غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2815 - 2009 / 10 / 30 - 09:23
المحور:
الادب والفن
– 13 -
البرد والصبيان يتدثرون بما جادت به الوكالة في صرر للإعاشة, من سترات وبلوزات صوفية وبنطلونات وفساتين وحتى حمالات صدور ومشدات الأرداف.
الصبيان يلبسون سترات رجالية تغطي قصبات السيقان, ويثنون الأكمام على البطانات الحريرية اللامعة.. لم يسبق لهم مشاهدة عروض الأزياء, ولا حتى في الأفلام التي الأفلام تعرض في ساحات المخيم صيفاً.. وها هم في الشتاء يعتمرون الطواقي التي نسجتها الأمهات من خيوط ملابس وردت في البقج, احتار الناس في التعرف عليها, وكيفية ارتدائها, فكرّروها وأعادوها خيوطا تنسج من جديد.
في المصنع يتحلق الصبيان حول خميس الذي يقرأ عليهم قصيدة من ديوان صدر حديثاً للشاعر, وعندما انتهى من القراءة أعار الكتاب لحسام العجرمي المغرم بالكتب, على أن يعيره بعد يومين لمن يرغب.
تفرق الصبية, وانضم خميس إلى النواتي وأبي خليل حول كانون النار,, يتطلعون إلى البحر, يراقبون رغوات الأمواج تلمع على صدر الماء, والعتمة تزحف مع هبوط تزحف مع هبوط الغيوم الداكنة التي حجبت قرص شمس الأصيل, قال النواتي لأبي خليل:
- لا أخبار من رجا؟
- طال مشواره إلى الجبل..
خميس يحاول استجلاء عذابات النواتي, لو يسأله عن زهرة, هل يغضب؟ وهل يجرؤ هو على التحدث في خصوصيات الرجل؟ وهل يعرف أن أم خليل تبث شجونها لأم حسن وسناء.. زهرة سكنتنا جميعا, وأنتَ صائم على أسرارك يا ريس.. ورجا بدران هل يعرف أن أخته أجلت دموعها عرسين, ورقصت للعروس التي رفضت اللحاق بزوار الصيف.. وتحسرت على قمر إلى وصلت إلى صيدا وتزوجت في البرج قبل أن يصل فارسها.. غدر الزمان وستر البنت والدنيا رحيل, ولكن زهرة في شرفتها ظلت تنتظر عودة البحار من مشواره القصير الذي امتد عشرين سنة.. هي الدنيا..
استراحت كوثر على صدر أم خليل, تتحدث عن مشاويرها بين اجزم وحيفا مع أخيها رجا الذي كان يعمل مع خالها في الميناء, صبية طفلة تتنطط في وادي النسناس من بيتها إلى بيت خالها إلى بيوت الجيران, كل البيوت لها وكل الصبايا رفيقاتها, وكل حكايات الوادي في رأسها الصغير, وحكايتها مع ابن عمها الذي منع الخطاب من طرق بابها "فابن العم ينزل العروس عن الفرس" وحتى لا يخسر رجا عمه وابن عمه, أخذها معه إلى حيفا تقوم على خدمته ويبعدها عن عريس لا تألفه, ويشهدها على حكايته مع ابنة خاله قمر في وادي النسناس.. قمر رفيقة عمر صباها, ومستودع أسرارها وعروس رجا, ولكنهم حاصروا الحارة بحثاً عن قاتل اليهود في الهدّار, واستدعوا خالها للتحقيق, فاختفى رجا, وبقيت في بيت خالها حتى ظهر ومضى بها إلى الحاج حسن العجرمي في سكنة درويش, وعاشت مع البنات في البيت الكبير, ونامت في حضن الحاجة.. يزورها رجا بين الحين والحين, إلى أن نعق الغراب في السكنة يوم استشهاد الحاج في اشتباك لفك الحصار عن الثوار في دوار الدجاني..
ومن بيت العجرمي في السكنة إلى حي العجمي مع زهرة, ترصدان من شرفة الدار جنود الأروفللي..
تربت أم حسن على صدرها, تضمها إلى صدرها:
- خففي فأنا أمكِ.
عمر وحكايات عزيزة.. كيف تسلل رجا إلى صيدا ليجد قمر قد تزوجت في برج البراجنة, فأرسل خاتمه نقوطاً لابنها البكر وعاد..
العرائس تمضي وعروس البحر ضاجعت النواتي في الماء, ضمته إلى صدرها النافر وشعرها الذهبي, وسحبته إلى الشاطئ عاريا كما ولدته أمه, واختفت, هل تعود وتسحبه بشختورته إلى مملكة أبيها في الماء!!
وزهرة حي العجمي التي حفظت معها دروب يافا, تتحدثان عن البحر, والبحارة, والبيوت المستورة القانعة, تتعلم منها كيف يعيش الناس, وكيف تحزن لحال شوشانا التي تطارد النواتي نهاراً, وترتمي في حضن الأورفللي ليلاً.. وتقر زهرة:
- كم هي جميلة شوشانا يا كوثر!!
- كم هي فاجرة تطارد الرجال يا طيبة!!
سأل خميس أبا خليل:
- ما هي أخبار زهرة؟
- النواتي مؤرق هذه الأيام, فقد وصله خبر عن هدم بيت زهرة, ورحيلها عن يافا, وهو يعتقد أن شوشانا وراء ذلكَ, وقد يكون مشوار رجا إلى الجليل بخصوص البحث عنها.
- وماذا يفعل النواتي؟
- وماذا باستطاعته؟ لعل الأمر يتضح قريباً.
وتحدث أبو خليل عن شوشانا التي جندوها لإسقاط النواتي, فوقعت في هواه, وطاردته, وعن زهرة التي أصرت أن تزف في صدر البحر, نزولا عند رغبة الصيادين وعمال الميناء, الذين عادوا إلى الشراويل وغبانيات الزنار وشال الكتف, لكن الفرحة لم تتم, فقد داهمت الذبحة الصدرية النواتي الكبير, وتأجل الفرح عاماً كاملا, حدث فيه ما حدث.. وداهمت الناس الهجرة, وحملت المراكب الناس شمالاً وجنوباً.. وظلت زهرة في شرفتها تنتظر..
- لماذا لم تلحق به؟!
- أصرت على البقاء حتى يعود, وحاول هو أكثر من مرة, فردته رصاصاتهم, وفي يوم تسلل مع البدوي حتى المجدل, وطير خلفها, ولكنهم قبضوا عليها وهي في الطريق إليه, وسجنوها بحجة عدم الحصول على تصريح للتنقل بين يافا والمجدل, وفرضت عليها الإقامة الجبرية في العجمي.. هل أدركت سر الشختورة يا خميس؟؟
وفي الليل تحدثت سناء عن جديلة الشعر التي عاد بها رجا في المشوار الأخير, وعن زهرة التي شاهدت شعيرات بيضاء تسللت إلى ضفيرتها, قصت الجديلة وخبأتها, وعندما هدموا البيت أودعتها لدى آخر عجوز نواتية ظلت في يافا..
هب خميس إلى أوراقه.. داهمته القصيدة. أما سناء فعاهدت قلبها أن تطلق شعرها, وتحمي جديلتها ما بقيت حية., وراحت ترصد وجه خميس الذي تفصد عرقاً, وتلهث مع أصابعه حتى اكتملت القصيدة.
- 14 –
العصر..
يتمدد على السرير, يلف صدره بالملاءة اتقاءً لبرد نهار الكوانين, يقبض على الجديلة بين أصابعه, وينشرها ويفرد الشعر على طوله.. يسري الدفء في كيانه, ويحاور ثلاث شعرات بيضاء, يصله خبط الريح الثلجية على بلاطات القرميد المائلة على خشب السقف, وزهرة على الجدار تبتسم.. عينان لوزيتان محيرتان, وجديلتان لامعتان تتدليان, وعقد يسور العنق الطويل يرتاح على بلاطة الصدر..
تداهمه الغفوة..
وسط زغاريد النساء, تدور زهرة بالقهوة, تُقبل يد النواتي الكبير وتضعها على رأسها:
- النذر يا زهرة.
يناولها عشر ذهبات مجيدية, جمدها النواتي الجد أيام السفربرلك, وخاط عليها جلد حزام السلحلك, قطع بها الأناضول إلى بوابات عكا, واحتفظ بها النواتي الأب شبكة لعروس النواتي الحفيد.. دارت زهرة بالمجيديات على الحضور.. قال الأب لابنه العريس:
- تذهبان إلى "سابا الصائغ" يَسكُبها عقداً وخاتماً وسواراً
ويمم قلدها العقد, سور بنصره بالخاتم, توهجت وأضاءت في صدره.. فرد شاله واصطحبها إلى المصور كيغام الأرمني..
- صورة بالألوان يا خواجا..
- أسندت رأسها على كتفه, لم تخجل من كيغام الذي عدّل من وضع رأسها على صدره,والذي لم يدارِِ انبهاره.
- هذا سيد العرسان يا عروس.
- والصورة لازم تكون سيدة الصور يا كيغام.
وانطلق معها إلى السوق, وانتهى بهما المطاف في سينما الحمراء.. وفي عتمة الفيلم برق الخاتم وتوهج السوار.. توهجت.
- لا يوجد أجمل من شَبكتي.
- أنتِ الأجمل يا زهرة.
وعلى الشاشة كانت الغابة خضراء شاسعة.. والخيول تتقافز عفية, والمهر الأبيض يشب على قائمتيه الخلفيتين, فتدور حوله الفرس الشهباء, ثم تنفلت فتلحقها الخيول, يصهل الأبيض فتمط الشهباء إلى الأرض, تتشمم قوائمه, وتنشر بخار زفيرها أسفل بطنه وبين وركيه, يستدفئ ويستوي على أربع ثم يسيران جنبا إلى جنب ويمتلكان الغابة.
وعلى باب السينما ضربهما وهج النهار, شوشانا تنتظر داخل كابينة الحنطور.. أمرت الحوذي فأصبحت في مواجهتهما:
- اصعدا فطريقي إلى العجمي.
وقف النواتي بين شوشانا وزهرة, كانت اليهودية في أبهى زينتها وجمالها, ترتعش زاوية فمها.. قبض على ذراع زهرة وابتعدا.. تمتم:
- فأل سيء أن تطلع علينا اليهودية.
- كأنها تلاحقنا!
وفي الليل لازمه الأرق, وعند الفجر مضى إلى البحر, تخفف من ملابسه, وغطس في الماء عاريا تماماً.. كانت شوشانا تلوّح له وقد تأبطت ملابسه, صرخ من الماء:
- دعي ملابسي وابتعدي.
تخففت منن ملابسها وانتصبت عارية, فردن شعرها على صدرها, وحملت ثدييها على
- الوعد يا نواتي؟
- أي وعد يا شوشانا؟
- زهرة زوجتكَ وأنا عشيقتكَ وأكتفي بذلكَ.
تعلقت برقبته, وضغطت صدرها على صدره, ولحست شحمة أذنه ولهثت, طوقيه بفخذيها في الماء, ارتفعت به وهبطت به حتى انهدل رأسها على كتفه, هبطت عجسده , وسحبته عاريا على الشاطئ.. لم يدرِ يومها إذا ما غسل البحر شهوته أم لا, لكن الرجفة أصابته.. وفي الغفوة أطلت عليه شوشانا تسأله:
- هل يعلم الناس أن عروس البحر التي سحبتك إلى الشاطئ كانت شوشانا؟
صحا وكان الليل يزحف, وهدير الموج يعلو, والدنيا سكون إلا من صفير الريح, أشعل المصباح وعلفه على الحائط خلف البرواز, لمعت ابتسامتها وانعكس ظل جسده على الصورة, واختلط ظل شاربه بسواد الضفيرتين.. وسيطر العقد وجيدها على المكان..
أحكم طاقيته على رأسه, وتلفع بالشال الصوفي ومضى إلى المصنع يبحث عن تجمة في السماء تطل من كتل العتمة.
في المصنع ظل صامتاً وأبو خليل يتحدث عن تشكيل جيش التحرير, ومراكز التجنيد الإجباري, والعريشة التي جرفوها, وأقاموا بدلا منها خيمة استطلاع في الحرش الذي أصبح ساحة عارية للتدريب على الرماية, وأصبح اسمها "المطخ"
وتساءل خميس عن قيادات سياسية وعسكرية جاءت مع الشقيري من مصر وسوريا والعراق, وعن لجان ومؤتمرات, وعن رجال يقطعون الماء والأسلاك, وعهن رجا بدران, وعن حمدان الذي بُلِّغ للتجنيد الإجباري..
قال النواتي وقد خرج عن صمته:
- حصة حمدان تبقى كما هي طالما هو في الجيش.
قال أبو خليل:
- لو تحسب حصة لبيت العجرمي, فالرجل ضاع أثره في الغربة.
- حصة العجرمي تُقطع من نصيبي يا أبا خليل.
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟