|
مظفر النواب في ميزان الزمن
شوفي بزيع
الحوار المتمدن-العدد: 2801 - 2009 / 10 / 16 - 21:57
المحور:
الادب والفن
10/10/2009 قل أن امتلك شاعر معاصر القدرة على جذب الجمهور و”إغوائه” وشد انتباهه كما كان الحال مع الشاعر العراقي مظفر النواب.
واللافت في الأمر أن صاحب “الوتريات” لم يدخل إلى قلب جمهوره من باب القصيدة الخليلية الكلاسيكية كما فعل من قبله محمد مهدي الجواهيري وبدوي الجبل وعمر أبوريشة وآخرون، بل من باب قصيدة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة التي ظل استقبالها والتفاعل معها مقتصراً على النخبة المثقفة ومؤازري حركة الحداثة الشعرية التي استهلها في أربعينات القرن الفائت السباب والملائكة والبياني.
ورغم أن النواب ظل يكتب القصيدة العمودية بين حين وآخر إلا أن القصائد التي دفعت الجماهير للالتفاف من حوله كانت تنتمي إلى الشكل الجديد الذي لم يلق في تجارب أخرى مماثلة الاهتمام نفسه والحفاوة إياها.
كيف استطاع مظفر النواب إذاً أن يحقق في فترة قياسية النجومية التي بلغها في السبعينات، من ثم تواصلت صعوداً بعد ذلك لنبدأ في أوائل التسعينات بداية انحدارها؟ وهل يعود الفضل في تلك النجومية إلى الشعر وحده أم إلى عناصر أخرى لا علاقة لها بالنص الشعري أو بالإبداع المحصن؟
إن أسئلة كهذه تكتسب مشروعيتها من تراجع الظاهرة النوابية إن لم يكن أفولها بشكل شبه تام، وإذا كان غياب الشاعر عن القيام بأي نشاط يذكر في السنوات الأخيرة، بداعي المرض والتقدم في السن، هو السبب في نسيانه وسحب اسمه من التداول، فإن سبباً كهذا لن يكون في مصلحة الشاعر لأن هذا الأخير لا ينبغي أن يكون موظفاً عند قصيدته أو مروجاً إعلانياً لها، بل عليه أن يعرف كيف يتوارى إلى الخلف من أجل أن يتقدم النص أعزلاً وبلا ظهير إلى ساحة المواجهة مع المستقبل.
أغلب الظن أن نجومية النواب متأنية من إلغائه الفريد والاستثنائي لشعره والذي لم يكن يجاريه فيه أحد آخر. فاللهجة العراقية المشبعة بالشجن والتجويد الغنائي الذي عرف الشاعر ذو الصوت الرخيم على قوة كيف يتفنن في أدائه والترجيع الكربلائي المستوحى من تلاوة السيرة الحسينية، فضلاً عن التلاعب بالصوت صعوداً وهبوطاً كما يفعل أمهر الممثلين على خشبة المسرح، كل ذلك وسواه حوّل الشاعر إلى ظاهرة فريدة فيها من الغناء والتمثيل والتطريب بقدر ما فيها من الشعر، وإذا كان الفارابي في بلاط سيف الدولة قد أبكى الحاضرين وأضحكهم ودفعهم إلى النوم عبر التلاعب بأوتار عوده، فإن مظفر غالباً ما كان يفعل الشيء نفسه في أمسياته الشعرية الشبيهة بالاحتفال.
إضافة إلى كل ذلك بدا الشعر عند مظفر منتزعاً من عالم مشهدي مترع بالصور الكثيرة التي تنطبع في ذهن المستمع كما لو أنه أمام شاشة سينمائية، وهذا البعد التصويري في شعره كان متصلاً بالمحسوس والايروتيكي من مثل “وشجيرات البر تفوح بدفء مراهقة بدوية/يكتظ حليب اللوز ويقطر في الليل”.
وغيرها من الصور المماثلة التي يمكن للمستمع أن يحفظها بسهولة، وأعتقد أن مثل هذه اللقى النوابية مضافاً إليها البعد الصوفي في شعره وما يستتبعه من خمريات وشطحات وصفية، هي ما يمكن أن يوفر لمظفر قدرة نسبية على مقاومة النسيان أو مخاتلة الزمن.
لكن المشكلة الأساسية عند مظفر النواب تكمن في استسلامه لإغراء جماهيرية طاغية سرعان ما تبدأ بالتناقض بعد استنفاد دورها وأغراضها، وإذا كان الشاعر والمفكر المكسيكي أوكتافيو بات قد تحدث عن الأقلية الأهلية التي تبدأ بقراء للشاعر العظيم قلائل ومعدودين ثم تكبر وتتسع ككرة الثلج سنة بعد سنة.
فإن الحال مع النواب يبدو بخلاف ذلك تماماً حيث إن الجمهور الذي يأنس للاستماع ويطرب للالقاء الكرنفالي ما يلبث أن ينحسر ويتناقص مع الزمن، فالشاعر الذي تعتمد جماهيريته على الالقاء المؤثر وحده لن يستطيع أن يحتفظ بهذه الموهبة مدى الحياة تبعاً لمشكلات الشيخوخة وعوارضها، كما أن اختفاءه عن المسرح بداعي الموت سيكون سبباً كافياً لأن تلاقي قصيدته الصبر إياه.
المشكلة الأخرى عند مظفر النواب هي في تسييس الشعر بشكل مفرط إلى الحد الذي تصبح معه القصيدة شعاراً أيديولوجياً، أو تسجيلاً مدعماً بالشتائم والأسماء والوقائع عن الواقع العربي الراهن، أو توصيفاً للحروب وإعادة انتاج منظومة لأعداد الشهداء والمصابين ولنتائج المعارك والمواجهات كما لو أن الشاعر مراسل حربي يعمل على كتابة التقارير وتوثيق الوقائع الجارية، فما الذي سيبقى من هذا الشعر بعد انتهاء المواجهات ودوال الدول وتغير الظروف؟ وما الذي سيبقى من الشتائم بعد أفول نجم هؤلاء وانحسار ذكرهم؟ ثم أليس هذا النوع من الكتابة هو مجرد تنفيس آني عن الاحتقان الذي يستبد بالناس للحظات قليلة ثم ينتهي مفعوله بانقضاء الحدث، بقدر ما هو مجرد استمرار معدلٍ قليلاً لثقافة المديح والهجاء في المجتمع العربي القبلي.
لا أعرف إذا ما كانت هذه الملاحظات قاسية قليلاً بحق مظفر النواب الذي يرقد الآن على فراش المرض. لكن ما أعرفه هو موهبة الشاعر العالية كان يمكن ان تدفعه، لو أحسن استثمارها، إلى مقدمة المشهد الشعري العربي دون أن أغفل بأي حال تجليات هذه الموهبة في غير قصيدة ومكان.
#شوفي_بزيع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
الحكومة الأوكرانية تلزم ضباط الجيش والمخابرات بالتحدث باللغة
...
-
تناغمٌ بدائيٌّ بوحشيتِه
-
روائية -تقسيم الهند- البريطانية.. وفاة الكاتبة الباكستانية ب
...
-
-مهرج قتل نصف الشعب-.. غضب وسخرية واسعة بعد ظهور جونسون في
...
-
الجزائر تعلن العفو عن 2471 محبوسا بينهم فنانات
-
أفلام كوميدية تستحق المشاهدة قبل نهاية 2024
-
-صُنع في السعودية-.. أحلام تروج لألبومها الجديد وتدعم نوال
-
فنان مصري يرحب بتقديم شخصية الجولاني.. ويعترف بانضمامه للإخو
...
-
منها لوحة -شيطانية- للملك تشارلز.. إليك أعمال ومواقف هزّت عا
...
-
لافروف: 25 دولة تعرب عن اهتمامها بالمشاركة في مسابقة -إنترفي
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|