|
الإسلام وحوار الأديان
محمد عادل التريكي
الحوار المتمدن-العدد: 2812 - 2009 / 10 / 27 - 00:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لقد أصبحت قضية الحوار في عالمنا المعاصر قضية ملحة على جميع المستويات، فنحن نعيش في عصر تشابكت فيه المصالح وتعقدت فيه المشاكل على نحو لا يسبق له مثيل. وقد أصبح البحث عن حلول لهذه المشاكل عن طريق الحوار أمراً ضرورياً. وقد يكون الحوار محليا أو إقليمياً أو عالمياً حسب طبيعة المشاكل المثارة وعلى جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية وغيرها من مشكلات. ومن هنا يمكن القول بأن الحوار قد أصبح ضرورة من ضرورات العصر للتغلب على المشكلات الواقعية في عالمنا، وتعد القضايا الدينية جزءاً لا يتجزأ من مشكلات عالمنا الواقعية، بل تعد في كثير من الأحيان بمثابة الخلفية لغيرها من المشكلات لما للدين من تأثير عميق في نفوس الناس، هكذا كان الحال في السابق ولا يزال الحال كذلك حتى اليوم، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة. ويعد الحوار الديني جزءاً لا يتجزأ من الحوار بين الحضارات، فالحضارات في كل مكان من العالم قد قامت أساسا -كما هو معروف- على قاعدة من الدين، ويعد الدين حتى اليوم- في نظر كُتاب معاصرين مرموقين في الغرب- أحد المكونات الرئيسية لأي حضارة بالإضافة إلى اللغة والتاريخ والثقافة. ومن هنا يصف الغرب حضارته بأنها حضارة مسيحية، كما يصف المسلمون حضارتهم بأنها حضارة إسلامية.من ذلك يتضح لنا أن الحوار الديني لا يمكن عزله عن ألوان الحوارات الأخرى، لأنه يتشابك معها بشكل أو بآخر تشابكا ظاهراً أو خفياً أردنا أم لم نرد، وإن تحقيق السلام في العالم يتوقف على تحقيق السلام بين الأديان، ولن يتحقق السلام بين الأديان إلا بإجراء حوار بين هذه الأديان. ومن شروط نجاح أي حوار على أي مستوى أن يكون كل من طرفي الحوار نداً للآخر، وهذا يعني ضرورة تحقيق المساواة التامة بينهما في كل ما يتعلق بالحوار المراد إجراؤه بين الطرفين. ويقتضي الحوار أيضا أن تكون هناك قضية محددة يتحاور الجانبان بشأنها ولابد في هذه الحالة أن تحدد بدقة عناصر هذه القضية حتى لا يدور الحوار في حلقة مفرغة، كل يتحدث بلغة مختلفة وبمفاهيم مختلفة لا تربط بينها أرضية مشتركة. ويتطلب الأمر كذلك تحديداً واضحا لأهداف الحوار حتى تكون هذه الأهداف دليل المتحاورين لا يحيد عنها طرف من الأطراف ولا يجوز التقليل من أهمية هذا التحديد الواضح للأهداف، إذ بدونه سنجد كل طرف يُغنيّ على ليلاه، الأمر الذي يبعد المتحاورين عن إمكان التوصل إلى أي شيء مفيد، ويضاف إلى ذلك أمر هام يتمثل في ضرورة توفر مناخ مناسب للحوار ينأى عن الأحكام المسبقة، والمفاهيم المغلوطة، ويتحرر من العُقد النفسية سواء كان ذلك يتمثل في عقدة التفوق في جانب أو مركب النقص في جانب آخر. فالنعرات الاستعلائية خطرها في أي حوار لا يقل عن خطر الشعور بالدونية. وهكذا نجد أن أي حوار يراد له النجاح لا يجوز أن تكون غايته العمل على إلغاء الآخر أو استبعاده أو التقليل من شأنه أو الادعاء باحتكار الحق دونه، ويمكن القول بأن الحوار الديني بالمعنى الحقيقي لهذا المفهوم لابد أن ينطلق من الاحترام المتبادل ومن نظرة إنسانية شاملة تقوم على احترام الكرامة الإنسانية ووحدة الجنس البشرى، وانتفاء الأنانية والفهم المتبادل، بمعنى التسليم بحق كل طرف في أن يكون مفهوماً من الطرف الآخر دون أي لون من ألوان التشويه أو التزييف. وبعد هذا التمهيد الضروري الذي طال بعض الشيء ننتقل إلى موقف الإسلام من قضية الحوار الديني. لقد انطلقت المبادرة إلى الحوار الديني أساساً من القرآن الكريم في توجيه إلى النبي وفى ذلك يقول القرآن الكريم: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبدَ إلا الله ولا نُشرك به شيئا ولا يتخذ بعضُنا بعضا أربابا من دون الله . قد أدار النبي في مسجده بالمدينة حواراً مع وفد نجران المسيحي الذي قدِم على النبي في خمسة عشر رجلا بقيادة أسقفهم أبي الحارث، وقبل هذا الحوار سمح لهم النبي أن يقيموا صلاتهم في أحد أركان مسجده. ويمتاز موقف الإسلام في أي حوار ديني على أي مستوى عالمي بميزة فريدة لا تتوفر لغيره من الأديان، وهي إيمانه بكل الديانات السماوية السابقة، وهذه الميزة تجعله متحررا من العُقد والحساسيات التي قد تعكر صفو الحوار. ومن أجل أن يكون هناك حوار مثمر وتعاون وثيق بين الجماعات البشرية - أياً كانت انتماءاتها- دعا القرآن الكريم إلى ضرورة تعرف كل جانب على الجانب الآخر، وتفهم مواقفه على قاعدة من المساواة التامة، وهذا ما تعبر عنه الآية الكريمة يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا وهذه الآية تبرز لنا المعنى الإنساني العام لطبيعة الإسلام .فنحن نتعرف على الآخر من خلال تعرفنا على أنفسنا، فنحن جميعاً قد خُلقنا من أصل واحد، الأمر الذي يؤكد وحدة الإنسانية والأخوة بين البشر على الرغم من كل الاختلافات بين الشعوب، والتي يجعل منها الإسلام منطلقاً للتعارف والتآلف لا مدخلا للنزاع والشقاق. وهذا أمر من شاًنه أن يوفر المناخ المناسب للحوار من أجل خير الجميع. ولم يكتف القرآن بإعلان المبادرة إلى الحوار وتوفير المناخ المناسب لذلك، وإنما رسم أيضا الأسلوب الذي ينبغي اتباعه في الحوار. فمن المعروف أن الحوار سيؤدي إلى مناقشات ومجادلات حول القضايا المطروحة على مائدة الحوار -وهذا أمر طبيعي- ومن هنا وجه القرآن الكريم المسلمين إلى اتباع الأسلوب الأمثل في أدب الحوار بقوله: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن . بل إن القرآن قد جعل الجدال بالحسنى أحد المناهج التي يتحتم على المسلمين اتباعها، ليس فقط مع أهل الكتاب، وإنما مع كل الناس بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو غيرها ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن . ومن الضروري في الحوار بين الأديان أن يتجه المتحاورون إلى البحث عن القواسم المشتركة بين الأديان التي يجرى الحوار بشأنها، والبعد عن المسائل الشائكة في قضايا العقيدة، لأن الحوار حولها في المراحل الأولى للحوار غير مجد على الإطلاق، ومن أجل ذلك ينبغي أن يركز الحوار على الأمور المشتركة، وهي كثيرة، فالديانات السماوية -على سبيل المثال- تؤمن بوجود إله خالق لهذا الكون، وتؤمن بحياة أخرى بعد هذه الحياة تتحقق فيها موازين العدل بين الناس، ويجازى فيها كل على عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. كما تؤمن هذه الأديان بمنظومة القيم الأخلاقية والإيمان بذلك كله يتضمن سلوكا مستقيما ودعوة إلى المحبة والسلام بين الناس، وهذا يعني أن الحوار حول ما يجمع أصحاب الأديان من قيم مشتركة هو أفضل السبل لتفهم كل جانب للآخر بهدف التعاون البنّاء بين الأديان من أجل خير الإنسان وتقدمه، واستقرار الأمن والسلام في العالم. وعلى هذا النحو يمكن القضاء على الكثير من أشكال الصراعات الدينية في العالم، وتحقيق السلام بين الأديان الذي يعد شرطا لا غنى عنه لتحقيق السلام بين البشر. والقرآن يبين لنا أن واجب الأديان ليس التنافس فيما بينها على مطامع دنيوية، وإنما التسابق في فعل الخير، وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم بقوله: لكل جعلنا منكم شِرعةً ومِنهاجًا، ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا . وفى عصرنا الحاضر الذي تقترب فيه الجماعات الدينية والحضارية المختلفة من بعضها بعضا بصفة مستمرة في "قرية كونية" تصبح قضية العدل والسلام بين الناس على رأس هذه «الخيرات» وبالفهم الصحيح للأديان ولدورها الرائد في النهوض بالبشرية، يمكن الإسهام بشكل فعال في العثور على حلول مناسبة للمشكلات القائمة، وهناك العديد من المشكلات المعاصرة التي لا يمكن حلها إلا بالتعاون بين الأطراف المعنية بصفة عامة، والدينية منها بصفة خاصة، ومن بين هذه المشكلات الملحة في عالمنا المعاصر-على سبيل المثال لا الحصر-مشكلات التطرف والتعصب والإرهاب، والجريمة المنظمة والتطهير العرقي والإدمان، ومشكلات تلوث البيئة وتدمير الموارد الطبيعية، والاضطهادات والملاحقات الظالمة للأفراد أو الجماعات أو الشعوب، ومشكلات الحروب العبثية التي لا طائل من ورائها... وغير ذلك من مشكلات على جميع المستويات. إن الحوار بين الأديان يمكن أن يؤدي إلى تعاون مثمر بين الأديان بالإسهام في حل هذه المشكلات، وفي مكافحة العديد من الظواهر السلبية في عالمنا المعاصر، كما يمكن أن يسهم في إيجاد الحلول لمشكلات التطور الاجتماعي. وكل ذلك يسهم بدوره إسهاما فعالا في الوقاية من النزاعات المحتملة، كما يمهد الطريق لحل النزاعات القائمة. وهناك ملاحظة أخيرة وهامة تتلخص في أنه إذا أريد إجراء حوار مثمر بين الأديان والوصول إلى تعاون مشترك فيما بينها، فإنه لا يجوز للمتحاورين أن يستعيدوا دائما في ذاكرتهم وحواراتهم عوامل الكراهية القديمة والعُقد الموروثة من أزمان غابرة وإحيائها من جديد، بل ينبغي بدلاً من ذلك، أن يتبنى الجميع فكراً إيجابيا يسعى إلى بناء مستقبل مشرق ينعم فيه العالم بالسلام. إننا نواجه اليوم أجيالا جديدة وعوالم جديدة لم يكن لها ذنب في أي ظلم وقع في العصور السابقة، كما أنه ليس لها فضل في الأعمال الإيجابية للأجيال السابقة أيضا، وما تحتاجه منا هذه الأجيال الجديدة هو أن نتيح لها الفرص المناسبة في بناء حياة مثمرة، وأن نساعدها في الوصول إلى ذلك، وعلى قادة الأديان في العالم أن يبرهنوا على مصداقيتهم ويتحملوا مسئوليتهم في توعية أتباعهم بكل ما يحيط بعالمنا من مخاطر، والتعاون فيما بينهم عن طريق الحوار. في إنقاذ البشرية من كل ما يتهدد وجودها في الحاضر وفي مستقبل الأيام المقبلة.
#محمد_عادل_التريكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسلام والأديان الأخرى
-
إشكالية الإجهاض من الناحية القانونية
-
الإسلام السياسي مغالطة علمانية
-
الإسلام والغرب
-
ابن رشد ومستقبل الثقافة العربية
-
تأصيل الحداثة وعصرنة التراث
-
المرأة في المجتمع الإسلامي
-
أي منظور لمستقبل الهوية في مواجهة تحديات العولمة؟
المزيد.....
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|