|
عابر سرير ( أحلام مستغانمي)
بابلو سعيدة
الحوار المتمدن-العدد: 2816 - 2009 / 10 / 31 - 20:17
المحور:
الادب والفن
الإنسان المنتصب في قامته، وكفاحه، وأخلاقه، ووعيه تراه أحلام مستغانمي في والدها المثال الذي رسم لها طريق الفلاح في رواياتها الثلاث / ذاكرة الجسد 1993 ، فوضى الحواس 1998 ، عابر سرير 2003/ . الفارق الزمني بين نشر رواية وأخرى يعادل نصف عقد من الزمن ، في مدن تقتل أبنـاءها الذين يمتهنون عشــــق أنثاهم ووطنهم ، وأخرى تمتهن حراسة العشاق . أحلام ، مركبة في رواياتها ، واختراع أبطالها ، وبسـيطة عفوية ، صادقة في تواصلها الإنساني مع الآخرين . تطمح أحلام في رواياتها إلى تحرير أبطالها من الخوف بطرق مستورة /فنية معتمدة الجعب / الذاكرة / الحقائب النسائية المليئة بالروايات ، والتي تضلل الرقيب الرسمي أكثر من حقائب البؤساء من المغتربين . ويبقى بطلها الروائي / سارقاً بامتياز، وسارقاً محترماً / . تقول أحلام على لسان المصور : (( كانت القرى الجزائرية تغريني بتصويرها ، ربما لأن لها مخزوناً عاطفياً في ذاكرتي، فقد كنت أزورها في مواكب الفرح الطلابي في السبعينات ، مع قوافل الحافلات الجامعية ، للاحتفال بافتتاح قرية يتم تدشينها غالباً بحضور رسمي لرئيس الدولة ، ضمن مشروع ألف قرية اشتراكية . لقد مضى آلاف الشـباب من جيلي ، خدمتهم العسكرية في بناء السد الأخضر، لحماية الجزائر من التصحّر. كان الشعار الذي يطاردك في كل مكان آنذاك ، الجزائري يتقدم والصحراء تتراجع . كان لنا أحلام رمال ذهبية تسربت من أصابع الوطن إلى جيوب الذين كانوا يبتلعون البلاد ، ويتقدمون أسرع من لهاث الصحراء . إنها خدعة التائه بين كثبان وطن من الرمال المتحركة ، لا يعول على وتد يدق فيه ، ولا على واحة تلوح منه ! . كنّا نصدر الثورة والأحلام لأناس مازالوا منبهرين بشعب أعزل ، ركعت أمامه فرنسا… وأصبحنا نصدّر الإرهاب / الموت / الفقر. ويبدو أن الجزائري الذي يعيش جدليـة تدمير الـذات ، هو مبرمج لإبادة نفسه ، والتنكيل بها . نحن من تسلق جبال الوهم ، وحمل أحلامه … شعاراته … مشاريعه… كتاباته ، لوحاته ، وصعد بها لاهثاً حتى القمة ، كيف تدحرجنا جيلاً بعد آخر نحو منحدرات الهزائم ؟. والمقاوم الجزائري للاحتلال الفرنسي ، والذي أصبح شهيداً يقوم الإرهابيون بقتل ابنه . وتهديه الجزائر جثمان ابنه … أي وطن هذا ؟! وبعد استقلال الجزائر خرج بن بيللا زعيماً من سجن العدو الفرنسي ، ليجد معتقلات وطنه مشرعة في انتظاره سبع عشرة سنة أخرى . وكان عليه أن ينتظر خمس عشرة سنة لتفتح له الزنزانة على مضض . ويطير كعصفور مكسور الجناح ليحط على قبر والدته التي ماتت حزناً عليه . ومحمد بوضياف الـذي جبلته السـجون والمنافي وخيانات الرفاق ، على هزاله ، ما كان يصلح لإبرام صفقة فوق الجثث ، فحولوه إلى جثّة )). تقول أحلام عن والدها : (( أجمـل روايــات بلـزاك التي لــم يقرأها أحد ، وابتكرها من أجل امرأة ما عادت هنا لتحكيها . ربما لهذا ، أكتب هذا الكتاب من أجل الشخص الوحيد الذي لم يعد بإمكانه أن يقرأه ، ذلك الذي ما بقي منه إلاّ ساعة أنا معصمها ، وقصة أنا قلمها. ومنه تعلمت أن أشلاء الأشياء أكثر إيلاماً من جثث أصحابها . أستمع دون تعب إلى حواراتنا المحفوظة إلى الأبد في الأشرطة ، إلى تهكمه الصامت بين الجمل . صوته ! يا إله الكائنات ، كيف أخذتْهُ وتركت صوته ؟ حتى لكأنّ شيئاً منه لم يمت . ضحكته تلك . كيف ترد عنك أذى القدر عندها تتزامن فاجعتــان ؟ اضحك يا رجل ، الموت يمازحك مادام يخطئك كل مرّة ليصيب غيرك ! )) (المصور). الصحفي عبد الحق ، يهدي زميله المصور الصحفي كتاباً للسيدة حياة التي فهمت نفسـية الرجال وأنها جمعت بين أنوثة المرأة ، والأنسنة ، وإبداعاتها الأدبية ، وجرأتها في قول الحقيقة . وأهدت قوى مقاومة الشغب ، المصور رصاصتين في ذراعه . لأنه التقط صوراً للمتظاهرين الجزائريين خلال أحداث أكتوبر 1988. أبطالهــا في الرواية لا يولدون مقلوبين / معكوسين / وحشيين بالفطرة ، بل هم ولادة ونتاج الظروف التاريخية . في أدبيات أحلام ، الأموات الذين كانوا فاعلين وهم أحياء ، نحتفظ بهم في ذاكرتنا . والأموات الذيـن كانوا منفعلين ومغيبين ومهمّشين وهم أحياء ، نواريهم في مقبرة الذاكرة. والبطل المعطوب في تفكيره ، يتساوى عنده الموت مع الحياة . والسليم يرفض المفاهيم السائدة / الراكدة / المألوفة . وتحت تأثيرات الضغوط الاجتماعية / السياسية/ السلطوية ، يجد ذاته مضطراً إلى الترحال ، والالتجاء إلى إحدى الحاضنات الأوروبية . وفي نهاية رحلته الاغترابية / الســياحية ، يعود إلى وطنه ، محمولاً على نعشه . عنوان رواية / عابر سـرير / مستوحىً من ذاكرة والدها ، ووجدانه، ووطنيته، القائل : (( لا أحب مضاجعه الموت في ســرير، فقد قصدت السرير دوماً لمنازله الحب ، تمجيداً مني للحياة )) (المصور) . تعتمد أحلام في روايتها ، المونولوجيا التقريرية . (( كيف تقاوم شهوة التلصص على امرأة ، تبدو كأنها لا تشـعر بوجودك في غرفتها ، مشغولة عنك بترتيب ذاكرتها ؟ لكأنها كانت تكتب لتردي أحداً قتيلاً . كانت تملك القدرة النادرة على دفن قارئ أوجده فضوله في جنازة غيره ، كل ذلك يحدث أثناء انشغالها بتنظيف سلاح الكلمات ! ولماذا خُلقت الروايات ؟ لإجهاض كل حمل كاذب من خارج رحم المنطق . ولحاجتنا إلى مقبرة تنام فيها أحلامنا المدفونة . أليس من سخرية القدر ، أن تضم المقابر تحت رخامها الأحياء ، وتترك أموات الأموات يمشون ، ويجيئون في شوارع حياتنا ؟! أليست كارثة أن ضمير الإنسان المعاصر يستيقظ عندما يرى جثة كلب، يذكّره بكلبه ، ولا يبدو مهتماً بجثة إنسان آخر، لا يرى شبهاً له ولا قرابة معه ، لأنه من عالم يراه مختلفاً ، ومتخلفاً عن عالمه ، عالم جثث تقاتل ؟! ولماذا مملكة القطط ، تبدو أكثر رحمة وأمومة من مملكة الإنسان الذي يقيم الثورات ، ويؤسس الأوطان ؟! وكيف لا تقبل قطة ، مهما كثر صغارها ، أن يبتعد أحدهم عنها ، ولا ترتاح حتى ترضعهم وتجمعهم حولها ، بينما يرمي وطن أولاده إلى المنافي والشتات غير معني بأمرهم ؟ وهل في طمس أوســاخها تحت التراب ، هي أكثر حياء من رجال يعرضون دون خجل ، عار بطونهم المنتفخة بخميرة المال المنهوب ؟ اضحك يا إنسان ، فالموت يمازحك ما دام يخطئك كل مرة ليصيب غيرك! (المصور) .. في عالم يستوحش فيه الإنسان ، ويؤنس فيه الحيوان . لأن المواطن العربي لم يحصل على حقوق المواطنة التي حصل عليها المواطن الغربي، الذي أصبح أكثر شفقة على الحيوان منه على الإنسان )) . وصورة جثة الكلب التي حصلت على الجائزة (( هي شهادة عن وفاة الثورة الجزائرية ، متمثلة في وحدة مصير الإنسان والكلاب معاً بعد سـبع سنوات من النضال ، وأربعين سنة من الاستقلال . وشكلت راحة نفسية للضمير الفرنسي وتشفّ مستتر )) من المقاوم / المقاتل الجزائري الذي كان يمثّل ضمير الأمة ووجدانها . في جزائر الثورة ، وأقطار عربية أخرى مماثلة ، تنامى التنوير الكفاحي على حساب التنوير الفكري . وانتصرت الطلقات النارية التحررية . وأخرست الطلقات الفكرية . ويختزل المجتمع والثورة والحزب والطبقة والسلطة في قائد عسـكري تاريخي ، تسنم السلطة بالقوة التاريخية ، وقام باعتقال ابن بيلّه ، وسجنه . المرض أقعد الكولونيل المخلّص ، بومدين وأماته 1978. كان الكولونيل نزيهاً في أدبيات أحـــلام ، لكنه جرَّ البلاد إلى حروب أهلية دموية. (( على يديـه ولدت مؤسسات الجزائر، وأحلامها الكبرى ، الذي كان لنزاهته ، لا يمتلك حتى بيتاً ، ولا عرفنا له أهلاً ، أو قريباً ولكنه ترك لنا أجهزة وصيارفة تربّت تحت برنسة سيتكفلون بقمع أحلامنا ، وإفقارنا ورهن مستقبلنا لعدة أجيال ، ورحل مودعاً بجداول الدموع التي لم يدر أنها ستتحول بعده إلى أنهار دماء )) . (المصور) ويقع المواطن الجزائري الضحية الأولى للحواجز الثابتة / الطيارة . فإذا أبرز هويته الحقيقية قتلته جماعة الحواجز الإرهابية المزورة / المنتحلة شخصية السلطة . وإذا لم يبرز هويته الحقيقية قتلته جماعة الحواجز الأمنية السلطوية / الحقيقية . وتتحول القرى النائية (( عند أقدام الجبال ، وعلى مشـارف الغابات والأدغال ، إلى مجازر ومقابر ، ويصبح للموت مراتب ، وللجثث درجات . وتصدر الفتاوى الدينية التي تبشّر المجاهدين بمزيد من الثواب ، إن هم استعملوا السلاح الأبيض من فؤوس وسيوف وسواطير لقطع الرؤوس ، وبقر البطون ، وتقطيع الرضع إرباً )) . ( المصور) الإرهابيون يقطعون الرؤوس البشرية الجزائرية . والخنازير البرية تقطع أرزاق من بقي منهم حيّاً . والسلطة الشمولية تعتقل الكلمات والذاكرة والتخييل ! والغابة، الضحية الثانية ، ضحية المحتلين الفرنسيين ، والاستقلاليين ، حيث أُحرقت من قبل الفرنسيين لتصفية المقاومين . واحرقها الاستقلاليون لتصفية جيوب الأصولية الدينية / المتطرفة / المتشددة ، حتى لا تترك لأنصارها ملاذات آمنة . وفي كل حرب (( أثناء تصفية حساب بين جيلين بين البشر، يموت جيل من الأشجار )) . الرواية، كاميرا سينمائية ، وصحفية ، تصور الحروب الدموية /الأهلية/ المأساوية ، وأعماق النفس البشرية ، وهمومها وطموحاتها . والحروب أكانت نبيلة في وسائلها وغاياتها أم شيطانية، تتحول إلى حرب بين الصور، حرب بين المشاهير، الذين يصورون المسيلات الدموية ، للحصول على جائزة الصورة الأكثر غرابة وإدهاشاً ومأساة ! (( في صـــور الحروب التي أصبحت حرب صور ، ثمة من يثرى بصورة ، وثمة من يدفع حياته ثمناً لها ، وحدها صورة الحاكم الذي لا يمل من صورته ، تمنحك راحة البال ، إن كان لك شرف مطاردته يومياً في تنقلاته لالتقاطها . لكنك متورط في المأساة )) . (المصور) والمصور الذي التقط صور الخراب والدمار، ومسيلات الدماء سعياً وراء الشهرة ، وصولاً إلى حصوله على الجائزة ، سرعان ما يفقد بالتقادم شعوره الإنسانوي . ويصبح تصوير الأعضاء البشرية / الحيوانية المتناثرة ، ومسيلات الدماء ، والمذابح والمقابر مزروعة في خلاياه / ذاكرته/ تفكيره ، حفاظاً على شرف وأخلاقية المهنة / الشهرة/ الجائزة . وتتواجد الواقعيات الفوتوغرافية /السيكولوجية/ الدلالية ، إلى جانب البطون الفارغة والمنتفخة ، في ظل نظام شمولي مطلق ، ومعارضة استبدادية /دموية/ إرهابية لا أحد منها يرحم حق الحياة ، والمواطنة للوطن وللمواطن . في رواية / عابر سرير/ تنتقل مدينة قسنطينه بذاكرتها وتاريخها وألبستها وأطعمتها وجسورها وأخلاقيتها وأبوابها العتيقة إلى فرنسا ، لتصبح حياً شرقياً مختلفاً عن أحياء باريس الراقية . وفي عام 1961 قام الجزائريون في باريس بمظاهرات سلمية ، يطالبون (( برفع حظر التجول المفروض على الجزائريين في مدينة قسنطينة وغيرها. ويلقي البوليس الفرنسي بالعشرات منهم مؤْثوقي الأطراف في نهر السين. مات الكثيرون منهم غرقاً . يبدو أن قوى حفظ النظام، والمقاومة للشغب ، هي القوى ذاتها في كل زمان ومكان، وفي الشمال والجنوب ، وبدرجات متفاوتة / متقاربة . ويتعمّد الفنان زيّان في لوحة الأحذية ، وضعك أمام أحذية أكثر بؤساً من أصحابها ، مهملة كأقدارهم . إنها ســيرة حيــاة الأفراد التي تروي بأسمالها ، سيرة حياة أصحابها الغرقى في نهر السين )) . (المصور) (( الإرهاب المتبادل بين المعارضة والشرعية جعل عشرات الكتاب والسينمائيين والرسامين والمسرحيين والأطباء والباحثين والصحفيين يهاجرون / يرتحلون / يلتجئون إلى باريس ويؤسسـون جمعيات لمساعدة ما تبقى في الجزائر من مثقفين على قيد الموت في قبضة الإرهاب)) . (المصور) وأبطال رواية /عابر سرير/ ليسوا غرباء ، بل هم يتواجدون في كل مكان وزمان . حوصروا بين نارين : نار الاستبداد السياسي ، ونار الإرهاب الديني. مراد : المثقف قدم من قسنطينه إلى باريس ، هرباً من الإرهاب الديني الذي أفتي بسفك دمه ، لأنه يساري . والاستبداد السياسي أصدر حكماً غيابياً عليه بالسجن، بتهمة انتمائه إلى الجماعات الإسلامية ! (( ولم يكن يدري أن شــبكة العنكبوت التي حاكتها مافيا اللصوصية المهيبة ، الموشّحة بالنياشين والنجوم ، ستنسج حوله تهماً كافيةً للحكم عليه بالموت . وبعد موجة اغتيالات الصحفيين التي قطفت حياة سبعين صحفياً ، منهم عبد الحـق ، خصصت الدولة لهم منتجعاً على الشاطئ كمحمية أمنية ، تأوي ما بقي من سلالتهم المهددة بالانقراض . ويتحول مراد من محميّ من قبل السلطة ، إلى طريدتها )) . ويقتلون أخته المعلمة . والتعارف الذي تم بين فرانسواز والمصور، تحوّل إلى علاقة صداقة حميمية بينهما . واتفق الاثنان على افتتاح معرض الرسام زيّان . والرسام ذاته لم يحضر حفل زفاف لوحاته . لذا قرر المصور الذي تقمّص شخصية الرسام خالد بن طوبال ، مطاردة طيف زيّان الذي هو خالد بن طوبال الحقيقي . ويستجيب المصور لعرض فرانسواز في استضافته مؤقتاً في الغرفة التي كان يشغلها زيّان في شقتها على جسر ميرابو (نهر السين) . الكتّاب في رواية /عابر سرير/ يجيدون فن الحوار، لدفع الأذى عنهم . والرسامون لا يجيدون فن الحوار والكلام " إنهم موسيقيون صامتون " . البطل السجين في الرواية والحياة ، يفقد زوجته ، انتمـاءه ، فحولته البايلوجية ، ويصاب بالعنة الجنسية (( وأثناء تحسسه لجسد الحرية ، ارتطم بعنة عبوديته ، مكتشفاً أنه ما عاد قادراً على معاشرة أحلام لا تمت إلى جسده بصلة … وينفصل الزوج عن زوجته بعد أن أخفقت الحياة في ترميم ما ألحقته المعتقلات في عطب بحبهما )) . وبالوعة نهر السين لا تفرق بين الأجناس والهويات (( ولا يمكن لمياهه أن تمييز بين جثث الفرنسـيين الذين ألقوا سنة 1789 إلى هذا النهر باسـم الثورة ، وجثث الجزائريين الذين ألقوا إليه على مسافة قرنين بتهمتها )) . زيّان : الرســام الذي بترت ذراعه في حروب التحرير الجزائرية ضد فرنسا ، يأتي بعد الاستقلال إلى فرنسا لاجئاً سياسياً ، قائلاً (( الثورة تخطط لها الأقدار ، وينفذها الأغبياء الذين لن يأتي على ذكرهم أحد ، ويجني ثمارها السراق )) . وتبقى الغربة ملازمة للملتجئين إلى الحاضنات الأوروبية ، وترافقهم في وطن الذاكرة ، ووطن المنفى الاختياري . كان زيّان صديق الجميع ، ويقدم لهم المساعدات المادية ، والإضاءات الأدبية /الفنية/ الفكرية . ويقدمون له الإساءات . ولم يكن لديه صديق في حياته . أبطال الرواية ينتقلون من الجزائر إلى فرنسا . ويغيرون أدوارهم ، فيتحول المصور إلى بطل في رواية ، أو في فيلم ســينمائي . وتأتي المحصلة كوميدية/ تراجيدية . وقسنطينة (( تبعثر أبناءها ، ويتواعدون ، ويلتقون في ضواحي الخوف الباريسي ، وعواصم الحزن والغربة … الشــهيد عبد المولى يورّث ابنه ناصر ، الاسم . وأب مات على سريره ، وجعل الوطن ملكاً عقارياً لأولاده . وأدار البلاد كما يدير مزرعة عائلة ترّبي في خرائبها القتلة ، بينما يتشرد شرفاء الوطن في المنافي )) . (المصور) وأبطال الرواية مشغولون بالمعارض التشكيلية ، وبالأنشطة الموسيقية /الغنائية/ التي تجعل المغتربين يشعرون بالحنين إلى مدينتهم قسنطينه . ويهود قسنطينه (ريمون- سيمون) براهام ينتجون في فرنسا معظم هذه الأشرطة . ورسام تجريدي (( يهودي قسنطيني مات في الستينات… اشتهر بولعه بقسنطينه ، وبسجنه أكثر من مرة بسبب مساندته للحركات التحررية )) ويتعرض الإنسان العربي الأسمر إلى إهانات في المطارات الأوروبية ، ولكن لا خوف على حياة الفرد ما دام بريئاً (مراد) . في الوطن الجزائري يتعرضون للملاحقات والاعتقالات ، وحتى البريء منهم لا يضمن سلامته (مراد) . والمغترب / الملتجئ إلى الحاضنات الأوروبية يموت على الإيقاع البطيء / البطيء بسبب لونه واسمه . في الجزائر ، يموت الإنسـان المشاغب على الإيقاع السريع / السريع (ناصر) . ويبقى الموروث الاستبدادي قاسماً مشتركاً بين المعارضة والشرعية. البعض يتناول الكحول والوجبات الأوروبية السريعة (مراد) . وآخرون يرفضون تناول الكحول ، والوجبات الأوروبية . وتبقى الوجبة الجزائرية الأساسية ، رأس خروف (ناصر) . ولا توجد علاقة جينية بين قطع الرؤوس البشرية، وأكل الرؤوس الحيوانية. وكان الخوف ملازماً للجميع (( فلا الشهداء هنئوا بموتهم ، ولا الأحياء منهم نعموا بالحياة )) . في الرواية ، البكاء والحزن مسموحان ، والضحك والفرح ممنوعان أمام الحاكم الاستبدادي بزي أفغاني أو خاكي . (( لأن الديكتاتور يجد دائماً في فرح الرعية ، خرقاً لقوانين القهر، وتعدياً على مؤسسة العنف ، إن لم يرتبط فرحهم بعيد ميلاده أو ذكرى وصوله إلى الحكم )) . (مراد) والقاسم المشترك بين خالد بن طوبال ، أكان الاسم مستعاراً أم حقيقياً ، جعل المصور يعتمد المونولوجيا ، وتأنيب الذات للذات (( أكان زيّان يعلم أنه أهداني بيته ، نساءه ، أشياءه ؟ واساكن صديقته فرانسواز ؟ وأنني التقيت بحياة واصطحبتها إلى هذا البيت ؟ وأنني لم ازره ذلك اليوم لأنني كنت على موعد معها ؟ وأنها كانت ترقص معي في لحظة كان يحتضر؟ وهل اختار توقيت موته ؟ لقد استطاع زيّان أن يموت في أول نوفمبر بالذات ، تاريخ اندلاع الثورة الجزائرية التي كان أحد رجالها )) . هذا يقودنا إلى استنتاج مفاده ، هو أن الأحلام الرومانسية المشتركة بين الرسام ، والثورة ماتت في لحظة تاريخية واحدة . المجاهد الذي خاض معارك فعليــة ضد الاستــعمار، والمؤسـسة الزوجية ، أوصله عشقه للحرية إلى الإعجاب بالنساء المتحررات . وحمّل ذاته مسؤولية الدفاع عن نساء العالم ، وجياع الأرض ، وعن كل المظلومين والمستعمَرين في كل زمان ومكان . الرسامون العرب في الرواية تعرضوا لمأساتين: مأساة حياتهم في المعتقلات والاغترابات ، ومأساة لوحاتهم التي التهمتها النبران ، أو تحولت إلى غنائم حرب عندما قام صدام باحتلال الكويت وتختفي أخبارها مع المختفين والمخطوفين ، (( ربمــا تكون أعدمت نيابة عن صاحبها المحكوم عليه بالإعدام ، أو ربما تكون زينت قصور الطغاة أنفسهم ، أو قد بيعت بسعر زهيد إلى سوق الخردة لإذلال وإهانة الرسام ذاته )) . والإنسان الزوربي يختار امراة الحلم / فينوس لا امرأة الواقع (فرانسواز) (( أريد امرأة شبيهة فينوس في انزلاق نصف ثوبها ، اكســـــو نصفها ، أو أعرّي نصفها الآخر حسب رغبتي . امرأة نصفها طاهر، ونصفها عاهر، في كل نصف فيها كنت أقيس رجولتي… فرانسواز بهذا المقياس كانت اختياراً سيئاً للرجولة … وانتهى فعل الحب معها. وها أنا أرتعد عارياً كجــذع شـجرة جرداء … لا أكثر كآبة من فعل حب لا حب فيه ، بعده تعتريك رغبة ملّحة في البكاء ، وأنت لســـت حزيناً من أجلها ، بل من أجلك ، بعد تلك المتعة تشعر فجأة بالخواء . فينوس تمثل بهجة الحياة … الأنثى الأشــهر والأشهى والتي لم تتلوث برجل ، بل تبقى أنثى بشهوات مترفّعة )) . (المصور) أبطال الرواية في معظمهم، رفضوا نظام المؤسسات الزوجية والدينية والشمولية . وتزوجوا الكتب والقضية والأحلام الرومانسية . واعتقلوا في سجون جزائر الاحتلال ، وجزائر الاستقلال . ومنعوا من دخول وطنهم وهم أحياء . ولم يستطع الإمام الغزالي ، ولا السلطة السياسية / الشمولية إسكات الصوت الحر والجريء ، للسيد كاتب ياسين في حياته ورحيله . " كان جثمانه أول من أدخـل الفوضى والديمقراطيــة والزغاريد إلى المقابر، كما أدخلها قبل ذلك إلى المعتقلات والسجون " . والرواية مزدحمة خارج أبطالهــا بمجموعة من الأسماء العربية /الإسلامية/ الأجنبية ، والرموز الأدبية /الفنية/ العلمية/ الفكرية ، والشخصيات التاريخية الأنثوية/ الذكورية/ السلطوية ، الإقليمية منها والعالمية . وأضافت أحلام إلى قاموسها الروائي حشداً من المصطلحات التجريدية المعبرة عن وهج فكري ، ومخزون ثقافي ، وبُعْدٍ في صور مفرداتها ودلالاتها (( التصحرات العاطفية/ الديمقراطية/ الأخلاقية – طاولات تحتسي الضجر المسائي- تشرد اللوحات والعواطف – بسـاتين الخوف والفرح- تحنيط الزمن- تنظيف سلاح الكلمات )) . الأبطال الذين نجوا من الموت في رواية / ذاكرة الجسد/ عبروا بأمان وسلام إلى الشاطئ الآخر، إلى رواية /عابر سرير/. ومعارض اللوحات ، والأشرطة الموسيقية/ الغنائية ، فهما يؤسسان شبكة من العلاقات بين الأبطال الأساسيين والثانويين في رواية / عابر سرير/. ناصر بن الشهيد عبد المولى ، ترك له والده الشهيد اسمه فقط . وآباء آخرون لم يشتركوا في حروب التحرير، تركوا لأبنائهم ملكية الوطن وتأميم وتدجين البشر. وبقي ناصر في وطن الطفولة ووطن الغربة ، محباً لوطنه ، ومؤدياً لواجباته الدينية ، وأخلاقياً في سلوكه . ولم يكن من جماعة أهل النقل واللحى والملاية ، وعبادة المال . ولم يستخدم اللحية، عدة تنكرية (( كتلك اللحية التي حكمتنا في السبعينات )) رغم أنه اتهم بانتمائه إلى جماعة إسلامية مسلّحة. وحصل على حق اللجوء السياسي بألمانيا. في أدبيات أحلام " النساء اللائي يلبسن ملايات لسن فوق الشبهات " فرانسواز: تعمل موديلاً في معهد الفنون الجميلة " لا يملكها رسام ، كأنها أنثى لكل فرشاة ". ونذرت نفسها (( لمساعدة بؤساء البشرية الذين يتناوبون على قلبها وســريرها... حتى أن معاشــرتها لـ (زيّان) تدخل ضمن نشاطاتها الخيرية )) . (المصور) وكان فيها (( شيء من الطيبة الممزوجة بســذاجة الغربيين في التعامل مع الآخـر، ويتحكــم فيهــا منطـق إعلامي ، يقسم العالم إلى خير وشرير، وحضاري ومتخلف )) . ومثل بيتها في باريس محطة استراحة للذين أتعبتهم ملاحقة ومطاردة الاستبداديين والإرهابيين لهم في قسنطينة وغيرها. والثلاثة ، زيّان ، مراد ، المصوّر عاشوا في بيت فرانســواز عابرين سريرها ، منفردين لا مجتمعين . وكانت ممتلكات الأدباء ، والرسامين الراحلين ، المادية ، منها والفكرية في أدبيات فرانسواز، تلقى في صناديق القمامة ، أو تهدى للجمعيات الخيرية . لأنها تريد ذاكرة بيضاء ... والشرقي الحالم في أدبيات أحلام يطمح إلى تحرير ذاكرته المحشوة بغبار التاريخ الذي لحق بها (( وإلى جمع ذاكرته في صرّة، ووضعها عند الباب كي يتخلص من حمولتها )) . (المصور) المصور: الذي تقمص شخصية الرسام خالد بن طوبال ، حفاظاً على حياته الشخصية المهددة بالقتل من قبل الإرهابيين. هو البطل الرئيس في الرواية . تزوج الجزائر ، جزائر المرأة ، وجزائر القضية . وعاش أفراحهمـا وأحزانهما ، انتصاراتهما وهزائمهما ، مرضهما وعافيتهما، واقعهما وأحلامهما ، استعمارهما واستقلالهما. واختار أنثى الحلم / فينوس/ لا أنثى الواقع / فرانسواز/. وجاء إلى باريس لاستلام الجائزة ، فاستلم لوحة ، وجثماناً . الكاتبة حياة : عاشت الحياة . وهي أنثى تتقمص العفة والفسق ، البراءة والشيطنة ، الوفاء والغدر. وترقص حافية الشهوات والأحذية . ولم تكن " الأجمل، بل كانت الأشهى ، كانت الأبهى" ولم تبح يوماً بحبها لخالد بن طوبال ، ولا لزياد في رواية ذاكرة الجسد . (( وخسرها خالد في الماضي لفرط إخلاصه لها ، ثم أصبح جديراً بغيرتها مذ تلقفته فرانسواز )) . وحياة تذهب إلى الحب (( بعدّة ساحر، وتشطرك في استعراض سحري إلى اثنين : هو أنت ، والآخر نسـخة من رجل آخر، ثم تعيد إلصاق جزأيك في كتاب . ساحرة ! لا تدري أخرجت من بين يديها ثرياً أم فقيراً ؟ أخرجت من قبضة خدعتها حمامة بيضاء، أم أرنباً مذعوراً، أم مناديل ملونة للدموع ؟ )) . (المصور) وحياة الجزائر/ المرأة التي تزوجها أحد القراصنة الأثرياء ، لم تعد هي الجزائر / القضية التي حلم بها الجزائريون ، وقدموا من أجلها التضحيات ! وتبقى حياة (( نجمة المرأة المعشـوقة ، المشـتهاة المقدسـة ، المـرأة الجرح ، الفاجعة الظالمة / المظلومة ، المغتصبة/ المتوحشة/ الوفية/ الخائنة/ العذراء بعد كل اغتصاب ابنة النسـر الأبيض والأسـود التي يقتتل الجميع بسببها ، ولكنهم لا يجتمعون إلا حولها. هي الأم التي تخلت عنك . هي المرأة التي ولـد حيهـا متداخــلاً مع الوطـن ، متزامنــاً مــع فجائعــه ، حتى كأنها ما كانت يوماً سوى الجزائر )) . (المصور) الرســام زيّان ، الذي بترت ذراعه ، وجد ذاته وحيداً ، لا حبيب معه وقريب ، ولا لوحة ووطن . وهو الرسام الحقيقي خالد بن طوبال الذي أماتته الكاتبة حياة في روايتها، لكنه ظل على قيد الحياة . وعاش الرسام الفجائعية : الإرهابيون قتلوا ابن أخيه سليم . وابن أخيه الآخر التحق بصفوف الإرهابيين ومات . وأخوه الوحيد، اغتيل في أحداث 1988. وزيّان ، الذي فقد اسمه الحقيقي ، وذراعه وريع لوحاته ، مات في المشفى الباريسي وحيداً مصاباً بمرض السرطان . ولولا لوحته التي كانت بحوزة صديقه المصور ، والتي اشتراها بعد موته بأيام أحد الأثرياء الفرنسيين ، لما استطاع المصور ، نقل جثمان زيّان عبر الطائرة الباريسية التي هبطت في مطار محمد بو ضياف- قسنطينه . زيّان ، المحارب الذي فقد ذراعه في حرب الاستقلال الجزائرية ، والرسّام الذي فقد لوحاته في بلاد الغربـة، يعاد بالطــائرة من باريس إلى مسقط رأسه ، محمولاً على نعشه !
#بابلو_سعيدة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سندريلا القرنا العشرين
-
غادة السمان ( طائر العنقاء )
-
أحلام معطوبة ( أحلام مستغانمي)
-
رواية ذاكرة الجسد ( أحلام مستغانمي)
-
جورج ساند نجمة فرنسا القرن /19/
-
كوليت خوري ودمشق العاشقان
-
فيروزالواقع والحلم
-
الجمهوريّة النسائية
-
الإنسان يصنع تاريخه
-
ليلى العثمان - مأساة الواقع والحلم
-
سيمون دي بوفوار صوت الحرية
-
بثينة شعبان التي ولّفت بين الأدب والسياسة
-
سعاد الصباح / تباشير المطر
-
/نوال السعداوي /صوت الإحتجاج
-
المرأة بين التهميش و التفعيل
-
الحرب و السلم
-
الجذر اللغوي والقصيدة الأولى
المزيد.....
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|