جمال محمد ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 850 - 2004 / 5 / 31 - 08:10
المحور:
الادب والفن
الفصل الرابع. .
و خرجنا من القاهرة ، في لحظة من لحظات التاريخ العربي النادرة ، حيث أن لمصر التي نغادرها الآن ، موقعا هو موقع الأبوة للعمل العربي المشترك و الوحدة العربية و التكامل العربي و الدفاع المشترك . . إلى آخر شعارات المرحلة التي كنا نمضغ حروفها مضغا رتيبا ، مضغ اليمني القح لأوراق القات ، لنسقط عميقا في غيبوبة من الحركة و الدوران الأجوف ، مثل الجمل الذي يدور في معصرة الزيت ، معصوب العينين . للزمن العربي منطقه الفريد . . في الجامعة العربية ، أتيح لنا أن نلحظ عن قرب دوران عقرب الثواني ، عكس اتجاه عقرب الدقائق ، و عقرب الساعة في محله يسير . و لكن برغم كل شيء ، فقد كان قرار تجميد عضوية مصر في جلسة الوزراء العرب ، قرارا عسيرا ، أشبه بمؤامرة اتفاق الأبناء لخلع الأب ، الذي لم يعد قيما بمسئولية على ما يملك . في إحدى الجلسات الشهيرة ، إعترى ممثلي دول مهمة ، اضطراب بين . . فيهم من غاب عن الجلسات ، و فيهم من آثر إرسال مندوبين عنه ، صغار الوزن ، غير مفوضين ، و منهم من آثر الإنسحاب خجلا إلى دورة المياه ، لحظة التصويت الحاسمة . قال صحفيون مناكيد ، أن طابورا طويلا كاد أن يتشكل عند المدخل المفضي إلى دورات المياه ذلك اليوم . .
بقيت مصر في مقر الجامعة العربية التاريخي . .
و خرجنا نحن بأمتعتنا و أوراقنا و ملفاتنا ، بل و ذكرياتنا جميعها ، و ما كان بمقدورنا أن نصحب معنا ، القاهرة التي أحببنا . . ما كان بمقدورنا أن نصحب معنا أحياء القاهرة العليا و الدنيا ، شرقيها و غربيها ، أسواقها .. كورنيشها . . جسورها . . معابدها و مساجدها ، تلك التي زرناها . . تلك التي صلينا تحت قبابها ، و الحواري الضيقة التي آوينا إليها في ليال باردة ، و المقاهي التي احتضنت سهراتنا حتى ساعات الفجر الأولى ، و ملأنا جنباتها بالضحك و القفشات ، بالغناء و الطرب الحقيقي ، و أشعار اليساريين الحانقة على جرأة "السادات" ، ثم سخريتهم البالغة من كل شيء عربي . .
لم يكن بمقدوري – من بين كافة البشر – أن أصحب صديقتي فاطمة معي إلى تونس . . تلكم كانت كارثتي الشخصية ، و محنتي التي حاصرتني ، ووطنت حزنا بداخلي ، لا حدود له . ما كان ممكنا ، لمواطني بلد المقر ، الخروج إلى تونس . . . .
كانت ليلة وداعي لها قاتمة ، سوداء . .
رأيتها كما لم أرها من قبل . قلت لها أن نذهب بعيدا . . بعيدا عن مقهى "فانتازي" الحبيب . هنا نبض الذكريات . هنا خبأنا همهماتنا . هنا دفنت فاطمة تنهداتها طويلا تحت عبي . هنا ، عند "فانتازي" ، شربنا حتى الثمالة ، و انتشت أحلامنا و خيالاتنا ، إلى سموات بعيدة ، و أرض شاسعة مخضرة بفرح طفولي ، نعمنا به زمانا ، و كان ظني و ظنها ، أن الدوام للفرح ، وأن البقاء الأوحد هو للحب ، ولمسة الصداقة الحقة . وا لهفتاه على ضحكة لم تكتمل ، و نظرة لم تبلغ مداها ، وشهقة وقفت على الشفاه ، معلقة بين الحلق و اللسان . كلا ، لن نجلس هذه الليلة في مقهى "فانتازي" . هذا مكان ممتليء بفرح العشاق ، و يخلو من بكاء المودعين ، و قد حانت لحظة أن أقول لفاطمتي هذه الكلمة القاسية : وداعا . . .
أين أجد الفرصة لأستجمع شجاعتي ، و أزجر دمعي ، ثم أتورد حبا حقيقيا ، هذه الليلة القاتمة . . ؟ قلت لها الأفضل أن نتسكع في لحظات الوداع هذي ، في الأماكن التي لم نتسكع فيها من قبل . . نجلس إلى الأشجار الوارفة ، التي لم نستظل بها من قبل . . نبلل أقدامنا بمياه النيل ، على كورنيش يتيم لم نتكيء على أسواره من قبل . . لم ننزل منه إلى النيل ، إلى الطين ، إلى القوارب الآمنة . كلا . . ليس ذلك كل شيء . . بل لمه لا نذهب ، نحن الفقراء ، للتسوق في "المول" الذي افتتح حديثا للأغنياء ، في العجوزة ، أو نجتريء بالدخول إلى فندق هيلتون المهيب ، نحتسي القهوة التي لم نتذوق نكهتها المميزة من قبل . . ؟
و لكن لم تبد فاطمة دهشة من أي نوع . قالت لي و نحن نتجول في شارع طلعت حرب و الشواربي و المحلات اللآمعة الإضاءة :
- لا أعرف ما الذي تريد . . . أهو هروب من ذكريات حلوة ، أم هي محاولة يائسة لاصطناع ذكريات جديدة . . تحملها في سنامك إلى تونس . . ؟
كنت أحس أنها أصابت كبد الحقيقة . . أتراني أهرب من ذكرياتي في القاهرة ، أم أنني أريد أن أودعها حقيقة . فقد كانت تعرف أنها لن تغادر القاهرة ، حتى قبل أن يفرض ذلك حاكم متجبر، و أنني أقف من فوق جسر، لا بد لي من عبوره ، في هذه اللحظة تحديدا ، إما إلى هذا الإتجاه أو إلى الإتجاه المعاكس . .؟ لقد فتح سؤالها الذكي ، جرحا غائرا في داخلي ، و كشف ضعفي و قلة حيلتي ، فيما انتويته تجاهها . .
لتكون آمنة معي ، فقد قاومت هي من حاصرها بالتودد الزائف ، فرددته على أعقابه في كبرياء حقيقي . تلك فاطمتي التي أعرف مقدار اعتدادها بنفسها ..تماسكها .. قوتها. . .
كنا حين نخرج سويا من بوابة مبنى الأمانة العامة ، تتبعنا العيون و الألسن ، تلسعنا بهمسات كالسياط . كانت سمرة لوني وبياض بشرتها ، مما يثير حفيظة بعض هذه العيون ، و بعض تلك الألسن الظالمة . يختبيء الكلام القبيح خلف النظرات المريبة . كانت حساسيتي في هذه الناحية مفرطة ، أول أيام التحاقي بالجامعة العربية . لقد اشتبكت في عراك غير مجد ، مرتين ، حول فاطمة سالم . قال أصدقائي أنني أحمق لا غير . خذ فتاتك بعيدا وانطلق . . لا تعر نظراتهم أدنى اهتمام . كان سعدون ، أول من ناصرني ، حين ربط القدر بيني و بينها . شد من أزري . حارب معي ، أيامي الأولى تلك ، و أسكتنا طواحين الهواء . . ثم انداحت دوائر الحنق ، إلى مساحات من الإنفراج الفطري ، و الإبتسام و الرضا و القبول . في خاتمة المطاف ، كسبنا سويا الجولة ، و صارت فاطمة في كنفي ، وسقطت الأصوات المناكفة ، و انفتحت أبواب العشق مشرعة أمامي . . .
الآن ، هذا تاريخ يتحول أمام ناظري ، إلى قطع من الآثار و المقتنيات العتيقة ، بعض ما يجتذب أعين السواح القادمين من وراء أسوار المستقبل ، ينظرون في ترف حقيقي ، إلى الأهرامات في الجيزة ، و إلى حبيبتي فاطمة عند مقهى "فانتازي" ، فماذا أنا فاعل . . ؟
تضاءل عشقي أمام اعتدادها بنفسها . . . حين قالت لي :
- تبا لهذا الزمن المقيت . . لقد عصفت هذه الزيارة المشئومة بأجمل ما بيننا . . !
هاهي تختلق لي عذرا ، يبعد عني الإحساس بالفقد ، الذي ما كان ينبغي أن يكون فقدا ، و الجحيم الذي ما كان ينبغي أن يكون نارا . . و من عذاب الطائرة التي ستحملني إلى تونس ، و كأني به عذاب القبر ، و ما كان ينبغي أن يكون . . تريد أن تجعل من "السادات " ، مشجبا نعلق عليه سقوطنا معا . هذا ظلم بين . إنه سقوطي أنا منفردا قبالتها ، إنه انهياري أنا ، أمام تماسكها . . إرتطامي على صخور جبالها . .
قلت لها ، و كأني في غيبوبتي مستغرق :
- لقد وقع خطأ ما ، في لحظة ما . من يشخص حالتينا يا عزيزتي ؟ أترين أننا استنفدنا كل مخزوننا ، في هذا السوق ، فأفلسنا ؟ أم أن بضاعتنا كانت فاسدة من أساسها . . . ؟
كنت أتعمد أن أسرع بخطواتي ، عن خطواتها ، بعيداعن عينيها ، بعيدا عن نظراتها المليئة بالإعتداد والتحدي . .
- لقد كان الذي بيننا صادقا . . .
- تعمدت هي الآن ، أن تحذف الموصوف من كلامها ، فغابت كلمة " الود " منه ، و تركت هذا الذي بيني وبينها ، غامضا دون تعريف ، دون هوية ، دون إسم . .
- - و هل كان الصدق كاملا . .؟
- هذه محاولة يائسة مني لإلقاء تبعات السقوط على هذه السيدة الآمنة المطمئنة ، و أنا في داخلي اهتزاز ، دونه اهتزاز المباني الشاهقات حين يرجها زلزال ، تمور بداخلي المشاعر الحبيسة ، تبحث لها عن منفذ ، عن مهرب ، عن ملاذ . . بعيدا عن قسوة الإرتطام المرير . .
- حدقت في فضاء بعيد ، و الشمس في اصفرار مهيب لحظة المغيب ، و لم ترد هي على سؤالي بصورة مباشرة ، بل واصلت تحديقها . . تتأمل في النيل يجري ، منسابا أمامنا في هدؤ و دعة . ذلك كان ردها علي . . رأيته مكتوبا في عينيها اللتين اغرورقتا بدمع ، تلألأ كحبات الطل على صفحة ورقة ورد . لقد كان دمعها ، صادقا ممضا ، وهو يتحدر على خدها الأسيل ، وأنا يقتلني ضعفي و تحاصرني حيرتي ، و خواء سؤالي الذي بقي بلا معنى ، معلقا بين دمعتين .
- - لست مرتابا يا فاطمة من صدق عاطفتك . . ما قصدت-------------
- لم تدعني أكمل ، بل عاجلتني :
- - كلا . ! لا تزد . لعلنا سويا أخفقنا في دفع الذي بيننا ، إلى آفاق أرحب من التآلف الإيجابي الفاعل ، و ربما لم أقدر جيدا ، وضعك و خلفيتك . . ظروفك العامة ، كونك سوداني ، من بلد آخر و ثقافة أخرى . . وأنا بالنسبة لك ، كائن من فضاء آخر . . !
- قلت لها على الفور ، وكنت أدرك أنني ربما أردد أكذوبة :
- - النيل الذي بيننا ، كاف لتحديد هويتنا المشتركة . . !
- - نعم . . أحس بذلك أحيانا . . و يخالجني بعض ظن ، في أن الذي بيني وبينك ، هو من عينة الذي بين الدول الأعضاء في الجامعة العربية : بعضه شعارات ، و بعضه الآخر أماني ، ما أفلحنا في ترجمتها إلى تآلف إيجابي فاعل . .
- - هذا مرض عربي عضال أصاب أحاسيسنا يا عزيزتي . . هذه عدوى المكان الذي نعمل فيه . . !
- و هكذا هربت من ضعفي ، إلى التفلسف حول و ضع الجامعة العربية . . .
- - حقيقة يا عزيزتي ، فاجأني قرار الرحيل إلى تونس . . .
- - إن خروج الجامعة من القاهرة ، جرح يغور في النفس . . خاصة بالنسبة لي أنا كمصرية . .
- - برغم كل شيء ، فإن خروجنا من بيت الأب ، يخلف في دواخلنا إحساسا عارما باليتم ، خاصة أنا و أنت . لا أتحدث عن الحكومات و مواقفها . . حكومة بلادي كما تعلمين تتعاطف مع حكومة مصر ، غير أني أتحدث عن عاطفة حقيقية تجري في شراييننا . .
- كنت أعرف ، كم أنا عاجز عن التعبير بصدق عن حقيقة مشاعري ، ربما لأسباب لا أكاد أستبينها ، و ربما لأسباب تتصل بجنوحي للإستقلال و الميل إلى عدم التورط في علاقات تزيد حياتي تعقيدا ، أكثر مما هو عليه حالها الآن .
- تلك الليلة ، كانت ليلتي الأخيرة في قاهرتي الفاطمية . قال لي صديقي سعدون هازئا كعادته :
- - إن لك ملفا خلفته وراءك ، له خصوصيته ، دون كافة الملفات السياسية التي أخذتها معك إلى تونس : فاطمة سالم . . !
- نعم ، خلفته ورائي . . نعم ، خلفت جرحا نازفا . .
- وخرجت من القاهرة ، خروج الجندي المقاتل من ساحات الوغى ، خروجا بلا مبررات ، بلا حيثيات . . .
#جمال_محمد_ابراهيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟