض الامة العربية المقدسة ، التي من لازم الانشاء العفلقي أن يحول منها الى واحة حضارية حية بشكل عملي ، وإنما تحضر ، في الكتاب ، كمنفى جماعي كبير يعتقل الاحلام والدخان .
ثمة وجه آخر للصحراء إذن : الصحراء هنا عراقية ، بشكلها المكشوف ، القاسي ، والوعر ، وليس شكلها السياحي ، المترف بالواحات ، والسماوة – مسقط رأس خالد - مفازة في هذا التيه الرملي : شاهد - لم يعبأ به أحد - على حضارات كانت يوما حافلة بالحياة والازدهار ، وهاهي تتحول في عراق صدام حسين الى قبر جماعي : إنها الطابق الثاني من العراق . الطابق غير المعروف للعالم ، ولا للعراقيين أنفسهم ، ولذلك يبدو عجيبا أن تكون امرأة ما ، عابرة ، ومنسية في تلك الكثبان من الرمل ، هي اليد الحانية لنجاة أحد الصبيان من قبره الجماعي ، وذروة الاعجوبة تكمن في ذلك الدفء الانساني – يشير اليه خالد بمهارة – الذي احاط تلك النجاة واقام مراسمها بكل تكتم وحفاوة سرية ، ربما يكشف ذلك بطريقة ما عن مدى الهوة بين تحجرقلب الحاكم ورقّة الروح في المحكوم ، تلك الهوة التي لا يراها – لن يراها – المثقف العربي لأنه اعتاد على السهولة ، مستسلما لماتقوله الانباء والاذاعات ، بعيدا عن اعطاء نفسه برهة من التأمل ، وليس أن يقوم بالبحث أو الاستقصاء ، كما هو مفروض .
مع كل هذا يحضر خالد في هذه الصحراء / الكتاب بعدة صيغ ابرزها الهامشي ، المتمرد على النظام ، المدرسة ، وقوانين العائلة ، حيث تجدد المفارقات حياتها ، فتتجلى بطرق عديدة : لم استطع كبح رغبتي في الضحك كثيرا من موقف خالد ، عندما أوقعوا عقال أبيه ، واستقالته من معركة العقال تلك ... ، ومرات كثيرة لم أمنعها من البكاء ، خاصة في تلك التداعيات : الاخت المرمية في اطراف الصحراء ، البنت التي قتل " الرفاق " زوجها ، والام التي تبدو وكأنها مركز الحنان في العالم : أهذه حياتنا حقا ؟ أية حياة قُدّرلنا أن نعيش ؟ وهل يمكن أن تنطوي التعاسة على قدر كبير من المرح واللامبالاة ؟ وكم يقود تمطط الاحداث الى التمرد عليها ؟
يقرر المفكر ادغار موران أن الحداثة تجد جذورها ، بالتالي تجلياتها ، عند المنشقين والمنفيين والهراطقة ، لأنهم يحملون بذرة الانحراف عما هو سائد وتقليدي . والشاعر خالد المعالي واحد من هؤلاء المنفيين الذين خرجوا الى العالم ، وهم مصابون بلوثة " تخريب " ما هو مألوف على مستويات عدة ، يتجلى ذلك واضحا في كتابته الشعرية والنثرية أولا ، وثانيا في تاسيسه لدار منشورات الجمل ، التي اهتمت بنشر نتاج الحداثة باشكاله المتعددة .
هكذا يبدو كتاب خالد المعالي ، من أحد الوجوه ، كأنه كتاب سيرة شخصية لمنفي ومنشق ، لكنها سيرة تخرج عن مالوفات السير العربية التقليدية ، التي تعتمد منهجية التسلسل أو التعاقب التاريخي للايام والسنين ،إذ عمد خالد الى ستراتيجية اخرى هي اقرب الى التداعي ، تاركا لذاكرته حرية التطواف في عالمه ، ملتقطا الهائم والمخفي ، ومنفردا بالشائع والمعروف ، ودليله في الرحلة هو وثبات ُ الروح .
#عبد_العظيم_فنجان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟