آلان كيكاني
الحوار المتمدن-العدد: 2808 - 2009 / 10 / 23 - 02:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يجمع العلماء أن كم المخترع العلمي كان يحتاج قبل الميلاد إلى أكثر من ألف سنة حتى يتضاعف , وأنه ربما كان يحتاج إلى عشرات الآلاف من السنين في عصر ما قبل الكتابة , ويضيف العلماء أن هذه الفترة قصرت بالتدريج حتى وصلت إلى ما يقرب السنتين أو اقل في أيامنا هذه , إذ لا يكاد يمر يوم ولا نسمع فيه عن اختراع جديد في الطب أو الهندسة أو ابتكار حديث في التكنولوجيا أو اكتشاف في علوم الذرة والإلكترون أو في علم الفضاء . والإنسان على تفاعل دائم مع المختَرَع العلمي , فهو يخترع ومن ثم يبدأ تأثير هذا الاختراع على نمط حياته وسلوكه وطريقة تفكيره , حتى أن حياته غدت تتغير في فترة قصيرة أسوة بالمخترع العلمي , وبات من الصعب الحفاظ على نمط معين من الحياة لأمد طويل كون هذا النمط سيصطدم حكما بما توفره المخترعات الحديثة من أدوات لخدمة الإنسان وراحته ورفاهيته , والأمم التي لا تتلاءم مع الواقع الذي تفرضه هذه الاكتشافات تعيش في حالة من الحيرة والتناقض , حيث تراها تستورد أحدث الاختراعات العلمية للاستفادة منها دون أن يتغير سلوكها ونمط معيشتها وطريقة تفكيرها , ولعل خير مثال في هذا الشأن يمكن أن نورده هنا هو حالة مجتمعاتنا الشرقية عامة والمسلمة منها على وجه الخصوص , فتجد هذه المجتمعات تصرف أموالا طائلة لشراء أحدث منتجات التكنولوجيا في حين تقاوم أي تغيير في فكرها وأسلوب حياتها لأنها تعتقد أنها على صواب مطلق لا يقبل الجدال بتاتاً .
منذ فترة ليست ببعيدة خرجنا من غرفة العمليات , أنا ومجموعة من الزملاء الجراحين , لنأخذ قسطاً من الراحة بعد العمل الشاق الذي استخدمنا فيه أحدث منتجات التكنولوجيا الطبية لإزالة كتلة من بطن مريض بالمنظار الموصول بشاشة تلفزيونية كبيرة دون إحداث شق يذكر في جدار البطن . وبدأ الزملاء بالحديث وهم يرشفون الكابيتشينو من أكواب كبيرة ويلتفتون بين الحين والحين إلى حواسيبهم المحمولة المتصلة بالشبكة العنكبوتية التي توفر لهم آخر المعلومات والمستجدات عن الطب وغيره , كان الجدال حاميا بينهم حول موضوع آداب الدخول إلى المرحاض والخروج منه وفق المنظور الديني فمنهم من قال أن الدخول يجب أن يتم بالقدم اليسرى والخروج باليمنى وأن يغسل المرء ما خرج منه وأن يستنجي ..... ومنهم من أضاف شروطاً أخرى , والبعض خالف . وفي نهاية الجدال قال أحدهم خاتما الحديث : الحمد لله الذي لم يترك شيئاً إلا وعلمنا إياه في ديننا , حتى كيفية الخروج إلى الغائط !
هكذا إذاً , ما كنا لنعرف كيف نتغوط نحن بنو البشر لولا أن علمنا الدين ذلك , وفق ما يدعيه هؤلاء الزملاء , بيد أن أسلاف الإنسان تغوطوا منذ ظهورهم الأول على سطح الأرض قبل ملايين السنين حيث لم يكن هناك دين أو معتقد . ولا أدري : إن كان الدين قد علمنا كيف نتغوط , فمن الذي علم الحيوان كيف يقضي حاجته في ظل غياب كامل للدين في حياته ؟ الحمار يتبول وهو عندما يقوم بفعله هذا فإنه يختار أرضا لينة ورخوة ومفروشة بالتراب الناعم ويخفض مؤخرته حتى تكون قريبة من الأرض , كل ذلك تجنباً لتلويث قوائمه من قطرات البول المتناثرة بعد سقوطها , ويتفوق عليه القط في ذلك بحفر حفرة بمخالبه ليقضي فيها حاجته ومن ثم يطمر ما خرج منه , فهل الدين ما علم هذه الحيوانات ذلك ؟؟ سؤال كنت على وشك طرحه في تلك الجلسة لو لا أني خشيت تهم التكفير الجاهزة عند هذا النوع من البشر الذين ينظرون إلى الحياة من زاوية ضيقة جدا, ولا غرابة إن قذفوني بما لا يحمد عقباه .
لا شك أن الدين عندما تطرق لمثل هذه المواضيع إنما الغاية كانت تعليم أناس لا يلمون بأبسط قواعد الحياة الصحية في ظل البداوة التي كانت سائدة آنئذ والتي كانت تفرض البدائي من السلوك والبسيط من الحياة , فهل من داع أن نتجادل حول مثل هذه المسائل التي أكل الدهر عليها وشرب , ونختلف عليها في زمننا هذا و خاصة إذا كنا من حملة شهادات علمية عالية ؟!
وفي سياق مشابه كنت على قرب من بعض الزملاء المغالين في الدين عندما غزت أمريكا العراق , كانوا على إيمان وثقة مطلقة بانتصار الإيمان على الكفر , وأن الله أرسل أمريكا ليكمل إذلالها , الذي بدأ في أفغانستان , على أيدي المسلمين في العراق فجلسوا أمام شاشات التلفزيون مشجعين ومصفقين وكأن الأمر مباراة لكرة القدم بين فريق العلوج والطراطير من جهة والجيش العراقي من جهة أخرى , معلقها هو محمد سعيد الصحاف , وما إن انتصر العلوج وسقطت العراق بيد الأمريكان حتى بدؤوا بالحديث عن المهدي المنتظر وقرب نزوله ليخلص المسلمين من براثن الكفار .
ولصورة صدام على البدر عشية إعدامه قصة طويلة , تحدث عنها القاصي والداني , ولكن الكارثة كانت أن أقسم بعض الحاصلين على شهادة الدراسات العليا في فروع علمية باليمين على أنه شاهدها بأم عينيه .
وفي الحقل الطبي ومنذ بضع سنين بدأ الترويج للحجامة كبلسم شاف للعديد من العلل والآفات المعاندة للعلاج وجرى الحديث عنها بكثرة , في محاضرات وندوات , من قبل أطباء كبار واستفيض في فوائدها ونجاعتها, ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد وإنما ذهب بعض الأطباء إلى أن هناك حالات من الأمراض المستعصية على العلاج كالسرطان تم شفاؤها كليا بها , وبدأ الكثير منهم بتطبيقها على المرضى في عياداتهم وسحب المال من جيوبهم , ومن ثم قامت جهات رسمية بالدعاية لها وإقامة مؤتمرات حول فوائدها وسبل إجرائها وإتيان الأدلة القاطعة , حسب زعمهم , على نجاحها في شفاء أدواء عجزت عقاقير المختبرات ومشارط الجراحين في القضاء عليها . وفي الواقع أن أي طبيب منصف يعلم أن لا دليل علمي يثبت فوائد الحجامة , ناهيك عن الأضرار التي يمكن أن تنجم عن هذا الإجراء , وهي لا تصلح لشيء سوى الراحة النفسية التي يشعر بها بعض المرضى بعد إجرائها لإيمانهم المطلق بفوائدها , وأن الموضوع بمجمله لا يتعدى كونه إفلاس علمي نشكو منه في عصرنا هذا وليس لنا ما نعتز به من منجزات علمية سوى مثل هذه الأفكار التي نستحضرها من تاريخنا وتراثنا الديني ونحاول تلبيسها ثوبا عصريا نغطي به عقدة النقص التي نعاني منها في زمننا هذا بعد أن انتقلت الحضارة إلى الغرب وأصبح التطور العلمي حكرا عليه .
سألت أحد الزملاء يوما في سياق جدال جمعني به عن سبب فقرنا وتخلفنا نحن المسلمين مقارنة مع المسيحيين واليهود وأتباع الديانات الأخرى فكان جوابه جاهزاً إذ قال : لا تغرنك الحياة الدنيا أيها الزميل فإن الآخرة هي لنا وهي دار الخلود الذي لا يمكن مقارنته بهذه الحياة القصيرة الفانية , فدعك من المال والتكنولوجيا وهذا العلم الفني البعيد عن الروح , فإنها أمور لا تفيدك في آخرتك بشيء . وكان بذلك كما الخطيب الذي خطب بالناس على منبر أحد الجوامع في لبنان حين قال :
الحمد لله الذي سخر لنا الكفار للعمل والإبداع كي يوفروا لنا التكنولوجيا ونتفرغ نحن للعبادة .
أما حذاء منتظر الزيدي الذي رشق به جورج بوش فله قصة ذات طنة ورنة , تلك الحادثة التي باتت لأشهر حديثاً مفضلا للناس جميعا , ومنهم الاطباء , ففي أي عيادة أو مستشفى كان حذاء الزيدي هو الحاضر بقوة , وفي تلك الآونة حضرت مؤتمراً لنقابة الأطباء , فنسي الأطباء في مؤتمرهم مناقشة الفساد الذي يعصف بالنقابة وينخرها حيث وصل مستهلك النقابة من بنزين سيارتين عاطلتين إلى الملايين عدا عن فشلها في حل الكثير من مشاكل الأطباء في مهنتهم ومعاناة المرضى على أسرتهم وإنما بدأ المؤتمر وانتهي وحذاء الزيدي كان الموضوع الطاغي , فتفتحت قريحة الأطباء لتمجد الحذاء شعرا ونثرا وسرداً وعزفاً وغناءً وتصفيقاً وأطلقت الزميلات الزغاريد , فلو كان من بيننا ذاك الوقت من لم ير أو يسمع عن حذاء الزيدي في الإعلام لخال له أن الحذاء هو اسم فتاة في غاية الجمال يتنافس الكل على حبها , أو لو أن الحذاء الذي حاد عن بوش دخل أجواء المؤتمر من خلال نافذة في قاعة المحاضرات التي ضمت مؤتمرنا لهبّ الأطباء لتلقفه واحتضانه كما يفعل حارس المرمى بالكرة .
ثمة ضرب من الأمراض النفسية يكتسبه البعض في طفولته أثر تعرضه لصدمة نتيجة لحادث أليم أو رعب شديد فيتوقف نموه النفسي بينما يظل النمو الجسدي مستمراً , ففي هذه الحالة يكبر المرء جسديا بصورة طبيعية ولكن تطوره النفسي يتوقف عند اللحظة التي تعرض فيها للصدمة , وحين يشب تراه جد طبيعي لكنك تكتشف عند التعامل اللصيق معه أن شخصيته شخصية طفل بعمره حين تعرض للصدمة . هذا أبلغ تشبيه يمكن أن نوصف به مجتمعاتنا الشرقية التي توقف نموها الشخصي منذ قرون , لا تمل هذه المجتمعات الرقص على أنغام الماضي التليد وأي حدث في حياتها تربطه بهذا الماضي , وما من مشكلة تلم بها إلا وتجد فيه حلها حتى سبل العلاج من الأمراض . وهذه المجتمعات قال عنها الكاتب والفيلسوف اللبناني الكبير جبران خليل جبران منذ قرن من الزمان : ويل لأمة تسترشد بماضيها وتنسى حاضرها ومستقبلها .
فويل لنا مادمنا نسترشد بماضينا وننسى حاضرنا مستقبلنا ؟
#آلان_كيكاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟