|
بعيدا عن الحضارة الورقية
خالد إبراهيم المحجوبي
الحوار المتمدن-العدد: 2795 - 2009 / 10 / 10 - 00:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن المعاجم العربية تظل عاجزة عن تقديم تعريف مقارب لحقيقةالحضارة بوصفها مفهوما اجتماعيا وعمرانيا . وغاية ما تمدنا به تلك المعاجم هو أن تخبرنا أن الحضر خلاف البدو ، والحاضر خلاف البادي، والحضارة (بالكسر )هي الإقامة في الحضر.(1) إن معيار تحقيق الحضارة التي أعنيها هو تحقيق الحضور المؤثر الفاعل على مساحة العالم . وكذلك النهوض العلمي والفكري ، والإبداعي نحو مآل خلاق مؤثر. فبدون وجودعنصري الرقي الاجتماعي بمظاهره ، ثم الرقي العلمي بصوره لا تتحقق حضارة حقيقية. يعرف بعض الــدارسين الحضارةبأنها ((ظاهرة اجتماعية تتبلور في نظم محكمة وآثار ماثلة))(2) . نجد عندابن خلدون أن الحضارة غاية العمران والعمران طليعة المدنية(3) والمدنية والعمران كلاهما من مظاهر الحضارة الكاملة. مصطلح الحضارة انتابته تشويهات مفهومية ناتجة عن الخلط بينه وبين بعض المفاهيم الأخرى التي تآصرت معه ببعض الخصائص المشتركة ، كما هوالحال في مصطلح الثقافة ، والنهضة ، والتقدم والمدنية .(4) ومن أشهر التعاريف التي أصابها الخلطوالتشويه غير المدقق تعريف الأنثروبولوجي الإنجليزي (تايلور) حين قال((هي الكل المعقدالذي يتضمن المعرفة ، والعقيدة والفن والأخلاق ، والقانون ، والتقاليد ، وكل القدرات التي يكتسبها الإنسان ، بوصفه عضوا في مجتمع)) (5) وليقترب كلامنا هنا إلى الدقة أكثر سأعمل بإيجاز على تحديد المفهوم المناسب والمطابق حقاً لمصطلح الحضارة ، كما أراها مع التسليم أولا بأنها قبل كل شيء ظاهرة اجتماعية. إن مصطلح الحضارة في الاستعمال الحديث لا يرادف ماأراده ابن خلدون منه حين ذهب إلى أن الحضارة ((غاية العمران، ونهاية لعمره ، ومؤدية لفساده[وأنها محصورة في ]التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه))(6) يسنح في هذا الكلام بوضوح أن ابن خلدون قد فشل في وضع تعريف مناسب للحضارة ، بل إنه لم يقدم حتى تعريفا مقاربا لحقيقتها ، حيث اكتفى بذكر عرض وملمح جزئي غير عام من ملامح التطور المدني والنمو العمراني، وهو ملمح الترف الكمالى اللصيق بالتقدم البالغ في وسائل المدنية وآلاتها . إن ما ذهب إليه ابن خلدون مطابق لمن يعرف الحضارة في عصرنا بأنها الترف التكنولوجي لا أكثر، وظاهر ما يحمله هذا التصورمن تسطيح واختصار عائل. إذا ما توجهنا إلى الوضع الحضاري للأمةالعربية الإسلامية فسيكون من المناسب بدء الكلام بذكر هذه المسلّمات التالية : مسلمة أولى = إن الأمة العربية(الإسلامية) كانت قد حققت إقامة حضارة مؤثرة سادت العالم وأثرت في كل أجنابه. مسلّمة ثانية : إن هذه الأمة نفسها قد فشلت في حفظ أمانة أسلافها أرباب حضارتها . مسلمة ثالثة : إن ذاك الفشل أفقدها معالم حضارتها ووهج تأثيرها . مسلمة رابعة :إن هذه الأمة صارت بلا حضارة واقعية ، ولم تعد تمتلك إلا حضارة على الورق.يجتر ذكرياتها الخلف ، ولا يسأمون من الاجترار. مسلمة خامسة: ليس من المستحيل أن تبني حضارة جديدة ؛ لأن التاريخ خضع لحقيقة مفادها أن :لا مستحيل تحت الشمس. إن كل من كان واقعيا نجده يسلّم بأن العرب مفتقدون لحضارة معاصرة ، بل إن الأمر أنكى من ذلك وأمر ، لكونهم مفتقدين ما يمكن أن يكون مشروعا لحضارة ذات قيمة مؤثرة. إن المنطق يوجب علينا أن نفكر في استراتيجية نخلقها في الطريق إلى الحضارة المزمع إنشاؤها . فمن الجهالة السعي لحضارة قبل وضع مشروع يوصل إليها ، كما أن من الغفلة محاولة وضع ذلك المشروع قبل تحديد موانع ومثبطات نشوئه ، ومباعث تأخر ظهوره إلى هذا الزمن المتأخر في عمر التاريخ. الأركان النهضوية للحضارة: إ ن الوضع النهضوي للأمة ليس رهنا بوصف محدد أو نعت معين معمم ، فذلك أمر منوط بتحديد المستوى النهضوي المرادبيان وضعه وحاله ، ولبيان هذا القول أذكّر وأنبه إلى أن النهضة الحضارية مكونة بجملتها من مجموعة مستويات تمثل أركانها القائمة عليها ، إن أهم تلك(المستويات -الأركان) هي التالية : 1- -الركن العلمي : الذي تقوم عليه النهضة العلمية 2- الركن الفكري :الذي تتأسس على قاعدته النهضة الفكرية للأمة . إن هذا الركن يشمل تخصصات كثيرة تحتضن ثمار الفعل التفكيري لصفوة صناع الحضارة ، فيدخل تحته الفكر الاقتصادي ، والفكر السياسي، والفكر الأخلاقي، والفكر الاجتماعي ، والفكر الديني 3- الركن الإبداعي : وهو أكثر الأركان تشعبا وألصقها بحياة عوام الأمة ، فضلا عن خواصها .وهذا الركن ينشعب إلى فروع كثيرة أهمها : الإبداع المعماري ، الإبداع الكتابي بكل أجناسه سواء الشعر ، أو القصة ، أو الرواية ، الإبداع الفني : أعني هنا بالفني معناه الضيق العامي ، المنحصر في صوره الشائعة مثل: الرسم والموسيقى ، والتمثيل(التشخيص) .ونحو ذلك مما اصطلح على تسميته بالفن. 4-الركن الاجتماعي : وهو ماثل في تحقق وجود أنساني جمعي وجغرافي على نحو مباين للوجود البدوي ، يباينه في أطرقة العيش اليومي للفرد والمجتمع ، وكذا يخالفه في إستراتيجيات العيش على المدى الطويل ، كذلك يخالفه في القسمات العامة للشخصية الفردية والمجتمعية في ظل العمران والمدنية . إننا سنكون بعداء عن الدقة لو أطلقنا حكماً واحدا عاما شاملا لكل أركان النهضة لأن الرويّة الٍحِكمية توجب أن نفرد كل ركن بحكم خاص به ، يدل إلى حقيقة حاله ، وواقع وضعه . إنني هنا لا أشتهي ا لوقوف موقف القاضي والحاكم ، بيد أني عاجز عن كبت شعوري بالخيبة والحسرة أمام الحالة التي يكتسيها الركن العلمي الذي نفترض أن يكون محلا لنهضة علمية إن هذا الركن بالذات هو قطب الرحى لكل حضارة ، فهو عصب قوتها ؛ إنه قادر على إقامة حضارة قوية ، حتى إنها لو افتقدت بقية الأركان فستظل حضارة عرجاء على الأقل ، وذلك لا يقتضي زوالها ، إنما حسبه أن يؤذن بضعفها ، والحال سيكون مختلفاً إذا ما انتعشت بقية الأركان في غيبة الحضور المؤثر للركن العلمي فذلك طور لا يجاوز كونه شبحا لحضارة موهومة ،وهذا تحديدا ما يعيشه العالم العربي الذي لا يزال منذ ثمانية قرون مضيعاً لحضارة كانت ، وقوة هانت.
عوائق مشروعنا الحضاري : لقد انطوى واقعنا التاريخي والاجتماعي على كثير من العوائق التي لا تزال تعمل بجد ، قائمة بوظيفة المعيق والمثبط ، لكل أمل في انتشاء مشروع يشرع الباب أمام صناعة حضارة واقعيةللأمة .وهنا يمكن تحديد تلك العوائق المثبطة ، التي أراها منحصرة في ما يلي :
أولاً-تهميش أصحاب الكفاءة المؤهلين لاصطناع ذلك المشروع المأمول ، إن هذ ا الواقع هو الذي خلق ظاهرة هجرة العقول ، وأدى إلىاستـنـزاف الكفاءات والطاقات التي تشكل المادة الخام لصناعة حضارة واقعية. ثانياً- الغفلة عن مدى الجدوى التي ينطوي عليها اصطناع مشروع حضاري تنشأ على قواعده حضارة واقعية ، غير ورقية . رابعاً- ترك العمل على تأهيل وتجهيز العناصر البشرية للوصول بها إلى مرحلة الكفاءة المؤهلة إياهم إلى اصطناع المشروع المأمول في نهج إنشاء حضارة حقيقية. يجيء هذا الإهمال متوجا للتوجه الذي عم العالم الرابع(*) حيث لا يلتفت إلى واجب وفضيلة التنمية البشرية ، وحيث لا يصل الإنسان إلى درجة تجعله مستحقا للتنمية أصلا ، في غفلة مخجلة عن حقيقة تاريخية تقول إن الإنسان هو رب التنمية وصانعها ، فكيف يكون الحال حين يصير صانع التنمية غير نامٍ. للإجابة عن هذا لسؤال تكفي نظرة واحدة إلى العالم الرابع وبيئته ، حيث تشكل دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مركزا محوريا للعالم الرابع وهو بوضعه الحالي الأعلى في نسبة الزيادة السكانية ، وهو الأعلى أيضا من جهة نقص المياه ، وعدد من أساسيات الموارد الطبيعية ، وفيه يعيش ثلث السكان ، و70% من فقرائه وسط منظومات بيئية سكانية وصفها تقرير البنك الدولي بأنها ((منظومات بيئية هشة)) (7) . وهذا مما يفسر اطّرادية (النشاط الفراري) ، أعني به النزيف البشري الذي تمثله الهجرات المتواصلة للمواطن من عالمه العربي والإسلامي ؛ طالبا أوضاعا اقتصادية أفضل ، وحياة إنسانية أكرم ، إلى أوربا وأستراليا خاصة . رابعاً- صرف الطاقات إلى وجهات غاير ذات جدوى حضارية . وهذا ماثل في الاستراتيجيات المتبعة عند الدول العربية والإسلامية حيث يختل ميزان الأولويات إلى جهة تجعل العمل إلى مشروع حضاري عملاً كمالياً ، وجهدا ً ضائعا ً، وترفا فكريا لا يقنع المسيرين لتلكم الخطط المغلوطة ، إن من صور هدر الطاقات في غير محلها ما نلقاه في إحصائيات الميزانيات العسكرية ، من أمثلة ذلك ما نجده في الإنفاق العسكري لدول مجلس التعاون الخليجي، الذي بلغ (211)مليار دولار في سبع سنوات ، بدءً من سنة 1995 حيث كانت البداية( 7 ، 25) مليار دولار سنة 1995، ثم (38،6) ملياردولار سنة 2001، وقد فاق نصيب الأنفاق العسكري سنة 2001 (14%)من ا لناتج المحلي الإجمالي في كل من سلطنة عمان ، والسعودية ، و(12%)في الكويــــت و( 5%)في الإمارات والبحرين ، وفي مجال طلبات صفقات الأسلحة مابين سنتي 1994إلى 2001 ، كانت السعودية هي الأولى برقم (65مليار دولار) (9). خامساً- إهمال التآصر الداخلي وسط بنية الأمة العربية والإسلامية ، مع اتساع الفجوات والتصدعات بين كياناتها الداخلية . لم تكف الفجوات الجغرافية بين دويلات الأمة ؛ فانضم إليها فجوات اقتصادية ، وثقافية ، وشعورية نفسية . لقد فشلت كل مؤهلات الربط في تحقيق شيء ملموس ، رغما عن التاريخ المشترك ، والجغرافيا المشتركة ، والدين المشترك ، واللـغة المشتركة ، والأعراق المشتركة في أغلبها . فبقي الانفراق هو السائد ، واجتناب التكامل والتعاون الحقيقي بين الأطراف. في المجال الاقتصادي -مثلا – ظلت نسبة (8%)فارضة حضورها شبه الدائم في حجم المعاملات التجارية (العربية -العربية) أو ما يسمى بالتجارة البينية(10) . سادساً- ضعف الهمم على نحو شامل ، سواء في مستوى الدول، أو مستوى الأفراد . وهذا عائق يتغذىبمرجعية عقلية تفكيرية متوجهة بالعقل الجمعي المسيّر للأمة ، حيث صارت مصابة بعدد من الأمراض المتشابهة مثل: قصر النظر ، وضيق الأفق الاستراتيجي، وغياب الأهداف المحفّزة للجهد ، ثم انعدام الجهد الذي تقتضيه جديّة تحقيق تلك الأهداف . هذا المآل الذي صارت إليه الأمة ليس يمكن علاجه إلا باجتثاث دواعيه ودوافعه على نحو جذري وشامل(راديكالي) . إن العوائق المذكورة سالفاً ، قوية في رسوخها وتمكنها ، بيد أن قوتها لا ترقى إلى قوة الإرادة الإنسانيةالتي أمكنها خلق المعجزات ، التي احتضنها التاريخ من خلال أمثلة باهرة كان أهمها نشوء الحضارة الصينية ، والحضارة الإسلامية التي أنارت العصور الوسطى ، وكذا المثال الياباني ، والألماني بعد الحرب العالمية الثانية. إن هاته الأمثلة توكد أن الإنسان هو أقوى عناصر الطبيعة ، لكن ليس في كل حال ، فالوصول إلى مرحلةبناء حضارة واقعية ، أمر يقتضي إزاحة العوائق أولاً ، ثم وضع مشروع ثانيأ ً ، ثم ستأتي الحضارة ثالثاً. أما في حال بقاء تلك المثبطات فإن أمر الوصول إلى الحضارة ، سيظل أملاً ليس لأمتنا فيه نصيب قبل يوم القيامة على الأقل. -----------------------------------------------------------------------------------د. خالد إبراهيم المحجوبي ---
#خالد_إبراهيم_المحجوبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجمال : بين خلل المعايير ، وخفاء التجليات
-
جدلية الفلسفة والدين
-
ملامح التأثير الحداثي في الفكر الديني
المزيد.....
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|