أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - حول الحكم الراشد بين الإسلام والعلمانية: قراءة في مقال















المزيد.....

حول الحكم الراشد بين الإسلام والعلمانية: قراءة في مقال


عبد القادر أنيس

الحوار المتمدن-العدد: 2790 - 2009 / 10 / 5 - 14:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أواصل في هذا المقال قراءة مقال السيد عليوة في الرابط:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=186389

وكان السيد عليوة قد اعتبر نظرية الماوردي الإسلامية أفضل ما توصل إليه البشر حول الحكم الراشد حتى الآن في قوله: ( قد سبقت نظرية العقد الإسلامية (البيعة) نظرية العقد الاجتماعي التي قال بها جون لوك وجان جاك روسو بعشرات السنين(كذا)).
إن الصورة التي يخرج بها قارئ الأحكام السلطانية للماوردي والتي أشاد بها السيد عليوة، هي صورة بعيدة جدا عن عصرنا، بل هي صورة أقرب إلى الكابوس لو أخذ بها في حياتنا الراهنة، مصطلحات الحرية والمواطنة والمساواة والعدل وحقوق الإنسان غريبة تماما عن الماوردي وكتابه وعصره.
أدعو القارئ إلى التأمل في هذه المصطلحات والتعابير، الوارد في نص الماوردي قبل قراءته: كَافِرٍ – الذِّمِّيِّ - عَبْدٍ - الْغَنِيمَةُ – أَسْرَى – َسَبْيٌ- الْقَتْلُ- الِاسْتِرْقَاقُ- الْفِدَاءُ- الْجِزْيَةِ- بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ- أَنْ يُخْفُوا دَفْنَ مَوْتَاهُمْ- أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَلَا يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِير- وَيُؤَدَّبُونَ عَلَيْهَا زَجْرًا- وَوَجَبَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا طَوْعًا أُخْرِجُوا كَرْهًا- لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَان- حُكْمُ الْمُرْتَدِّ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ إذَا لَمْ يَتُبْ.

هيا نقرأ الماوردي، وليعذرني القارئ على بعض الإطالة اقتضاها المقام:
يقول: "وَلا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى كَافِرٍ وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ دَفْعَ زَكَاةِ الْفِطْرِ خَاصَّةً إلَى الذِّمِّيِّ دُونَ الْمُعَاهَدِ وَلا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنْ أَوْسَاخِ الذُّنُوبِ وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ دَفْعَهَا إلَيْهِمْ وَلا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إلَى عَبْدٍ فَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَهِيَ أَكْثَرُ أَقْسَامًا وَأَحْكَامًا لِأَنَّهَا أَصْلٌ تَفَرَّعَ عَنْهُ الْفَيْءُ فَكَانَ حُكْمُهَا أَعَمَّ وَتَشْتَمِلُ عَلَى أَقْسَامٍ : أَسْرَى , وَسَبْيٌ , وَأَرْضِينَ , وَأَمْوَالٌ .
فَأَمَّا الْأَسْرَى فَهُمْ الْمُقَاتِلُونَ مِنْ الْكُفَّارِ إذَا ظَفَرَ الْمُسْلِمُونَ بِأَسْرِهِمْ أَحْيَاءَ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِمْ ; فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إلَى أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ مَنْ اسْتَنَابَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ إذَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فِي الْأَصْلَحِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : إمَّا الْقَتْلُ , وَإِمَّا الِاسْتِرْقَاقُ , وَإِمَّا الْفِدَاءُ بِمَالٍ أَوْ أَسْرَى , وَإِمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ . فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمْ وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي أَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَقَالَ مَالِكٌ : يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : الْقَتْلُ أَوْ الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْمُفَادَاةُ بِالرِّجَالِ دُونَ الْمَالِ , وَلَيْسَ لَهُ الْمَنُّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ الْقَتْلُ أَوْ الِاسْتِرْقَاقُ وَلَيْسَ لَهُ الْمَنُّ وَلَا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ ; وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ , قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } . وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ شَرْطَانِ : مُسْتَحَقٌّ وَمُسْتَحَبٌّ
أَمَّا الْمُسْتَحَقُّ فَسِتَّةُ شُرُوطٍ
أَحَدُهَا أَنْ لَا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَعْنٍ فِيهِ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَكْذِيبٍ لَهُ وَلَا ازْدِرَاءٍ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَذْكُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ بِذَمٍّ لَهُ وَلَا قَدْحٍ فِيهِ
وَالرَّابِعُ أَنْ لَا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًا وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ
وَالْخَامِسُ أَنْ لَا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَالِهِ وَلَا دِينِهِ
وَالسَّادِسُ أَنْ لَا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا يَوَدُّوا أَغْنِيَاءَهُمْ . فَهَذِهِ السِّتَّةُ حُقُوقٌ مُلْتَزَمَةٌ فَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ , وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إشْعَارًا لَهُمْ وَتَأْكِيدًا لِتَغْلِيظِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ .
وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهِمْ بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ .
وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَيَكُونُوا إنْ لَمْ يَنْقُصُوا مُسَاوِينَ لَهُمْ وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يُسْمِعُوهُمْ أَصْوَاتَ نَوَاقِيسِهِمْ وَلَا تِلَاوَةَ كُتُبِهِمْ وَلَا قَوْلِهِمْ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ
وَالرَّابِعُ أَنْ لَا يُجَاهِرُوهُمْ بِشُرْبِ خُمُورِهِمْ وَلَا بِإِظْهَارِ صُلْبَانِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ
وَالْخَامِسُ أَنْ يُخْفُوا دَفْنَ مَوْتَاهُمْ وَلَا يُجَاهِرُوا بِنَدْبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا نِيَاحَةٍ
وَالسَّادِسُ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عِنَاقًا وَهِجَانًا وَلَا يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ; وَهَذِهِ السِّتَّةُ الْمُسْتَحَبَّةُ لَا تَلْزَمُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ حَتَّى تُشْتَرَطَ فَتَصِيرَ بِالشَّرْطِ مُلْتَزَمَةً وَلَا يَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ , وَلَكِنْ يُؤْخَذْنَ بِهَا إجْبَارًا وَيُؤَدَّبُونَ عَلَيْهَا زَجْرًا , وَلَا يُؤَدَّبُونَ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُمْ فِي دَوَاوِينَ الْأَمْصَارِ لِيُؤْخَذُوا بِهِ إذَا تَرَكُوهُ ; فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ صُلْحًا رُبَّمَا خَالَفَ مَا سِوَاهُ
وَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَيَنْقُضُ بِهِ عَهْدَهُمْ إلَّا أَنْ يَلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ , وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ جَبْرًا كَالدُّيُونِ
وَإِذَا نَقَضَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَهْدَهُمْ لَمْ يُسْتَبَحْ بِذَلِكَ قَتْلُهُمْ وَلَا غُنْمُ أَمْوَالِهِمْ وَلَا سَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا وَوَجَبَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ آمِنِينَ حَتَّى يَلْحَقُوا مَأْمَنَهُمْ مِنْ أَدْنَى بِلَادِ الشِّرْكِ , فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا طَوْعًا أُخْرِجُوا كَرْهًا .
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : { كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ : لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } . وَأَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنْ الْحِجَازِ


ثم نواصل قراءة المقال، حيث يقول الكاتب: (وإذا كانت الدول الحديثة تعتز بأنها تلتزم بسيادة القانون أو
الدستور فإن الدولة الإسلامية تلتزم بالشرع, ولا تخرج عنه, وهو القانون الذي يلزمها العمل به والرجوع إليه, وهو قانون لم تضعه هي بل فرض عليها من سلطة أعلى منها، وبالتالي لا تستطيع أن تلغيه أو تجمده إلا إذا خرجت عن طبيعتها وأصبحت دولة غير مسلمة). انتهى.
فهل معنى هذا أن الدولة الإسلامية يجب أن تواصل العمل بشريعة الرق والسبي والذمية والبيعة كما رأيناه للتو مع الماوردي؟ ما رأي السيد عليوة؟

ويقول: (فالدولة الإسلامية دولة (دستورية) أو (شرعية) لها دستور تحتكم إليه, وقانون ترجع إليه, ودستورها يتمثل في المبادئ والأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم, وبينتها السنة النبوية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والعلاقات.. شخصية ومدنية, وجنائية وإدارية، ودستورية ودولية). انتهى
يبدو أن السيد عليوة له تصور آخر لمعنى المصطلحات التالية لا يمت بصلة للمتعارف عليه: شخصية، مدنية، دستورية...
من خلال نص الماوردي والمصطلحات التي أخرجتها من النص نكتشف كيف يمارس عليوة الحجب والانتقاء والغربلة والفرز تجاه الفكر الإسلامي، عند قراءته لموروثه الديني، يشهد على هذا ما أوردناه للماوردي الذي قوّله الكاتب ما لم يقل أصلا بل على الضد تماما. فشتان بين العقد الاجتماعي الذي طوره مفكرو أوربا التقدميون وما تمخض عنه من مواطنة وحقوق إنسان ودولة مدنية وقوانين وضعية وإبعاد الدين عن أي دور في إدارة شؤون الدول، وبين قروسطية الماوردي التي هي أقرب إلى ممارسات الكنيسة المسيحية القروسطية التي يهاجمها الكاتب ويجعلها سببا في التوجه العلماني الأوربي، فهل حلال عليهم حرام علينا؟.

وهل يمكن ألا تكون الدولة الإسلامية التي يدافع عنها الكاتب ومن أجلها كتب أحد عشر مقالا ضد العلمانية إلا دولة دينية ثيوقراطية بامتياز، وإلا ما ذا يعني قوله: (وهي ليست مختارة في الالتزام بهذا الدستور أو القانون, فهذا مقتضى إسلامها ودليل إيمانها ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ ( المائدة: من الآية 49))
بالإضافة إلى كون دولته الدينية دولة عنصرية بامتياز (ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن هكذا مقال يتناقض تماما مع أهم شروط النشر في هذا الموقع، رغم أني لا أمانع في ذلك، لأني أثق في كون أغلبية مرتاديه راشدين ملقحين majeur et vacciné، كما يقول الفرنسيون، فلنقرأ: (وإذا اختارت الدولة الإسلامية الشريعة كمرجعية قانونية ودستورية، فذاك لأنها دولة تحكم مسلمين).
أي أنه لا مكان فيها لغير المسلمين، وليظل مواطنوها غير المسلمون مبعدين مقصيين مهمشين ذميين (إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها)، بالإضافة إلى تهميش أغلبية المسلمين كما بينه واقع الحال في طول التاريخ الإسلامي وعرضه.
ثم يستنجد الكاتب، بغير حق، بمحمد عبده وينتقي له قولا لا يعبر تعبيرا حقيقيا عن فلسفة عبده الإصلاحية المبكرة. لنقرأ قول عبده كما جاء في المقال: (إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية ... التي عرفتها أوربا ... فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر ... وهي سلطة خولها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم ... والأمة هي التي تولي الحاكم ... وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة، عند المسلمين، بما يسميه الإفرنج (ثيوكرتيك)، أي سلطان إلهي ... فليس للخليفة - بل ولا للقاضي، أو المفتي، أو شيخ الإسلام- أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي ... فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه ... بل إن قلب السلطة الدينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أجَل أصول الإسلام؟!) (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ1 صـ107). انتهى
لا بد هنا أن نشير إلى أن أقوال محمد عبده لم تأت، يومئذ، في سياق الدفاع عن الدولة الإسلامية كما ينادي بها إسلاميو اليوم، بل جاءت في سياق معاكس تماما، كان الرجل قد تأثر بالنهضة الأوربية التي عايشها في أوربا ولمس مزايا العظيمة وقارنها بتخلف الشرق، وربط ذلك بتمسك الشرق بمفاهيم خاطئة عن الإسلام حسب رأيه، ونادى بأن الإسلام لا يتناقض مع الأخذ بأسباب التمدن الغربية.
وعليه فقد تمحورت كل أفكار عبده حول نظرة تقدمية للدين من منظور ذلك الزمن وكان يعتبر من قبيل الجرأة والتحدي (أن رأى في الدين أصولاً "عبادية اعتقادية وأخرى دنيوية عقلية، ودعا إلى تحصيل الإيمان بالعقل، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند تعارضهما، وإلى الابتعاد عن التكفير والاعتبار بسنن الله، أي بقوانين الطبيعة والمجتمع". وهذه نظرة رشدية خالصة. وكان قد قرر في "رسالة التوحيد" أولوية العقل على التبليغ، مستعيداً بذلك تقليداً معتزلياً شهيراً) وبالتالي فإن الجمع بين الماوردي وعبده لا يستقيم ابدا لأن الأول نصي نقلي مقلد بينما الثاني عكسه تماما.
الإشادة بعده من قبلي هنا لا تعني أنه قد غاب عن بالي محدودية الأفكار النهضوية التي نادي بها عبده ورفيقه الأفغاني، لأنها لم تصل إلى مستوى القطيعة التي أحدثها أنواريو أوربا مع الموروث الكنسي والتي كانت في أصل تحرير المارد الأوربي وإطلاق العنان له ليبلغ ما بلغه.
محمد عبده نادى أيضا بفكرة المستبد العادل، في قوله: (لا ينهض بالشرق إلا مستبد عادل) وقد جربنا ذلك مع ناصر وبومدين وصدام وغيرهم وفشلنا، أما تلميذه رشيد رضا فقط توغل يمينا نحو الوهابية والإخوان المسلمين، ولعلي لا أجانب الصواب إذا قلت إن حركة الإخوان هي النتيجة الحتمية لأفكار النهضة التي بقيت تتراوح في مسالة القطيعة مع التراث الديني المتخلف.
كذلك أرى أن الجمع بين محمد عبده ومحمد الغزالي، لا يسوغه إلا اشتراكهما في اسم محمد. الأول تقدمي بمفهوم عصره، والثاني رجعي بمفهوم عصره أيضا، ولم يكن الوهابيون أغبياء عندما هاجموا الأول وحرضوا ضده ومنعوا أفكاره من التداول، بينما حظي الثاني بحرارة الاستقبال على أعلى مستوى ونال الجوائز وتقلد النياشين في مملكة آل سعود.
لنقرأ قول محمد الغزالي الذي سخر حياته لخدمة الرجعية العربية في السعودية والخليج ومحاربته كل أفكار التقدم:
(يقع في الوهم أن الحكم الديني إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن (رجال الدين) وقد تثبت في الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة).
وبقية النص الذي استشهد به عليوة لا تتجاوز مستوى الشكل، فحتى عندما لبس الإسلاميون البدلة وربطة العنق وتركوا رأسهم حاسرا وتخلوا عن العمائم وبعضهم عن اللحى، وتوقفوا عن مناقضة الديمقراطية بالشورى ودخلوا الانتخابات، وهي كلها بدع غربية، فإنهم بقوا قروسطيين حتى النخاع.
لنقرأ ما كتبه القرضاوي عن صديقه محمد الغزالي في قضية اغتيال فرج فودة على أيدي الإسلاميين: (واستدعت المحكمة الشيخ الغزالي، وأفتى بجواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتياتا على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة. فقامت الدنيا ولم تقعد بعد شهادة الشيخ الغزالي، واتُّهم الرجل بألسنة حداد أشحة على الخير مِنْ أناس لم يستقر الإيمان في قلوبهم، فضلا عمن يعادي منهج الإسلام. وذهب وزير إلى بيت الشيخ، وطلب منه أن يصرح أو يكتب مقالا يفسر به موقفه من قضية فرج فودة، لكن الشيخ أصر على موقفه، وعاد الوزير مرة ثانية يلح على الشيخ، فأجابه: أنا لم أكتب مقالا في صحيفة، ولا ألقيت خطبة في جامع، ولا محاضرة في جمعية، ولكني استدعيت للشهادة أمام محكمة، فشهدت بما أعتقد أنه الحق الذي أدين الله به وألقاه عليه، فإذا كان في شهادتي بعض الغموض فلتدعني المحكمة مرة أخرى، وأنا أشرح لها موقفي (الشيخ الغزالي كما عرفته، ص: 271-275، للدكتور يوسف القرضاوي.
رأي الغزالي في المحكمة كان ([ليست هناك عقوبة لقاتل المرتد ولكنه يعاقب على افتئاته على السلطة وليس هناك عقوبة منصوصة عن ذلك الافتئات على حد علمى) ؟! وهذا الكلام يعني البراءة لقاتل فرج فودة، وكان القاتل أميا لا يعرف فودة ولا أفكاره، وكان الأولى محاكمة الغزالي نفسه. لكن لم يحدث، بل سعت الدولة إلى تملقه بزيارة وزيرها. وتكرر الأمر مع سيد القمني، ومع ذلك ترشح الدولة المصرية وزيرها لرئاسة اليونسكو، التي تعني منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، بينما أغلب البلدان العربية لا تفعل الشيء الكثير ولا القليل لحماية المنتجين الحقيقيين للتربية والعلوم والثقافة، بل نكاد نقول العكس هو الصحيح.
ثم نقرأ في كتاب الغزالي "حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة":"إن آخر ما أملت فيه الإنسانية من قواعد وضمانات لكرامة الجنس البشري كان من أبجديات الإسلام ، وان إعلان الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان ترديد عادي للوصايا النبيلة التي تلقاها المسلمون عن الإنسان الكبير والرسول الخاتم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم".
ثم يقول: "ومن العجب أن مبادئ حقوق الإنسان التي طالما صدرها الإسلام للناس يعاد تصديرها إلينا علي أنها كشف إنساني ما عرفناه يوما ولا عشنا به دهرا".
"لقد كان ظهور هذه المبادئ منذ اندلاع الثورة الفرنسية شيئا جديدا في حياة الغرب ، ولكننا كمسلمين نملك منذ أربعة عشر قرنا من الزمان تراثا عامر الخزائن بالمبادئ الرفيعة والمثل العليا"
وحده العقل المسلم بوسعه أن يتعايش مع هذا الخليط من المتناقضات التي حوتها كتبهم من الماوردي إلى القرضاوي والغزالي.
فهل كان حق المفكر المصري المسالم فرج فودة في الحياة شيئا آخر لا يندرج ضمن حقوق الإنسان؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون عبارة عن خطاب منافق يستخدمه الإسلاميون كطعم لاستغفال الناس والوصول إلى الحكم ثم يعيثون فيها فسادا كما فعل أسلافهم دائما؟





#عبد_القادر_أنيس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في مقال:إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا 4
- لإسلام والأقليات: قراءة في مقال: إشكاليات العلمانيين ..رشا م ...
- قراءة في مقال: إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (5) لل ...
- قراءة في مقال: إشكاليات العلمانيين ..رشا ممتاز نموذجا (5) لل ...
- قراءة في مقال: هل الذهنية العربية تقبل ثقافة التغيير والديمق ...
- دولنا إسلامية بامتياز
- شامل عبد العزيز بين الإسلام والعلمانية


المزيد.....




- تقرير فلسطيني: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
- الخارجية الإيرانية تدين بشدة القرار الكندي بشأن حرس الثورة ا ...
- وسيم السيسي: دليل من التوراة يبطل حجة اليهود بأحقيتهم في أرض ...
- فورين بوليسي: حملة الصين على الإسلام تزحف نحو الأطفال
- وسط صيحات الله أكبر بموسكو.. مقاتل روسي أمريكي سابقا يعتنق ...
- علماء دين مسيحيون يتهمون الفاتيكان بإخفاء معلومات عن أجسام ط ...
- بوتين يزور الكنيسة الأرثوذكسية الوحيدة في كوريا الشمالية
- الانتخابات التشريعية الفرنسية 2024: ما هي اقتراحات الأحزاب ب ...
- الحرارة تحصد أرواح حجاج بمكة وسياح باليونان وموظفين بالهند.. ...


المزيد.....

- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - حول الحكم الراشد بين الإسلام والعلمانية: قراءة في مقال