|
مقاطع في حيّز العابر (4)
يوسف ليمود
الحوار المتمدن-العدد: 2798 - 2009 / 10 / 13 - 05:15
المحور:
الادب والفن
قطار البيوت مغلقة على عري أهلها. المدينة تحلم. هذا الليل الدائر في سباته كطواحين الهواء. عجلة سامسارا. تهتز أوتار الحلم في الألم الأمل الوهم اللذة الدموع المخاوف. يغوص الحلم، في الزمن بلا زمنه، في الليل بكشافات ذاكرته. يغوص، كقطار خرجت عجلاته عن قضبانها إلى أرض رطبة. يغوص بطيئاً حتى تسكت أنفاسه، ويسكن في صمت الطين.
سر المطر انتهى في الشمس بعدما وضّأ الأرض بالقداسة. صلاة صامتة بين الأرض وشمسها. صلاة التراب الغبار الغياب الزوال. أصوات الراهن المتناسل من عظام الغابر. ظهيرات الذهب تتلألأ فيها أوراق الموت. الشجر واقف في صبر الحمير، بلا أحلام. شيء من الديناصور هاجع في عيون العصافير اللاهثة. ذائبة هي في بؤرةِ الآن. لا يعنيها إن كانت يوماً ديناصوراً أو أنها سوف، في عصر سحيق لاحق، تصير نملاً أو ذباباً أو شجراً. عكس الشجر الصابر، لا صبر لدى العصافير. التهام لحيظات عمرها البارق عملُها المقدس. سرٌ بين هذه الشحارير والشجر، كما بين الأرض وربّتها الشمس!
منظر نهر صبغه بالرمادي الشفق. يحمل اللون المنعكس ويسير إلى ليل البحر أو إلى بحر الليل. شجر متكوّر على ذاته كنورس واقف على رجل واحدة. الأفق شريط هامد كميّت. مركب وحيد ساكن في عطلته (الأحد). أيام شغله يحمل البعض من ضفة إلى أخرى. في مركبِ ذاتي يوماً، سوف أعبر إلى الضفة الأخرى. ماذا عن المنظر هناك؟ اللون، البحر، الشجر، الليل؟ وهل الأفق هناك مثل الذي هنا: شريط هامد كميت؟
ظهيرة الشوارع تذوب في الهجير كالشمع. ظلال الماشين بقعة دائخة تحت أرجلهم. راكباً دراجتي منتظراً أخضر المرور. في طرفة، عين نزع الواقع ملابسه واتشح بمآزر عصور غبرت: أسواق إغريقية فينيق رومان سومر سدوم... غاصت اللحظة وطفا ماضيها المخلوط بالجهات والسلالات. كنت الوحيد العاري من المكان والزمن.
تاريخ نفحٌ من سحاب متوهج البياض تحت سماء تركوازية فاتحة. نسيم، وشجر مطليّ بالشمس ونهر من وجوه انحدرت من كل جغرافيا الأرض. تختلط اللغات في الهواء، تتداخل الأجساد في الأثير، يتجمد الشجر في الصور التذكارية، يتبخر النهر في السحاب في الزمن.
لوحة ذهب إلى السوق يرى اللوحات في الدكاكين. في الباحة، خرجت شمس نادرة السماء ذاب فيها منتشيا بسجائره وعلبة البيرة. انسكبت منه أو فيه المقاطع والأفكار واللغة. نسي ما جاء من أجله وسكن في الشمس وظل المقاطع. لماذا يسجن نفسه في غرفة تدّعي الفن أو تبرر جدرانها به؟ أليست الشمس والسماء وظلال العابرين واللغط والغياب لوحات؟
بالونة في أشيائه الكبرى هو أكثر الأشخاص انفتاحا ومرحا. لكنه، في أصغر الأمور، يتحول صندوقاً معتماُ ينطوي على شراسة ضد نفسه ذاتها. كلما كبُرت الأشياء، خرجت من حيز الذات إلى بالونة العالم، وكلما صغُرت، انجذبت بكثافة انضغاطها لترسخ في الداخل. المفارقة تكمن في أن خليّة الداخل ترى بالونة العالم الضخمة من جلدها الخارجي ضئيلة. في حين تنظر نفسَها من قلب النواة هائلة. يوماً سوف تفقأ إبرة ثالمة نواة الخلية، وتبقى بالونة العالم منفوخة بهواء العدم.
حائط جالساً في هامش السوق السنوي تذكّرتها. لحظةً ورأيتها أمامي، تمر بعرجِ من وقع من على سلم ربما. يا لخلايا البصر الاستباقية الغامضة! قبل أربع سنوات، كان عريها ملتصقا في عريي، همسها، مخاوفها التي تكهربها الأحلام، دفقها، جنون شبقها، توابل ألفاظها الإباحية... مذّاك، ومن دون أن أفهم، نصبت حائطاً بيننا كما الزجاج، كأن شيئا انكسر. إن فهمت هذا يوماً، لن أفهم كيف أو لماذا يحضر الطيف في الروح قبل الجسد في عين الواقع! وماذا عن الحائط الزجاجي؟
غبار كان الوقت عصراً حين تمغنط الميدان بروحٍ نوّمت كل من وما فيه: الناس والبيوت والسيارات والطير والشجر... خلع الجميع ثيابهم قطعةً قطعةً، ثم نزعوا شعورهم وكأنها باروكات، فجلودَهم فلحمَهم والأليافَ حتى صاروا هياكل عظمٍ شاحبة البياض. المباني غاصت كوماتٍ في الأرض كأن أخاديدَ انشقّت من تحتها. الشجر تجرّد من أوراقه، والطيور من ريشها وغشائها اللحمي. السيارات وأعمدة الإنارة سال رصاصها وصفائحها إلى أكوام صدأ... وبدأ رقص الهياكل. رقصوا، فرادى ومعاً. وسرعان ما اكتشفوا ألاّ جاذبية للأرض من تحتهم، فتقافزوا بالرقص في الفراغ. لم يك من صوتٍ سوى حفيفٍ كدوّامات أوراق الخريف وخبْط العظام في العظام. كلما اصطدمت الهياكل بعضها في البعض، تناثرت أطرافها وتطايرت في الجو. امتلأ الفضاء بالجماجم والزنود وأقفاص الصدر والسيقان والضلوع والأمشاط والأصابع السابحة كما الأوراق والغبار في الريح.
إطار بالسبابتين والإبهام، عملت إطاراً أحبس فيه المنظر من ركن الحديقة بعين واحدة. لوحة بلا فرشاة: المستوى الأول: جذع شجرة لحاؤها تقشّف بالرمادي. المستوى الثاني: سجادة العشب عليها نثار بشرٍ هم أيّ بشر. المستوى الثالث: صف من أشجار الربيع امتد كشريط جبلي تبرقش بالكهوف والتجاويف وتكلسات الزمن. المستوى الرابع: سطح قوطي تآكلت قراميده، ساكن في شريط من سماء بيضاء هي المستوى الأخير الذي يشرب من حليبه المنظر. فتحت أصابعي والعين فتبدد المنظر في التفاصيل المحيطة.
يوسف ليمود النهار اللبنانية
#يوسف_ليمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وجوه بالدم المتجمد لمارك كوين
-
مقاطع في حيّز العابر (3)
-
بعد أربعين عاما على غيابه، طيف رمسيس يونان يزور القاهرة في م
...
-
ملاكمة بقفازات الفن
-
القيامة في فوتوغرافيا اندرياس جورسكي ومعرضه من جناح طائرة
-
مقاطع في حيّز العابر (2)
-
Art | Basel | 40
-
مخلوقات البيرتو جياكوميتي بين رؤيا الفناء والانتحار البطيء
-
الفنان الألماني ميخائيل بوته .. بورتريه عن قرب
-
مقاطع في حيّز العابر
-
صلاح بطرس .. منحوتات تستنقذ ما يتلاشى من روح مصر
-
ليذهب فان جوخ إلى الجحيم
-
سحرية الصورة في أفريقيا، أوقيانوسيا، والفن الحديث
-
-بالصدفة، نثر الفصول- لاحساين بنزبير .. ذلك الثقب في اللسان
-
كيكي سميث .. الجسد بين الهنا والهناك
-
فرنشيسكا وودمان .. امتدادات الدادائية وظل الموت المراهق
-
بالتوس .. مئة عام وعام بين الاغتراب والزمن
-
إيف كلاين .. أجساده الفراغية وثورته الزرقاء
-
مقدمة عن الجسد في الفن
-
الجانب المعتم - رغبة الفوتوغرافيا وفوتوغرافيا الرغبة
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|