|
صرخة المونش
زكية خيرهم الشنقيطي
الحوار المتمدن-العدد: 2790 - 2009 / 10 / 5 - 18:51
المحور:
الادب والفن
التقط من بين كل تلك الأوراق المتزاحمة على المائدة تلك الورقة المنكمشة التي من المفروض أن تلقى في القمامة. فتحها محملقا بين سطورها دقائق حسبتها دهرا. سطور أعرفها كما قلمي. كلماتها تفر حينا وتركض حينا آخر وبين الإقبال والأدبار ، تتلاشى الكلمات على جسد تلك الورقة العارية في منافي من صمت وسكون.
في ذلك المكان البعيد عن كل الأوطان، وقفت تلك الكلمات عند مفترق الطرق، كما لو كانت جليدا. كلمات كانت تحلم بالمدى، شاردة، حاسرة القلب، تصطك بين جبال الموج التي تضرم فزعها الغافي وتيارات التيه تقود حروفي لتختفي في ظلام بارد كالصقيع. سواد حالك يحضن الليل وينام في زوايا السكون فاقدا كل شيء. سواد محفور في حنايا القلب، يجامل ويؤلم وينخر ويتعب وفي الظلام وشاح بكل الألوان.
هكذا كانت تلك السطور مجنونة في متاهات الشرود، تتهافت في زحمة الأفكار المنكسرة، تئن بصوت مبحوح عن المساءات الماسية، وعن ظل منكسر، ووحدة مرتجفة وعن تنهدات تبكي ألم الغموض، والصمت المتواطئ في جحود وشذوذ وفراغ. أهو الألق من القلق أو ارتباك الخوف من المجهول؟ أهو الماضي المخلوط بالحاضر ورهبة المستقبل أو سفر بين طرقات المنافي التي لا تنتهي أو فقط حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان؟
وقفت تلك الكلمات على السطور تكابد إدراك الحقيقة المسافرة في دروب لا تنتهي، متوسلة السماء أن تشفع لها. و في شرود تام خطت متتثاقلة تحتضر مسافات الصمت التي كانت بيننا، محاولة أن تتمسك بما تبقى من الأشياء. لملمت كلماتها المبعثرة في حروف هجائية في حين رفع رأسه صوبها وبابتسامة ماكرة تدفقت كبريق سرعان ما تحطم. هل أنت التي كتبت ما في السطور أو أحد أحرقت ريشته نار الألوان؟ رياح مازالت تخسف الفضاء وتتهاوى متعثرة في الأعالي لتنمو عواصف ترافقها أصوات كالرعد والموت. غربت الشمس وانقلبت السماء فجأة إلى لون أحمر، ساد صمت بيننا، كانا يتطلعان لبعضهما ويتحدثان بلغة العيون. وقفت من مكاني وتطلعت من النافدة إلى مياه البحر. رأيتها وكأن مياهها تحولت إلى دماء وألسنة من لهب. مازال يتحدثان في صمت بلغة العيون، أما أنا فمكثت مسمرة في نفس الموضع مرتعدة لما أراه من هول الطبيعة. أحسست أن صرخة أزلية كانت تلج الطبيعة بأسرها".نظرت إليه وقلت. - ومن سيكون؟ التفت إلى التي كانت تجلس على الأريكة، كانت تبتسم هواء وفراغا في سراب. - ناوليني ورقة وقلما نطت تلك من مكانها وناولته ورقة وقلما، التفت إلي ثم إليها وقال : - صفي لي هذه اللوحة …. ذهلت أول الأمر لهذا الطلب، ولماذا يريدني أن أصف له لوحته المعلقة في الهواء .... كيف لي وأنا لا أفقه في الفن شيئا؟ كما أن الصورة لا تحتاج إلى وصف ... فهي تعبر عن نفسها .... عن صراخها الذي يبعثر كل الفصول. يشعل الصحاري بلسعات من نيران. فحيح من لعنات أغلقت كل المسارات، هسيس نساء الهوادر يثقب السمع ، تطلق أصواتا مبحوحة بالنقيق فوق مساحات من أوهام وعبر دهاليز الخوف، تشهق دمعا وأطنانا من كآبة، تنسج للشمس حكايات مشحونة بالمسخ لتنضج عجبا وغرابة. وضعت الورقة والقلم على الطاولة، وقلت له سأرسمها لك، لكن ليس بقلم ولا ريشة، سترسمها لك كلماتي، سأصف لك لوحتك المعلقة في الفراغ. تطلعت إلى اللوحة، تأملتها طويلا، كانت هي صامتة تتخبط بين ضلوع البرق في سكون متبختر، تبحث عن وطن يأويها في هدوء مفتعل، في جلسة متشنجة أنهكها ذوبان عنيد داخل إطار من فراغ. ابتسم وقال : - أنتظر بلاغة الوصف كما الذي قرأته في ورقتك المتجعدة هذه ... - ماذا تريدني أن أصف، إنني لا أرى إلا جمجمة موت مطموسة الملامح ويدان تضغطان على الصدغين بقوة وتغطي أذنين تمارسان الشذود. وجه تشوه من شدة الخوف، ملامحه غامضة، عينان جاحظتان، خاويتان تجوبان عن سنوات يسحقها التشرد في ليال الوحدة، فم يصرخ ذبول الخريف المصفر تحت جذوة جسد مهتر من كثرة التوتر. صرخة خائفة دوت لها الصدى، وشعور بالحزن بعد فوات الأوان. صرخة عجزت عن سلب العذاب واليأس وفقدان الأمل. تعرّت كل الأشياء، وتعثرت الأزمنة المستلبة، فرقعها عويل تلك الصرخة، فتغيرت ألوان الأشياء وساد الإحمرار في الفضاء لون دماء مهدورة تفجرت على الأرصفة. أما السماء والطبيعة المحيطة والألوان الصارخة تضفي أجواء من الرعب والغرابة. توقفت عن الكلام، كان هو صامتا ينصت إلي باهتمام ، حوّلت بصري عن تلك الصورة القابعة في الفراغ وقلت : لا أدري إن كانت الصرخة من السماء أو من أعماق نفسها؟ - ربما مزيج منهما معا... - كما أنني لا أدري إن كانت الصرخة نتيجة الاحمرار في السماء أم الصرخة التي سببت ذلك الاحمرار؟ أما الرعب الذي ينفجر من عينيها، هل هو نتيجة سماع صرخة أرعبتها أم صرختها التي أرعبت المكان؟ أما الشخصان القادمان في الصورة ربما أنا وأنت ... - أنا وأنت ...؟ - لا ... لا أعتقد ذلك ... إنهما ... ليس مهما فهما ليسا موجودان هنا حاليا - ماذا تقصدين، أليس موجودان في الصورة؟ نعم إنهما في الصورة وخارج الصورة .... كما أن وجودهما سيظل خالدا كما في الصورة ... بين هذين الشخصيتين وتلك التي تصرخ في الصورة هذا الجسر المشاد فوق المياه، يفصل بينها وبينهما. حيث في الطرف الثاني من الجسر يتابعان المسير بهدوء. - آها - إلا أن الصرخة لم نعد نسمعها ولكننا نرى فقط فما مفتوحا كفم سمكة ... توقفت عن الكلام قليلا ، ثم سألته - بالمناسبة أين اختفت الصرخة؟ لم أنتظر جوابه، واصلت كلامي - الصرخة لم تختفي من هنا، أنها قابعة معلقة في زوايا جدران بيتك ... لكن خارج هذا البيت فهي قد انطفأت ولم يعد يسمع لها طنين.
كاتبة مغربية مقيمة في النرويج Khairhoum zakia www.zakianna.se [email protected]
#زكية_خيرهم_الشنقيطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منتهى الرقة
-
مسرحية محاكمة الحذاء العربي
-
استطلاع حول قضية الصحراء المغربية مع الدكتور عبد الباسط البي
...
-
صحراء جافة
-
استطلاع حول قضية الصحراء المغربية - الدكتور عبدالخالق حسين
-
ذات بدون هوية
-
قلق الرحيل
-
الصحراء الغربية مغربية الهوية
-
سيرة ذاتية عن حياة ابسن
-
قصة قصيرة: اعتذار
-
اما الكل وإما فلا
-
وردة غير كل الورود
-
مظاهرات للتضامن أم فوضى للاستنكار
-
أمل
-
قصة فصيرة
-
كنوت سيرجع
-
ثقافات بدون حدود
-
الروائية النرويجية سيغريد أوندست
-
مغربية في لبنان
-
كريستيانيا
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|