|
الفصل 2 من رواية حفريات على جدار القلب
حبيب هنا
الحوار المتمدن-العدد: 2796 - 2009 / 10 / 11 - 15:45
المحور:
الادب والفن
ـ 2 ـ
هزتني ضحكة أنثوية عندما بدأت هبوط السلم .. سمعتها خلفي قبل أن أصل إلى المنعطف .. وكانت المحاضرة في غاية البساطة ، خرج جميع الطلبة من القاعة مسرورين ، مندهشين للأسلوب الذي استخدمه د. غالي ، فيه من التشويق وتوصيل المعلومة أكثر مما تصورنا ، وكانت المحاضرة الأولى له بعد أن حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة عين شمس . هبطْتُ الدرجة الأولى بعد المنعطف .. عدد من الطالبات يقفن على الجانبين .. وعندما صرت بينهما أخذن بالضحك والهمس .. توقفت بينهن ومسحت وجوههن بالتوالي ثم هبطت درجة أخرى .. جاء تعليق طالبة خلفي مباغتاً ، ولكنه لم يخدش كبريائي : لم تعجبه واحدة منكن ..هبطتُ درجة إضافية دونما إعارتهن أدنى اهتمام .. علقت طالبة أخرى : لا يفكر بغير ميسون . توقفت .. نظرت إليهن بتفرس، قلت : ليس فيكن من هي أجمل منها .. فهي في غاية الفتنة .. بريق عينيها النضرة يشدني بجنون .. خصلة الشعر فوق الجبهة تزين جمالها كالطاووس .. عذوبة ابتسامتها عندما تداعب زميلاتها تضفي عليها الاتزان .. سلوكها المنضبط وغير المستهتر يجعلها مكتملة الأخلاق والجمال.. هبطت .. سمعت تصفيقاً ثم تعليقاً : شكرًا على هذه المحاضرة ! وعند الباب الخارجي قابلتني ميسون ، سألت : ـ ما بك ؟ ـ لا شيء .. ـ شكلك يدل على أنك تشاجرت مع أحد ! ـ لا عليك ، إنني ذاهب ( للكافتيريا ) ـ حسنًا ، انتظرني سأعود فوراً ..
أرصفة مزدحمة ، على الضفتين ، بالطلاب والطالبات لحظة الخروج من الجامعة .. نهر بشري منبعه بحيرة الجامعات وفروعه تصب في قلوب الحيارى والمستهترين وطلاب العلم ولو كان في الصين .. المتنزه ممتلئ بالمتسكعين ، والسيارات ، والأكشاك ، والباعة المتجولين ، والذين ضاقت بهم الدنيا فوجدوا متنفساً يروحون فيه عن أنفسهم بمراقبة الهمسات ، والضحك الصاخب ، والمواعيد التي تحدد بين كل شخصين .. سيارات تذهب ، وأخرى تأتي ، الخصوصي منها والعمومي ، في حالة فوضى توشك أن تعرض حياة البعض للخطر .. شرطي المرور ينتصب بالقرب من الإشارة الضوئية لا يكف عن الصفير من شدة حرارة الشمس ، يضيق ذرعًا بالسائقين ، ويحرر مخالفة سير لهذا ، ويترك ذاك في حركة دءوبة لا يمنعه عن مواصلتها سوى صراخ سيارات الأمن ، أو الإسعاف من أجل إخلاء الطريق .. انتقلت إلى الضفة الأخرى كي أستقل سيارة جاعلاً من الكتب الجامعية حاجزًا يحجب عن وجهي أشعة الشمس الحارقة .. أركب في المقعد الأمامي بجوار السائق .. أستعيد ملامح ميسون كلها في لحظة تأمل من الزوايا المختلفة .. أحدد تضاريس وجهها بعد أن يتسلل إلى عقلي .. أعكف على تفسير مشاعر تفاصيلها متوهجة ترجمتها العيون عند التقاطع بالعيون .. كلمات تفوهنا بها تتوارد على عقلي ، أفكك رموزها وأحاول من جديد تركيبها.. تـيار جارف يأخذني فأشتـم نكهة اللحظات التي كان يمتزج فيها ( الأنا بالهي ) فنصير كتلة واحدة .. أصل إلى البيت متوتراً ، مهموماً يصعب الحديث معي .. أجلس أمام رقعة الشطرنج بعد تناول طعام الغداء .. يستغرقني التفكير وضربات حوافر الخيل ، خوذة أحد الجنود تدوسها الأقدام في أرض المعركة .. ألاعب نفسي دورًا بعد آخر .. أنهض متهدل الملامح وأغسل وجهي بالماء والصابون .. لزوجة العرق تنتقل إلى ملابسي .. أنفض الغبار والخمول عن روحي .. أكتشف أنني هازم ومهزوم بين الأبيض والأسود بينما يبقى الملوك في مواقعهم يحيطهم المستشارون والحراس والجند المدججون بأنواع السلاح المختلفة .. أنفض عن نفسي تعاريج وهمية كانت ما تزال عالقة بي جراء احتقان الشرايين والحالة العصبية التي وصلت إليها .. أتساءل: هل لأنني لم أر ميسون اليوم ولم تصافح عيني صفحة وجهها ؟ أتذكر كيف راودنا الزمن وتوقفنا عند مشارف حدود الانبهار ، نصوغ رؤيتنا بما يتناسب وطموحنا الآتي ، تدهشنا الفرحة الأولى وحلاوة الاكتشاف ، ثم نتساءل دون أن تشي الموجودات بما يدور في أنفسنا : هل ما زلنا نتذكر أول لقاء كان بيننا ؟ العيون تنغرس في العيون .. تبحث عن المخبوء في عبق الحضور حتى لا يلاحظ أحد ما أزمعنا عليه كي يتجدد اللقاء .. ومثل لحظة تفصل بين تعالي أمواج البحر وصخبه ، وبين الهدوء والرتابة التي تعقبها مباشرة ، كانت حالتي النفسية والعصبية ، ثم رميت بالهموم من وراء ظهري وبدأت العد متجاوزًا العشرة التي أوصاني بها " علي " .. ربما أسباب طارئة حالت دون حضورها اليوم ! نسير في خطوط لولبية ، متعرجة ، على حواف الزمن .. نلتقي في المساء مصادفة في المتنزه العام أمام الجندي المجهول.. اكتشف أنها كانت قبالتي تماماً ، ولكن لم أميزها .. أتساءل : أين عقلي غائب ؟ قبل لحظات كنت أتجول في المكان كله ، أنظر إلى الأركان المختلفة كي يقع نظري عليها ، وعندما جلست أراها تجلس قبالتي ..كيف لم أميز عنقها الممشوق ، وطولها الممدود ، ونحافة خصرها الذي لا يوجد على سواها .. أنظر إليها .. تبادلني النظر وتصلني الشحنة .. أبتسم لها وتبتسم لي .. تنهض من مكانها وتقترب مني تسلم عليّ وتقول : لابد أن تتعرف على أختي .. أصافحها بمشاعر باردة ، تقول : ـ لقد حدثتني ميسون عنك كثيراً ، وتمنيت أن أراك .. صمتت لحظة ، ثم أضافت وهي تنهض : ـ سأحضر لكما عصيرًا على حسابي . هوّمنا بما فيه الكفاية ثم بدأنا نراوغ .. أخذتني في عينيها فغرقت بين أمواج الدموع .. حدثتني عن السبب الذي حال دون قدومها للجامعة فغفرت لها . الأضواء تنبعث من مختلف الأنحاء .. تتناثر شظاياها فوق أفق أحلامنا .. ومضات سريعة خاطفة تظهر ملامح الوجوه مع انبعاث الشعاع ، ثم تعم العتمة الشاعرية مجددًا فلا تظهر منا سوى العيون التي تلتمع على إيقاع أنغام حواسنا .. ترنو بعينيها بعيدًا ، وتمر لحظات صمت يعقبها تقاطع العيون .. تزحف يدي على الطاولة الصخرية وتتلامس الأصابع .. تسرى في الجسد الشحنة .. تسحب يدها وتقول : ـ عندما أكون وحدي في هذا المكان أتذكرك من فوري . أكبح اندفاعي بقوة ، أقول : ـ في كل مرة نفترق فيها تعيشين معي بين الأسطر في الكتاب الذي أقرؤه ، ومع كل كلمة أكتبها استعدادًا للامتحان في اليوم المقبل .. ويجرفنا الشوق في تلك اللحظات ، غير أن مجيء فاطمة بالعصير يفسد المتعة وينزعني منها .. أتساءل في سري : لماذا في هذا الوقت بالذات ؟ أشيح بوجهي وألتزم الصمت .. أرقب وجوهاً تراكم عليها غبار التجاعيد تمر من أمامي .. تنكشف مساحات للرؤى تضيق وتتسع تباعًا مع حركة الرءوس التي تتماوج مشرئبة بغية الحصول على أكبر قدر ممكن من تفاصيل ما يدور بين المشاة الذين يستهويهم الحديث بصوت مرتفع .. قبل لحظة كان انشداد كل منا للآخر والاندفاع المتوهج نحوه يخفي معظم العيوب ويزيل ترسبات أي خطأ من النفوس ، وعندما جاءت فاطمة أطبق الصمت بفكيه على حضورنا ، لقد جفت ينابيع الكلام وتصحرت دروب مروره !
#حبيب_هنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل 1 من رواية حفريات على جدار القلب
-
الفصل 15 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 14 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 13 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 12 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 11 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 10 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 8 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 7 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 6 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 5 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 4 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 3 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
-
الفصل 2 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ...
-
الإنتفاضة العشيقة الزوجة ...رواية
-
مازال المسيح مصلوبا فصل :9_10
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 16
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 15
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 14
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 13
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|