فيصل البيطار
الحوار المتمدن-العدد: 2786 - 2009 / 10 / 1 - 23:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بمناسبه او بدونها يردد ما تبقى من القوميين العرب بالوانهم المختلفه من بعثيين وناصريين وما بينهما ومن على منابر اعلاميه مشكوك بولائها الحقيقي اصلا , كبعض الفضائيات والصحف العربيه محليه ومهاجره تصدر من بين احضان احفاد السيد سايكس والسيد بيكو ... يردد هؤلاء معزوفتهم التي لاتطرب حول تقسيم المنطقه العربيه ومسؤولية اتفاقية سايكس – بيكو عن هذا التقسيم . إلا ان احدا منهم لم يخبرنا ان كانت تلك المنطقه موحده اصلا قبل هذا الاتفاق وفي ظل الاحتلال العثماني المقيت , ولم يهتدي احد منهم لأن يضع دراسة مقارنه بين الاحتلالين , العثماني من جهه والبريطاني - الفرنسي من جهة اخرى . واثر كل منهما في نمو وتطور المنطقه .
نحن لا ندعي اننا سنتولى هذا الامر بهذه العجاله . لكن القاء بعض الضوء من شأنه يعطي لهذا الاتفاق بعض الحق ويصحح جمله من المفاهيم القوميه المضلِله والتي ما زالت حتى الآن تجد من يسمعها ويرددها دون تمحيص وتدقيق .
لايمكن قبول اطروحات بقايا القوميين من ان اتفاقية سايكس – بيكو قد قسمت المنطقه العربيه الى مجموعة دول , ذلك ان تلك الوحده وفي ظل الاستعمار العثماني لم يكن لها من وجود اصلا . لقد عمل العثمانيون على تقسيم مناطق احتلالهم الى كيانات اداريه - سياسيه مستقله بعضها عن بعض حملت اسم " ولايات " وفي قمة هرم كل ولايه " والٍ " يُعين من قبل السلطان بشكل مباشر ويملك صلاحيات مطلقه في ولايته . والى جانبه هيئه من الموظفين بعضهم يتم تعينه من قبل السلطان وآخرين من قبل الوالي نفسه . المهم في الأمر ان هذه الولايات ذات استقلاليه كامله ولا من رابط يربط الواحده بالاخرى , اقتصاديا ام سياسيا واداريا. كل والٍ من هؤلاء ومعه هيئة اركانه ومن ثم ولايته وكافة ما يتعلق بها من شؤون يتبعون سلطانهم ووزارة داخليته . هذا النمط من الاداره العثمانيه لا يشمل مناطق احتلالهم العربيه فقط , بل يتعداه ليشمل كل مستعمراتهم , وكان قد بلغ عدد ولاياتهم اثنتان وثلاثون ولايه كان للمنطقه العربيه نصيب وافر منها . ولم تكن حدود الولايات في هذا النظام ثابته , بل متغيره وعلى الدوام وبما تمليه المصالح العليا للنظام الاستعماري , فتارة يتم تاسيس ولايه جديده وتارة اخرى تُلغى لتُضم الى غيرها ويجري تحريك السناجق والاقضيه دونما اعتبار لوحدة الارض والسكان .
فما يعرف الآن بالعراق كان مقسما عثمانيا الى ثلاث ولايات بشكل عام . كانت هناك ولاية الموصل والتي ضَمت في حينها المحافظات الكردستانيه الموجوده الآن , وولاية بغداد , وولاية البصره والتي كانت تتبعها دولة الكويت وتلك الامارات الصغيره التي اسست دولتها فيما بعد تحت اسم " دولة الامارات العربيه المتحده " ....... ولم يكن العراق موحدا ولو للحظه واحده في ظل الاحتلال العثماني .
بلاد الشام بدورها كانت مقسمه الى مجموعة ولايات .. فهناك في الشمال ولاية حلب واحيانا ولاية طرابلس تتبعها حمص وحماه واحيانا اخرى تتبع ولاية حلب . وكان هناك ولايات اخرى في كل من بيروت وصيدا مستقله احيانا او ملحقه بولاية دمشق كسناجق . وربما كانت اهم الولايات هي ولاية دمشق التي ضمت عشرة سناجق ووصلت حدودها الاداريه حتي جنوب فلسطين وجنوب الاردن .
الحجاز كانت ولايـه واحده عاصمتها لاحقا " المدينه المنوره " تدار من قبل الوالـــي العثماني ويعاونه في هذا " العائله الهاشميه ". اليمن بدوره كانت له ولايه يديرها الامام الزيدي كممثل للسلطان العثماني .
هكذا اذن كانت الحدود الاداريه – السياسيه للمنطقه العربيه , بعيده كل البعد عن دوله واحده موحده جاءت اتفاقية سايكس – بيكو لتزرع الانقسام بين صفوفها .... مجموعه متغيرة الحدود من الولايات والتي لا يربطها سوى علاقتها المركزيه بالسلطان العثماني ووزارة داخليته ومن خلال "واليه" ذو الصلاحيات المطلقه في غالبية الامور . ولايات مستقله كثيرا ما كان يسود فيما بينها او في داخلها الاقتتال العشائري وغزوات القبائل البدويه وفرض الخاوات على قوافل التجار البريه والنهريه ........ هنا تسقط ودون رحمه اطروحة بقايا القوميين من ان تلك الاتفاقيه جاءت لتقسم المنطقه العربيه . تلك المقسمه اصلا ودون وساطه من السيدين سايكس وبيكو وثالثهما السيد سازانوف الروسي .
لكن البعض مدركين لهذا الامر او متشدقين بالحرص على وحدة الامه الاسلاميه , يدعي ان هذه الاتفاقيه قد جاءت لتقسم " الامه الاسلاميه " الى مجموعه من الامم الصغيره ... في هذا الامر نقول لهم ان هذه الامه لم تعرف الوحده منذ ليلة وفاة نبيها عندما اجتمع صحابته الاقربون وتضاربوا (ولم يدفن بعد) بالنعال وسعف النخل وديس بطون بعضهم بالاقدام في صراع على مركز القياده الذي شغر بوفاته , تكرر هذا الامر بعد مقتل الخليفه الثالث على ايدي الوفود العربيه المسلمه القادمه من العراق ومصر لتصلح من حاله ومن حال سياسته , عندما خرجت "عائشه" ومعها الطامعين بالخلافه , على الخليفه الرابع , هنا في "وقعة الجمل" وهذه المره كان الثمن ثلاثون الف قتيلا من المسلمين كما يروي البعض . ومنذ العام 34 هـ كان هناك مركزين للخلافه احدهما في الكوفه والآخر في دمشق ولم تحسم " صفين " بدماء الوف قتلاها وحدة امة المسلمين ...ويخبرنا التاريخ ودون ان نسهب في هذا الامر ان وحدة الامة الاسلامية لم تكن على الارض اكثر من اكذوبة كبرى , انقسام امة المسلمين سحب نفسه على تفاسيرهم لكتابهم واحداث ايامهم مما ادى الى ظهور مذاهب فقهيه ليس لها من عد او حصر تحلل وتحرم في هذا المذهب مالا يحلله ويحرمه مذهب آخر بل ويكفر بعضها البعض ويخرجها من ملة المسلمين . وقد سالت انهار من دماء من يقولون " اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا رسول الله " بفتوى من هذا الفقيه او ذاك , وليست الهجمه التكفيريه الداميه التي تعيشها بعض الامم الاسلاميه في هذه اللحظه الا دليلا على انقسامها وتشرذمها الى جماعات منهم المسالمين ومنهم القتله الذباحين ومنهم ما بين بين لا يعلم موطأ لقدمه .
لا العرب كانوا موحدين في تاريخهم ولا المسلمون . فما الذي جاءت اتفاقية سايكس – بيكو لتقسمه اذن ؟ ما فعلته هذه الاتفاقيه ليس اكثر من اعادة توزيع حدود الولايات العثمانيه بفصل ودمج بعض المدن و السناجق والنواحي كما كان يفعل الاحتلال العثماني باستمرار . ولكن هذه المره ليظهر الى الوجود كيانات سياسيه لها علاقه بالعصر وقادره على التطور والنمو ... بشق الطرق وخطوط السكك الحديديه وبناء وتطوير الموانئ وتأسيس المدارس والجامعات والمستشفيات وبناء السدود وايصال الماء والكهرباء وتحسين طرق الزراعه واسست لبنية تحتيه وعلاقات انتاج جديده اظهرت لنا الطبقه العامله ولأول مره . كما وظهرت الصحافه ودور النشر على نطاق واسع ومراكز الفن والادب من مسارح وسينمات بدلا من خيال الظل وسيرة عنتره بن شداد وصنوه ابو زيد الهلالي . واسست لحياة نيابيه تتمتع بالكثير من الشفافيه وانتخابات على قدر من النزاهة تُسقط هذا الزعيم وتأتي بغيره جرى تغييبها فيما بعد على يد الطغم العسكريه والاحزاب القوميه الحاكمه من اصحاب نسبة ال 99. 99% واحيانا نسبة ال 105% غير المفهومه تلك الخاصه بالزعيم القومي البعثي" صدام حسين " . كما واسست لهامش من الحريه تدفع شعوب المنطقه للتظاهر في الشوارع كل عام في ذكرى هذه الاتفاقيه لاعنين سنسفيل اجدادها .
وحدت هذه الاتفاقيه ولايات الموصل وبغداد والبصره ( بعد ان اقتطعت من الاخيره " الكويت" ) لتأسس لدولة العراق الحديثه بحكومة مركزيه نيابيه وكأبنة شرعيه للقرن العشرين كما ووحدت ولايتي حلب ودمشق(بعد مجموعه من الاحداث) لتأسس لدولة سوريه تظهر لأول مره في التاريخ وبمظهر يتوافق مع متطلبات العصر . وظهر للوجود دولة صغيره على ساحل المتوسط الشرقي باسم " الجمهوريه اللبنانيه " . ان ضم ولاية حلب الى دمشق صاحبه اقتطاع مناطق من جنوبها , حيث تم تأسيس امارة شرق الاردن ووضعت فلسطين تحت الانتداب بقرار من عصبة الامم عام 1922 . وكل هذه الدول الجديده تميزت بمنافذ ولو صغيره على البحر ادراكا من اصحاب هذه الاتفاقيه لأهمية هذا الشريان البحري في الحياة الاقتصادية للدول الجديده .
لا احد يشك ان المنطقه قد خرجت من دائرة استعمار عثماني كولونيالي طال امده ليبلغ نحو اربعة قرون من الظلام لتدخل مرحلة استعماريه جديده بريطانيه- فرنسيه . تلك مسأله فرضتها ظروف الحرب العالميه الاولى ودخول الدوله العثمانيه كطرف في هذه الحرب الى جانب المانيا وايطاليا وهو ما عرف حينه بدول " المحور" . لقد شملت هذه الحرب اراض واسعه وشعوبا عديده منها منطقتنا وشعوبنا , فكما لوحقت المستعمرات الايطاليه وتم اعادة احتلالها جرى ملاحقة العثمانيين في مستعمراتهم العربيه واخضاعها لإحتلال جديد ولكن هذه المره ليس لأربعة عقود سوداء بل لسنوات قليله شهدت فيها دول المنطقه حاله من التقدم لم تعرفها من قبل واسست لنمو اقتصادي واجتماعي وثقافي لم يكن من الممكن ان يحصل في ظل هيمنة دولة الخلافه ومركزها القسطنطينيه . لقد حصل العراق على استقلاله عام 1932 ولبنان عام 1943 والمملكه الاردنيه الهاشميه وسوريا عام 1946, اي ان هذه الدول قد حصلت على استقلالها منذ ان وُضعت تحت الانتداب في اقل من ربع قرن من الزمان ولا احد يعلم كم كان سيطول الاحتلال العثماني من بعد الاربعة قرون لولا التدخل الاستعماري الانكلو- فرنسي . لكننا نعلم كيف سيكون الحال بعد قرن آخر او قرنين من الزمان.
المسأله الفلسطينيه هي شأن آخر وأكثر تعقيدا له علاقه بالوطن القومي الاسرائيلي من جهة وغياب القوى الفاعله في صفوف الشعب الفلسطيني كقائده لنضاله الوطني التحرري من جهه اخرى . ذلك هو الذي يحدد سياسة الانتداب البريطاني في فلسطين ويرسم خطوطه . ونحن نعتقد ان الحل الامثل لتلك المساله المعقده كان بقبول كافة الاطراف في ذلك الحين لقرار التقسيم الصادر عن الجمعيه العامة لهيئة الامم المتحده العام 1947 .
الآن تم ازاحة الاحتلال العثماني عن مناطق عربيه شاسعه ويقطنها ملايين من السكان , فهل كان من المتوقع والممكن انا يعمد الاحتلال الانكلو – فرنسي الى تأسيس دولة عربيه واحده بقيادة زعيم عربي واحد في منطقة الهلال الخصيب ؟ وهل هذا الامر يقع ضمن مهماته ؟ ... لقد مضى الآن تسعة عقود منذ ان تأسست دول المنطقه وعقود اخرى عديده منذ ان حازت على استقلالها ولم يتمكن فرسان القوميه العربيه بعد من اهداء مؤيديهم وانصارهم دولة الوحده المنشوده رغم انهم تسيدوا شعوبهم لسنوات ليست بالقليله متظللين بشعار الوحده العربيه الذي كان يزين خطبهم واشعارهم واغانيهم ولياليهم الملاح والله اعلم . التجربه الاولى لم تعمر اكثر من ثلاث سنوات رغم ان ابطالها هم ذاتهم من خلق وصنع وهم القوميه العربيه ووحدة دولها ( الجيل الثاني) . اما التجربه الثانيه وهي وحدة دولتي اليمن فقد تراجع عنها احد اطرافها بعد اربع سنوات من تحقيقها والتوصيف الحقيقي القائم الآن ومنذ عام 1994 هو احتلال دوله لدوله اخرى كما يراه " الحراك الجنوبي السلمي " ونراه نحن . اما وحدة امارات ومشيخات الخليج فهو لا يعدو عن كونه وحدة شيوخ قبائل في دولة قابله للحياه في الوقت الذي يصعب على مشيخاتهم الصغيره ان تعيش وتتعايش مع العصر ومتطلباته . هل كان مطلوبا من المستعمرين ان يحققوا لهؤلاء ما عجزوا هم انفسهم عن تحقيقه !!!!!
سايكس – بيكو اخرجت شعوبنا من الظلمات الى النور , فان كان هناك من قصور فيها فليتفضل فرسان القوميه العربيه من جديد الى الميدان , ولكن ليس على طريقة الاحتلال العراقي للكويت او الاحتلال السوري للبنان او وحدة الضم والالحاق لسوريا واليمن الديمقراطي . او سلسلة الاغتيالات الطويله التي مارسها قادة القوميه بحق معارضيهم بالكلمه .
نحسب ان لابجعبتهم سوى الاوهام .
فيصل البيطار
#فيصل_البيطار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟