سعد الغالبي
الحوار المتمدن-العدد: 2802 - 2009 / 10 / 17 - 01:28
المحور:
الادب والفن
منذ’ ان خرج شلال من دياره , والسماء ترسل ـ بكل ما لديها من قساوة ـ برد الشتاء , ولكنهم وبعد ثلاثة أيام , يكاد الركب أن يصل بعد أن بانت آثار الديار الجديدة, وتكاد تتكشف شيئا فشيئا , وكأنها ترتفع عن الأرض ... صاح أحد الفرسان : انها الديار , ديار سعد آل منصور .
وجوه أتعبها طول الطريق , تكاد تصل الى الديار , فهل لها أن تستريح؟
اقتربت تلك المرأة الطاعنة في السن من أولئك القادمين , انها (أم سعد) ... الى أين تتجه ؟!
نحو (سليمه) زوجة شلال , رق قلب المرأة العجوز, حين شاهدت بطنها المرتفعةـ تكاد تصل الى صدرها ـ قالت لها :
ـ أظن , لم يبقى لك الكثير من الوقت !.
تحسست بطنها براحة يدها ,ثم قالت برقة : كان الله في عونك .
تقدمت المرأة الطاعنة في السن خطوتين ,ثم توقفت أمام (جميله) , شاعت على وجهها نظرة انبهار , وهي تشاهد جمال ذلك الوجه .
قالت أم سعد :ما أسمك يابنيتي ؟
قالت :أنني جميله .
قالت : وأنت كذلك , وقد صدق من دعاك بهذا الأسم .
قال شلال , والذي يقف قريبا : انها أختي .... قالت : وستكون ابنتي , وبيتي سيكون بيتكم , وهذه الديار سيكون دياركم .
قال شلال : ليس غريب على أخي سعد أن يحمل تلك الأخلاق , انني أعرف الآن أن الأخلاق تنبت كما الأشجار الكبيرة .
أيام تتلوها الأيام الأخرى , بعضها يتشابه , وربما يحدث بينها اختلاف ...والوقت يمضي وعائلة شلال تسكن الديار الجديدة.
فهد وسعد والبقية الباقية من الرجال ,في شد وتراخي عندما يقيّمون ما يدور في الجوار ,فأحاديث الليل تأتي طويلة , وهي تنتقل من هنا وهناك , تتناقلها ألسن العائدين من تلك الأرجاء .
عاد فاضل من ديار أبيه , بعد زيارة قام بها ـ بتكليف من عمه فهد ـ وهو يحمل أخبار القرى ومدن الطريق ... سأله عمه .
فقال : شيوخ العشائر تتبارى , أيهم يحظى بأستضافة( ملك العراق) القادم من ولاية بغداد... وإن كانت وليمة العشاء عند أحدهم , فالغداء كان لزاما أن يقبل به الملك عند الآخر , حتى وان لزم الأمر على قطع الطريق أمام الملك .
قال سعد ( وهو يجلس في ذلك المجلس , ببيت مصنوع من وبر الأبل , منصوب في العراء ) وقد بدى في حيرة من أمره :
ـ عجبت’ لأمرين , أولهما , كيف يكون لملك لا يعرف شيئاًً عما يدور في مملكته , ويقول أنا ملك البلاد , وثانيهما , هولاء الشيوخ , يظن أحدهم بأن وجوده على غير مايكون لباقي البشر , فأضحى بعضهم يمارس دور الخصم والحكم ... فأنظروا كيف جلب البعض منهم مآساة لبسطاء الناس , حين ساندوا أولئك الشيوخ , تجار الحبوب
كي يشتروا ما استطاعوا وتركوا الأفواه جائعة , وأدخلوا العامة في زمن القحط .... انها والله مأساة تتلوها أخرى , وضياع ما بعده ضياع .
قال فهد : أجل ياسعد , انه الضياع , ولكن لهذا الضياع سر .
قال سعد :الأسرار كثيرة في هذه الأرجاء.... يرى متى يحين الوقت حتى نتعرف على هذه الأسرار, لا أدري ! ربما لن نتمكن فيأتي الآخرين, وقد يعانوا ما نعانيه اليوم.
عاد سعد الى بيته متعبا , وقد التقته أمه في غفلة من المحيطين به ... قالت : أراك متعبا , وقد أخذت منك الهموم مأخذاً... ماذا ياولدي ؟
قال : انها الدنيا وهمها !
قالت :بعض همومها يزول بوجود المرأة , ولاسيما الصالحة منهن ....أما آن الأوان لتتزوج ؟ أظن اني وجدت لك ما أحب , وإني لأرجو أن تكون من نصيبك .
ضحك سعد وقال :وجدت لي ! من تكون تعيسة الحظ تلك ؟!
قالت : بل قل السعيدة .... إنها إسم على مسمى , إنها جميله أخت شلال .
صمت سعد, وكأن والدته قد أيقظت أمرا كان غافلا عنه ..... قالت الأم : ها... إنها فرس’ أصيل .
قال :نعم , انها كذلك , ولكن خيّالها لست أنا ..... بل ابن عمها فهد , وتلك هي رغبتي ياأماه .
أصيب فهد بالذهول , عندما أعلمه ذلك الصديق سعد برغبته تلك ....قال فهد في تلعثم , وكأنه يخشى النساء :
ـ أنا أتزوج , أنا وكما تعرفني بلا عنوان يهتدون بيه الي .
قال :أراك تخشى النساء, عندما تتكلم هكذا , هل تخشاهن حقا , أم انك بت بلا احساس اتجاههن؟!
قال : أظن اني فقدت هذا النوع من الأحساس بدون نية مسبقة , ربما لأن همي كان كبير , أو مسالك الدروب التي سلكتها كانت متشعبة .
تكاد الشمس تنحدر نحوالغروب ,عندما أعلن فهد موافقته بالزواج أمام سعد.... كان فرحه لايوصف , ذلك الصديق سعد حين أخبره شلال أيضا برغبته في هذا الأقتران لو تم بين أخته وابن عمه فهد.
الأيام تمر بسرعة , وموعد الزواج قد اقترب , وثمة أعمال قد جرى تنفيذها .... حيث أوفد فهد ابن أخيه فاضل , يرفقه راضي الى ديارهم لكي يدعوا الرجل الضرير لحضور مراسيم الزواج .
كان سعد منشغلا ,بتجهيز مايلزم لأقامة وليمة , أرادها أن تكون كبيرة, تليق بهذا الصديق , وتلك الأرادة السخية كانت محل اعتراض من قبل فهد , معللا ذلك , انه بذخ كثير, ولكن سعد اعترضه قائلا :
ـ بودي القول , كما قال سيد البلغاء إمامنا علي ابن أبي طالب(عليه السلام) , ولكن بطريقتي .... أقول ان إقبلت , فكثرة العطايا لا تنقصها , وان أدبرت , فالبخل لابيقيها ...... اذن ياصديقي , هكذا هو حال الدنيا , بين إقبال وإدبار , ثم إن الأمر عائد لي وأنا أريد أن أبرهن على علو شأنك عندي , وأفاخر بيه أمام أهل الديار... فلا تعترضني .
اليوم موعد العرس .... وعلامات الفرح بدت واضحة في كل أرجاء ديارسعد آل منصور , لأن فهد يعني لهم الكثير , فهو مالك للشجاعة إن تطلب الأمر , وقد إختبروه فوجدوه كما ظنوا , ولم يكن فهد مجرد الضيف الصديق على كبيرهم (سعد) ... أجل إنه’ كبير القوم , رغم وجود منهم أكبرمنه سنا, وكانوا كثر .... إلاّ إنه ابن كبيرهم (منصور) الذي كان ـ في زمانه ـ راعيا لكل من سكن وتوطن في تلك الديار .
حين بدأت الشمس تقترب من الزوال , نظر فهد الى السماء , فأرجع بصره وفي عينيه قلق....إنَ أخي قد تأخر وصوله !
هكذا أخبر سعد وشلال , حين كانوا بقربه.
قال شلال وهو ينظر بأتجاه الدرب القادم الى الديار : لازال هنالك متسع من الوقت , فالعصر لم يحن بعد .
وجاء العصر ..... حينها امتلأ الفضاء الواسع والذي يقع أمام البيوت الطينية بالوافدين , وبين هذا الجمع , وقف فهد وقد ارتدى أجمل حلة, لم يرتديها منذ زمن بعيد .... عيناه تترصدالدرب وهو يبحث عن ضالته التي لم تزل مفقودة .
حين نظر سعد,فجأة ,بوجه فهد فرآه وقد توهج فرحا , فأدرك أن ثمة أمر قد طرأ, فنظر كما ينظر فهد , فعلم أن أبا فاضل قد وصل , برفقته ابنه فاضل وثالث معهم , انه راضي .
اخترقت الخيول الثلاث ساحة الأحتفال وركابها, حينها تقدم فهد مسرعا نحو القادمين , وخلفه سعد يحث الخطى .
عناق حار يتبعه تبادل التهاني بعد الترجل عن الخيول , وفي ركن قد هييء ,أجلس فهد أخاه ليسمع ويستمتع .
مراسيم العرس قد ابتدأت ,قبل غروب الشمس بقليل , نظام دقيق قد وضع في حيز التنفيذ , يشرف عليه رجال أكفاء ,فوليمة العشاء جاءت بوقتها ,لتوضع أمام المدعوين, وبطريقة خاصة .
الليل بدأ يخيم على المكان .... أذن لابد من الضياء أن يحل مكان الظلام ... جاء الضياء ساطعا , عندما بدأ عدد من الشباب برفع المشاعل بأدوات صيد الأسماك , تلك التي يسمونها (الفاله) .
ساعات الليل تتقدم , وموعد الزفاف قد اقترب , أصوات زغاريد النسوة تعلو في المكان الذي تجلس فيه جميله , وتكاد تلك الأصوات تتقدم زاحفة في الهواء لتصل الى مسامع أبي فاضل , فتزيده فرحا .... نسوة وقفن بصفين .
أحد الصفوف ينشد قائلا :(جبنه عروسك يسباح القلب )...فيأتي الرد من الفريق الآخر (صفكه وهلاهل على طول الدرب) .
لم يتمكن الرجل الضرير (أبا فاضل )من كبح جماح ذلك الحب الذي يكنه لأخيه الأصغر ،في تلك اللحظة , حين أرغمه هذا الحب ليبرهن ... نهض أبو فاضل من مجلسه , وسار بمفرده عدة خطوات وهو ممسك بعصاه التي يتحسس بها طريقه.
وحتى أصبح في منتصف المكان ,وقف هناك والجميع يراقب ماذا سوف يصنع ! .
أطبق الصمت على المكان , والرجل الضرير في مكانه , وكأنه ينتظر شيء ما سوف يأتيه ليعلمه ما سيقول .
وفجأة ر فع عصاه, وهو ممسك بها من الوسط , فوق رأسه.... هزج بأصرار عنيد ثلاثا :(عريس أو ربعه ايزفونه..... عريس أو ربعه ايزفونه ..... ) .
صمت بالثالثة قليلا ... نهض سعد من مكانه مسرعا , ووقف خلف الرجل الضرير, وبعد أن أحس بوجوده , أطلق الثالثة , وهو يضرب بر جله اليمنى الأرض قائلا : ( عريس أو ربعه ايزفونه ) , وسعد يدور حوله ويردد كما هو يقول .
ألتحق فاضل ,ثم راضي , وتبعهم جمع كثير ليكونوا حلقة كبيرة حول الرجل الضرير , يدورون كما الرحى حول قطبها .
فهد بالقرب من زوجته (جميله), لوحدهما لأول مرة .... انقطعت زغاريد النسوة , وهدأت أهازيج الرجال , وبدأ كلام آخر , قال فهد وهو يتقدم نحوها : كم أنت جميله , وأشهد أني لم أرى , وما رأت عيني مثل هذا الجمال .
بدأ فهد يحدق بوجه(جميله ) ويتفحص معالمه, يخالجه شعور فرح قد امتزج بالرهبة من شيء ما يكاد هو لايميزه بدقة
في تلك اللحظات .... عاد ثانية الى الكلام , بعد أن جلسا باقتراب , قال : أنا لست شاعرا , لكني أستطيع القول ....... نور وجهك يكاد يضيء المكان , واني لا أرى نورا غير هذا النور الذي يشع أمامي ... حين امتزج هذا الجمال بصفة أخرى تملكيها , الا وهي الشجاعة والتي عرفتها منك عن كثب , يكون الأمر خيال... وهذا ما لا أستطيع أن أصفه .
جميله كانت تصغي , ولكنها لم تكن لتتحرر من خجلها ... تارة ترفع رأسها , وتنظر بوجه فهد , وأخرى تخفي وجهها, الا انها أصرت لتقول: عندما أريد أن أقول شيئا سأقول ..... انك تملك قلبا كبيرا , الى حد يمكنه أن يستوعب كل عذابات الآخرين اللذين لا يستطيعون البوح بتلك العذابات ... وذلك القلب يستطيع أن يحمل الأحلام...... أنني أمتلك براعم لم تورق بعد , احاول أن أجعل الأوراق تنمو على تلك البراعم حين تكون بقربي .
مضى فهد تلك الليلة وقد انقضى ثلثها , وهو يتحدث الى تلك القادمه الجميلةالى حياته .
#سعد_الغالبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟