حافظ سيف فاضل
الحوار المتمدن-العدد: 847 - 2004 / 5 / 28 - 06:05
المحور:
الادب والفن
في فيلم الممثل والمخرج (ميل جيبسون) الاخير "الآم المسيح" والذي بدأ عرضه في (25) فبراير في صالات السينما الامريكية, تناول قصة صلب المسيح من خلال قراءة للاناجيل الاربعة: متى, مرقس, لوقا, يوحنا. والاناجيل الاربعة هذه هي الاسفار الاولى من "العهد الجديد" الذي اضافه اتباع يسوع الى "العهد القديم" الذي هو الكتاب المقدس العبري. وجمعت في كتاب واحد جامع سمي "الكتاب المقدس".
وهي قصة للمعاناة التي عاشها السيد المسيح او يسوع الناصري اوعيسى ابن مريم مع اليهود والرومان. والمسيح في تلك الحقبة كان مبشرا بمملكة الرب أخذ يعلم الناس ويداويهم من امراضهم وعللهم قائما ومستندا بالمعجزات التي كان يمتلكها, في واقع كانت فيه فلسطين تقع تحت السيطرة الرومانية كجزء من مستعمراتها في ذالك الوقت, وكان (بيلاطس البنطي) في وقت مابين العامين (27) و(36) للميلاد والياً رومانياً على "اليهودية" حين ظهر رجل يسمى يسوع الناصري.
لن اتطرق لفلم "الآم المسيح" الذي واجه موجة من النقد والاختلاف, فكل مشاهد له وجهة نظره الخاصة نحو الفلم وبالتالي الامر متروك للمشاهد. ولكن مايهمني هو السؤال القديم الجديد وهو من قتل المسيح؟ لماذا لايعاد النظر في القراءة التاريخية وموضع تاويل النصوص بهذا الشأن من وقائع السياق التاريخي والنصي للكتب السماوية مجتمعة. كان قرار الفاتيكان في الفترة مابين (1962-1965) تبرئة اليهود من دم المسيح سائر في هذا الاتجاه نحو اعادة النظر والدعوة الى التسامح بين الامم.
ان لغة التعميم والادانة التي تشير باصبع الاتهام لليهود ليست منصفة فليس كل يهودي عاصر المرحلة اليسوعية مدان بدم المسيح كذلك ليس كل روماني هو من نفذ حادثة الصلب. الواقعة الانجيلية لمرقس تقول ان كهنة المعبد اليهودي هم من حكموا على يسوع بالموت ثم سلم الى (بيلاطس) الوالي الروماني للتصديق على الحكم وتنفيذه, وكانت التهمة الموجهة الى يسوع هي "التجديف" وادعائه بأنه "المسيح" اي صاحب الحق
بعرش اسرائيل ولذلك دعوه من باب السخرية "ملك اليهود".
فمضى به العسكر الى داخل الدار التي هي دار الولاية, وجمعوا
كل الكتيبة. والبسوه أرجوانا, وضفروا اٍكليلا من شوك ووضعوه عليه.
وابتدأوا يسلمون عليه [قائلين]: "السلام ياملك اليهود!" وكانوا يضربونه
على رأسه بقصبة, ويبصقون عليه, ثم يسجدون له جاثين على ركبهم.
وبعدما استهزأوا به, نزعوا عنه الارجوان,
وألبسوه ثيابه, ثم خرجوا به ليصلبوه. (مرقس 14: 53-65)
ان المسيحية والاسلام يتفقان على ان المسيح رفع الى السماء ولكن تبقى نقطة الخلاف الجوهرية في مسألة موته بالرغم من التصريحات اللفظية في الآيات بالوفاة للمسيح واٍقرار عيسى بالسلام عليه يوم المولد ويوم الممات ويوم البعث, ايضا لقد اوصاه ربه بالصلاة والزكاة مادام حيا, فاذا كان المسيح قد ارتفع دون ان يموت لوجبت عليه الزكاة تنفيذا للوصية الالهية, فمنهم الذين يتناولون منه الزكاة (!؟). هذه اسئلة مشروعة لمن يؤيدون حادثة الرفع بعد الموت.
"اذ قال الله ياعيسى اٍني متوفيك ورافعك اٍلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة ثم اٍلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون" (أل عمران55:3)
"والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا" (مريم 33:19)
"واوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا" (مريم 31:19)
"وقولهم اٍنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وماقتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم واٍن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم اٍلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه".(النساء 158,157:4)
غلب التفسير السائد (البشري) لهذه الآية الكريمة المعنى المعتاد من وجهة النظر الاسلامية ان المسيح لم يقتل ولم يصلب ولكن شبه لهم خاصة والآيات تتحدث عن اليهود في سياقها المترابط. سنطرح هنا وجهة نظر "مسيحية" حول هذا النص مختلفة تقول: [اننا لانرى فيها مايراه الاخرون من انكار لحقيقة موت المسيح وصلبه, فهي اٍنما تكذب اليهود في قولهم: "اٍنا قتلنا المسيح" لانهم لم يقتلوه ولم يصلبوه, فما كانوا يملكون ذلك او يقدرون عليه, فلم يكن لهم السلطان والحكم أيام المسيح, وانما كان الفاعل هو الوالي الروماني اٍذ كانت السلطة منزوعة من ايدي اليهود وقتئذ, وكان الرومان هم اصحاب الشأن في البلاد اليهودية. فلما نفذ جنود الرومان الحكم, شبه لليهود أنهم قتلوا المسيح, لانهم كانوا المشتكين عليه وطالبي صلبه, فلما اُجيبوا الى ماطلبوا شبه لهم أنهم هم الفاعلون. ويقرب هذا الى الاذهان مانراه في محيطنا الآن, اذ يذهب احد الوجهاء الى وزير ما ويطلب عملا لقريبه, فاذا اجابه الوزير الى ماطلب, ادعى هذا الوجيه بين قومه وذويه أنه (عين فلانا ووظف فلانا). وكلنا يعلم ان هذا الوجيه لم يعين احدا لانه لايملك حق التعيين, والوجيه قد طلب التعيين فقط, فلما تم خُيل اليه او شبه له أنه هو الفاعل. فالوجيه في هذا المثل كاليهود ايام المسيح, والوزير كالوالي الروماني. والمسيح كقريب الوجيه. فاليهود ماقتلوا المسيح وماصلبوه ولكن شبه لهم].
ويستخلص المسيحيون ان الاسلام لايحارب المسيحية في حقيقة الكفارة كما لايحاربها في تعاليمها الاخرى. اذ من الخطأ البين أن يعتبر الاسلام عدوا للمسيحية أو ان المسيحية ترى فيه عدوا لها. فما كان الاسلام اٍلا مصدقا لما به من حقائق وعقائد, كما نعت القرآن نفسه بقوله: "مصدقأ لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه" (المائدة 48:5).
ومن هنا يتسنى التمهيد لحوار الاديان والحضارات وتقبل الاخر والدعوة الى التسامح بين الاديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام من خلال اٍعادة النظر في التفسيرات السائدة بالتوارث اللاغية للاخر ومعتقده, والمعيقة للحوار وفتح باب الاجتهاد, من اجل التواصل الايجابي والاستفادة من العولمة الانسانية الحضارية وتلاقي المصالح وحقوق الانسان المشتركة.
ان مقتل المسيح (بغض النظر عن طبيعة الاختلاف الاسلامي المسيحي في موته) حدث وفق جو سياسي ملئ بالاضطرابات حيث كانت المرحلة تعج بالانتفاضات ومحاولات التمرد ضد الدولة الرومانية وصاحبها تخوف من قبل مجموعة كهنوت المعبد اليهودي الذين خشوا من غضب الحاكم الروماني عليهم, كون المسيح جاء مبشر بمملكة الرب واُعتقد حينها انها حملت فكرة سياسية تمهد لتألق نجم اسرائيل ويهدد وجود الدولة الرومانية. وكان كهنة المعبد في تفاهم مع الدولة الرومانية بحيث يبذل الكهنة قصارى جهدهم لتهدئة الاوضاع مقابل ان لاينكل بهم (بيلاطس البنطي).
فلما رآه رؤساء الكهنة والخدام صرخوا قائلين: "اصلبه! اصلبه!"
قال لهم بيلاطس: "خذوه أنتم واصلبوه, لاني لست اجد فيه عله."
أجاب اليهود: "لنا ناموس, وحسب ناموسنا يجب ان يموت لانه جعل نفسه ابن الله."...
فدخل ايضا الى دار الولاية وقال ليسوع: "من انت؟" واما يسوع فلم يعطه جوابا.
فقال له بيلاطس: "أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانا أن اصلبك, وسلطانا أن اطلقك؟"...
ولكن اليهود كانوا يصرخون قائلين: "اٍن اطلقت هذا فلست محبا لقيصر.
كل من يجعل نفسه ملكا يقاوم قيصر."فلما سمع بيلاطس هذا القول اخرج يسوع, وجلس على كرسي الولاية... فقال لليهود "هوذا ملككم." فصرخوا: "خذه اصلبه!"
قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم؟" أجاب رؤساء الكهنة "ليس لنا ملك اٍلا قيصر."
فحينئذ أسلمه اٍليهم ليصلب. (يوحنا 18 :12-40 , 19: 1-16)
يقول كمال الصليبي في كتابه (البحث عن يسوع, ص74): "ان الكهنة هؤلاء كانوا من سلالة الصادوقية ذاتها التي جهدت منذ زمن (زربابل) الى طمس قضية بيت داود وحقه في المطالبة بعرش اٍسرائيل. ولعل هؤلاء الصادوقيين كانوا قد اطمأنوا الى أن مطالبة هذا البيت بالعرش الاسرائيلي قد انتهت مع نهاية (زربابل) الى أن فوجئوا بظهور سليل له بعد قرون من الزمن يطالب بالعرش ذاته, فقرروا القضاء عليه بشكل يجعله عبرة لغيره من السلالة الداودية".
ــــــــــــ
*باحث اكاديمي
#حافظ_سيف_فاضل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟