أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد عادل التريكي - أي منظور لمستقبل الهوية في مواجهة تحديات العولمة؟















المزيد.....



أي منظور لمستقبل الهوية في مواجهة تحديات العولمة؟


محمد عادل التريكي

الحوار المتمدن-العدد: 2801 - 2009 / 10 / 16 - 18:18
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    



تمهيد :
يثير موضوع الهوية والعولمة من الأسئلة أكثر مما يقدم من الأجوبة وهو -كالموضوعات التي لا تزال مصطلحاتها ومد لولاتها في مرحلة التكون - يحتاج إلى التوقف عند الأسئلة التي يثيرها لعلها تفتح مغاليقه. وإذا كان الإسراع إلى الإجابة قد يوقع في الزلل، فإن التريث عند الأسئلة وتأملها قد يتيح مجالا للتأمل والتدبر، ولتحقيق ذلك ربما كان من الطبيعي لمن يبحث هذا الموضوع أن يتساءل :
ما العولمة ؟ هل هي ظاهرة جديدة مستحدثة في هذه السنوات القريبة؟ أو أنها لفظ جديد للتعبير عن واقع قديم كان ملازما لجميع الحضارات الكبرى والإمبراطوريات العظمى التي استخدمت قوتها -خلال عصور التاريخ- لبسط نفوذها ونشر مبادئها وتحقيق مصالحها ؟
فهل كان امتداد السيطرة الرومانية -مثلا- على العالم المعروف في زمانها، ونشر أنظمتها في الحكم وأنماط حياتها السياسية والاجتماعية والثقافية نوعا من العولمة ؟
وماذا نسمي ما رسخته بريطانيا في الأقطار التي احتلتها والتي كانت لا تغيب عنها الشمس ؟ ألسنا نرى أن اللغة وأساليب التفكير وأنماط الحياة الإنجليزية لا تزال سائدة في أكثر تلك الأقطار ؟
ألا يدل وجود منظمة الكومونولث على التشبث ببقايا ما كان ؟
هل كل ذلك عولمة أو شكل من أشكالها ؟
وليس من الحتم أن تكون هاتان الحالتان وأمثالها في التاريخ متطابقة ليكون الجواب بالإيجاب، فضرب الأمثلة وتوضيح الأفكار يكفي فيهما التشابه والتقارب والقياس دائما مع الفارق.
وكذلك لابد لمن يتصدى لهذا الموضوع من أن يتساءل :
هل العولمة في صورتها المعاصرة هي الأمركة؟ وإذا كانت كذلك، هل هي من أنواع الاستعمار الجديد الذي يتحقق دون وجود جيش محتل ؟
وهو سؤال يشتد الخلاف بين المجيبين عنه من مؤيد ومفند. ومن أجل ذلك يحتاج الجواب إلى قدر من التمحيص حتى تطمئن النفس إلى ترجيح يستند على مرجِّح واضح.
وتساؤل ثالث..هل نستطيع حقا أن نفصل بين العولمة وتقليص الهويات القومية والدينية للشعوب أو القضاء عليها، بما تتضمنه تلك الهويات من ثقافة ولغة وتقاليد وأنماط حياة ؟ وإذا كان جواب السؤال الأول عن صنيع الحضارات العظمى والإمبراطوريات الكبرى هو أن هذا الصنيع عولمةً، فهل استطاعت تلك العولمة أن تقضي على هويات الأمم والشعوب الأخرى. أو أن الإمبراطوريات زالت وبقيت القوميات والثقافات والأديان المتعددة المختلفة ؟
فكان بذلك تأثير العولمة وقتيا، أما تأثير القوميات والأديان فقد كانت له الغلبة والبقاء . ولابد من التنبه للفرق الشاسع بين العصور القديمة وعصرنا الحاضر بوسائل اتصاله وشبكات معلوماته وقُدرته على التغلغل والسيطرة .
وتساؤل رابع.. هل تتناقض العولمة مع الديمقراطية ومع التعددية الثقافية والتنوع الحضاري ؟ إذا كانت تتناقض مع كل ذلك بحكم محاولتِها السيطرة والسيادة والانفراد، وبحكم نشرها نموذجاً واحداً ونمطاً بعينه في الاقتصاد وفي الثقافة والاجتماع –وهما نموذج ونمط ينتميان إلى حضارة واحدة في مجموعها، بل إلى مجتمع واحد – فما هو موقف الدولة العظمى التي طالما دعت إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفَرضت على الدول التي تنتقص منهما، أنواعا من العقوبات مثل الحصار والمقاطعة؟ أليس هذا مثلا من أمثلة ازدواجية المعايير ؟
وتساؤل خامس..هل العولمة تنتهي حقاً بالتفاهم الدولي والسلام العالمي والتقارب بين الشعوب ؟ أو أنها لابد ستثير مقاومةَ تلك الشعوب دفاعا عن هويتها ومقومات شخصيتها، وبذلك تكون العولمة قد نَثَرت بذور الحروب وأنواع الصراع بدل أن تنشر السلام ؟
وأخيرا وليس آخرا..ما هي تأثيرات العولمة في العالم؟ وكيف يمكن للعرب التعامل معها ؟
**********
ولست أدري أكانت هذه الأسئلة موضوعية محايدة أم أن صياغتها حملت بعض فكر السائل وأومأت إلى الإجابة إيماءاً عاما يدل على اتجاهه وموقفه .
ومهما يكن من أمر فلا بد من محاولة الإجابة عن بعض تلك الأسئلة دون التقيد بتسلسلها وترتيبها.

مفهوم العولمة :
وأول ما نقف عنده قضية المصطلح ..فلا أشعر بالحرج من استعمال مصطلح "العولمة " ومن تأصيله في اللغة العربية. إذ أن الوزن الصرفي "فَوْعَلَ " -فعلا وإسما- هو من أبنية الموازين الصرفية ومن الشواهد على ذلك، حَوْقَلَ الرجل :ضَعُفَ، ومصدره السماعي حِيقال. أما مصدره القياسي فـ "حَوْقَلَةٌ"، وقالوا :كَوكَبةٌ في الاسم. ومما جاء في وزن فَوْعَلَ: الفَوْلَف: كل شيء يغطي شيئا، وفَوْقَلَ: لِلْحِجْلِ. وشَوْشَبَ: إسم للعقرب. ولَوْلَبَ: لولب الماء. والنَّوْرَج والنَّوْرَجَةُ، ومن كلام المحُدَثين: قَوْلَبة وبَلْورة وحَوْسبة..وما جرى على كلام العرب فهو من كلام العرب.
" فالعولمة "شأنُها شأن " الهوية " و " الحداثة أو الحداثية " و "الديمقراطية " و"حقوق الإنسان " و " الخوصصة " أو " الخصخصة أو التخاصية "و" النظام العالمي الجديد "وبعض المصطلحات والألفاظ الأخرى الشائعة منذ سنوات التي لا تزال يكتنفها الغموض، والتي يذهب بعض النقاد والمبدعين والمحللين الاجتماعيين مذاهبَ مختلفة في فهمها وتعريفها وتفسيرها، ولذلك تأتي أحكامهم أحيانا غامضةٌ ومتباعدةٌ بسبب غموض منطلقاتهم واختلاف هذه المنطلقات، حتى أصبح الباحثون في هذا الموضوع والمتحدثون عنه يتساءلون: هل من الأفضل أن تُترك هذه الألفاظ والمصطلحات وأمثالهُا دون تحديد (ربما لأنها بطبيعتها غير قابلة للتّحديد). وأن يُتحدّث عن بعض مظاهرها ونتائجها وعلاقتها بغيرها، اعتمادا على وُجود قدرٍ مشتركٍ من الفهم بين المتحدِّثين عن هذه الألفاظ والمصطلحات، يُتيح توصيل الآراء والتحليلات إلى الآخرين مهما اختلفوا في التفصيلات والفروع.
" العولمة " ترجمة لكلمة " MONDIALISATION " الفرنسية التي تعني جعلُ الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي يَنأى عن كل مراقبة.
والمحدود هنا هو أساساً الدولة القومية التي تتميز بحدودٍ جغرافيةٍ وبمراقبةٍ صارمةٍ على مستوى الجمارك : تَنقُّل البضائع والسِّلع، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطرٍ أو تدخُّلٍ خارجيٍ، سواءٌ تعلق الأمر بالاقتصاد أو بالسياسة أو بالثقافة. أما اللاَّمحدود فالمقصود به " العالم "، أي الكرة الأرضية.
فالعولمة إذن..تتضمن معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الاقتصادي ( المالي والتجاري ) وترك الأمور تتحرك في هذا المجال عبر العالم وداخل فضاءٍ يشمل الكرة الأرضية جميعها. ومن هنا يُطرح مصير الدولة القومية، الدولة /الأمة، في زمن تسوده العولمة بهذا المعنى .
على أن الكلمة الفرنسية المذكورة إنما هي ترجمة لكلمة " GLOBALIZATION " الإنجليزية التي ظهرت أول ما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي تفيد معنى تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل، الشيء الذي وجَدتُه حينما بحثتُ عن المصطلح في معجم [ ويبسترز-WEBSTER ‘S ] الذي يقول:" العولمة هي إكساب الشيء طابع العالمية وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالميا ".
ولكني ألفيتُ أن هذا المعنى شديد البراءة بالغ الحيدة، لا ينسجم في عمقه مع دلالة اللفظ ومفهوم المصطلح كما يُشاع في العالم اليوم.
وهنا لابد من وقفة نستقبل فيها ما صدر من تصوراتٍ عن العولمة . أو تعريفاتٍ توذن بها، وإن لم تبلغ الصحة والدقة المطلوبتين في الحدود بحكم أن العولمة أمرٌ أَنِفٌ غامضٌ، أو غائمٌ لم يتم تَشَكُّلُه تَشكُّلاً نهائيا بعد .
يعتقد الدكتور محمد عابد الجابري أنها نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد، وأنها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبادلات والاتصال، كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والأيديولوجيات .
وقد يماشي هذا التصور إلى حد ما القول بأن العولمة عبارة عن القولبة الكلية للأحادية الأكثر اتساعا وشمولية، تنجرف إليها الأوضاع الدولية مدفوعة نحوها بالثورتين الاقتصادية والمعلوماتية المذهلة .
وجاءت بعض التصورات ناظرة في استمداد حقيقة العولمة إلى العلاقة التي يُفترض أن تقوم بين المتقدم والنامي من الدول، وبين الغني والفقير منها. فهي تعني في إطلاق الأستاذ علي أحمد سليمان-أستاذ علم الاقتصاد -تحقيق اندماج البلدان النامية (دول العالم الثالث) بدرجة أكبر وفعَّالة في الأسواق العالمية .ولا يقف هذا الاندماج في الأسواق العالمية عند تصدير السلع فقط، ولكنه يتجاوز ذلك فيشمل الخدمات ورؤوس الأموال .
ويختلف عن هذه التصورات القول بأن العولمة موجةٌ جديدةٌ اقتصادية تلي الثورة الزراعية والثورة الصناعية، وأنها أعلى مراحل الرأسمالية الجديدة التي أفرزتها الثورة المعلوماتية وما يرافقها من تطور في مَجَالَيْ الاتصال والإعلام .
وتؤكد تصورات أخرى أن القصدَ من العولمة توسيع النموذج الأمريكي وفسح المجال له ليشمل العالم كله، فهي بذلك ترادف الأمركة. ويشدد فريدمان على هذه الحقيقة حــين يُصرح في اعتداد وزهوٍ : « نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، العولمة هي الأمركـة والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوةٌ ثورةٌ خطيرةٌ، وأولئك الذين يَخشَوننا على حق، إن صندوق النقد الدولي قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة، في الماضي كان الكبير يأكل البطيء » .
والمتأمل في هذه التصورات يجدها كلها متطابقة في الجملة من حيث الموضــوع، وإن ظهرت مع ذلك متفاوتة بما امتدت إليه من اهتمامات عند محاولة التعريف بالحقيقة الواحدة، ولعل السبيل إلى وضع حد كامل سيتجلى لنا بعد من خلال المؤسسات القائمة لإنجـاز العولمة، ومن الاتفاقيات الصادرة عنها هنا وهناك بين الدول في العالم، مشاركة منها في بناء النظام الاقتصادي الشامل الجديد، وإشاعة له في أطراف المعمورة رغم ترددها في الانتماء إليه والإسهـام فيه بدعوى أن العولمة عندها ليست في واقع الأمر شيئا آخر سوى ربط الوطن، خارج التاريخ .
والعولمة في أصلها اقتصادية، قائمة على إزالة الحواجز والحدود أمام حركة التجارة، لإتاحة حرية تنقل السلع ورأس المال. ومع أن الاقتصاد والتجارة مقصودان لذاتهما في العولمة، إلا أنها لا تقتصر عليهما وحدهما وإنما تتجاوزهما إلى الحياة الثقافية والحياة الاجتماعية بما تتضمنانه من أنماط سلوكية ومذاهب فكرية و مواقف نفسية، وكل ذلك هو الذي يصوغ هويــة الشعوب والأمم والأفراد.
وإذن.. فإن أولَ مظاهر العولمة هو تركيز النشاط الاقتصادي على الصعيد العالمي في يد مجموعة قليلة العدد وبالتالي تهميش الباقي وإقصاؤه بالمرة. ومن هنا ظاهرة "التفاوت" - على حد قول الدكتور محمد عابد الجابري– الملازمة لظاهرة التركيز التي من هذا النوع. التفاوت بين الدول ..والتفاوت داخل الدولة الواحدة، ومن الأمثلة التي يوردها الاختصاصيون في هذا المجال لتوضيح هذه الظاهرة نقتبس ما يلي:
إن خمس دول هي: الولايات المتحدة الأمريكية ..واليابان.. وفرنسا.. وألمانيا..وبريطانيا.. تتوزع فيما بينها 172 شركة من أصل 200 من أكبر الشركات العالمية. وهذه الشركات المائتان العملاقة هي التي تسيطر عمليا على الاقتصاد العالمي، وهي ماضية في إحكام سيطرتها عليه، إذ ارتفعت استثماراتها في جميع أنحاء العالم وفي المدة ما بين 1983-1992 م بوتائر سريعة جدا : أربع مرات في مجال الإنتاج، وثلاث مرات في مجال المبادلات العالمية. وفي تقرير للأمم المتحدة أن 358 شخصا من كبار الأثرياء في العالم يساوي حجم مصادر ثروتهم النقدية حجم المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاثمائة مليون شخص من فقراء العالم..وبعبارة أخرى..إن عشرين في المائة من كبار أغنياء العالم يقتسمون فيما بينهم ثمانين في المائة من الإنتاج الداخلي الخام على العالمي، وأن الغِنى والثروة ارتفعا بنسبة ستين بالمائة في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1975-1995م غير أن المستفيدين من هذا الارتفاع الكبير في الغنى والثروة لا يتجاوز عددهم نسبة واحد بالمائة من الشعب الأمريكي ونفس الظاهرة تستشري اليوم، وبسرعة في أوربا حيث يُفرض نظام العولمة عليها، بما يقتضيه من منافسة حادة، التخفيض من التعويضات والخدمات الاجتماعية بصورة رهيبة، وهي فوارق قائمة أصلا وبشكل واسع.
وإذن..فمن النتائج المباشرة للعولمة تعميم الفقر، وهو نتيجة حتمية لتعميق التفاوت. إن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي: "إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمل ". إنه منطق المنافسة في إطار العولمة، ومن هنا نلاحظ أن الظاهرة الملازمة للعولمة وربيبتها الخوصصة هي تسريح العمال والموظفين.
والنتيجة التي يستخلصها الباحثون والمختصون في هذا المجال هي التالية: إذا كان النمـو الاقتصادي في الماضي يخلق مناصب الشغل، فإن النمو الاقتصادي في إطار العولمة والليبرالية المتوحشة يؤدي –ويتوقف على- تخفيض مناصب الشغل. إن بعض القطاعات في مجــال الإلكترونيـات والإعلاميـات والاتصال، وهي من القطاعات الأكثر رواجا في العالم، لا تحتـاج إلا إلى عدد قليل من العمـال. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة والخوصصة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما إلى أزمات سياسية.
وليس من هدفنا هنا تفصيلُ الحديث في الجوانب الاقتصادية للعولمة -مع أنها هي الأساس فيها- وسنقتصر حديثنا على نتائج هذه العولمة وما يترتب عليها بالضرورة؛ وهي الجوانب الثقافية والحضارية لاتصالها بالهوية، بعد أ ن نجيب عن الأسئلة التي طرحناها في البداية حتى نُلمَّ بالعولمة من أطرافها .



عصر العولمة :
نستطيع في ضوء هذا التحديد لمصطلح " العولمة " أن نصفَ عصرنا بأنه (عصر العولمة). ويمكننا ونحن نستحضر تاريخ القـرن العشريـن الميلادي بين يدي دخول قرن ميلادي جديد، أن ندرك أن التحولات فيه هي حلقة ثالثة في التحرك الغربي نحو العالمية، سبقتهـا تحولات ما بعد الحـرب الأولى في نهاية العقـد الثاني من القرن، وتحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية في النصف الثاني من العقد الخامس من القرن، وفي مقدورنا ونحن نستحضـر التاريخ الإنساني أن نلاحظ أنَّ هذا التاريخ حَفَلَ بتحرُّكاتٍ نحو العالمية في مختلف عصوره، عبَّرت عن نزوع الإنسان للسياحة في كوكبنا الأرضي استجابة لدعوة خالقه أن يمشي في مناكب الأرض وينتشر فيها:  هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وإِلَيْهِ النُّشُور .

العولمة شيء والعالمية شيء آخر :
وبالمناسبة أذكر هنا ما جاء به الدكتور محمد عابد الجابري في أَنَّ العولمة شيء والعالميـةَ شيء آخر..فقال:
« العولمة إرادة للهيمنة، وبالتالي قمعٌ وإقصاءٌ للخُصوصي..أما العالميـة Universalité فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي: العولمة احتواء للعالم، والعالميـة تَفَتُّحٌ على ما هو عالمي وكوني نشدانُ العالمية في المجال الثقافي. كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، ورغبة في الأخذ والعطاء، في التعارف والحوار والتلاقح. إنها طريق الأنا للتعامل مع "الآخر" بوصفه " أنا ثانية" طريقها إلى جعل الإيثار يحُلُّ مَحَلَّ الأَثَرة..أما العولمة فهي طموح، بل إرادة لاختراق "الآخر" وسلبُه خصوصيَتَه، وبالتالي نفيُه من "العالم". العالمية إغناء للهوية الثقافية..أما العولمة فهي اختراق لها وتمييع» .
وهذه المفارقة الدقيقة بين العولمة والعالمية تُعَبِّرُ بشكلٍ جَلِيٍّ على حِنكَةٍ الرَّجل ودقَّةِ ملاحظته في التفريق بين المفاهيم وإعطائها الصبغة المناسبة لها.

العولمة : ظاهرة قديمة أم جديدة ؟
شاع استخدام "العولمة ~ Globalization " في السنوات العشر الأخيرة، وبالذات بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ومع هذا فإن الظاهرة التي يشار إليها ليست حديثة بالدرجة التي قد توحي بها حداثة هذا اللفظ. فالعناصر الأساسية في فكرة العولمة: ازدياد العلاقات المُتَبَادَلَة بين الأمم، سواءٌ المتمثِّلة في تبادل السلع والخدمات، أو في انتقال رؤوس الأموال.كلُّ هذه العناصر يعرفها العالمُ منـذ عدة قرون، وعلى الأخص منذ الكشوف الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، أي منذ خمسة قرون. ومنذ ذلك الحين والعلاقات الاقتصادية والثقافية بين الدول والأمم تزداد قوة، باستثناء فتراتٍ قصيرةٍ للغاية، مالت خلالها الدول إلى الانكفاء علـى ذاتها. وتراجعت معدَّلات التجارة الدولية ومعدل انتقال رؤوس الأموال ( كما حـدث خلال أزمة الثلاثينات من هذا القرن مثلا). وباستثناء مجتمعات محدودة العدد، تركها العالم في عزلةٍ، أو فَضَّلت هي أن تعزل نفسها عن العالم لسبب أو آخر..( كما حدث للاتحاد السوفياتي مثلا في العقود الثلاثة الأولى التالية لثورة تشرين الأول ‌‌‌‌‌‌‌‍‍‍/أكتوبر..أو للصـين في الخمسينيات والستينيات..أو لليمن حتى منتصف هذا القرن… إلخ).
الظاهرة عمرها إذن.. خمسةُ قرون على الأقل، بدايتُها وغدُها مرتبطان ارتباطا وثيقاً بتقدم تكنولوجيةِ الاتصال والتجارة، منذ اختراع البوصلة وحتى الأقمار الصناعية. ومن المهم إدراك هذه الحقيقة والتأكيد عليها، ولكن من المهم أيضاً الاعتراف بأن أشياء جديدة و مهمة قد طرأت على ظاهرة العولمة في الثلاثين سنة الأخيرة منها :
1. انهيار أسوار عالية كانت تحتمي بها بعض الأمم والمجتمعات من تيار العولمة ، ومن تمَّ اكتسح تيار العولمة مناطق مهمة من العالم كانت معزولةٌ بدرجةٍ أو بأخرى عنها. أهم هذه الأمم هي بالطبع أمم أوروبا الشرقية والصين؛ التي انتهت عُزلتها الاختيارية أو أُجبرت بطريقة أو بأخرى على التَّخلي عن هذه العزلة .
2. الزيادة الكبيرة في درجة تنوع السلع والخدمات التي يجري تبادلها بين الأمم، وكذلك تنوع مجالات الاستثمار التي تتَّجه إليها رؤوس الأموال من بلدٍ لآخر .
فإذن..وكما ذهبت زمرة من الاقتصاديين إلى أنَّ العولمة ليست أمراً جديداً في المجال الاقتصادي، لأن هناك عولمتين : قديمة وحديثة..ظهرت الأولى في القرن الخامس عشر أو القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية، واستطاعت تنفيذا لِخُطَّتِهَا أن تَزيد في إنتاج السلع زيادة كبيرة دفعت بأوربا إلى البحث عن أسواق جديدة أقامتها عن طريق إنشاء المستعمرات بأمريكا وآسيا وإفريقيا،كما مكَّنتها هذه من الحصول على المواد الخام بأسعار جد منخفضة. وهذا يفسره ما كان من اندماج للدول الفقيرة المستعمَرة في اقتصاديات الدول الصناعية الأوربية. أما العولمة الثانية، العولمة الحديثة فإنَّ تَحَقُّقَها سوف لا يكون عن طريق الاستعمار في شكله القديم وما كان يوفره من آليات، ولكن عن طريق تحرير التجارة الدولية والتنافس على النطاق الدولي . بالاعتماد على التقدم التكنولوجي وتطوره في مختلف المجالات، وتسابق الدول على اقتنائِه وامتلاك أزمَتِه. ومن أجـل ذلك كُتِبت البحوث والدراسات، وأقيمت النـدوات والمؤتمرات لبحث أوضاعه المختلفـة، وتطوراته المتلاحقة، وما توحي به من ثورات عميقة وكبيرة في حياة المجتمعات الإنسانية.

خطاب العولمة :
تواجه العولمة بخطابها العالم كله بعد أن هدَّت معاقل الأيديولوجيا المناهضة لللِّيبرالية الاقتصادية. ويقول الخطاب الأمريكي: إن العولمة ليست مجرد خيارٍ قابلٍ للِتَّبَنِّي والرفض،
بل هي حتميةٌ لامناصَّ عنها في توجُّه النظام العالمي الجديد، ولا خيارَ للعالم النامي غيرَهـا إلا خيارَ بقائِه محبوساً في تخلفه. ويضيف هـذا الخطاب: أن العولمة هي أقربُ الطريــقِ وأجداها لتحقيق الحداثة السياسية والاجتماعية والفكريةِ للعالم المتخلف، وهي أنجَع الوسائل لطيِّه بسرعة مراحل التنمية الشاملة، لأنها وحدها الكفيلة بتأهيله اقتصاديا، وبالتالي فكرياً واجتماعياً. بل يذهب الخطاب إلى القول: إن تغييرَ العالم إلى أفضلَ مرهونٌ بتطبيقها. وبذلك يأخذ شكلَ الهجوم وإحكام لَيِّ الطوقِ على حرية الاختيار، لأن العولمة بمقتضى هذا الخطاب هي السبيل الوحيد إلى تنمية عالم بلا حدود اقتصادية، عالمٌ لا يسودُه إلا قانون السوق، ولأن برنامَجَها وحده الكفيل بتضييق الهوة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء، وبين المجتمعات المتقدمة اقتصاديا والأخرى الطامحة إلى النمو.
ويضيف الخطاب الأمريكي مدلِّلاً على العولمة : أنه لم يعد في إمكان الدول الصغرى أن تستغلَّ تناقضاتِ الكبار، كما تفعلُ أثناء الحرب الباردة، وبأنَّ الانفتاح السياسِيَّ الـذي تحَقق بين العالم بعضُه على بعضٍ لا ينفصلُ عن الانفتاح الاقتصادي. فهُما معاً أساسيان في مفهوم العولمة، لذلك تربط الولاياتُ المتحدة بينهما ربطاً عضوياً، وتَرهَن تعاوُنَها مـع الغير بمدى احترامه والتزامِه بالانفتاحَيْنِ معاً.

إدارة العولمة :
للعولمة إدارةٌ اقتصادية عالميةٌ تُمارسُها بِحزْم وقُوَّةٍ وبتقنياتٍ عِلميةٍ، مؤسساتٌ دوليةٌ على صعيدِ التنظير والممارسة، أكبرُها: البنك العالمي.. وصندوق النقد الدولي.. ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التي يقال عنها إنها نادي الأغنياء.
وكلُّها تُفَكِّر بالمنطق الأمريكي وتستمدُّ تنظيرَها من نَمط الاقتصاد الأمريكي الناجح المتوفر على رؤوس الأموال الكبرى القادرة على كسب الرِّهان في مجال تنافس الرأسمال العالمي. وهذه الإدارة هي التي توجِّه سياسة العولمة وتضغط على الدول للعمل بتوجيهاتها.
وهذا يقودُنا إلى القول ..إن كلَّ شيء يؤهِّلُ الولايات المتحدة لتفُوزَ بقَصَب السَّبق في نظام العولمة الذي أخذ العالم يعيشه، والذي لا يقوَى على المنافسة المحدودةِ فيه بعد الولايــات المتحدة وبتفاوت، إلا كندَا في أمريكا الشمالية، ومجموعة الاتحاد الأوربي، ومنطقة شرق وجنوب شرق آسيا التي تضم اليابان والصين والتُّنَيْنَاتِ الصاعدة التي تَرْتَدُّ ببصرِهـا إلى الشرق وتَقْتَبِسُ من النَّهجِ الياباني.

عمل إدارة العولمة :
ويواكب الخطابُ المنهجيُّ المُعَوْلَم حملةً تقنيةً رديفةً تقوم بها المؤسساتُ الاقتصادية الدوليةُ التي تمثلُ الإدارة التي تعمل بها العولمة، مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي لإسناد الخطاب الأمريكي بتقاريرَ مُعزَّزة بإحصائيات عن الوسائلِ الكفيلة بانتشالِ الاقتصادات الوطنيـةِ من ركودها أو تَعَثُّرها، وعن الآلياتِ التي يجب على الدول النامية أن تستعملَها لتحقيقِ النَّهضةِ الاقتصادية على درب التنميةِ الشاملة، ومنها ما عُرف ببرامج التقويماتِ الهيكلية، والتخصيصِ الشامِلِ، وانحسارِ دَوْرِ الدولةِ الوطنية، وتخلِّيها عن الإنفاقِ على ميادين الرعاية الاجتماعية التي تُثْقِل كاَهِلَها في مجالِ التربيةِ والتعليمِ والصحةِ والإعلامِ والبيئـةِ والتشغيلِ والمنافعِ الاجتماعية، وتحرير الدولة من أعباءِ صندوقِ المِقَاصَّةِ بتركِ الأسعار للتنافُسِ الحُرِّ وقانونِ العرضِ والطلبِ، وتخفيض كلفة المقاولة، والالتزام باللُّيونةِ والمرونةِ في علاقاتِ الشغلِ.
وهكذا فالعولمةُ بمقتضى هذا الخطاب ديناميةٌ واعدةٌ بمستقبلٍ أرغدَ للبشريةِ، وبفضلِها تستطيع فصائل العالم تحقيقَ التغييرِ الذي كانت تطمح إليه، والتي كانت تفتقـد - قبل التوجه نحو العولمة- وسائلَه وآلياتَه. ويتوجه مُنظِّرو العولمة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى العالم بهذا الخطابِ دون أن يغفَلوا تركيز الاقتناع لدى شعوبهم أنفسَهـم بحَسَناتِهـا. فالرئيس الأمريكي السابق "بيل كلينتون" يخاطب الأمةَ الأمريكيةَ ويقول: «ستكونُ العولمة حظَّ الولايات المتحدة الواعد، ولن تُشَكِّل أيةَ عرقلةٍ لتقدُّمِها، ستقيمُ عالماً جديداً بحدودٍ جديدة يجب توسيعُها، ولن يُشَكِّلَ قيامُ العولمة أيَّ تهديدٍ لنا ».
ولكن هذا بالنسبة للأمريكيين فماذا عن الآخرينَ؟

اتساع العولمة :
العولمة التي يجري الحديث عنها الآن..نظامٌ أو نسقٌ ذُو أبعادٍ تتجاوزُ دائرةَ الاقتصاد لِتُعَولِمَ الإنسانَ في كلِّ مجالٍ، متحديةً قدرةَ خصوصياتِه القوميةِ والفرديةِ على الصُّمـودِ في وجهِ مدِّها، وواضعةً مناعتَه الذاتيةَ موضعَ اختبار صعبٍ، على سمع العالم وبصره، وفي غفلةٍ من بعضِ فصائِلِه المهمَّشَةِ تجري عولمةُ القِيَم والأخلاقِ وأنماطِ العَيْشِ ومناهجِ التفكير، وفي ظِلِّ هذه العولمة الشاملة يُرادُ أن تتعولَمَ الهوياتُ والخصوصياتُ كذلك.
إن العولمة ذاتُ أبعادٍ سياسيةٍ، واقتصاديةٍ، وثقافيةٍ، وإيديولوجيةٍ. وكان البدءُ بالميــدانِ السياسي عندما انخرط العالم في نظامِ الديمقراطيةِ الغربيةِ الذي أصبحَ لامناصَّ من تطبيقهِ بتقنياتِه مضموناً وشكلاً، مما تعولَمَ معه شكلُ الحكمِ ونوعُ المشاركةِ فيه، وتعولَمت معـهُ الآلياتُ الموصِلَةُ إلى إفرازِ اقتراع شعبي سليمٍ. وتكفَّلت المنظمات الدوليةُ بعولمةِ القانـونِ الدولي والشرعيةِ الدوليةِ وحقوقِ الإنسان. وعولمتْ مواثيقُها نُظُمَ الحرب والسِّلم وطرائقِ التعاون الدولي. وبذلك تعولمت السياسةُ في أوسعِ معانيها التي تشملُ تنظيماتِ الحكـمِ وشروط التعاون الدولي والعلاقات الدوليةِ العامة. وأصبحَ المجتمعُ الدوليُّ يَنضبط دقائـقَ هذه العولمة ويتحكمُ فيها من أصغر مكوناتِه إلى هيأةِ الأممِ المتحدةِ بمرافقِها وعلى رأسها مجلسُ الأمن.
أما في المجال الاقتصادي فإن عولمةَ الاقتصاد – التي تحدثنا عنها – مَسَّت كلَّ ما يتصل بعيش الإنسان من إنتاجٍ واستهلاكٍ وتوزيعٍ وتبادلٍ .
وفي المجال الثقافي أخذتِ العولمة تمسُّ الثقافةَ بمعناها العام؛ أي كل ما يجيشُ به فكرُ الإنسان من تصوراتٍ ونظرياتٍ وممارساتٍ، وما يخفَقُ به قلبُه ويرتاحُ له ضميرُه من تمتعٍ بحريـة الفكر والتفردُ بالخصوصيةِ والشعورُ بالذَّات، والحوارُ بلغةِ الذَّات مع النفس والنــاس. والمشكلةُ المطروحةُ هي الاتجاه إلى صياغةٍ ثقافيةٍ عالميةٍ، لها قيمُها ومعاييرُها، و الغرض منها ضبطُ سلوكِ الدُّول والشعوب. والسؤال هنا : هل تؤدي هذه الثقافةُ العالميةُ –حال قيامِها وتأسيسِها – إلى العدوان على الخصوصيات الثقافية، مما يهدِّد هويات المجتمعاتِ المعاصرة ؟
وأخيراً، وليس آخراً..هناك عولمة اتصالية تَبرز أكثرَ ما تَبرز من خلال البث التلفزيوني عبر الأقمار الاصطناعية، وبصورةٍ أكثرَ عمقاً من خلال شبكة الإنترنت، التي تَربط البشرَ في كل أنحاء المعمورة، وتدور حول الإنترنت أسئلةٌ كبرى، ولكن من المؤكَّد أنَّ نشأتَهــا وذيوعَها وانتشارَها ستؤدي إلى أكبر ثورةٍ معرفيةٍ في تاريخ الإنسان.
وهكذا..فبدلاً من الحدود الثقافية، الوطنية والقومية، تَطرح إيديولوجيا العولمة "حدوداً " أخرى، غير مرئية، ترسمها الشبكاتُ العالميةُ قصدَ الهيمنة على الاقتصاد والأذواقِ والفكرِ والسلوك .









إيجابيات العولمة وسلبياتها :
الإيجابيات :
فمن إيجابيات العولمة ما ضمَّنته اتفاقية " الغات " من المطالب والمقاصد للدول الصناعية والنامية على السواء، وما قامت بتنفيذه على فترات في المرحلة الانتقالية، وما وعدت بالوفاء به وفاءًا تاماً ابتداءً من سنة 2005م، فمن ذلك :
1. تخفيض الضرائب الجمركية .
2. تعزيز المنافسة بين الدول والشركات الكبرى المصدِّرة .
3. مكافحة أسلوب إغراق الأسواق .
4. توسيع قاعدة التجارة الدولية بجعلها تشمل الخدمات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمواصلات التي مكَّنت من تصميم المنتجات أينما تتوفر المهارات والمعرفة الضروريتين، وإنتاج أجزائها المطلوبة في أرخص مكان يمكن صناعتها فيه،ثم شحنها للتجميع في أرخص مكان يمكن تجميعها فيه .
5. فتح الأسواق العالمية أمام سلع ومنتجات الدول العربية وغيرها من الدول النامية .
6. وقد تجلت آثار ذلك في ارتفاع حصة التجارة بسرعة في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد النامية من 23 % في منتصف الثمانينات إلى 43 % سنة 1999.
7. ومن إيجابياتها أيضا..أن هناك مشاكل إنسانية مشتركة لا يمكن حلها من منظور السيادة الوطنية المطلقة للدولة التي يقوم عليها النظام الدولي القائم حتى اليوم منها :
- انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل.. والتهديدات النووية.. والبيئة.. وتطور الأوبئة والأمراض المعدية .. وانتقال الأيدي العاملة بكثافة من منطقة إلى منطقة أخرى وانتشار الجريمة والمخدرات وغيرها.
السلبيات :
بينما التأثيرات السلبية للعولمة تتمثل في:
1. الخشيةُ من ذوبانِ الدولة القوميةِ، بحيث تفقدُ فيها سيادتَها المطلقة، وخصوصاً الدول "الضعيفة"، علماً بأن العولمة قد بدأت باختراقِ السيادةِ القوميةِ حتى الدول الكبيرة، ولكن بنِسبٍ متفاوتة، وفي مجالات معينة، بينما ستبقى الدولة" لاعباً رئيسياً بين لاعبين عديدين، ولكنها لن تكون ذات سيطرة مطلقة".
ومن تأثيراتِها السلبية أيضا:
2. انهيار التوازنـاتُ الدولية السابقة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافيـة.
3. مضاعفة فرص المجموعات الأقوى، تلك القِوى التي كانت تسيطر في الأصل على عناصر القوة الاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية وغيرها.
4. تعميق التناقض بين المجموعات البشرية بقدر قدرة هذه المجتمعات على بلورة إستراتيجيات فعَّالة وناجعة للصراع على المصالح.
5. زيادة الدول القوية غِنىً، بينما تزداد الدول الفقيرة فقراً، أي أن هناك "دولاً قَنَّاصة ودولاً مقنوصة".
6. تطويق الإنتاج القومي الاقتصادي بمنافسة غير متكافئة مما يؤدي إلى المزيد من استفحال البطالة وتوسيعها.
7. تطويق الإبداع الأدبي والفني لدى الشعوب ذات الهويات الثقافية بإغراقه في تسويق صناعتها وإنتاجها.
8. تهميش الثقافة الوطنية واللغة القومية بفرض لغة وثقافة القطب الاقتصادي الذي ينتج وحده ويفرض لغته وطريقته عبر وسائل الاتصال والتواصل وحده.
9. تقليص العلاقة الحميمية بين المثقف وبين الخبرة المباشرة بعمله وبالحياة من حوله. فعولمة الإعلام تقدم للمتعلم وللمثقف كل ما كان يختبره بنفسه تقدمه جاهزاً موثَّقاً فتُغنيه عن الانتقال في الزمان والمكان، وعن معاناة تطوير خبرته الجمالية والاستدلالية، فيُصبح تَلَقِّيه للمعارف والخبرات تلقياً آلياً تمهيداً لجعل إنسان المستقبل نُسَخاً متكررة، تفكر وتتذوق وتستدل بطريقةٍ شبه موحدة. أما ما يستعصي على التوحيد والآلية فسينقرضُ تدريجياً كالفلسفة والشعر.
وأيضا.. أن نظام العولمة- كما قال محمد عابد الجابرى- عالَم بدون دولة.. بدون أمة.. وبدون وطن. عالم المؤسسات والشبكات، يقفز نظامه على التَّفتيتِ والتشتيت .

هل العولمة حتمية ؟
الملجأُ الأخير الذي يلجأُ إليه المنتصرون للعولمةِ هو التَّذَرُّع بالحتمية. فعندما تُعوِزُهم الحجة في الدفاع عن العولمة باسم الحرية أو الرفاهية الإنسانية أو الأخلاق أو الجمال أو العقلانية، يلجأون إلى القول: « إن علينا أن نقبلها لأنه لا مفرَّ لنا من قُبولها ».
وأودُّ أن ألاحظَ على هذه الحجةِ أولاً أنها من نوع مختلفِ تماماً عن الطرق الأخرى للدفاع عن العولمة ولا يجوز أن نَخلط بين هذا وذاك .
فالقول بالحتمية ليس في الحقيقة دفاعاً عن العولمة أو تمجيداً لها، بل هو تعبير عن اليأسِ من أي محاولة للوقوف في وجهها. ولكن فضلاً عن ذلك أريد المجادلة في صحة هذا الموقف اليائس نفسُه .
إنَّ من الممكن جداًّ أن يُشيع الاعتقاد بأنَّ ظاهرةً ما ظاهرةٌ حتميةٌ لا مفرَّ منها نتيجةً لمجرد التعوُّد الطويل عليها، حتى ليستقرَّ في وعي المرءِ أنَّ هذه الظاهرة جزءٌ من طبيعة الأُمور، ويُصبح من أصعب الأمور تصورُ الدنيا من دونها. ومن هنا تكمُن –في رأيي- الأهمية القُصوى لإِدراك أن العولمة ظاهرةٌ محايدةٌ بين الحضارات والثقافات، أو الاعتقاد بأن الحضارةَ الغربيةَ هي حضارةٌ إنسانيةٌ عامةٌ وليست مجردَ إفرازٌ من إفرازاتِ ثقافاتٍ بعينها، إنَّ هذين الاعتقادين من شأنهما بالطبع أن يُرسِّخا الاعتقاد بأن العولمة ظاهرةٌ حتميةٌ لا مفرَّ منها. ولكن من الجائز جداً أن يكون هذان الاعتقادان خاطئين، فالعولمةُ هي عولمةُ حضارةٍ بعينها، وهذه الحضارةُ هي بدورها تعبيرٌ عن ثقافةِ أُمةٍ مُعينةٍ أو ثقافةِ مجموعةٍ معينةٍ من الأمم. صحيحٌ أنَّ هذه الحضارة قد توفَّر لها منذ زمن طويـــل -يرجع إلى ما يَقرُبُ من خمسة قرون – وسائلٌ فعَّالةٌ مكَّنتها من فرض نفسها على أُممٍ أُخرى، غيرَ الأمة أو الأمم التي أنجبتها، ولكنَّ هذا وحده لا يجعلها تستحق وصف " الإنسانية " أو "العالمية "، بالمعنى الذي تُستخدمُ به عادةً هذه الأوصاف، ولا يُزيل عنها خصوصيَتَها. فالاعتراف بأنَّ حضارةً ما ( أو ثقافةً ما ) قد اكتَسَحَت العالمَ لا يعني الاعتراف بأنها من نتاجِ العالمَ بأسره، ولا يعني الاعتراف بأنها تستحق أن تكتسحَ العالمَ بأَسره، أو أنها يجب أن تكتسحَ العالمَ بأسره .
قد نقبل القولُ أنَّ التقدمَ العلميَ حتميٌ، أو حتى إنَّ تطويرَ التِّقانةِ أمرٌ حتميٌ، إذ كلاهما يُعبر عن نزعةٍ طبيعيةٍ لدى الإنسان للاستكشاف وحبِّ الاستطلاع وتخفيف ما يتحمَّلُه من مختلَف صُور العَناء. ولكن قَبولُ هذا أو ذاك كظاهرتين حتميتين لا يُلزِمُنا بقَبول الحضارة الغربية كظاهرة حتمية. فمن الممكنِ مثلا، وبسهولة، أن نتصورَ تقدماً في العلم والتِّقانة، من دونِ هدفِ تحقيق أقصى ربح، أو هدفِ تعظيم الناتج، أو هدف تحقيق قدرٍ من السيطرة على الطبيعة، أو تحقيقِ أعلى درجةٍ من استقلالِ الفرد، أو أقل درجة من الإيمان بالميتافيزيقا… إلخ. وهذه كُلُّها من السمات الأساسية للتقدم العلمي والتِّقاني الغربي. والزعمُ بغير ذلك ليس إلاَّ اعترافا بقصورٍ خطير في الخيالِ، بل إنه يتضمن توجيهُ الإهانةِ إلى الجنسِ البشري؛ لأنه يَفترضُ أن الإنسان غيرُ قادرٍ على تحقيقِ شيءٍ أفضل من ذلك.
في الفيلمِ المعروف لشارلي شابلن" الجريُ وراء الذهب " [ GOLD RUSH ] مَنظَرٌ شهيرٌ، يظهرُ فيه "شارلي شابلن" مع رجلٍ سمينٍ جشِعٍ في كوخٍ صغيرٍ في أعلى الجبلِ، وقد منَعَتْهُما عاصفةٌ ثلجيةٌ من الخروج. كاناَ قدِ استبدَّ بهما الجوعُ، إذ لم يكونا قد تناولا الطعامَ لعدَّة أيامٍ، وليسَ أمامَهُما من وسيلةٍ للعثورِ على أيِّ طعامٍ بسببِ العاصفةِ الثلجيةِ. بعد ذلك المنظرُ الشهيرُ الذي يحاولُ فيه "شارلي شابلين" أن يطْهُوَ حذاءهُ ويَشرعَ في أكلِ الحذاءِ بالشوكةِ والسكين، نرى منظرَ زميلهِ السمينُ وهو ينظر إلى "شارلي شابلن" لم يرهُ كإنسانٍ، بل رأى فيه دجاجةٌ تنتظرُ الذَّبحَ. كان الجوعُ قد وصلَ بالرجُلِ إلى مدى لم يُسمح له بأن ينظر إلى "شارلي شابلن" دون أن يراه كدجاجة.
هذه بالضبط هي الإيديولوجيا : كيف ترى الأمور؟
ولا يمكن أن يُقنِعني هذا الرجلُ مهما فعلَ بأَن "شارلي شابلن" هو في الحقيقةِ دجاجة وليس رجلاً. كذلك لن يُقنعني أنصارُ الحضارة الغربية مهما قالوا إن طريقةَ نظرِهِم إلى الأمورِ هي الطريقةُ الوحيدةُ الممكنةُ. إن الذين يقولون إن العالمَ الآن قد هجرَ الإيديولوجيا إلى الأبد ولم يعد هناك إلا منطقُ السوق والاقتصاد والتِّقانة، يقولون لنا شيئاً شبيهاً جداً بِزعمِ هذا الرجلُ في فيلم ( الجري وراء الذهب )، وهو أن "شارلي شابلن" ليس إلا دجاجة، كذلك رجل الأعمال الذي إذا اصْطَحَبْتَهُ إلى مكانٍ جميلٍ على شاطئِ البحرِ، فإذا به يقول لك: إن هذا مكانٌ رائعٌ لإقامةِ فندقٍ بخمسِ نجومٍ..أو إذا اصطحبتَه إلى تايلاند وصادفتُما في الطريق فتاةٌ جميلةٌ في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرِها، قال لك: إن هذه الفتاةُ يمكن أن تُصبحَ مصدراً رائعاً للربح لو استخدمت في بيتٍ للدعارة. هذا هو ما يزعُم أنه ثقافةٌ أو حضارةٌ من المحتَّم لها أن تكتسحَ العالمَ، لأنها ثقافةٌ أو حضارةٌ محايدةٌ، تُعبر عن نوازعِ الإنسانية جمعاء.
من السماتِ الخاصةِ بهذه الحضارةِ أنها حضارةٌ تفكِيكِيةٌ، فكَما يريدُ الرجلُ في فيلم (الجريُ وراء الذهب) أن يفعلَ "بشارلي شابلن"، تعمدُ الحضارةُ الغربيةُ إلى تفكيكِ كل شيءٍ إلى عناصره الأولى. وهو مسْلَكٌ حميدٌ إذا كان الغرضُ معرفةِ العناصرِ التي يتكونُ منها الشيءُ، أو إذا كان الغرضُ هو صُنع آلةٍ أو زيادةِ كفاءَتِها الإنتاجيةِ، أو ما يسمى بالسيطرةِ على الطبيعة، ولكنه قد يكون مسلكاً خطيراً ومُضراًّ إذا طُبِّقَ على الأشياءِ الحيةِ كالإنسانِ أو الأسرةِ أو الأمة، فهو قد يسمحُ فعلا بمزيد من السيطرة على الإنسان والأسرة والأمة، ولكن هذا ليس بالضرورة أفضلُ الأغراضِ طُرًّا، فلكي يسيطرَ المنتجُ على المستهلكينَ ويحوِّلهم جميعاً إلى دجاجةٍ يسهل التهامُها، من المفيد فعلاً تفكيكُ الفرد من أسرته ومن أمَّته ومن بيئتِه، باسم الفردية مرةً ،وباسم الحريةِ الشخصية مرة، وباسم التنوير مرة ، وباسم النِّسوية وتحرير المرأة مرة. وهذا كلُّه يصوِّر لنا على أنه نِتاجُ حضارةٍ إنسانيةٍ عامةٍ يلتزمُ الجميعُ باتِّباعِها؛ لأنها تستجيبُ لنوازعٍ طبيعيةٍ في الإنسان. ومن ثمَّ فإنَّ انتشارَها حتميٌ لابدَّ منَ الخضوعِ لهُ إن عاجلاً أو آجلاً. وأنا أزعُمُ، على العكس، أنَّ كثيراً مما تعملُ هذه الحضارةُ على نشره، يتعارضُ تعارضاً صارخاً مع بعض من أقوى النوازع الطبيعيةِ في الإنسان، وأن تفكيكَ الإنسانِ على هذا النَّحو ينطوِي على عمليةٍ أشبهَ بالقتل.
ثم إنَّ ظاهرةً ما قد تكونُ حتميةٌ بالنسبةِ إلى شخصٍ معينٍ أو أمةٍ بعينها من دون أن تكون بالضرورةِ كذلك بالنسبةِ إلى شخصٍ آخرَ أو أمةٍ أخرى. قد يكونُ انتشارُ هذه الحضارةُ وزيادتُها رُسوخاً، ظاهرةٌ حتميةٌ بالنسبة إلى الأممِ التي ابْتدعتْها أصلاً، لأسبابٍ تتعلق بصفاتٍ خاصةٍ في ثقافةِ هذه الأممُ أو ظروفها الطبيعيةِ أو مِزاجِها الخاص، ومن ثَمَّ قد يكون انتشارها وازديادُها قوةً ورسوخاً في أوربا الغربية، ثم في الولايات المتحدة، مثلاً ظاهرةً "حتميةً " حقاً، على النحو نفسه الذي يُمكن به أن نعتبِرَ نموُّ الولدِ ليصبحَ رجلاً ظاهرةً حتميةً أيضا. وقد يقالُ مثلُ ذلك، ولكن بدرجةٍ أقل، عن انتشار هذه الحضارة في أمريكا اللاتينية مثلاً، أو أوربا الشرقية. ولكنه قد يكون أقلُّ حتميةً بالنسبة إلى روسيا الآسيوية، أو اليابان، التي لم يُتِمَّ تركيعُها تماماً حتى الآن. وقد لا يكون الأمرُ حتمياً على الإطلاق بالنسبة إلى ثقافاتٍ مُغايرةٍ تماماً، كثقافةِ الصين أو الهند أو العرب. لا عجبَ من أن الصين تبدو وكأنها تحاولُ ابتداع شيء مختلفٍ عماَّ فَعَلَتْه اليابان مثلاً مع الحضارة الغربية، ولا عجبَ من أن " غاندي " في الهند كاد ينجح في ابتداع شيء مختلفٍ تماماً عن الحضارة الغربية. ولا عجبَ من أنَّ العربَ يُبدون هذه الدرجةِ العاليةِ من المقاومةِ للحضارةِ الغربيةِ والسوقِ الشَّرق أوسطيةِ، مقاومةٌ قد لا يرى فيها بعضُهم إلا إصرارًا على التخلُّف، ولكن من الممكن أن نرى فيها صُموداً جديراً بالثناء والدعم.
كذلك فإن اعتبار ظاهرةُ العولمة حتميةٌ قد لا يكون في الحقيقة أكثرَ من اعترافِ المرءِ بأنَّه لم يَعُد لديه طاقةٌ باقيةٌ للمقاومة، أي أنه قد نَفَدَ جُهدَه وأصبح مستعِدًّا للتسليم. فإذا كان هذا هو اختيار بعضهم، فهو ليس مُلزماً لغيرِهم، ومن الظلم على أيِّ حالٍ أن يوصفَ بالحتميةِ اختيار لا يعكسُ الإنفاذِ الطاقةِ أو استعجَالِ المكافَأةِ. وهو موقفٌ ظالمٌ لأنه يُحَمِّلُ عِدَّةَ أجيالٍ قادمةٍ عِبْءَ فشلِ جيلٍ بعينه. فاعتبارُ ظاهرةٍ ما حتميةٌ يتوقَّفُ أيضاً على المدى الزمني الذي يأخُذُهُ المرءُ في اعتبارِه. فقد يكونُ موضوعُ الهزيمةِ والتسليمِ أمراً حتمياً فعلاً بالنسبة إلى جيلِ آبائِناَ وأجدادِناَ ولكنه ليسَ بالضرورة حتمياً لجيلِناَ وجيلِ أولادناَ وأحفادِنا. لقد ارتكب "كمال أتاتورك" مثلاً هذا الخطأ في تركيا، باستعجاله التسليم وإعلان الهزيمة أمام حضارة الغرب، ولازالَ أحفاده حتى اليوم يحاولون إصلاحَ الخطأ الذي ارتكبَه.
ولكن، فلنفرض أننا قررنا المقاومةَ: مقاومةُ العولمة والشرق أوسطية، فإن مما يجدُر بنا أن نُحذرَ من الوقوع فيه هو أن نعتمدَ في هذه المقاومة على شيءٍ تمَّت عولمتُه بالفعل، وأقصد بذلك الدولة. إن الداعينَ إلى الصمودِ أمام تيارِ العولمة، وإلى مقاومة الشرق أوسطية، التي هي في نظري صورةٌ من صُوَرِها صيغت خِصيصًّا لمِنْطَقَتِنا العربية، يقعون في خطأِ الاعتقاد بأنَّ الذي يُمكنُ أن يُدَعِّمَهم في هذا الصمودِ هو دَوْلَتُهم، مع أن دَولَتَهم قد تمَّ استسلامها وجرتْ عولمتُها منذ زمنٍ. إنَّ المعارضةَ العربيةَ لاتجاهاتِ العولمة والشرق أوسطيةِ لازالت تُوجِّه الخطاب للدولة، فَتَسْتَجْدِيها مرةً، وتنتقدُها مرةً، وتمتدحُ موقفاً اتخذته ببعضِ سماتِ الشجاعة مرة، من دون أن تريدَ رؤية دُوَلِناَ قد أفصحت بأبلغ بيان ووضوح عن أنها قد انضمَّت بالفعل إلى معسكرِ العولمة. ألاَ تبدو مخاطبتُنا لها إذَن كَمَضْيَعَةٍ للْوَقتِ ؟ إننا مستمرون في اعتقادنا الخاطئ بأن الدولةَ لازالت دولةٌ محايدةٌ، وكأننا نستعذبُ هذا الاعتقاد لأننا نريدُ أن نتجنبَ أعباءَ مواجهة الحقيقة، فنستمرُّ في معاملةِ الدولةِ وكأنها دولةٌ محايدةٌ بين الطبقاتِ، بينما الأصْوبُ أن نعترفَ بأن الدولة في مِنطقتِنا العربيةِ قد أصبحتْ في الواقع، وللأسف، من أكثرِ أدواتِ العولمة فعاليةً ونشاطاً.

الهوية والعولمة :
جاء في المادة الأولى من إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي :
1. " لكلِّ ثقافةٍ كرامةٌ وقيمةٌ يجب احترامها والمحافظةُ عليها.
2. من حقِّ كلِّ شعبٍ ومن واجبه أن يُنَمي ثقافَتَهُ.
3. تُشَكِّلُ جميعُ الثقافاتِ، بما فيها من تنوُّعٍ خِصبٍ، وبما بينها من تباينٍ وتأْثيرٍ متبادَلٍ، جُزْءًا من التراثِ الذي يَشتركُ في مِلكيتِهِ البشرُ جميعاً ".
وليس في تنوع الهُويات وتعدُّدِ الخصوصيات ما يتعارضُ وقضاءَ المصالح المشتركة بين الشعوبِ والأممِ في إطار التعاون الإنساني القائم على قاعدتَيْ التعارف والتعايش. وإنما ينطوي هذا التنوعُ على عناصرٍ تغذي الميولَ الإنسانيةَ الفطريةَ نحو امتلاك أسبابِ التقدم والرُّقِيِّ بحافزٍ من التنافُسِ الطبيعي، وبوازعٍ من التدافعِ الحضاري.
ومادامت الهوية بهذا الرُّسوخِ في طبائعِ الأممِ والشعوبِ، فلا سبيلَ إلى تجاوُزِها، أو محوِها، أو انصهارِها في بَوْتقةِ هويةٍ واحدةٍ مُهيمنَةٍ ذاتُ سيطرةٍ ونفوذ. مهما تكنِ الذرائعُ، وبلغت ما بلغت الأسبابُ والدوافعُ، فليس في ذلك فقط خروجٌ على طبيعةِ الأشياء، وتمردٌ على سننِ الكونِ وفطرةِ الحياةِ، وإنَّما في محاولةِ إلغاءِ هوياتِ الشعوبِ بالقهرِ والقسرِ والإكراهِ، خرقٌ للقوانينِ المتعارفِ عليها عند البشر، ومسٌّ خطيرٌ بقواعدِ القانونِ الدولي، وتهديدٌ للأمن والسِّلم والاستقرار في العالم .
إنَّ فهمنا للهوية ينبني على تراثِنا الحضاري، فالهوية في ثقافتنا العربية الإسلامية هي الامتياز عن الأغيارِ من النواحي كافة. ولفظُ الهوية يُطلق على معانٍ ثلاثة: التَّشخص.. والشخص نفسه.. والوجود الخارجي، وجاء في كتاب [ الكليات ] لأبي البقاء الكَفَوي، أن ما به الشيء هو باعتبار تحقُّقِهِ يُسمى حقيقةً وذاتاً. وباعتبار تشَخُّصهِ يسمى هويةً. وإذا أخذَ أعمَّ من هذا الاعتبار يسمى ماهيةً.. وجاء في هذا الكتاب أيضا..أن الأمرَ المتعقِّلَ من حيثُ إنَّهُ مقولٌ في جوابِ (ما هو ) يسمى ماهيةً. ومن حيثُ ثبوته في الخارجِ يسمى حقيقةً. ومن حيثُ امتيازه عن الأغيارِ يسمى هُويةً .
والهوية عند "الجرجاني" في [التعريفات ] :
« الحقيقةُ المطلقةُ، المشتملةُ على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق» .
وتُستعمل كلمة " هوية "في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة " Identité " التي تُعبِّر عن خاصية المطابقة: مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقته لمثيله .
وفي المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون، فالهوية هي:"حقيقة الشيء ،أو الشُّخُصِ المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تُميزه عن غيره،وتسمى أيضا وحدة الذات ".
ولذلك فإذا اعتمدنا المفهومَ اللغوي لكلمة " هوية "، أو استندنا إلى المفهوم الفلسفي الحديث، فإن المعنى العام للكلمة لا يتغير، وهو يشمل الامتياز عن الغير، والمطابقةَ للنفس. أي خصوصيةَ الذات، وما يتميزُ به الفردُ أو المجتمعُ عن الأغيار من خصائصٍ ومميزاتٍ، ومن قيمٍ ومُقَوماتٍ.
وخلاصةُ القولِ، أنَّ الهوية الثقافيةَ والحضاريةَ لأمةٍ من الأممِ، هي القدرُ الثابتُ والجوهريُّ والمشتركُ من السِّماتِ والقَسماتِ العامةِ، التي تُميز حضارةَ هذه الأمةِ عن غيرها من الحضاراتِ، والتي تجعلُ للشخصيةِ الوطنيةِ والقوميةِ الأخرى .
فكيف يتسنى المحافظةُ على الهوية الثقافية والحضارية في ظل العولمة الباسطةِ نفوذَها اليومَ على المجتمع الدولي ؟ بل كيف يمكن التوفيق بين مقتضيات السيادة الوطنية، وبين متطلبات العولمة ؟.
إن اتجاهات العولمة تسير نحو التأثير السِّلبي على الهوية والسيادة معاً. وأولُ ما يثيرُ الانتباه عندَ التأمُّلِ في موقفِ الغربِ من هُوياتِ الشعوبِ. هو جمعُه بين موقفين متناقضين، فهو من جهة شديدُ الاعتزاز بِهوُيته حريصٌ عليها، وهو من جهة ثانية رافضٌ للاعتراف بالهويات الوطنية لشعوب العالم، لإحساسه بأن العولمة من شأنِها أن تؤدي إلى مزيدٍ من الوعي بالخصوصية الثقافية والحضارية. وتلك في نظر الغرب عموماً هي المعضلةُ الكبرى التي يصطدم بها، ويعبِّر مفكِّرُوه عن هذه الحيرةِ الفكريةِ بوضوحٍ وصراحةٍ لا مزيدَ عليهما.
ففي أحدثِ دراسة لصمويل هنتنغتون ( SAMUEL HUNTINGTON ) لم يسلَّط عليها الضوء كما جرى مع دراسة له سابقة، يتبين التناقض الذي تقع فيه القوة الجديدة المنفردة بزعامة العالم، وتتضح الحيرة العاصفة التي تسودُ مجتمع النخبة في الغرب. فقد كتب " هنتنغتون " في عدد شهري ( نوفمبر – ديسمبر 1996 ) من مجلة [شؤون خارجية] دراسة تحت عنوانٍ مثيرٍ للغرابة فعلا : [ الغرب: متفرد وليس عالمياً ] The west Unique Not Universal) ) يُفرق فيها بين " التحديث" Modernization وبين "التغريب" Westernization ، ويقول :
« إنَّ شُعوبَ العالمِ غيرُ الغربيةِ لا يمكنُ لها أن تدخلَ في النسيجِ الحضاريِّ للغرب، حتى وإنِ استَهلكتِ البضائعُ الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية، واستَمَعت إلى الموسيقى الغربية. فروح أي حضارةٍ هي اللُّغةُ والدينُ والقيمُ والعاداتُ والتقاليدُ. وحضارةُ الغربِ تتميزُ بكونها وريثَةُ الحضاراتِ اليونانيةِ والرومانيةِ والمسيحيةِ الغربية. والأصولُ اللاتينيةِ لِلُغاتِ شعوبِها، والفصلُ بين الدين والدولةِ، وسيادةُ القانونِ، والتعدديةُ في ظلِّ المجتمعِ المدنيِّ. والهياكلُ النيابيةِ، والحريةُ الفرديةِ ».
ويضيف قائلاً:
« إن التَّحديثَ والنموَ الاقتصادي لا يمكنُ أن يحقِّقاَ التغريبَ الثقافيَ في المجتمعاتِ غيرِ الغربيةِ، بل على العكس، يُؤديانِ إلى مزيدٍ منَ التمسكِ بالثقافاَتِ الأصليةِ لتلكَ الشعوبِ. ولذلكَ فإنَّ الوقتَ قد حانَ لكي يتخلَّى الغربُ عن وهمِ العولمة، وأنْ يُنمِّي قوةَ حضارتهِ وانسجامِها وحيويتهاَ في مواجهة حضاراتِ العالم. وهذا الأمرُ يتطلبُ وحدةَ الغربِ بقيادةِ الولايات المتحدة الأمريكية، ورَسْمَ حدودِ العالمِ الغربي في إطار التجانُسِ الثقافي ».
فهلِ العولمة صيغةٌ جديدةٌ من صيغِ المواجهة الحضاريةِ التي يخوضُها الغربُ، بالمفهوم العام للغرب. ضدَّ هوياتِ الشعوبِ وثقافاتِ الأممِ، ومن أجلِ فرضِ هيمنةِ ثقافةٍ واحدةٍ، وإخضاعِ العالم لسيطرةِ حضارةٍ واحدةٍ ؟.
إن العولمة بهذا المفهومِ تتعارضُ – تعارضاً تاماًّ –مع قواعدِ القانون الدولي، ومع طبيعةِ العلاقاتِ الدوليةِ، بل إنها تتعارضُ كليةً مع الاقتصاد الوطني، ومع السيادةِ الوطنية، ومع قانونِ التنوعِ الثقافي. والعولمة إذا سارت في الاتجاه المرسوم لها، ستكونُ إنذاراً بانهيارٍ وشيكٍ للاستقرار العالمي؛ لأن العولمة بهذا المضمونِ تضربُ الهوية الثقافيةَ والحضاريةَ في الصميم. وتنسفُ أساسَ التعايشِ الثقافي بين الشعوبِ. كما أنَّ العولمة بهذا المفهومِ الشمولي ذي الطابعِ القَسْرِي، ستُؤَدي إلى فوضى على مستوى العالمِ، في الفكرِ والسلوكِ، وفي الاقتصاد والتجارةِ، وفي الفنونِ والآداب، وفي العلوم والتكنولوجيا أيضا.
وعلى الرغم من ذلك كُلِّه، فإنَّ الإنسانيةَ لا تملكُ أن تُحرِّرَ في الوقتِ الراهنِ من ضغوطِ العولمة، نظراً إلى حاجيتها الشديدةِ إلى مسايرةِ النظامِ العالميِّ الجديد في اتجاهاته الاقتصادية والعلميةِ والتكنولوجيةِ، ولكنها تستطيعُ إيجادَ تيارٍ ثقافي مُضادٍ يقف في مواجهة روح الهيمنة التي تنطوي عليها هذه العولمة فكرةً ونظاماً، وتطبيقاً وممارسةً، وفي التعاملِ مع الآثارِ المترتبةِ عليها، في انتظارِ بُروزِ قوى عالمية جديدة ستكون مُنَاوِئةٌ للقُوةِ المتحكمةِ حالياً في مقاليدِ النظام العالميِّ، أو على الأقلِّ مُنافِسةٌ لها منافسةَ الند للند .
إن طائفةً من علماءِ المستقبلياتِ ومن الدارسينَ الإستراتيجيين، ومُعظَمُهُم من الغربِ نفسُه، يذهبونَ إلى القولِ بأنَّ اختلالا حاسماً سيقعُ في ميزانِ القِوى العالمية على المستويينِ السياسي والاقتصادي في العِقدِ الأول من القرن الحالي. وسيترتَّبُ على ذلك، انقلاب جذريٌّ في توجُّهاتِ العولمة، وهو الأمرُ الذي سيكونُ تعزيزاً وترسيخاً وإعلاءً للشرعيةِ الدولية القائمةِ على قواعدِ القانونِ الدولي، لا على منطقِ القوةِ والغلبةِ والظَّفرِ في معاركِ الحربِ الباردةِ .
إننا ومن خلالِ رؤيةٍ موضوعيةٍ إلى الواقعِ الدولي الراهنِ، نستطيعُ أن نقولَ، إنَّ الخيارَ المُتاحَ والمفتوحَ على المستقبل، هو أن تتظافَرَ الجهودُ الدوليةُ لترسيخِ مبدأَ التنوعِ الثقافي، ولإنعاشِ فكرةِ الحوارِ بين الثقافات والحضارات، وللتأكيد على ضرورةِ تفعيلِ التعاونِ الدولي الثقافي في إطارهِ الشاملِ الذي تندرجُ تحتَهُ كلُّ أنماطِ التعبيرِ الإنساني، وذلك للحدِّ من الآثارِ السِّلبيةِ للعولمةِ في شكلِها المُتَجَهِّمِ الذي لا يقيمُ اعتبارا للهوياتِ الثقافيةِ والحضاريةِ لشعوبِ العالمِ، والذي يؤدي إلى « ظروف عسيرةٍ عصيبةٍ بما يتلاحقُ من مشاكلٍ، ويتفجَّرُ من أزماتٍ، ويتجهَّمُ من سحابٍ، ويتطاولُ للمادةِ من نفوذٍ، ويتضاءلُ من جاهٍ للروح وسلطان، ويُشيع في النفوسِ من قلقٍ وخوفٍ. ويتوالى على الألسنةِ والقلوب من أسئلةٍ لا يطرحها التفاؤل والاستبشار » .

هل في استطاعة العولمة أن تُهدر الهوية ؟
هناك فريقٌ من المفكرين يعتقدون أن العولمة وُجدت لتكون بديلاً لكلِّ الانتماءات الأخرى، ويقفُ إلى جانب هذا الفريقِ سائرُ رجالِ الأعمالِ الذين لا يهمهم من الحياةِ إلا الكسبُ، يُضاف إلى هؤلاءِ فريقٌ آخرُ هو الفريقُ الضائعُ التَّالفُ الذي يشعرُ بالإحباطِ .
وقد كان من بين العناوينِ التي انتصبتْ أمامي وأنا أقرَأ عما كُتب حول هذا الموضوع، عنوان: " العولمة آتيةٌ لا محالة، وعلينا أن نعملَ في اتجاهِ أخلاقِ كوكبيةٍ مُشتركةٍ"… كما كانَ ممَّا قرأتُه من عناوين :" الهوية تعني فكراً رجعياً بينما العولمة تعني فكراً تقدُّمياً ".
على أن هناكَ فريقاً آخرَ يمكن أن نُنعتَه بالفريقِ المتفائلِ وهو الذي يميلُ إلى الاعتقاد بأنَّه لا يوجدُ تناقضٌ إطلاقًا بين العولمة وبين الهوية، فالعولمة تسيرُ في طريقها المعروفِ تعتمدُ على سيادةِ العِلم، بينما يكونُ من حق كل واحد أن يحتفظ بهُويته كما شاء وعلى الطريقة التي يريدها، ولو تعدَّدتِ الهوياتُ داخلَ هذهِ العولمةِ .
وهذا الفريقُ لا يُعجزه ضربُ الأمثلة بعددٍ منَ الدولِ التي بالرغمِ من أنَّ لُغتَها لُغةٌ مهجورةٌ عالمياً نُطقاً ورسماً، لكنها، أي تلكَ الدولُ، تُواكبُ العولمةَ بكلِّ أنواع المُواكبةِ في الوقتِ الذي تحتفظُ فيه بعادتِها وتقاليدها ومعتقداتِها. ويذكرونَ في صدر هذه الدولِ كمثالٍ على هذه المُرونةِ: اليابان والصين وكوريا، ولِمَ لا نذكرُ إسرائيل من بين تلك الجهاتِ التي نَعرفُ طريقةَ إملائِها وكتابتِها، ومع ذلك فإنها تقوم وبصفةٍ مستمرةٍ ومنتظمةٍ بترجمةِ سائِرِ الكتب العلميةِ التي تظهر بلغات أخرى في سائر بقاعِ العالم، تُترجمُها فوراً إلى لغاتِها الوطنيةِ على مختلَفِ الصُّعد حتى لا تضْعُفَ أمام مسايرة الرَّكبِ العالميِّ خُطوةً خطوة، في الوقت الذي تحافظ فيه على هُويةِ أبنائها وخصوصِيتِهم .
ومن هنا أتخلَّص إلى القولِ بأنه إذا كانَ من حقِّ الدُّولِ أن تختارَ لنفسها ما يناسبها، فإن علينا أن نكون في مقدمةِ الذين يستفيدون من العولمة شريطةَ أن نكون على أتَمِّ استعداد لمقاومةِ كلِّ المغرِياتِ التي قد تعملُ على إذابةِ شخصيتِنا والقضاءِ على ثوابتِ هُويتِنا.
ولن تكون تلك المقاومةُ مجديةً ومفيدةً إلا إذا تمسَّكنا بلغتِنا وجعلناها وسيلتَنا عن طريقِ الترجمةِ الأمينةِ لتَلَقِّي سائرِ العلومِ، ولن تكونَ تلكَ المقاومةُ مجديةً ومفيدةً، إلا إذا عرفنا كيف نحترمُ نحن عقيدتَنا ونقومُ بشعائرِنا دون ما شُعورٍ بمركَبِ ضعفٍ… إن ذلك هو الذي سيحمل الآخرين على الالتفات إلى مقوماتِنا .





العولمة: جدل العدوان والمقاومة الثقافيين :
ليس صحيحا أن العولمة الثقافية هي الانتقال من حِقبةِ –ومن ظاهرةِ- الثقافاتِ الوطنيةِ والقوميةِ إلى ثقافةٍ عُليا جديدةٍ هي الثقافةُ العالمية أو الثقافة الكونيةُ، على نحوٍ ما يدَّعي مُسَوِّقُو فكرةِ العولمة الثقافيةِ، بل إنها – بالتعريف – فعلُ اغتصاب ثقافيٍّ وعدوانٍ رَمزي على سائرِ الثقافات. إنها رديفُ الاختراق الذي يجري بالعنف – المسلح بالتِّقاَنة – فتنهَدِرُ سيادةُ الثقافةِ في سائرِ المجتمعاتِ التي تَبلُغها عمليةُ العولمة. وإذا كان يحلو لكثيرينَ أن يَتَحَذْلَقُوا بإِفراطٍ في الرَّدِّ على هذا الفهمُ للعولمةِ الثقافيةِ، فيرجُمُونَه بتُهمةِ الانغلاق الثقافي أمام تياراتِ العصرِ، والدعوةِ إلى الانكفاء والتَّشَرْنُقِ على الذاتِ ( والهوية، والأصالةِ، ومشْتقاتِهما … ).
وإذا كان يحلو لهم أن يُعيدوا على أسماعنا مواويلَ الانفتاح الثقافي غير المشروطِ على "الآخر" للانتهال من موارِدِه ومُكْتَسَباتِهِ وكُشُوفِهِ المعرفيةِ… إلخ، فإنه يَطِيبُ لنا أن نُلفِتَ انتباههم إلى وجوبِ وعي الفارقِ بين التَّثاَقُفِ والعُنفِ الثقافي من جانبٍ واحدٍ.
يعني الأولُ الإصغاءَ المتبادَلَ من سائر الثقافاتِ بعضِها إلى بعضِها الآخرِ، كما يعني الاعتراف المتبادَلَ بينها، ومنه الاعتراف بحقِ الاختلاف وهو من أقدسِ حقوقِ الإنسانِ، فيما لا ينطوي الثاني سوى على الإنكارِ والإقصاءِ لثقافةِ الغيرِ، وعلى الاستعلاء والمركزيةِ الذاتيةِ في رؤيةِ ثقافتِه. يرادف الأولُ معنى الحوارِ والتفاهُمِ، بينما يتلازمُ معنى الثاني مع الإكراه والعدوان. أما الأهمُّ في الأمرِ، فهو أن التَّثاقُفَ يجري بين الثقافاتِ على قاعدةِ النِّدِّيةِ، وهو ما يمتَنِعُ دون اعتبار أيَّةِ ثقافةٍ لشخصِيَتِها وحُرمتِها الرَّمزِية، فيما لا يُعبِّر فعلُ الاختراق والتجاوُبُ معه سوى عن دونيةٍ يأباَها أيُ انفتاحٍ وأيُّ حوارٍ، هذا درسٌ بدائيٌ من دروسِ الأنثروبولوجيا الثقافيةِ المعاصرةِ حريٌ بدعاةِ الانفتاح أن يقرأوه قبل أن يفْتَتِحُوا طقوسَ التبشير.
أيُّ اختراقٍ ثقافي هذا الذي نعنيه..أو ماذا يُمكنُها أن تكونَ تلكَ العولمة الثقافية إن لم تكن صناعةٌ لثقافةٍ عالميةٍ جديدةٍ ؟
ليست العولمة تلك – في مفهومنا- سوى السيطرةُ الثقافيةُ الغربيةُ على سائرِ الثقافات، بواسطة استثمار مكتسباتِ العلوم والتِّقانةِ في ميدانِ الاتصال. وهي التَّتويجُ التاريخِيُّ لتجربةٍ مديدةٍ من السيطرة بدأت منذ انطلاق عملياتِ الغزوِ الاستعماري منذ قرونٍ، وحقَّقت نجاحاتٌ كبيرةٌ في إلحاقِ التصفيةِ والمسخ بثقافاتٍ جنوبيةٍ عديدةٍ، وبخاصة في إفريقيا وأمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية. ولعلَّ هذا ما يؤكدُ من أن العولمة لا تُؤرخ لنهاية عصرِ الدولة القومية، بل تُعلن عن ميلادِ حقبةٍ جديدةٍ من تمدُّدِها المستمر، وليس ما يُدعى بالعولمةِ الثقافيةِ اليوم، إلاَّ مظهراً من مظاهرِ تلك التَّمدُّد خارج الحدودِ، الذي هو آليةٌ طبيعيةٌ في نظام اشتغال الدولةِ القوميةِ الحديثةِ.
على أن هذه السيطرةُ الثقافيةُ الغربية العامة تنطوي –في داخلِها- على علاقةٍ أخرى من السيطرةِ تجعل ثقافات غربية عديدة في موقع تبعيٍّ لثقافةٍ أقوى تتمدَّدُ أحكامُها على امتدادِ سائر العالم. أما هذه السيطرةُ التي نعني، فهي التي يُمكنُنا التعبير عنها بعبارة "الأمْرَكَةُ " "A mericanisation " والعولمة – في ما نزعم – هي الإسمُ الحركيُّ لها. ليست الأمْركَة أسطورةٌ جديدةٌ من أساطيرنا السياسية، ولا هي شماعة نُعلِّق عليها إخفاقاتِها وعجزِنا، بل هي حقيقةٌ ماديةٌ تعيشُها أوروبا نفسها، وتحتَجُّ عليها، وتُنظِّمُ مقاوَمَتَها ضدَّها، وتَعتَبِرُها خطراً إستراتيجِياً يهدِّد استقلالها الاقتصادي والسياسي وهُويتَها الثقافية. وقد تكون مُقاوَمَةُ فرنسا لها – بمناسبةِ مفاوضاتِ " الغاَت " – ودِفاعُها عماَّ باتَ يُعرف باسم الاستثناء الثقافي. أسطعُ دليلٍ على وُجودِها وعلى مخاطرِها، وهي –للتذكير- مقاومةٌ حقيقيةٌ وشرِسَةٌ وليست مسرحية سياسيةٌ للضحِك على ذُقونِ أهلِ العالم الثالث.

كيف يمكن التعامل مع ظاهرة "العولمة " ؟
ما العمل إزاء هذه السلبياتِ والأخطار التي تطبَعُ علاقةُ العولمة بالعرب على صعيد الهوية الثقافية ؟
هناك موقفان سهلان، وهما السائدان :
موقف الرفضِ المطلقِ وسلاحُه الانغلاق الكليُ وما يتبعُ ذلك من ردود فعلٍ سلبيةٍ محاربةٍ.
وموقف القَبولِ التام للعولمةِ وما تمارسُه من اختراق ثقافي واستتباعٍ حضاري، شعاره "الانفتاح على العصرِ" و " المراهنةُ على الحداثةِ "
لا مفرَّ من تصنيفِ هذين الموقفين ضمن المواقف اللاتاَريخِيةِ التي تواجه المشاكلَ، لا بعقلٍ واثقٍ بنفسه متمَكِّنٍ من قُدُراتِه، وإنما تسْتَقْبِلها بعقلٍ " مُستقيلٍ" لا يرى صاحبَه مَخرجاً من المشاكل إلا بالهروبِ منها، إما إلى الوراء وإما إلى الأمام، كلُّ سِلاحِه رؤية سحرية للعالَم تقفزُ على الواقع إلى اللاواقع.
إنَّ الانغلاق موقف سلبي، غيرُ فاعل، ذلك لأن فعلَه " المُوَجَّه " ضد الاختراق الثقـافي –أي محاربَتَه له- لا ينالُ الاختراق ولا يمسُّه ولا يفعلُ فيه أيُّ فعلٍ، بل فعلُه مُوجَّه كلُّهُ إلى الذاتِ قصدَ " تحصينها ". والتحصينُ إنما يكونُ مفيدا عندما يكون المتحاربانِ على نسبةٍ مَعقولةٍ من تكافؤِ القِوى والقدرات.
أما عندما يتعلق الأمر بظاهرةٍ عالميةٍ تَدخل جميع البيوت وتفعل فِعلَها بالإغراء والعدوى والحاجة، ويَفرضها أصحابُها فرضاً بتخطيطٍ واستراتيجيا، فإنَّ الانغلاق في هذه الحالةِ ينقلبُ إلى موتٍ بطيء، قد تتخلَّلُه بُطولات مُدهشة، ولكنَّ صاحبَه محكومٌ عليه بالإخفاقِ.
ومثلُ الانغلاق مثلٌ مقابله: الاغتراب .. إنَّ ثقافةَ الاختراق، أعني إيديولوجيةَ الارتماء في أحضانِ العولمة والاندماج فيها، ثقافةٌ تنطلقُ من الفراغِ، أي من اللاهُوية، وبالتالي فهي لا تستطيع أن تبني هويةً ولا كياناً. يقول أصحاب هذا الموقف: إنه لا فائدة في المقاومة ولا في الالتجاء إلى التراثِ، بل يجب الانخراط في العولمة من دون تردُّدٍ ومن دونِ حدودٍ، لأنها ظاهرةٌ حضاريةٌ عالميةٌ لا يمكن الوقوفُ ضِدها ولا تحقيقُ التقدُّمِ خارجَها. إن الأمرَ يتعلقُ بـ" قطارٍ يجب أن نركبَهُ " وهو ماضٍ في طريقِه بنا أو من دُونِناَ.
وبعيداً عن مناقشةٍ جِداليةٍ لهذه الدعوى، يكفي التَّنبِيهُ إلى أنَّها الدعوى نفسُها التي سبق أنِ ادَّعاهاَ ونادى بها مفكرون عرب رُواد منذ أزيدِ من قرن، ومنذ ذلك الوقتِ وهي تتردَّدُ وتتكرَّرُ هنا وهناك في الوطن العربي، تبَنَّتْها حكوماتٌ وأحزابٌ فضلاً عن الأفراد...ومع ذلك فحَصيلةُ قرنٍ كاملٍ من التبشيرِ بهذه الدعوى، - دعوى " الاغتراب"- لم تُنتج سوى فئةٌ من " العصرانيين " قليلة العدد، نشاهدُ اليومَ تناقصاً نسبياً واضحاً في حجمها، بينما ازدادَ ويزدادُ الطرفُ المقابلِ لها عددًا وعدَّةً، كماًّ وكيفاً، في جميعِ الأقطارِ العربيةِ وداخلَ جميع الشرائحِ الاجتماعية. وهكذا فبدلاً من تياراتٍ "حداثية " تُمارسُ الهيمنةِ والقيادةِ تستقطبُ الأجيالَ الصَّاعدةَ، بدلاً من ذلك يسودُ الحديثُ عن "الأصوليةِ الدينيةِ" بوصفها الظاهرة المهيمنة .
أما نحن فنرى أن الجوابَ الصحيحَ عن سؤالٍ " ما العمل "؟- سواء إزاء الثنائيةُ (ثنائية التقليدي والعصري) والانشطار اللَّذين تُعانيهما الثقافةُ العربيةُ، أو إزاء الاختراق الثقافيُّ وإيديولوجيةُ العولمة - يجب أن ينطلقَ أولاً وقبل كلِّ شيء مِن العملِ داخلَ الثقافةِ العربيةِ نفسها، ذلك لأنه سواءٌ تعلق الأمرُ بالمجالِ الثقافيِّ أو بغيرهِ. فمن المؤكد أنه لولا الضَّعفُ الداخلي لَماَ استطاعَ الفعلُ الخارجيُّ أن يمارسَ تأثيرَه بالصورةِ التي تجعلُ منه خطراً على الكيانِ والهوية .
إن الثنائيةَ والانشطار ( ثنائية التقليدي والعصري، ثنائية الأصالة والمعاصرة في الثقافة والفكر والسلوك ) إنما يعكسان وضعيةً ثقافيةً لم تتِم بعد إعادةُ بِنائِها. ثقافةٌ يتزامنُ فيها القديمُ والجديدُ، والأصيلُ والوافدُ، في غير ماَ تفاعلٍ ولا اندماج- على حدِّ تعبير الدكتور محمد عابد الجابري- ، وهذا راجعٌ إلى أن التجديدَ في ثقافتناَ كان يُرادُ لهُ، منذ أزيدَ من قرن أن يتم من " الخارج ": بنشر الفكرِ الحديثِ على سطحها، لأن تجديدَ الثقافة.. أية ثقافة.. لا يمكن أن يتم إلا من داخلها، بإعادةِ بنائها ومُمارسةِ الحداثةِ في معطياتها وتاريخها والْتِماسِ وجوهٍ من الفهمِ والتأويلِ لمسَارها تسمحُ بربطِ الحاضرِ بالماضي في اتجاه المستقبل.
إن حاجتنا إلى تجديد ثقافَتنا وإغناءِ هُويتناَ والدفاع عن خصوصيتنا ومقاومةِ الغزو الكاسح الذي يمارسه، على مستوى عالمي، إعلامياً وبالتالي إيدْيُولوجياً وثقافياً، المَالِكُون للعلمِ والتِّقانةِ المسخِّرونَ لهما لهذا الغرض، لا تقلُّ عن حاجتِناَ إلى اكتسابِ الأُسُسِ والأدواتِ التي لابدَّ منها لمُمارسةِ التحديثِ ودخولِ عصرَ العلم والتِّقانةِ. دخول الذواتِ الفاعلةِ المستقِلَّة وليس دخول" الموضوعات" المنفعلة المسيَّرة .
نحنُ في حاجةٍ إلى التحديث، أي إلى الانخراط في عصرِ العلم والتِّقانة كفاعلينِ مُساهمين، ولكننا في حاجة كذلك إلى مقاومةِ الاختراق وحمايةِ هُويتنا القوميةِ وخصوصيتناَ الثقافيـةِ من الانحلال والتلاشِي تحتَ تأثيرِ مَوجاتِ الغزوِ الذي يمارَس علينا وعلى العالمِ أجمــع بوسائلِ العلم والتِّقانة، وليس هاتانِ الحاجتانِ الضروريتانِ متعارضتينِ كما قد يَبدو لأوَّلِ وهْلة، بل بالعكس هما متكاملتانِ، أو على الأصح مُتلازمتاَنِ تلازُم الشَّرط مع المشروطِ.
ومن الحقائقِ البديهيةِ في عالمِ اليوم، أنَّ نجاحَ أيُّ بلدٍ من البلدانِ، الناميةِ منها أو التي هي في " طريق " النمو، نجاحها في الحفاظِ على الهوية والدفاعِ عن الخصوصيةِ، مشروطٌ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى بمدى عمق عمليةِ التحديثِ الجاريةِ في هذا البلد، عمليةُ الانخراط الواعي، النامي والمتجدر، في عصرِ العلم والتِّقانةِ.
والوسيلةُ في كلِّ ذلك واحدةٌ : اعتماد الإمكانياتِ اللامحدودة التي توفرها العولمة نفسُها، أعني الجوانبُ الإيجابية منها، وفي مقدمتها العلمُ والتِّقانة. وهذا ما نلمسُه بوضوح في تخطيطاتِ الدولِ الأوربيةِ التي يدقُّ في كثير منها ناقوسُ خطرِ " الغزو الأمريكي" الإعلامي الثقافي الذي يتهدَّدُها، في لغتِها وسلوكِ أبنائِها وتصَوُّراتِهم الجمعية، والتي يوظف أرقى وسائل العلم والتِّقانة – ومنها الأقمار الصناعية – في اكتساح مختلَف الحقولِ المعرفيةِ والخصوصياتِ الثقافية .
إن أوربا اليومَ تتحدث حديث الخصوصية والأصالة، وتتحدث عن " الهوية الأوربية " تعزيزا لسيرها الجِدِّ على طريقِ تشييدِ الوحدةِ بينَ شعوبِها وأقطارِها، بخطواتٍ عقلانيةٍ محسوبةٍ في إطارٍ من الممارسةِ الديمقراطيةِ الحقَّة. وهي بذلك تُقدِّم لمستعمراتِها القديمةِ، ( أقطارِ العالمِ الثالثِ كلِّه )، نموذجاً صالحاً للإقتداءِ به بعد ملاءمَتِه مع الخصوصيات المحلية .
إن جُلَّ الحكوماتِ العربية، إن لم يكن جميعُها، تسعى اليومَ لتحقيق " الشَّراكة " مع أوربا، الشراكةُ في مجال الاقتصاد، وأيضا في مجال الثقافة، ومع أن هذه الشراكة المطلوبةِ تُمليها على الجانبينِ ظرفيةٌ تحكُمها المصالحُ القومية، فإنَّه لاشيءَ يضمنُ تحوُّلَها إلى عولمةٍ أخرى داخلَ العولمة الكبرى، غير شيء واحد، هو بناءُ الشراكةِ في الداخل كما في الخارج على الديمقراطية والعقلانية.
فهل للشعوب العربية أن تطالب بالشراكة مع أوربا في مجال اعتمادِ العقلانية والديمقراطية، في الفكر والسلوك، في التخطيط والإنجاز، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة ؟

استنتاج :
من خلال ما سبق نستنتج ما يلي :
العولمة تدعو إلى تجاوز الهوية القومية ( الدين .. اللغة .. الأرض..التاريخ)، لصالح "هوية" أوسع. هوية كونية .فماذا يفعل الذين ما يزالون يسألون مَن نحن ؟. ماذا سيصنع الذين يدخلون القرن الواحد والعشرين بدون هوية، أو بدون (إنية) واضحة.
العولمة في بُعدها الاقتصادي، تعني هيمنة الشركات الاقتصادية، والمؤسسات المالية الكبرى واحتكار الأسواق، ومصادر الغِنى والثَّراء المادي، من طرف الأقوياء . وتسخير الضعفاء لخدمة التوجه الاقتصادي الليبرالي والأمريكي بامتياز. فما مصير الدول الضعيفة، والتي ما تزال تبحث عبثاً عن تنمية مُستديمة، دون جدوى؟ ما مصير دول ضعيفة معزولة متخلفة، أمام زحف تكَثُّلات اقتصادية ضخمة لا ترحم ؟.
والعولمة في بُعدها السياسي مرة أخرى، تعني من ضِمن ما تعنيه المزيد من الدَّعم والتَّمكين للمشروع الصَّهيوني الاستيطاني. فمذا يصنع الذين ما يزالون يجادلون حول كينونة (إسرائيل)، وضرورة مواجهتها، أم لا، وكيفية ذلك ؟.
هكذا هي العولمة، وغير العولمة، مما سيصنعه الأقوياء، الذين لن يتوقفوا عن إثبات زعامتهم، وتأكيد ريادتهم، وأستاذِيتهم على الآخرين. وسيبقى على المتخلِّفين، والمتردِّدين، والتابعين، أن يسجلوا قوميتهم الحقيقية، أو يُوقِّعوا موتهم التاريخي الأخير.


خاتمة :
وسأختم حديثي هذا، بالعودة مرة أخرى إلى الجواب عن سؤالي، بالسَّلب، أي أنه ليس في استطاعة العولمة أن تقضي على هُوية الناس، بل إن الأمرَ على العكس من ذلك، فإنه بمقدارِ ما يشعُر المرءُ بأن هناك جهةٌ ماَ تقصد إلى النَّيل من ماضيه والإجهاز على شخصيته وهدْرِ كرامتِه، هناك يأخذ في البَحثِ عن جُذورِه وأصولهِ، وهناك تتكاثفُ جهوُده ليعبِّرَ عن حُضورِه وَوُجودِه بكلِّ الوسائلِ التي يمْتَلِكُها .
رأينا هذا رؤْياَ عينٍ في بعضِ مُهاجِرينا إلى الخارج مِمَّن كُنا نعتقد أنهم ابْتُلِعوا ورَاحوا، ولكناَّ لم نَلبث أنْ سمِعْناَ هؤلاء أنْفسَهم يطرقون علينا البابَ ليسألوا عن ماضيهم.. وأخشى ما نخشاه من محاولة العولمة هدرَ الهوية، أن يتنبَّه أصحابُ الهويات إلى ما يُحدَق بهم، وهناك تكون المواجهةُ على أشَدِّها بين الهوية والعولمة .. هذه المواجهةُ التي سوف لا تنتهي إلا باحترامِ العولمة الهوية، واعتراف الهوية بجدوى التعاون في إطار العولمة.
ويمكن القول إنه في الفترة الأخيرة فقط، بدأت تباشيرٌ بدراسات جادة رصينة للعولمة وبتأثيراتِها في الوطن العربي، وربما يكون هذا الجهد علامة على طريق الفهم المُتعمق لظاهرةٍ مُعقَّدة ومركبة، ويمكن في ضوءِ هذا الفهمِ صياغةُ إستراتيجيةٍ عربيةٍ وقوميةٍ، تستدبر المواجهة الرافضةِ رفضاً مطلقاً، وتستشرف للتفاعل الحي الخلاَّق، لكن هل تسمحُ بهذه الإرادة السياسية العربية القومية ؟ هذا هو السؤال، وهو صلبُ الأزمة الراهنة في الوطن العربي .



تحياتي إلى قارئي العزيز...





مسرد المصادر والمراجع

1. أسئلة يجب الوعي بها..محمد عابد الجابري، الشرق الأوسط 04/02/1997.
2. الأموال س1 ع 2.
3. أيديولوجيا العولمة الإمبراطورية العالمية..محمد عابد الجابري، الشرق الأوسط 06/02/1997.
4. الإغتراب العربي..ذ.محمد عادل التريكي، ضمن سلسلة مقالاته في: قضايا فكرية معاصرة..( مكتبته الخاصة).
5. التعريفات..الشريف علي بن محمد الجرجاني، طبعة دار الكتب العربية 1998 – بيروت.
6. التغريب وخطره على العالم الإسلامي..ذ. محمد عادل التريكي، ضمن سلسلة مقالاته في : قضايا فكرية معاصرة..( مكتبته الخاصة).
7. قضايا في الفكر المعاصر..محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى يونيو 1997 – بيروت.
8. الشرق الأوسط 02/02/1997.
9. الشرق الأوسط 03/02/1997.
10. العولمة والهوية الثقافية : عشر أطروحات..محمد عابد الجابري، المستقبل العربي، عدد 228 فبراير 1998، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت.
11. العولمة والدولة..جلال أمين، المستقبل العربي، عدد 228 فبراير 1998، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت.
12. الكليات..أبو البقاء الكفوي، تحقيق: د.عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى/ 1992 – بيروت.
13. مأزق أيديولوجيا العولمة..السيد ولد أباه، الشرق الأوسط 02/02/1997.
14. مجلة الهلال..د.محمد عمارة، فبراير 1997 – القاهرة.
15. الموسوعة الفلسفية العربية، الطبعة الأولى/1986 معهد الإنماء العربي – بيروت.



#محمد_عادل_التريكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
- -نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح ...
- الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف ...
- حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف ...
- محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
- لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
- خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
- النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ ...
- أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي ...
- -هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد عادل التريكي - أي منظور لمستقبل الهوية في مواجهة تحديات العولمة؟