سيار الجميل
الحوار المتمدن-العدد: 851 - 2004 / 6 / 1 - 06:23
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
صناعة الترديات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين
د. سّيار الجميل
يعرف لنا ابن منظور في معجمه كلمة ( العسكر ) تعريفا بسيطا لا تعقيد له ابدا , فالعسكرة هي الشدة والجدب . والعسكر هو الجمع . وعسكر الليل : تراكمت ظلمته , وعسكر بالمكان : تجمع , والعسكر : مجتمع الجيش . والعسكر هو الجيش . والموضع : معسكر (لسان العرب , المجلد 4 , ص 568 ) . لقد وصلت العسكريتاريا العربية الى السلطة في مجتمعات زراعية ريفية مثل سورية والعراق ومصر والجزائر وليبيا واليمن والسودان .. وذلك من خلال انقلابات عسكرية , ولكن هذا لا ينفي عنها سمة الموروث العسكري الذي عاشته مثل هذه البلدان في العهود العثمانية الطويلة . لقد باركت المجتمعات العربية تلك الانقلابات ليس بسبب هويتها ( الثورية ) التي اتسمت بها , بل لانها وجدت في الضباط الاحرار بديلا للساسة المدنيين القدامى .. ومن هنا استمدت العسكريتاريا العربية سماتها الديكتاتورية باستحواذها على المشاعر واستخدامها الاغطية الحزبية الضيقة والشعارات البراقة بالوقت الذي فشلت المؤسسة العسكرية العربية فشلا ذريعا وكليا ازاء اسرائيل في جميع حروبها !
وقفة عند كتاب النابلسي
لقد عالج الاخ الدكتور شاكر النابلسي في كتابه »صعود المجتمع العسكري العربي في مصر وبلاد الشام« ( 1948 - 2000 ) الذي نشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر , 2003 . وقد سمعت بانه قد منع تداوله في اكثر من بلد عربي ! وكم هي الحاجة ماسة لدى الجيل الجديد الى معرفة هذه التكوينات الاجتماعية التي سيطرت على مقاليد الامور , وانشأت ديكتاتوريات دموية وبذرت الانقسامات الاجتماعية وخلقت التعصبات الطائفية , بل وجعلت المؤسسة العسكرية بدل ان تعمل في الثكنات والميادين لانجاز مهامها في الدفاع عن الوطن ضد الاخطار الخارجية .. غدت مسيطرة ببلادة ونرجسية وغباء على الشوارع وعلى كل مؤسسات الدولة المدنية وحتى على بيوت الناس الداخلية ! فبدل ان يحمي العرب ترابهم وحدودهم من خلال جيوشهم , اصبحت تلك الجيوش عبئا خطيرا على الانظمة السياسية , تتربص الفرص للانقضاض والتدخل والسيطرة على الامور وكأنها ليست جزءا من السلطة بل كل السلطة . ان مساهمة الدكتور شاكر النابلسي مساهمة عربية حقيقية ورائدة في هذا المجال , وخصوصا في دراستها لهذه المؤسسة من منظور نقدي من خارج انظمة الحكم العسكرية على عكس كل ما نشر من كتابات وما كتب من رسائل دراسات عليا لا ترقى الى الافضاء باستنتاجات واحكام علمية كونها كتبت من داخل تلك الانظمة العسكرية التي وصلت عند نهايات القرن الى درجة من العفونة والرداءة . وباستثناء مساهمة بعض المؤرخين امثال حنا بطاطو , فان اغلب ما كتب عربيا يقدم سفسطة ومديحا وتهريجا وتزويرا يعبر عن حالة انحطاط سببه مجتمع العسكريتاريا العربية الذي لعبت به وبمصيره عوامل وتيارات وسفارات وموروثات وقبليات وعادات سقيمة . لقد عالج المؤلف موضوعات اساسية في كتابه المتميز , اذ حلل ببراعة نشأة المؤسسات العسكرية , وحفر باحثا عن اسباب صعود المجتمع العسكري العربي منتقلا الى سلبيات وايجابيات ذلك " المجتمع " , واستخلص في النهاية رؤيته في مستقبله . وعليه , فان للمؤلف منهجه الذي قسم فيه موضوعه الى ثلاثة محاور اولاها في النشأة والاسباب وثانيها في السلبي والايجابي . واعتقد انه المحور الذي يشكل عمودا فقريا للموضوع كاملا . وثالثها عن المستقبل . وبذلك يكون قد نجح في اثارة اشكالية ظاهرة موضوعية اساسية في تاريخنا العربي المعاصر . وقد قدم جديدا من المعالجات والتحليلات لينتهي بالاستنتاجات وقفلة الموضوع .. ومن هنا تبرز اهمية ذلك وحاجة الاجيال الجديدة لمعرفة هذا الموضوع معالجا بهكذا منهج ومعرفة .. وكان النابلسي حياديا في ذلك .
إشكالية ظاهرة تاريخية خادعة
ولعل من مضحكات تاريخ العرب في القرن العشرين ان تجد هناك من صبغ العسكريتاريا العربية في كل مكان بصبغات كاذبة مخادعة مزورة على الجماهير اهدافها وغاياتها ووسائلها واساليبها الشريرة في الحكم .. , فلقد لبس العسكر موجة ذلك النصف الثاني من القرن العشرين , فاصبحوا يتكلمون باسم »الايديولوجيا العربية« او باسم »الاجيال القادمة« وباسم »الثورة« و»التحرر« و»المجتمع الجديد« و »الفجر الجديد« و»القيادة المباركة« .. الخ ولكن بقيت الذهنية المسيطرة على تفكير كل الضباط العرب الانقلابيين متناقضة مع كل ما هو متمدن ومتعدد وديمقراطي حر , فكل الزعماء العرب الذين جاءوا من رحم هكذا بنية لها طقوسها واساليبها واعرافها حتى الاجتماعية حكموا البلاد العربية عقودا طويلة من السنين بعقلية الثكنة العسكرية واصدار الاوامر والاحكام السريعة من دون اي قوى سياسية ولا منظمات مدنية , بل ووصل الامر في كل من مصر والعراق وسورية وليبيا والسودان والجزائر ان ينصب الانقلابيون من بينهم رئيسا للجمهورية من دون اي انتخابات عامة ! ويتضح اليوم كيف يورث الرؤساء العسكريون للجمهوريات العربية اولادهم مقاليد السلطة العليا ضاربين بعرض الحائط كل القيم الدستورية والاعراف الجمهورية والحقيقة , فان العسكريتاريا العربية بحاجة الى ان يتناولها باحثون ومؤرخون متمكنون لدراسة خطاياها التاريخية بحق الامة كاملة ! ان اشكالية الموضوع ليس من الصعوبة اثارتها , بل من الصعوبة الحقيقية معالجتها التي نجح النابلسي فيها , فليس من المهم اليوم معرفة تفصيلات الانقلابات العسكرية العربية بل الاهم يتمثل بدراسة العوامل المتباينة التي دفعت بضباط صغار او كبار الى خيانة العهود التي قطعوها والمواثيق التي اقسموا بشرفهم على حفظهم لها .. وقاموا بسرقة السلطات الشرعية فساسوا بلداننا الكبيرة من دون سياسات او برامج او اي خطط ومن دون اي اكتراث بالفصل بين السلطات بتوزيعهم المناصب المدنية والمتخصصة على ضباط خونة كما توزع الحلوى على الاطفال .. ضباط او اشباههم لا يفقهون من امر تلك المؤسسات شيئا ! والسؤال : لماذا تشبثت العسكريتاريا العربية بالكراسي والسلطة من دون العودة الى الثكنات وميادين التدريب كما حدث في تركيا ولبنان وغيرهما من البلدان .. واكاد اجد بان محاولة سوار الذهب في السودان تكاد تكون الوحيدة بين الانقلابات العسكرية العربية التي هيمنت على مقاليد الامور في نصف قرن كامل , ولما تزل اثارها بل وبقاياها تتحكم في اهم بلداننا العربية التي ازدادت الاضطرابات فيها بشكل لا يصدق .
ماهية العسكريتاريا العربية
يكتب المؤلف بان ليس شرطا ان يبقى العسكريون ببزاتهم وخوذاتهم وتقاليدهم بعد ان ينخرطوا في الحياة السياسية المدنية , كما هو الحال في بلدان عدة في العالم , مثل : الولايات المتحدة وبريطانيا .. كونها جميعا من دول المؤسسات المدنية التي هي اكبر بدورها من قوة العسكر , ولكن ان يبقى العسكريون ليس ببزاتهم ونياشينهم او حتى افكارهم واساليبهم ليقمعوا السلطة المدنية ويسيطروا على مقاليد الحياة ليست السياسية حسب , بل كل انواعها ويتفننوا في اضفاء كل بلادتهم واقانيمهم في صنع القرارات والانفراد بها ضد الاخرين من دون اي استشارة او ابداء راي وكاننا في ثكنات عسكرية . ان مجتمعات عسكريتارية عربية كالتي مثلتها تجربة صدام حسين الطفيلية على كل من المؤسستين العسكرية والمدنية ويهيمنوا عليها باسم احادية حزب فاشي , فهذا الذي تجسد بالعراق في حقيقة الحال وخصوصا عندما استحوذ في غفلة من التاريخ مدنيون لا في العير ولا في النفير لا يدركون مغزى السياسة وفنون الحكم والتحكم بالياتها لينتقلوا من الشوارع والمرافق الدنيا فجاة الى مقاليد السلطة العليا , وليصنعوا من انفسهم ارباب حكم من خلال فرض عسكريتارية فاشية غليظة كتلك التجربة التي مارسها ادولف هتلر في المانيا النازية عندما حولها الى ثكنة موبوءة بالتقاليد الفضة , وهنا يتحول المجتمع المدني بالضرورة الى مجتمع عسكريتاري مشوه حيث تفتقد المؤسسات المدنية تقاليدها ومكانتها في المجتمع . صحيح ان الاخ النابلسي قد عالج عسكريتارية بلاد الشام ومصر , ولكنني بعد قراءة كتابه , اعاد لي فتح شهية التفكير عندي للتامل في تجارب عسكريتارية الحكم في العديد من مجتمعاتنا العربية على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين .. اننا نلاحظ بان ثمة فروق واسعة بين هذه التجارب التي غلبت سلبياتها على ايجابياتها , ولا يمكن ابدا ان نصفها جميعا بالنزاهة والنظافة من تدخل ايادي خارجية في تنفيذها كما ستكشف الايام على ايدي المؤرخين القادمين . ومهما بالغ اصحاب تلك " الانقلابات " العسكرية العربية في توصيف انقلاباتهم ب¯ " الثورات " و ب¯ " حركات التحرر الوطنية " .. الخ , ولكنها تبقى انقلابات عسكرية وقفت ضد المشروعية السياسية والتاريخية من انظمة حكم معترف بها دوليا واقليميا ومحليا . وكم اود ان يتدارس الباحثون والمؤرخون العرب في قابل الايام ظاهرة الانقلابات العسكرية العربية في نصف قرن , ويقارنوا بين اساليبها ويتلمسوا وحدة شعاراتها ويحفروا للبحث في ارتباطات اصحابها , اي بمعنى معرفة جذورها للتمكن من عواملها ودوافعها الحقيقية وصولا الى دراسة ما انتجته تاريخيا من معطيات اثرت بشكل ايجابي او سلبي على حياة اجيال القرن العشرين .. بدءا بالانقلابات السورية ثم المصرية ثم العراقية ثم اليمنية والجزائرية والسودانية والليبية .. واستطيع القول ان سلبيات العسكريتاريا العربية الوخيمة قد اضرت بحركة التاريخ في منطقتنا واعاقت سيرورة التقدم السياسي .. وخلقت جملة من الظواهر الخطيرة التي منها الديكتاتوريات والحكومات الفاشية واغتيال المشروعات الديمقراطية والليبرالية وسحب البساط من تحت ارجل الحياة الحزبية وتخدير الراي العام بالشعارات المزيفة والكاذبة والهيمنة على المؤسسات الدستورية والسياسية واشعال الحروب العبثية وتفكيك المصالح العليا للمنطقة ازاء امتدادات اسرائيل التي فشلوا معها سلما وحربا ..
واخيرا : ماذا اقول ?
اخيرا , تحية ود واعتزاز لجهد الاخ شاكر النابلسي في كتابه الذي هو في الحقيقة بحاجة الى وقفة مطولة اخرى , اذ لا يكفيه هذه اللمحة السريعة ليس فقط للتعريف به , بل لما اثاره عندي من فرصة حقيقة للتأمل في ظاهرة طالما فكرت بها من خلال عملي وانا اكتب منذ سنوات كتابي " تكوين العرب المعاصر " . فهل سيكمل صديقنا النابلسي مشروعه ليتدارس تجارب عسكريتارية اخرى من بيئاتنا العربية في القرن العشرين . انني اتأمل حدوث ذلك .
*مؤرخ وأكاديمي عراقي مقيم بين كندا والإمارات
#سيار_الجميل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟