|
بط أبيض صغير
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 855 - 2004 / 6 / 5 - 04:25
المحور:
الادب والفن
من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . توقفت منذ شهور طويلة عن شراء الصحف ، أية صحف . لم أعد أفتح التلفزيون . توقفت عن توقيع البيانات السياسية ، وتوقفت عن النقاش فيما يحدث حولنا . أخبار الأحداث السياسية الهامة صرت أتسقطها من أفواه معارفي خلال مكالمات هاتفية عابرة ، أو لقاءات بالمصادفة وسط المدينة . قلت لنفسي : لا شئ يتغير إلي الأفضل . وكنت أعلم أنني مخطئ ، وأن ما أقوله يعني أنني لا أرصد التغيرات بدقة . فلابد أن هناك أشياء تتحرك إلي الأحسن وأنا لا أراها . توقفت عن الكتابة في القضايا السياسية حتى عندما ضربت رفح على حدود مصر ضربا وحشيا ، وتهدم من غزة ما تهدم ، وفقد ثلاثمائة ألف فلسطيني نصف دخولهم ، لأنهم شعب يؤمن بأن الهواء الذي زفرته رئتاه هواؤه ، وهم يقولون له إن ذلك الإيمان تعصب ، وتحجر ديني ، أو تحجر قومي ، أو حتى ماركسي ، وعلاجه الوحيد قناة الحرة الأمريكية والليبرالية وحوار الحضارات وجبهة من كل الإصلاحيين والديمقراطيين لمواجهة المحافظين من كل الاتجاهات ، وأننا في النهاية سنحصل عوضا عن أرضنا على مجتمعات مدنية تزهو بتعددية الآراء وتناقش حقوق الإنسان وليس حقوق الأوطان ، فإذا لم يعجبنا ذلك العرض السخي فإن قصفا جديدا سيبدأ لتثبيت الإصلاح الديمقراطي وقبول الآخر . من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . لكني بحكم العادة والفضول القديم أشغل التلفزيون من حين لآخر، أشاهد فقط مقدمة النشرة الأخبارية التي تستغرق أقل من نصف الدقيقة ، وخلال ذلك ، مثل الماء الذي ترفع عنه السدود فجأة ، تتدفق نعوش أطفال الفلسطينيين من شاشة التلفزيون إلي صالة بيتي ، يحملها الناس وهم يهرولون بها قبل أن تشن عليهم غارة جديدة ، لدفعهم دفعا نحو الحرية التي يبغضونها لسبب ما . أغلق التلفزيون وأندم أنني فتحته . لكن طوفان الأطفال الذين ينظرون إلي بلوم يكون قد سرى من الشاشة الصغيرة وشغل كل فراغ في شقتي . طوفان ينظر إلي بعتاب ، وعدم فهم ، نظرة مذنبة ، مشبعة بالرجاء لأنه احتمي بمنزلي دون استئذان ، وشغل كل المساحات الشاغرة بين قطع الأثاث في غرفة مكتبي وغرفة نومي وفي الردهة الممتدة من الصالة إلي الحمام والمطبخ . يستريح الأطفال قليلا من جحيم القتل اليومي ، ويألفون المكان ، ولا يغادرون شقتي ، لأن الدنيا في الخارج مرعبة . وما أن أنهض من مكاني لأنتقل إلي غرفة أخرى حتى يسارعون بالسير خلفي مثل سرب من البط الأبيض ، ويتبعون خطواتي أينما توجهت برؤوسهم المشجوجة ، والشاش الأبيض الذي يربط الفك السفلي بأعلى الرأس ، كأنه شريط يطوق هدية مرفوعة إلي السماء . صفوف طويلة من البط الأبيض الصغير تسكن معي منذ شهور طويلة ، وتتبعني كأنها وجدتني وتخشى أن تفقدني الآن ، تتنقل ورائي من غرفة لأخرى ، وتسارع بالتكدس حول قدمي في المطبخ ، وحين أغادر المسكن يقف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة صفوفا ، يتأملني برقابه النحيلة الطويلة ، ويهز رأسه قليلا ، ومنقاره السفلي مثبت بقطعة شاش إلي رأسه ، ينظر إلي صامتا ، يتساءل إن كنت سأعود إليه أم لا ؟ . أعود في المساء ، وأفتح الباب ، فتخفق أجنحة البط الصغير في الهواء ، وتضطرب صيحاته في جو الصالة ، وتسبح أياد ، وعيون مغلقة ، وعيون مفتوحة ، وكراسات ، وأقلام ، وأحذية وصنادل صغيرة . أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرا نحو غرفة المكتب ، وتتكدس الصفوف ورائي ، أقف عند باب الغرفة ، وأشيح بيدي له أن ينصرف ، أريد أن اهتف فيه ، لكنه يظل واقفا ، صامتا . في الليل يملأ البط الأبيض كل موضع في غرفة نومي ، يجلس فوق صوان الملابس ، وعند حافة النافذة ، وعلى أطراف سريري ، فإذا حركت ذراعي أو تقلبت على جنبي ارتطمت به . أتطلع إليه ، فيحدق في ، بصمت ، ورهبة ، وأمل . منذ شهور طويلة ، وأنا أشعر أن واجبي الأول أن أعيد تلك الصفوف من البط الأبيض إلي هيئتها البشرية الأولى ، وجلودها الغضة ، وصيحاتها ، وأن على بكل ما أوتيت من قوة أن أفك عنها السحر الذي ربطها أمامي هكذا . منذ شهور طويلة وأنا لا أتعرض للأوضاع السياسية بكلمة . لأن شيئا لا يتبدل ، ولأن كل ما يقال معروف تماما . صرت أهرب من كل ذلك إلي الكتابة في النقد الأدبي ، أكتب وأحس بالخجل لأن صوت القنابل الإسرائيلية يكاد أن يصل لأذني ، ويكاد زجاج نوافذ شقتي أن يرتج منه، ولكني أسد أذني ، وقلبي ، وأستمر في الكتابة عن تقنيات القصة القصيرة ، أو التقدم الذي حققته الرواية المصرية . ثم أخرج قليلا أتجول في الشوارع القريبة وأعود . أفتح الباب ، فتلقاني الأجنحة البيضاء التي تخفق في الهواء ، وتلك النظرات ، والمناقير المربوطة بقطع الشاش الأبيض . فأشعر أنني كنت أهرب ، كأنني جندي تسللت خلال القصف ، وتركت زملائي وحدهم هناك ، وهبطت من التل المشتعل بالنار وشققت طريقي بين أشجار الغابات البعيدة . يقول لي البعض : " الحياة لا تتوقف ، والنقد ، والصحافة ، والكتابة ، مهام ضرورية لا تتعطل " . أقول لنفسي : " بالطبع . يد محترقة لا تمنع اليد الأخرى من تناول الطعام " . لكن لماذا أحس بمرارة وأنا أكتب ، أو حين ألتقي بالأصدقاء القلائل ؟ أوحين أشرب كوب الماء وأرى صفوف البط الأبيض تتطلع إلي ؟ أنظر إليها وأهتف : وهل أنا المذنب ؟ هل أنا الذي ألقي بالقنابل كل يوم على الأطفال ؟ هل أنا وحدي الذي ينبغي له أن يفك السحر الأسود عن تلك الكائنات البيضاء الصامتة ؟ . منذ شهور طويلة توقفت عن متابعة أي شئ . كل ما أفكر فيه الآن تلك الطيور البيضاء التي تواصل نموها في مسكني ، و تتخبط حولي ، وتمنعني من التنفس أو تناول الطعام وتدفعني إلي أن أربط بشريط فكي السفلي بأعلى رأسي ، ثم أقف متجمدا بين صفوفها ، وأرفع رقبتي النحيلة لأعلى ، ثم أمشى بينها في الغرف الفارغة الصامتة على أمل أن تطرق الباب علينا يد بشرية . ***
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدب سياسي
-
مجموعة - نيران صديقة - لعلاء الأسواني
-
ترجمة الروح
-
فاطمة زكي ونساء الثورة
-
كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد
-
وجهة نظر روسية في الاستراتيجية الأمريكية لعالمنا
-
الشيخ أحمد يـاسـيـن ما الذي اغتالوه .. ؟
-
القاهرة تهتف للعراق
-
راشـيـل كـوري ضـميـر الـزهرة
-
الدكتور أبو الغار وكتابه إهدار استقلال الجامعات
-
الصحافة المصرية لحظـات مضيـئـــة
-
الرد على العملية الأخيرة في العراق
-
محمد صدقي .. وداعا
-
البيان الختامي للملتقى الأول للجان الشعبية المصرية لدعم الان
...
-
ليس من جدار واحد ينشع دم الفلسطيني
-
مضارب الأهواء عمل جديد لإدوار الخراط
-
صورة الإسرائيلي في مصر
-
ديوان - وطنيتي - قصة الروح الثائرة
-
زراعة الكارثة في مصر
-
الزهرة السوداء لحضارة الروائي العالمي - كوتزي
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|