عباس حيروقة
الحوار المتمدن-العدد: 2805 - 2009 / 10 / 20 - 02:03
المحور:
الادب والفن
لأن الشعر ما هو إلا تلك الأمداء و الأنداءُ التي نحتاجُها كي نمعن في عَدونا وضحكنا ورقصنا ولو على مبدأ زوربا) ونواحنا وبكائنا وصراخنا
وعويلنا..ووجهنا نحو وجه الله لا يفصلنا عنه فاصل.. )
ولأن الشعر ما هو إلا تلك الأسئلة الكبرى التي تزدادُ اتساعاً.. ونحنُ موشومون بانتظاراتٍ طوال.
أتحدّث هنا عن مجموعة شعرية مختلفة ٍ بكثير من نصوصها عمّا هو سائد في الخطابات الشعرية, مختلفة بلغتها المشغول عليها, مختلفة بذهنيتها, بجدليتها, بتوتراتها, باصطخاباتها.. «الشذرات» المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر حمزة رستناوي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب , والتي جاءت بعد « طريق بلا أقدام » و«ملكوت النرجس» وتحوي مئة وثماني قصائد قصيرة أو ما يسمّى بقصيدة «الومضة».. هذه القصيدة التي تقوم في تركيبتها على التكثيف والإيجاز وعلى التناقض والمفارقة والقفلة المتوهجة أو النهاية السامية غير المتوقعة, والتي هي نتيجة لمقدماتٍ سامية, فتخلق الدهشة عند المتلقي, والقصرُ ليس بالمؤشر على أنها ومضة إن لم تتوافر فيها ماذهبنا إليه آنفاً .. وقد أجادوا التسمية حقيقة, فالومضة من الوميض واللمعان المذهل لنقرأ مثلاً ( الهبوط)
أتلاشى في الثقب الأسود / أقتربُ من الصفر المطلق /لا تتملقْ/
واتبعني /كي تهبط في ملكوت الله المطلق.
يقترب الشاعر بوضوح من روحانية الحلاج في هذا النص وفي غيره من نصوص المجموعة سواءً الحلاج في شعره أو في طواسينه.
ولغة الشاعر في مجموعته هذه لغة مغايرة تجديدية تخلقُ عند المتلقي حالة تأهب واستنفار داخلي تحسباً لمعاني أكثر دلالة ولكن ذلك يحتاجُ إلى جهد غير قليلٍ بالنزول إلى بئر المعنى لاستنباط كنهه, وما يغري المتلقي بمغامرة الشاعر النصية تلك الإيقاعية التي حاول الارتكاز عليها لترتفع به غماماً أو حماماً يهدلُ بوافر لذة النص:
لا تقضمي يا حلوتي غيم المطر/ سيفيض نهر الربِّ غولاً/
يرعب الأيام سفح المنحدر / إن تدركي رعش الجبال حقيقة
لبسطت كفاً للهروب بلا أثر/ من حانةٍ آوت مفاتن قاتلٍ/
للطفل في وضح القمر/.
رغم الغرائبية التي يغلف بها نصه والتي تشعر المتلقي أن النص خرج عن سيطرة كاتبه بين الفينة والفينة, إلا أن هذه الغرائبية أسس لها جيداً لتصبح ميزة أو ملمحاً هاماً في تجربة حمزة رستناوي, إلا أنها مرهقة حتى بالنسبة للمتلقي الفعال (المزمار) أنموذجاً لنقرأ:
مزمارٌ حلزونيَّ الروح/يتملص نافخُهُ
من طيف عطالته /ويسوّر ليلته بالوحدة
يعتصر العنقود بداخله /لايفعل نجماً/
مشلول يفجؤه البوح/
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نحن أمام نصٍ مغلق مبهم؟! أم غامض شفاف رمزي مكثف, وهل الغرائبية في المعنى والتركيب النصي لدرجة ما اتضح في بعض النصوص يمكن أن يعكس مطلباً أو هاجساً للشاعر بالبحث عن المتلقي الفعال؟ وهل الشاعر اشتغل في مجموعته على نص فعال مثلاً؟ وماهي الملامح الواسمة لهذا المتلقي؟ وهل حاول أن يشتغل على شعرية نصية ليكسبها ملامح الفعالية؟ وهل يمكن أن نقر بفعالية نص ماعند متلقٍّ ما مثلاً ؟ أم لكي يمتلك النص مقومات النص الفعال يجب أن تكون فعاليته عامة وقابلة للامتدادات الزمكانية؟
إن مجموعة"الشذرات" مشغولة على الذهنية العقلية المعرفية في معظمها أكثر من اشتغالها على الشعرية,هذا الاشتغال مبني في أجزائه على مقولة أو حديث أو نص لأحد المبرزين العقليين أو الروحانيين.. مجموعة لها خصوصيتها لقارئ خاص أيضاً, ولو أنها جاءت في بعضها غنائية فهذه الغنائية أشبه بالنسيج المشكل للجوهر المحتوى بشكله الفكري المعرفي, أي نحن أمام نصوص في بعض أوجهها أقرب إلى لوحة سريالية تجريدية, حمالة أوجه إن فكت بعض رموزها, تسنى الحصول على مفاتيح لها..
رغم كل هذا يمكن القول ان الشاعر رستناوي في شذراته هذه يمتح من عمق موروثنا الثقافي" الديني, الفلسفي, التاريخي, الأدبي" والموروث هنا أو التراث من حيث هو (مخزون نفسي للجماهير) كما يراه الدكتور حسن حنفي,ويتجلى ذلك ببعض المفردات أو الجمل فيرصع فيها نصه ليعكس البنى النفسية و الفكرية الخاصة به إضافة لالتزامه بالإيقاع الشعري العربي, والأمثلة كثيرة من مفردات "زنيم, سرداق" ومن جمل وتراكيب" في بيتي وأنا حائض, كنتم خير أفعى لسانها عربي وذيلها حركات"
وفي قصائد عدة مثل" متجردة, الخيام, نافذة"
قصائد المجموعة غير قائمة على الانفعال كما أنها غير قائمة على التأمل.. إنها نصوص قائمة في أكثرها على التفكر وسنوضح هنا ما التأمل وما التفكر والفرق بينهما.
التفكر كما أراه هو إعمال العقل في البحث عن حل لمسألة فيبذل الجهد وتتحفز الملكات, ويمكن أن يكون في منحى إيجابي كما يمكن أن يكون في منحى آخر سلبي وبالتالي يمكن أن يؤسس فعلاً سلبياً وردة فعلٍ أيضاً.
أما التأمل فهو الإمعان في الشيء والذي ينتج متعة واطمئناناً واستنهاضاً و استكشافاً لكنه الشيء من حيث هو ماتع وجميل, والتأمل أكثر ما يتعلق بالجماليات
فنعود لنقول بعد هذا التوضيح ان الشاعر اشتغل في معظم نصوصه على التفكر, وعندما اشتغل على التأمل أنتج أهم قصائد المجموعة فكان فيها الكثير من الإبداع والبناء الدرامي رغم قصرها مثل" المغني, الناي,فارس.."هذا التأمل الذي قاد ويقود إلى الكشف والإمعان فتنجلي الحجب ويفيض أو يضيء ولو لم تمسسه نارلنقرأ مثلاً قصيدة" فارس" ونلاحظ مدى فيوضات المعاني وانسيابيتها دون تكلف أو تصنع لتكون أنموذجاً لنص تأملي مدهش:
لفارس وردتان وقبّرة/لفارس وخز رائحة الكتاب المخمليِّ/
يفوح في تاريخ مهد المحبرة/ لفارس جملتان كطفلتين/
وناقة بيضاء تهذى / كالدموع إلى الحقيقة حائرة
ولننتقل الآن إلى النص الآخر الذي تحدثنا عن ارتكازاته, وهو النص التفكري المعرفي,ولنقارن بينهما من حيث عفوية وبراءة وبكرية الصورة في الأولى ومكننة أو آلية الصورة في الثانية رغم توافر الوزن والإيقاعية التي منحتها شيئاً من الغنائية لنقرأ مثلاً ( الهروب)
أفلاك الحرية / تمضغ فسحة وقت جدباءْ/
ستعود إلى عاشقها / منكهة خافتة الأثداءْ/
يتحطم قلبي / وأنا الآن/ مجرد طفل ( عقل)
يبدع قصة إغماءْ
ولكنها تبقى في هذا الاتجاه تتماشى مع كوكبة من الأدباء الذين شكلوا ظاهرة ما تؤسس من خلال نص خاص إلى متلقٍّ خاص بتأثيرات خاصة وقدرات تخيلية خاصة.
ويبقى أيضاً الشاعر هنا في مجموعته هذه كما قلنا يمتح من عمق موروثنا الثقافي رغم ما ذهبنا إليه, هذا ربما ما دفع بعضهم بوصف نصوصه بالتقليدية والمباشرة. والسؤال هنا :
إذا كانت هذه النصوص في هذه المجموعة تقليدية ومباشرة, فما حال ما سنتحف به من نصوص غير مباشرة أو تقليدية؟!
****
الشذرات – مجموعة شعرية
المؤلف: حمزة رستناوي
إصدار:اتحاد الكتاب العرب
ط1- دمشق 2007
#عباس_حيروقة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟