أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نمر سعدي - مقالات أدبية















المزيد.....



مقالات أدبية


نمر سعدي

الحوار المتمدن-العدد: 2785 - 2009 / 9 / 30 - 18:26
المحور: الادب والفن
    



أُنوثةُ القصيدة لدى الشاعر شوقي بزيع
هو شاعر لبنانيٌّ من مواليدِ الجنوبِ في مطلعِ الخمسينيَّات. له حتى الآن أكثر من عشرةَ مجاميعَ شعريةٍ بدأها بعناوين سريعة لوطن مقتول عام 1978 ولا زالَ من ألمعِ الشعراءِ العربِ وأرقِّهم حاسَّةً وأصفاهم شفافيَّةً.
لا أعرفُ في الحقيقةِ بماذا أُشبِّهُ قصائد هذا الشاعر المُتجذِّرِ في أديمِ الأنوثةِ وفي خميرةِ الجمالِ.. أأشبِّهها بلمعانِ أجسادِ النساءِ اللواتي كانَ يتلصَّصُ عليهنَّ طفلاً من وراءِ أوراقِ الأشجارِ التي تشبهُ بريقَ الذهبِ؟؟ أم أأشبِّهها بالأزهارِ البيضاءِ اللوزيَّةِ ؟؟ أم بالأرضِ الجنوبيَّةِ التي عشقها بكلِّ سهولها وجبالها وفتنةِ وديانها وروعةِ تضاريسها؟.. فهذا الشاعرُ يستطيعُ أن يُدخلكَ إلى حلقاتِ الوجدِ الصوفي الجماليِّ الشعريِّ بلمحةِ البصرِ... وبدفعةٍ واحدةٍ يستطيعُ أن يُبلِّلَ قلبَكَ بالماءِ الغامضِ والبرقِ الحزين.
في قصائدهِ الكثيرُ من فتنةِ الأنوثةِ العصيَّةِ على الفهمِ.. فأنتَ تقفُ وكأنكَ أمامَ إعجازٍ يملأُ قلبَكَ بالانبهارِ وروحكَ بالإعجابِ الرفيع.
ألفاظُ شوقي بزيع منتقاةٌ بدقةٍ ورهافةٍ وحسٍّ موسيقيٍّ بارعٍ وذكاءٍ شعريٍّ نادرٍ قلَّما وجدتهُ عند الشعراءِ اللذينَ يكتبونَ قصيدةَ التفعيلةِ. فعباراتهُ الشعريَّة شفافةٌ كالماءِ وليِّنةٌ كالغيومِ تنسابُ في نفسكَ كما ينسابُ النهرُ الحافي في دروبِ الحصى. فتدغدغُ عواطفكَ وتوقظُ ما هجعَ من أحلامكَ الخضراء. وتحملكَ وتحرضِّكَ على فعلِ الحُبِّ والتأملِ في شظايا الأملِ..والحلولِ في بهاءِ الكونْ.. يقولُ في إحدى قصائدهِ عن مأساةِ الشاعر الحديث:
دائماً يكتُبُ ما يجهله
دائماً يتبع سهماً غير مرئي
ونهراً لا يرى أوّلَهُ
ينهر الأشباح كالماعز عن أقبية الروح
وكالسّاحر يُلقي أينما حلّ
عصا الشك
ليمحو بعضُهُ بعضاً
مقيمٌ أبداً في شبهة البيت
ولا بيت له
كلما همّ بأن يوضح يزداد غموضاً
وبأن يفصح يزداد التباساً،
والذي يكتبه يحجُبُهُ
هي يدري أن بعض الظنّ إثمٌ
ولذا
يومئ للمعنى ولا يقربُهُ
يدّعي الشاعر أن الشّعر ذئبٌ
فيقول الناس:
إن هو إلاّ شاعرٌ
والشّعر أضغاثُ رؤىً خادعةٍ
لم يصدّق أحدٌ ما زعم الشاعر،
لم ينتبه الناس إلى الموت
الذي ينهش في هيئة ذئبٍ
جسمُه الرثّ
لكي يستخرج المعنى الذي في قلبه،
الناسُ نيامٌ
فإذا الشاعرُ مات
انتبهوا!.
في هذهِ القصيدة استشرافٌ لنبوءةِ الشاعرِ وفيها بعدٌ رمزيٌّ لعبثيَّةِ ما يحاولهُ في حياتهِ. ولكن الصياغة في قمةِ الذكاءِ الشعريِّ والمكاشفة.

أوَّلُ معرفتي بالشاعر شوقي بزيع كانت من خلالِ قصائدَ متفرقة في الصحافةِ العربيةِ وما كانَ يصلنا من نتفِ أشعارهِ في صحافتنا المحليَّةِ في الداخلِ الفلسطيني وقد كانَ دسماً على قلَّتهِ. ثُمَّ في أيَّار عام 2001 وقعَ بصري في معرضِ الكتابِ الذي تقيمهُ مكتبةُ (كلُّ شيء) في حيفا على ديوانيهِ الصغيرين ( قمصان يوسف) و( كأني غريبك بينَ النساء) فولجتُ عالمهُ الشعريَّ السحريَّ من خلالِ ديوانيهِ هذين وخصوصاً الديوان الثاني الذي راقَ لي.. دخلتُ إلى مملكتهِ المعلَّقةِ فوجدتُ في أروعِ دواوينهِ هذا اشتغالاً مُتقناً على الصورةِ الشعريَّةِ وعلى تركيبِ الجملةِ في القصيدةِ وعلى التدويرِ البديع الذي لا يخرجُ بكَ عن سياقِ الحالةِ الموسيقيَّةِ العامةِ في النصِّ.. للوهلةِ الأولى تشعرُ أنَّكَ أمامَ شعرٍ جديدٍ تعبَ صاحبهُ عليهِ كثيراً..
فهو موصولٌ بأصالةِ اللغةِ المصفَّاةِ وصرامةِ أساليبها وغزارةِ معانيها ومفرداتها الشعريَّةِ التي كأنها قد نُحتت من الصخرِ الليِّن.. وفي الوقتِ نفسهِ نجدُ أخيلتهُ وكأنها تنهمرُ علينا بصورهِ المخترعةِ من عالمِ المستقبلِ وفضاءاتِ قصيدةِ النثرِ الرحبةِ الزاهيةِ بالأقواسِ القزحيَّةِ. والمشبعةِ بالرذاذِ الضوئيِّ.
فنيَّةٌ التجاورِ والتناصِ والمحاورة موظفةٌ بدقةٍ متناهيةٍ في السياقِ وفي الجملِ المحمولةِ على أنفاسِ الأنثى المعشوقةِ البعيدةِ أو ربمَّا المستعصيَّةِ على يدِ الشاعرِ.
وهذا ربما تأثيرٌ من شعراءِ النثرِ البارعين ومنهم عبده وازن وعباس بيضون.. فشاعرنا يعترفُ أنهُ يصبُّ تقنياتِ قصيدة النثر وجمالياتها في قوالب موسيقية عبر مجال التفعيلةِ اللينةِ الطيِّعة.. التي ترشِّحهُ مع شعراءٍ قليلينَ ليكونَ أجملَ فرسانها بعدَ رحيلِ أميرها محمود درويش.

تروقنا في قصائد شوقي أيضاً براعةُ السردِ الذي يدخلُ في الحوارِ الذاتي للقصيدةِ حتى أنَّ بعضَ النقادِ العرب عزا هذا الأمرَ إلى تأثُّرِ شاعرنا بالفنِ الروائي وأساليبهِ. وهذهِ الميزة من خصائصِ شوقي بزيع بل من أهمِّ ميِّزاتهِ.

للأشياءِ في شعر شوقي بعدٌ آخرُ غيرُ محسوسٍ فللصيفِ طعمٌ غريبٌ يختلفُ عنهُ في الواقعِ وللفتةِ الأنثى أيضاً مسحةٌ تليقُ بحفيداتِ دعد وليلى وجولييت وكليوبترا وإلزا.. حتى الليل والأزهار ومسمَّياتُ الطبيعةِ تكتسبُ روحاً وقيمةً وملمساً خاصاً يشي بالسحرِ وينضحُ بمعناهُ الكامنِ وغموضِ تكوينهِ.
فإنني عندما أقرأُ لشوقي أجدُ أنَّ النساءَ جديراتٌ بهذا الحدبِ الذي يمحضهُ لهنَّ الشاعر العاشقُ فها هو يُضفي عليهنَّ جمالاً على جمالٍ ويوشحهنَّ بالفتنةِ الغريبةِ المستغلقةِ ومناديلِ الهيام.. ويجعلهنَّ كائناتٍ من أحلامٍ وسرابٍ.. وهذا أجملُ ما في عملِ الشعرِ وأروعُ ما في لعنةِ الكلام.
فلشاعرنا مقدرةٌ عجيبة على تنقيةِ عالمهِ الشعريِّ من الشوائبِ والزوائدِ وإضفاءِ مسحةِ الحلمِ على الواقعِ المجبولِ بالحديد.

فشوقي وعمر بن أبي ربيعة يصدران عن قوس واحدٍ كما قالت العرب. فهما يتداخلان هذا في ذاك ولا تفصلُ بينهما لغةُ التماهي الحسيِّ.. ولا ينفصلُ وجدُ أحدهما وهيامهُ عن لهفةِ الآخرِ تجاهَ الأنوثةِ ومعناها. تلكَ الأنوثةِ التي يحبَّانِ كلٌّ بمقدارٍ والتي طفقا يصورانها حسيَّاً رغمَ أن أشواقهما تجريديةٌ بحتةٌ وسرياليةٌ حداثويةٌ تنهضُ من انكساراتِ اللغةِ وأفراحها المخبوءةِ..
أستطيعُ القولَ أنَّ عمر بن أبي ربيعة قد بُعثَ لنا بعدَ أكثرَ من ألفٍ وأربعمائةِ عامٍ في ثيابِ شوقي بزيع الشاعر الثائرِ على رتابةِ أحلامهِ الشعريَّةِ.

للشاعر قصائدُ بالغةُ الجمالِ والخصوصية اللفظيةِ والشفافيةِ.. قصائدُ تبلغُ حدَّ النشوةِ والكمالِ بامتيازٍ.. منها قصيدة كأني غريبك بينَ النساء فهيَ من الروعةِ والدقةِ في التصوير بحيثُ تجعلكَ تذهلُ عمَّا قرأتَ قبلها من شعرٍ..
يقولُ في مطلعها:
يدُكِ الأرضُ رابضةٌ منذُ أكثرَ من صخرةٍ فوقَ صدري
وطافيةٌ كالزمانِ على قُبَلي الخاسرةْ
تتجلِّينَ لي كمآذنَ مضمومةٌ حولها قبضةُ الريحِ
أو كبلادٍ تضيءُ لها كالسماواتِ أطيافك الغابرةْ
تتجلينَ لي مثلما يتجلَّى الكسوفُ على جبلٍ شاهقٍ
أو كعاصفةٍ تتواجهُ مع نفسها في خريفٍ بلا شرفاتٍ
لكي أتنسَّمَ تفاحكِ الدنيويَّ
كما يتنسَّمُ وردُ المقابرِ رائحةَ الآخرة.

ألا نسمعُ هنا أصداءً للمزاميرِ ولنشيدِ الإنشادِ؟؟ ألا نلمسُ تقاطعاً حتميَّاً مع أنغامٍ أوركستراليةً تتنـزَّلُ من سماءٍ حزينةٍ وبعيدةِ الجرح؟
ألا تذكِّرنا انسيابيةُ هذهِ القصيدةِ وتهاديها بموسيقى الغرفِ الهادئةِ؟
والمطالعِ الهوميريةِ العاليةِ النبرةِ.. ؟ والحادةِ كالسيفِ اليمانيِّ؟
هذهِ القصيدة العامرةُ تستولي عليكَ وتخلبُ قلبكَ.. إنها نشيدٌ رزينٌ صارخٌ لتمجيدِ الأنوثةِ.

حتى لو كنتَ لا تعرفُ شوقي بزيع فإنَّكَ ستختارهُ من قراءةِ أوَّلِ سطرٍ شعريٍّ لهُ في قصيدةٍ عابرةٍ تجدها في مجلةٍ هنا أو جريدةٍ هناكَ ولكنكَ لن تنساهُ أبداً.. لا تستطيع أن تتفلَّتَ من سحرِ ماروتهِ الطاغي وتوحشِّ انهماراتهِ وبوحهِ العالي.
وسيحصلُ لكَ كما حصلَ لقارئٍ إتصلَ بقناةِ الجزيرةِ وكانت تبثُّ برنامجاً أدبياً وقالَ مصارحاً المذيعَ بأنَّ في العالمِ العربيِّ شعراً جيِّداً يستحقُّ القراءةَ وعندما سألهُ المذيعُ بعضَ أسئلةٍ يحاولُ فيها استجوابهُ.. قالَ هذا المواطنُ العادي جدا والمثقفُ أنَّ هنالكَ في لبنانَ شاعرٌ غيرُ معروفٍ كبقيةِ النجومِ من الشعراءِ ولكنهُ شاعرٌ حقيقيٌّ وساحرٌ بكلِّ ما تنطوي عليهِ هذهِ الكلمةُ من أبعادٍ ومعانٍ.. يستحقُّ القراءةَ والاهتمامَ في محيطِ هذا الغثِّ من الشعرِ. قالَ القارئ الحقيقيُّ أن الشعراء الجيِّدين كشوقي بزيع يجرفهم طميُ القصائد الركيكة في عصرِ الكمِّ ولا يجدهم إلاَّ من يُحسنُ اكتشافَ اللؤلؤِ تحتَ الرمالِ.. لم أستغرب حينها كلامه وابتسمتُ ابتسامةً خفيفةً وقلتُ في سرِّي شكراً لشوقي بزيع الذي يزيدُ أحلامنا جمالاً.. وينقعُ جفافَ أرواحنا بالرذاذ.. ألفَ شكر....!


************





سلامٌ على قمرِ البنفسجِ في عينيكَ

إلى محمود درويش




ها قد مرَّ عامٌ على الغياب.. ونحنُ لا زلنا نعيشُ في الوهمِ من انطفاءِ العنقاء وحتَّى هذهِ اللحظةِ الكاذبةِ الصادقةِ نحاولُ الإمساكَ بالأطيافِ الذهبيَّةِ الهاربةِ من خيالاتنا دونَ جدوى... ونُجرِّبُ أن نقيسَ أيامنا الحنطيَّةَ بالماءِ المسفوحِ من قلوبنا على رحيلكَ يا سيِّدَ الكلام.. الصامتَ الأبديِّ في حضنِ منيرفا وفي حضورِ كلامها الأخضرِ.

يا طفلَ الأقحوانِ.. أيُّها الحصانُ العصيُّ على الريحِ الأنثويَّةِ.. لا تخجل بنا وبعجزنا عن رثائكَ.. لا تخجل بكلِّ الهذياناتِ التي فاضَتْ على أرضنا العربيةِ اليابسةِ الجرداءِ سوى من دماءِ الحالمينَ أمثالكَ...
لا تخجل بنا يا وريثَ عذاباتنا أمامَ نساءِ أولمبَ الفاتناتْ.. فكُلُّ أقمارنا في غايةِ الغباءِ والحيرةِ... وكُلُّ عظامنا لا تضيءُ الظلامَ الصلبَ..

أتبلَّلُ بالمَطرِ المورقِ وأعجبُ لكَ كيفَ استطعتَ أن تحملَ صخرةَ سيزيفَ إلى هذهِ الهوَّةِ القاحلةِ الهائلةِ الطائرةِ في الجحيمْ.... كيفَ استطعتَ أن تُحوِّلَ شتاءاتي جميعها إلى شتاءٍ واحدٍ باذخٍ مُعذَّبٍ يليقُ بالشعرِ والبكاءِ على طللِ العولمةِ .. ويرتفعُ بالموسيقى الزرقاءِ ويضيءُ بخواتمِ ريتا سُدُمَ القلبِ.
وقد كانت شتاءاتي من قبلكَ صخوراً تنهمرُ عليَّ من كُوَّةٍ صفراءَ في السماءِ الزجاجيَّةِ المُكسَّرةِ... آهِ كم كانت شتاءاتي عقيمةً من دونكَ..

مرَّ عامٌ على الغيابِ ونحنُ لو تفكَّرنا قليلاً في حضرةِ الغيابِ منذُ الأزلِ وإلى الأبدِ وأنتَ تحاولُ بأشعاركَ المزهرةِ كاللبلابِ أن تلقي علينا بصيصاً من شعاعِ الحضورِ العاطفي الإنساني المعرفي المتمرِّدِ ولو من وراءِ حجابْ.
عندما أقرأُ اليومَ في دواوينكَ الأخيرةِ وأنا بالذاتِ أنحازُ إلى مرحلتكَ الأخيرةِ التي تذكِّرني بكلِّ أمجادِ الشعرِ الذي يدغدغُ الروحَ.. يضربني بقوَّةٍ هائلةٍ برقُ الحقيقةِ.. أُدركُ تماماً أننا نحنُ أشباهُ الشعراء ما زلنا بعيدينَ سنينَ ضوئيةً عن عوالمكَ الشعريةِ الساحرةِ التي جُبتها كغزالٍ شريدٍ شاردٍ.. وأننا في الزمنِ الأخيرِ مغفَّلونَ في لعنةِ التجربةِ.
أنتَ وحدكَ فينا من قبضَ على الجمرِ المقدَّسِ يا بروميثيوس.. من دون أن يرتعشَ لكَ قلبٌ أو يرمشَ لكَ جفن. أنتَ وحدكَ يا سليلَ أسطورةِ هذهِ الأرضِ النبيَّةِ من نثرَ الزهرَ اليابسَ على بحيراتِ العالمِ القاسي..
فهَلْ تغفرُ لنا حُبَّنا الذي قتَلَكَ كالذئبِ بلا رحمةٍ وألقى بكَ في جُبِّ يوسفَ عليهِ السلامْ.. هل تغفرُ لنا حماقتنا وبراءتنا وقلَّةَ صبرنا..

قصائدكُ تراوغنا بالذهبِ والصباحاتِ الصيفيةِ ولا نفلتُ بتاتاً من سطوتها اللامعةِ.. فنحنُ مدينونَ لكَ بالنرجسِ وترويضِ الكلامِ الجامحِ في بريَّةٍ ممتدَّةٍ في الفضاءِ خلفَ هذا البحرِ الذي أدمنَ صداقتَكَ. وأدمنَ عشقَ ممالككَ العاليةِ وزهوةَ روحكَ ونبلَ السيوفِ التي حفَّت خيلاءكَ ذات حلم.

لحيفا هسيسٌ ناريٌّ لا يسكنُ لحظةً واحدةً مسائلاً عنكَ. لا يسمعهُ إلاَّ محبُّوكَ وقلبي فهو يرهفُ السمعَ كلَّ صباحٍ ومساءٍ ويمتلأُ بهِ كما يملأُ قوسُ قزحٍ برذاذِ الماء المتطايرِ .

سلامٌ عليكَ وخزامٌ أليفٌ يطوِّقُ وجهكَ
سلامٌ على روحكَ الوامقةِ أمامَ السماءِ كعبَّادِ الشمس
سلامٌ على قمَرِ البنفسجِ في عينيكَ
سلامٌ أخيرٌ على بهاءِ زهرةِ اللوزْ....









*************


قُبلةٌ للبياتي
في ذكرى رحيلهِ العاشرة




عبد الوهاب البياتي أحدُ أعمدةِ الشعرِ العربيِّ الحديث الثلاثة.. إضافةً إلى بدر شاكر السيَّاب ونازك الملائكة. ويحتلُّ البياتي في اعتقادي المكانَ الثاني بعدَ السيَّاب من حيثُ الأهمِّية والدور الريادي الذي لعبهُ في تطويرِ الشعرِ العربي الحديث.
خصوصاً في فترةِ الخمسينات.. أما بعد ذلك فقد انطلقَ وحلَّقَ عالياً في تجربتهِ الشعرية.. بعدَ احتكاكهِ بحركة الشعر العالمي وتأثرهِ بها.
حينَ أخلى السيَّابُ لهُ الساحة الشعرية برحيلهِ عام 1964 فجدَّدَ في نظري في مضمونِ القصيدة وأعطاها بعداً إنسانياً أكثر.
نستذكرهُ اليومَ بعدَ مرورِ عشرِ سنوات على رحيلهِ عن عالمنا فنسترجعُ تلكَ الضجة الهائلة والدويَّ الكبير اللذين أحدثهما برحيلهِ. فنحسُّ ونحنُ نعيدُ تقليبَ صفحاتِ الماضي ونُمعنُ النظرَ في عناوينِ ذاكَ الحدثِ المفجعِ مثلِ( رحيلُ آخر العمالقة) و( انهيارُ آخر ناطحةِ سحابٍ للشعرِ العربي) وغيرها الكثير.. نحسُّ بأننا أمامَ تجربةٍ شعريةٍ عظيمةٍ أرهبَت حتى السيَّابَ في أوائل الخمسينيَّات.
وجعلَت صوتَ البياتي ندَّاً قويَّاً ومنافساً يُحسبُ لهُ ألفُ حسابٍ في الخصومةِ الشعريَّةِ وأيضاً في الزمالة اللدودةِ في اجتراحِ القصيدةِ الحرَّة للسيَّاب ونازك.

خلالَ تعرُّفي على البياتي عام 1998 وقراءتي لدواوينهِ كلِّها في مرحلةٍ لاحقةٍ على تعرُّفي بخصمهِ الألدِّ السيَّاب لم يجذبني كثيراً حينها.. فقد اكتشفتُ سرَّهُ بعد عدةِ سنوات من قراءتي الأولى لهُ. في البدايةِ وجدتُ لغتهُ مختلفةً عن لغةِ بدر.. وكانت تتمحور حولَ الهمِّ الإنساني وتنفخُ في بوقٍ ثوريٍّ حميم وشموليٍّ جامعةً أطيافاً ذاتيةً رفيعةً في أفقٍ إجتماعيٍّ وإنسانيٍّ رحبْ.
فالبياتي عرفَ منذُ البدايةِ أنَّ عليهِ أن ينطلقَ إلأى سماءٍ العالمِ وينعتقَ بالألوانِ الكثيرةِ محرِّراً ذاتهُ من قيودِ الرومانسيةِ والذاتيةِ التي أثقلتْ روحَ السيَّاب.
كانَ عليهِ أن يسبحَ في فضاءٍ جديدٍ لم يسبقهُ إليهِ أحدٌ.. فها هو يسافرُ إلى عاصمةِ روسيا موسكو ويزورُ دولَ شرق أوروبا وإسبانيا ومصر (التي مكثَ فيها زمناً) وأمريكا اللاتينية طامحاً في فتحِ كوَّةِ الطائرِ الحبيسِ في قلبهِ منذُ الفِ قرن.

تعانقَ البياتي فكريَّاً وروحيَّاً مع شعراء عالميين كثر من بينهم ناظم حكمت وبابلو نيرودا وأكتافيو باث ورافائيل ألبرتي وغيرهم من مثقفي الشيوعية وثوَّارها وعلى رأسهم تشي جيفارا. ولا أنسى علاقتهُ بالروائي الكولومبيِّ الكبير والمتوَّجِ بنوبل جابرييل غارسيا ماركيز وإشادةِ الأخيرِ بقيمتهِ ومنزلتهِ في أكثر من مناسبة ومهرجانٍ أدبي.
اكتشفتُ فيما بعد أنَّ البياتي يؤثِّر في القارئِ أكثر من سواهُ من الشعراء العرب المعاصرين. فأصوات البياتي قلَّما تغيبُ من ذاكرة أيِّ شاعرٍ عربيٍّ ستينيٍّ أو سبعينيٍّ أو حتى ثمانينيٍّ .. حتى أنا لم أستطع أن أتفلَّت بسهولةٍ من تأثيرِ جملتهِ الشعريةِ وسحرِ تعابيرهِ الطاغي.
مرحلةُ الشاعر الذهبيةُ تفتَّحت ما بعدَ سنواتِ الستين خصوصاً في السبعينيَّات فما قبل هذهِ المرحلة كانَ البياتي يميلُ إلى سهولةِ القصيدةِ وقصرِ جملها بالرغمِ من براءةِ ألفاظهِ فقد كنَّا نجدُ في ثمارهِ بعضَ الفجاجةِ ربمَّا لكثرةِ قوافيهِ التي كانت توحي بالسجع وتبعثُ على الملَلْ.. وأيضاً لتكرارهِ الجملة الواحدة في قصائد كثيرة. مرحلتهُ التدويرية أنضج بكثير وأكملُ وهيَ التي غيَّرت المفهوم السائدَ بالنسبةِ للقصيدة الوجودية الرازحة تحتَ أعباءِ الحياةِ والمشرَّدة في سهوبِ العالمِ الثالث. البياتي شاعر شموليٌّ بالمفهوم الحديث والدقيق للكلمة. ولكنهُ أحد أعظم ممثلِّي تيَّار السهل الممتنع في القصيدة العربيةِ الحديثة.

يأتي ولعُ البياتي بالصوفيين من شعورٍ عميقٍ بانتمائهِ لتراثهِ الديني وارتباطهِ بالموروث الجماليِّ الضخمِ للشعرِ الصوفي. فقد أغرمَ بالحلاج وابن الفارض وابن عربي وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي منذُ نعومةِ أظفارهِ. ولم يضفي عليهِ هذا التعلُّقُ بهولاءِ إلاَّ قدسيةً وأصالةً وبريقاً وبهاءً في عيونِ مجايليهِ وأندادهِ من الكتَّابِ والشعراءِ العالميين. فهو لم يختر أقنعتهُ عبثاً ولم يتقمَّص شخصيات أبطالهِ من بابِ اللهو والتلاعبِ والمجانيَّة. فهو يحملُ من وضاحِ اليمن وحافظ الشيرازي وبابلو نيرودا ولوركا الأشياءَ الكثيرة. حتى أنهُ في النهايةِ قد انكسرَ تحتَ أعباءِ أشواقِ ابنِ عربي أستاذهِ وشيخهِ على مقربةٍ منهُ في دمشق منفاهُ وقدَرهُ.

ولا أردِّد الآن إلاَّ ما ردَّدتهُ منذ عشر سنوات في مرثيةِ شاعرِ الحبِّ والمنفى والعذاب والأمل:
ومن بعد سبعينَ عاماً من الحبِّ والجوعِ والذكرياتْ
يعود الغريبُ إلى دارهِ من بلادِ الشتاتْ
ومن بعد هذا النـزيفِ الحرورِ بصحراءِ نجدِ
وثلجِ سيـبيريا يسافرُ من بحر وجد لوجدِ
يعودُ السنونو إلى وكرهِ
يحطُّ الرحالَ ويُلقي ذخيرةَ شوقٍ قديمٍ على ظهرهِ
سلوهُ لماذا يعانقُ صمتَ الدجى والبحارْ ؟
ويرقدُ في جفنِ هذا النهارْ ؟
سلُوهُ وفي مقلتيهِ الجوابْ
كضوءٍ بهِ يستنيرُ الضبابْ
لماذا يصيرُ لهيبُ العذابْ
رماداً ويُطوى جناحُ السفارْ ؟
ويبردُ كالثلجِ قلبُ الحياةْ ؟
وتنطفىءُ النارُ...
تخبو قناديلُها الذكرياتْ ؟



***************


محمد علي شمس الدين..
بين لغةِ الحلمِ وهاجسَ الحداثة





أُعجبتُ بكلامهِ عندما رأيتهُ يتحدثُ على فضائيّةٍ سعوديةٍ عن سرياليةِ المتنبي..قالَ أنَ بيت المتنبي المشهور( نحنُ قومٌ ملجنِّ في ثوبِ ناسٍ فوقَ طيرٍ لها شخوصُ الجمالِ ) أروعُ ما لدى العرب من تراثٍ سرياليِّ..ولو عاصرَ دالي المتنبي لرسمَ هذا البيت رسماً يدهشُ كلَّ نقَّادِ الفنِ الحديثْ. كانَ ذلكَ منذُ سنواتٍ عدَّة.. كانَ الشاعر ذكيَّاً في طريقةِ نقاشهِ وعرضهِ لمشكلاتِ الشعرِ العربي الحديث.. ومراوغاً في الإجابةِ على الأسئلةِ الشائكة ومحدِّثاً لبقاً وشاعراً يملكُ ثقافةً استثنائيةً فذَّةً لا زالت تبهرني وتدهشني حتى اليوم.

كانَ يتدفَّقُ في كلامهِ كالنهرِ البريء وكنتُ في شوقٍ مُشتعلٍ بكلِ حرائقِ الشعرِ لسماعهِ.
ولا أُنكر أنني متأثِّرٌ بالشعرِ اللبناني تأثُّراً جارفاً وخصوصاً بالجنوبي منهُ وشاعريهِ الجميلين محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع.. اللذين خلخلا بقصيدتهم التفعيلية وتجديدهم الجمالِّي الجريء مسلَّمات القصيدة العربية الحديثة وغيَّرا مسارها بقوة كأنهما أحفادُ بروميثيوس وحملةُ مشعلهِ المقدَّس في الأرضِ المظلمة.أو أحفادُ ديكِ الجنِّ الحمصي في بلادِ الشام. ديكِ الجنِّ الحمصي الذي تغنَّيا بهِ وبعشقهِ وغيرتهِ وجنونهِ طويلاً.

محمد علي شمس الدين شاعر يدينُ لهُ فنيَّاً وعلى مستوى بناءِ القصيدة الحديثة الكثيرُ من الشعراءِ العرب فهو يعرفُ ماذا يريدُ من الشعرِ ومن نفسهِ أيضاً. تعرفتُ إليهِ عبر دواوينهِ الشعرية التي لا تتركُ القارئ في اطمئنانهِ الشعري أبداً وتدفعهُ للقلقِ المضني والبحث عن الآفاقِ الجديدة المجهولة.
كنتُ قد قرأتهُ بنهمٍ ضارٍ قبلَ عدَّةِ سنواتٍ فأدركتُ انني أقفُ أمامَ قامةٍ سامقةٍ وضاربةٍ في أقصى سماءِ اللغة. لمستُ في كتابتهِ الشعريةِ نموذجاً شعرياً حداثوياً نقيَّاً من الزوائدِ والشوائبِ ومكتوباً بحساسّيةٍ عاليةٍ وتركيزٍ جمٍّ قلما وجدتهما عند غيرهِ من الشعراءِ المعاصرين. فهو يتغلغلُ بحسِّهِ الصافي وذكائهِ الفطري إلى جوهرِ الحداثةِ وسرِّها الدفين متشرِّباً بها حتى النخاع. ومشبعاً ظمأ فؤادهِ وروحهِ التي ترفرفُ في محيطٍ يلهثُ شعراؤهُ في شمسِ الصحراءِ العربيةِ القاسية.
أظنُّ أنَّ الكثير من الشعراءِ العربِ تأثروا ظاهرياً بالحداثةِ المستوردةِ من الغربِ وربما بأفكارها أيضاً ولكنهم ظلَّوا بعيدينَ عن نفسِّيتها والخوض في غمارها ذلكَ أنهم لم يرضعوا لبانها في المهادِ ولم يدرجو على هواها في الطفولة وإنما تلَّقوها عن مدارسَ ومنظرِّين وشعراءٍ تأثروا بها أكثر من معانقة نارِ حقيقتها. ومعرفةِ خفاياها.
ولا أريد أن أشيرَ إلى شعراءَ كأدونيس وعبد العزيزِ المقالحِ هنا وهم في نظري مجدِّدون في الأشكال الشعرية أكثر منهم مجدِّدين في المضامين. بل أكتفي بالقولِ أنَّ شعراءَ الحداثةِ المرموقينَ بذلوا قصارى جهدهم لكي يصلوا إلى حالةِ الرضى النفسي حولَ تجاربهم الشعريةِ. ومنهم محمود درويش وسعدي يوسف ونزيه أبو عفش وحسب الشيخ جعفر ولكنهم لبعدهم عن منابعِ الثقافةِ الفرنكفونية في فترةٍ مبكِّرةٍ على تفتُّحهم الشعريِّ أخفقوا في كتابةِ قصيدةٍ عربيةٍ ينطبقُ عليها مقياسُ الحداثةِ بكلِّ الجماليَّاتِ والعناصرِ المتعارفِ عليها.
يقول حولَ سؤال عن الماضي في شعرهِ وتجليَّات الحياةِ الجميلة : ( عمليّة القطع مع السيرة ليست سهلة ولا صحيحة. الحداثيّون في الغرب Modernists قطعوا مع الماضي، حتى إن (ماياكوفسكي) اعتبر الرومنسيّة كعضو مريض في جسم حيّ. ايضاً (يوجين يونسكو) المسرحي السوريالي الفرنسي، كتب هجائيات لفكتور هوغو. ثمّ استيقظ العالم على ما بعد الحداثة ليجد أن الحداثيين لم يفهموا جدل العلاقة مع الماضي. لا شيء يموت. كلّ شيء يولد. الولادة هي تجدّد. كلّ قصيدة تخزن كلّ الشعر. لا يؤسّس تجاوز على أي جهل. المعادلة هنا دقيقة جدّاً وخطيرة.)


شمسُ الدين شاعر ثقافةٍ مركبَّة كما يقولُ عنهُ المستشرق الإسباني بدرو مارتينيز مونتافيز فما أن فتحَ عينيهِ على دنيا الشعرِ إلاَّ وجدَ نفسهُ متوفِّراً على منابعِ الكبارِ من الشعراءِ النبوءيونَ أمثال ملارمه وبودلير ولوتريامون ورمبو هؤلاء اللذينَ جعلوا للقصيدةِ رؤى مجنَّحةً ولما يتصِّلُ بها من طقوسٍ لكتابتها أداةً لفهمِ واقعِ الحديدِ والذهب.. وخيطاً رفيعاً من النورِ يربطهم بالوحيِ ولغةِ الأحلامِ الشفيفِ الرفيعة.
لا أعرفُ سبب قلَّةِ انتاج الشعراءِ اللبنانيين وعلى رأسهم محمد علي شمس الدين الذي لم ينتج نصف ما أنتجهُ مجايلوهُ فلهُ عشرة دواوين صغيرةِ الحجمِ كبيرةِ القيمةِ أولها( قصائد مهرَّبة إلى حبيبتي آسيا) وآخرها (الغيومُ التي في الضواحي) الصادر عام 2008 الذي نلمسُ فيهِ لوعةَ ومرارةَ حرب تموز عام 2006ولا يفارقنا شبحُ الحزن على ما حصلَ بالجنوب.ولهُ أيضاً ثلاثةُ كتبٍ نقديةٍ هي رياح حجرية ..والطواف.. وحلقاتُ العزلة. ويحضرني الآن أيضاً الشاعر اللبناني أنسي الحاج فقد بنى مجدهُ الشعري على أقَّل من سبعةِ دواوين.فالمسألة مسألة كيف لا كم في الكتابة.

منذُ ديوان شاعرنا الأوَّلِ ( قصائد مهرَّبة إلى حبيبتي آسيا) الصادر عام 1975 وهو في ارتقاءٍ تعبيريٍّ مستمرٍ نحوَ الكمالِ المجازيِ. فهو يشدِّد كثيراً على الناحيةِ الصورية والحسيَّة في قصيدتهِ. ونجدُ في ديوانهِ هذا أنهُ منذُ بداياتهِ لا يقولُ كلاماً مجانياً ولا يحفلُ بالشعاراتِ المستهلكةِ ولا بالتقريرية. هناكَ فقط ايحاءٌ شعريٌّ فذٌّ وتراكيب منحوتةٌ من أقصى الروح.
نراهُ بعدَ ذلكَ يصعدُ في أُفقٍ تخييلي مزركش بالألوانِ الضاريةِ وفي اتجاهٍ عموديٍ في أعمالهِ اللاحقةِ مثل( أما آنَ للرقصِ أن ينتهي؟) فنلمسُ هذا التمرَّدَ الخطيرَ على ترسُّباتِ القصيدةِ العربيةِ من أواخرِ الستينياتِ إلى يومنا هذا.ونجدُ أيضاً التبرَّم الواضحَ بأساليبِ اللذينَ يرتكزونَ على التراثِ من غيرِ أن يفهموا متطلباتِ الكتابة الشعريةِ الجديدةِ ووعيها العميق. فهم لا يعترفونَ بأنَّ وراءَ الليلِ التتريِّ شمساً للحرية.
فالقصيدةُ مشروعُ مغامرةٍ وتحدٍّ دائمٍ وليسَ في الشاعرِ الإشكاليِّ أيَّةُ صفةٍ تدعو إلى القناعةِ والكفافِ على مستوى الخيالِ والرؤيا.. فهو في بحثٍ مستمرٍ عن الأمثل والأجدر.
وفي قلقٍ وجوديِّ كأنَّ الريحَ تحتهُ وكأنهُ على سفينةِ السندبادْ.
إذن نحنُ أمامَ شاعرٍ عربيٍّ اشكاليٍّ يبلغُ في كتابتهِ أقصى حدودِ الاشكاليةِ والجمالِ وما بعدهما تغني قراءتهُ كلَّ بضعةِ شهور عن عشراتٍ غيرهُ ولهذا السبب أجدني أعودُ إليهِ كُلَّ بضعةٍ شهورٍ لأقفَ على مصادرِ الرحيقِ والشهدِ. لا لشيٍ فقط لجدَّةِ معانيهِ وكثافةِ صورهِ وأصالتهِ. وهذا ما حدا ببعضِ النقادِ العربِ إلى الإشادةِ بأهميةِ تجربتهِ والإشارةِ إلى قدرتهِ غيرِ المسبوقةِ على استعمالِ الرموزِ والأساطيرِ وتوظيفها بالشكلِ اللائق.

فهو قيس وجميل وكلُّ العشَّاق العرب في آن واحدٍ وهو يستندُ على التراثِ العربي بقدرِ ما يستندُ على التراثِ الغربي.. يقولُ في آخرِ دواوينهِ (الغيوم التي في الضواحي) في قصيدة (وجهٌ لليلى) ويرتكزُ على ما تبقَّى من الضوءِ في عينيِّ ليلى العربيةِ كما ارتكز أراغون على عينيِّ إلزا من قبلهِ:
باب ليلى
كان عشقي لها يعذبني
وموتي جميلا
على قاب قوسين من بابها
يصطفيني
تقول:
وهل أنت قيس العليل؟
أقول: نعم
وأضيف: القتيل
إن ليلى
التي لا تزال هناك
محجبة لا تراني
تحيط بها نسوة من حديد
ورجال عبيد
ونسر عجوز على بابها
يرصد القادمين إليها
فيا أهلها في العراق
اسمعوا زفرتي
وهي تمضي مع الريح
أو دمعتي
وهي موصولة بالفرات الجريح
من الشام تمضي
مواكب عشقي
وتحمل راياتها
في الفلاة
وتحدي لها
بالغناء الحداة
ولكن ما حيّر العقل
حتى براه الجنون
أن ليلى
-التي مت في حبها ألف عام-
تخون


أعتقدُ أننا نحنُ العرب محظوظونَ بشاعر مثل محمد علي شمس الدين متمِّم مسيرة بدر شاكر السيَّاب الذي أحبَّهُ وتأثَّرَ بهِ ولكنهُ اختلفَ عنهُ.


********





مُعضلةُ الصَداقةِ اللدودةْ





تتسِّمُ العلاقةُ بينَ أدبائنا في أغلب الأحيانِ بما يمكن أن نُطلقَ عليهِ تعبيرَ الصداقةِ اللدودةْ. تلكَ النابعة من عدمِ ثقتهم بعضهم ببعض. وبغيرتهم المقيتةِ الجوفاءِ وحسدهم المَرَضي الناتجِ عن ضعفٍ في إنسانيتهم ووسواسٍ يسكنُ مخيَّلتهم.
وهذا ما يلمسهُ ويحسُّهُ ويراهُ بأمِّ عينيهِ كُلُّ من يتعاطى هذهِ المهنةَ الملعونةَ أو حرفةَ جدِّنا الجاحظ. ولا يقتصرُ هذا المصطلحُ الضيِّقُ الجوانبِ على فئةٍ معيَّنةٍ من الناسِ. فمن السذاجةِ أن نظنَّ ذلكَ. بل هو يمتدُّ حتى يطالُ المثقَّفينَ والمبدعينَ والفنانينَ وحتى أصحابَ المقامات العاليةْ. وحتى الإخوةُ اللذِّينَ سكَنوا داخلَ رحمٍ واحدٍ لا يسلَمونَ من نارِ هذهِ النـزعةِ الناقصةْ.
ولقد أعترفُ أن خصلةَ الحسدِ والغيرةِ لا يكادُ يسلمُ من لوثتها إنسانٌ إلاَّ من عصمَ اللهُ. فكُّلُّ العلاقاتِ الإنسانيةِ محكومةٌ في ما وراءِ كواليسها في النهايةِ لمشاعرَ متضاربةٍ وعواطفَ سوداءْ.
ولا أعتقدُ أنَّ السببَ الذي يجعلنا نضمرُ مثلَ هذهِ الأحاسيسِ التي لا تسمنُ ولا تُغني من جوعٍ جديرٌ بشكلٍ أو بآخرَ بالوقوفِ عندهُ أو ربمَّا هو مهمٌّ ومصيريٌّ في حياتنا ليجعلنا نتنَّكرُ بعدَ طولِ عشرةٍ لأقربِ المقرَّبينَ إلينا ونطعنُ في ظهورِ أحبائنا. ربمَّا ينبعُ هذا السببُ من الإرثِ الأبديِّ الخاسرِ الذي ورثناهُ عن جدِّنا قابيلْ حينما قتلَ أخاهُ مدفوعاً بغرائزهِ الجهنمِّيةْ.
يحدثُ عادةً أن تجلسَ بصحبةِ من يدَّعونَ حبَّكَ أمامكَ وهم في حقيقةِ نفوسهم وطوايا قلوبهم كاذبونَ وما وهم صداقتهم لكَ إلاَّ كحبالٍ من سرابٍ يحاولونَ بواسطتها التسلَّقَ والوصولَ إلى ما يريدونَ من مآربَ صغيرةٍ رخيصةْ.
أشدُّ ما يُزعجني في أصدقائي الحسدُ على ما أنا باكٍ منهُ كما قالَ المتنبي ذاتَ يومٍ لأنهُ أدركَ بفطنةِ قلبهِ أنَّ العربَ بالذاتِ يُسيطرُ عليهم منطقُ القبيلةِ ولا يستطيعونَ الفكاكَ مهما فعلوا من عقليَّةِ الجاهليةِ الغابرة.
إنَّ رغمَ ما يُزيِّنُ نفوسَ الشعراءِ والأدباءِ من طيبةٍ وحُبٍ للخيرِ والتسامحِ فهم لا يزالونَ مدفوعينَ إلى عصورِ الظلمةِ الشعورية. ورغمَ ما يملأُ حدائقَ قلوبهم من أزهارٍ وطيرٍ وأضواءِ نجومٍ زرقاءَ كنجومِ الشاعرِ الفرنسي أرثور رمبو فهيَ لا تخلو عادةً من بعضِ العناكبِ السوداءِ القاتلةِ اللسعاتْ.كنتُ دائماً أعتقدُ أنَّ انهزاميتنا المُتجَّذرةَ في أعماقِ التاريخِ والماضي هيَ التي تدفعُ كاتباً صديقاً متخفيِّاً وراءَ اسمٍ مستعارٍ ليهاجمكَ على موقعٍ مبتذلٍ على شبكةِ الإنترنت من دونِ أيِّ ذنبٍ إقترفتهُ. فقط لنشر قصيدةٍ أو مقالٍ أو ربمَّا نجاحكَ بنشر مجموعةٍ شعريةٍ انتظرتْ طويلاً.
هشاشةُ العلاقةِ بينَ الأدباءِ لا أشبِّهها إلاَّ بإشكاليةِ العلاقةِ بينَ متنافسينَ في كُلِّ شيءٍ حتى في أحلامهم ويقظاتهمْ. اشكاليَّة محكومةْ أيضاً بالأهواءِ والأمزجةِ الشخصيَّةِ. فيا حبَّذا لو ترَّفعْنا عن كُّلِّ هذهِ الصغائرِ ونظرنا إلى أعمقِ ذواتنا وطهَّرْنا مرايانا من الأنانِّيةِ والكُرهِ والرغباتِ المُبتذلةْ.


******************



ألبحثُ عن الأوتوبيا





أُصارحكَ القولَ أيُّها الآخرُ يا أخي.. يا صديقي وشاعري القريبَ إلى حافةِ القلبِ كحبَّةِ اللؤلؤِ والمملوءَ بالشَجَنِ الدافئِ كمياهِ الينابيعِ الجوفيَّةِ.. أنَّني منذُ كنتُ وأنا أبحثُ عنكَ كمن يبحثُ عن خيطِ النورِ في غابةِ الظلامِ وأتلَّمسُ نبضَ شعركَ في الريحِ الزرقاءِ العقيمةِ.. لقدْ كنتَ قنديلي في البداياتِ ونجمةَ ليلي الدجوجيِّ البهيمْ.
كنتُ أسألُ عنكَ عبثَ الروحِ وضياعها وأركضُ خلفَ سرابكَ اللا متناهي المضيءِ بماءِ السحرِ والنبوءة.. وعندما كنتُ أغرقُ في خضَّمِ ألمي وأسئلةِ وجودي أجدكَ يداً من حريرٍ خضيرٍ تمتدُّ لي كتلويحةِ الشمعِ الأخضرِ.
وكم مرَّةً شحذتُ همَّتي التي فتَرَتْ مراراً وتكراراً لكتابةِ قصيدةٍ جديدةٍ حبلى بالنورِ والحدائقِ البابليةِ.. وكنتَ لي حينها أجنحةَ النسرِ في مواجهةِ العاصفةِ الرعناءِ.. والشراعَ القزحيَّ في مواجهةِ التيار الهادر.
كانَ كلامكَ يشبهُ عطفَ وحدبَ الأبِ على ابنهِ الضَّالِ في متاهةِ الحرِّيةِ والحُبِّ الخائبِ.. معكَ أعرفُ أنَّ الحياةَ لا كما يُصوِّرها لنا الآخرونَ أنَّها أوتوبيا عادلة ملأى بالفراديس وكنتَ تضحكُ في أقاصي روحكَ سراً وتقولُ أنَّهُ ولا حتى مليونَ شاعرٍ كفرجيلِ أو هوميروس أو محمود درويش أو المتنبِّي أو ربمَّا ملارمه أو شكسبير أو يانيس ريتسوس بقادرينَ ولو للحظةٍ واحدةٍ وقفَ هذهِ المأساةَ أو تحويلَ هذهِ الحياةَ الرجيمةَ إلى أوتوبيا شاعريَّةٍ عادلةٍ تنادي بالقيَمِ الساميةِ ولكنَّكَ كنتَ تقنعني بأنَّ مرضَ الكتابةِ والشعرِ قدرٌ من السماءِ لا مفرَّ لنورسِ القلبِ منهُ ولا مناصَ لفراشاتِ الندى والأقحوانِ من نارهِ الملساءِ الحمقاءْ.
ألشعرُ إذن قدرٌ من السماءِ وعلينا نحنُ العبيدُ البسطاءُ أنْ نتقبَّلهُ نعيماً كانَ أو جحيماً.. شوكاً أو زنبقاً.. مطراً ناعماً أو أحجارَ سجيِّلْ.
أنتَ يا آخري الذي لمْ أستطع الإفلاتَ منهُ... من أغراني بهذهِ اليوتوبيا الكاذبة والخُلَّبِ كبرقِ الحياةِ... أنتَ لا أحدَ غيركَ من دفعني على مركبِ سندبادَ لأعيدَ فصولَ روايةِ يوليسَ وأعيشَ العمرَ كلَّهُ على قلقٍ كأنَّ ريحَ المتنبِّي من تحتي ومن فوقي وعن شمالي ويميني وفي قلبي وروحي.
لا تزالُ كلمتكَ ترنُّ رنيناً خفيفاً في سمعي وترسبُ في قاعِ القلبِ كالدرةِ الثمينةِ في جوفِ البحرِ الصامتْ.... أنا في شوقٍ ربيعيٍّ خاسرٍ لتلويحةِ مراياكَ المندثرةِ وأنهمرُ كالضوءِ على عالمي الداخليِّ وجسمِ الأوتوبيا.. وليذهبْ ندمُ ديكِ الجنِّ على حبيبتهِ وردَ إلى الجحيمْ... وليصيرَ شعرُهُ هلاماً لكلامي.
مرَّةً قلتَ لي ما معناهُ أنَّ القصيدةَ هيَ مركبٌ سكرانٌ من مراكبِ رمبو ربَّما يحملكَ إلى الفردوسِ أو إلى الجحيمِ.. القصيدةَ شتاءٌ من المجازِ الحُرِّ مُبلَّلٌ بالأحاسيسِ الغريبةِ والاستعاراتِ المُجنَّحةِ.. ودربٌ مسكونٌ بالنورِ والندى وعبقِ الأرجوانِ إلى الأوتوبيا الموعودةِ المُعلَّقةِ في أعلى اشتهاءاتنا الخاسرةِ.. تلكَ التي كانتْ كانت قابَ قبلةٍ من دمي ولمْ أنجحْ البتَّة باحتوائها ساعةَ احتضانِ ضبابها اللا مرئِّيْ والمخاتلِ مثلَ نهرٍ يختبئُ في السماءْ.
منذُ تلكَ اللحظةِ وأنا أبحثُ عنكَ وعنها في خلايا دمي وفي قصيدتي ورمادِ عنقائها وترابِ سمائها البلوريِّ بلا فائدة.. أبحثُ عنكما فلا أرى غيرَ ظلِّكَ رابضاً على مساحةِ الشعرِ والحدائقِ والشتاءِ... ولا أرى غيرَ تطايرِ أوراقها المُلوَّنةِ في السماءِ السابعةِ ولا أحسُّ إلاَّ بانسرابِ شعاعها من وصايا دمي وأقاصي هيامي.
نمْ أنتَ يا صديقي وهيَ هناكَ في البرزخِ اللا محسوسِ تماماً كالقصيدةِ التائبةِ المحمولةِ إلى أعلى فراديسِ انتظاري... أمَّا أنا فلا لن أحطَّ رحالَ حلمي ولن أصادقَ غيرَ ريحِ جديِّ المتنبِّي... سأصعدُ أعلى هاويةٍ فيكما وأصرخُ كالذئبِ الضاري في ليلكما الحميمِ... وأبحثُ عنكما إلى الأبدْ..... إلى الأبدْ.



************************


الطيِّب صالح يهاجرُ جنوباً




لم أقرأ رائعة الطيِّب صالح موسم الهجرة إلى الشمال إلاَّ مؤخَّرا قبلَ عدةِ شهور وكم عاتبتُ نفسي لذلكَ.. منذ سنينٍ وأنا أتلهَّفُ لقراءتها ولم أفعلْ رغم ما كنت أسمعُ عنها من أهميَّةٍ أدبيةٍ رفيعة منذ سنواتٍ عديدة وأنها تضيفُ لقارئها الكثير.. حتى أنها اختيرتْ عام 2002 ضمن أهمِّ مائة رواية عالمية وقد اشترك مئةُ ناقد وكاتب عالمي من أكثر من 50 دولة لتقييمِ الأعمال المختارة.
موسمُ الهجرةِ إلى الشمال روايةٌ تستحوذُ على كلِّ مشاعركَ بلا استئذانٍ وتضربكَ كأنها إعصار إفريقيٌّ قادمٌ من الشمالِ حيثُ عاشَ بطلها وغامرَ وقاربَ بينَ جسدِ أوروبا البضِّ الفائرِ المنادي بألفِ فمٍ المشتعلِ بالرغباتْ وجسدِ أفريقيا الذائبِ شوقاً ولهفةً إلى حريَّةِ المعرفةِ وحريَّةِ الحبِّ والحياةْ.
تعتبر هذه الرواية الخالدة من أروع الروايات العربية التي تناولت الصراع الإنساني بين عقليَّة الغرب وروحانية الشرق حتى أن بعض النقاد ومنهم الناقد المصري رجاء النقَّاش قد تعاطفَ جدا مع هذه الرواية بزعمِ أنها فريدةٌ في موضوعها وطريقة سردها وفلسفتها بين الرواياتِ العربيةِ الأخرى المعاصرةِ لها حينها. وقالَ أيضاً أنَّ لها بعداً خفيَّاً لا بدَّ من الوصولِ إليه.
بينما ربطَ البعض بينها وبين توارد أفكار أو خواطر في روايات أخرى مثل قنديل أم هاشم للكاتب المصري يحيى حقِّي وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم . والحيُّ اللاتيني لسهيل ادريس وقارنَ البعض بينها وبين مرتفعات وذرنغ للكاتبة الإنجليزية إميلي برونتي .
بطلُ رواية الطيِّب وهو مصطفى سعيد شخصية عميقة وغامضة تجمعُ في كيانها العبقري والشرقي الرومانسي والإفريقي الباحث عن ذاتهِ والرجلُ المتمرِّد.
ويقول الطيِّب صالح أن بعض النقاد والدارسين وجدوا في الرواية ثقافات من مختلف الأجناس ولمسوا أيضاً فلسفات لشعوبٍ كثيرة ولم يستطيعوا أن يجدوا أثرَ المتنبي كبريائهِ العربيِّ فيها. أي لم يعثروا على العنصر العربي في تكوينها.
يبدو الكاتب في روايتهِ تائها يبحثُ عن نفسهِ في كيانِ غيرهِ. كبحثِ مصطفى سعيد عن أسئلتهِ في علاقتهِ بجين موريس... وفي أجسادِ نسائهِ الأخريات اللواتي تهاتفنَ على سمرةِ جلدهِ وبريقِ عينيهِ وحدَّةِ عقلهِ وطقوسهِ السحريةِ الغرائبيَّةِ.
لا أريدُ أن أثقلَ الروايةَ بالبعدِ الجنسي الذي اعتمدتهُ الرواية في بعض تصريحاتها وتلميحاتها هنا وهناك على لسان بنت مجذوب أو ود الريِّس . فهنا يشفعُ للكاتب جمالُ تصوريهِ الواقعيِّ للحاضر السوداني الرامز إلى الشرق العربيِّ بكلِّ ما يحتوي من خرافات وسحر وضلالات وتجاوزات.هيَ مواجهة بينَ انسان العالمِ الثالثِ بكلِّ ما لديهِ من أدواتٍ وخصائصْ وبينَ انسانِ العالمِ الأوَّلِ المتقدمِ .
في حديث للطيَّب صالح يقولُ فيهِ أنه التقى بجين موريس بطلةِ روايتهِ موسمِ الهجرةِ إلى الشمالْ واحتسى معها القهوة في متحف الفنون بلندن. وهناكَ دارَ بينهما حديث طويل حولَ الحضارة الغربية والشرقية وأسباب الخلاف وأوجهِ الشبهِ وحولَ مفاهيمِ الحريَّةِ والحبِّ. وافترقا بعد ذلك ولم يلتقيا. وكان ذلكَ الحديث هو الخيط الرفيع الذي راحَ الكاتبُ ينسجُ بهِ أولى أحلامِ الروايةِ العظيمة. التي كانت نقطة تحوُّل في الروايةِ العربية الحديثة .
موسمُ الهجرةِ إلى الشمال رغم رصانةِ لغتها العربيةِ وجدَّتها روايةٌ حديثة بكلِّ ما في الكلمةِ من معنى ذلك أنها تلتصقُ التصاقاً وثيقاً بالواقعِ من حيثُ الصور والإيحاءِ وتسلسلِ الأحداث بينما هيَ تبحثُ موضوعاً فلسفياً رمزيَّاً وتحملُ أفكاراً ساميةً تعبرُّ عنها بزخمٍ وحسٍّ كونيين من منطلق الحبِّ والمعرفةِ واللذةِ والموتِ وهذا ما منحها عالميتها وشهرتها إذ تُرجمتْ إلى أكثر من ثلاثين لغةٍ حيَّةٍ . وأظنها كانت جديرة أن توصلَ صاحبها إلى مصافِ نوبل التي زهدَ بها لتطَّفلِ العرب عليها حسبَ قولهِ.
إذن الطيِّب صالح هو مصطفى سعيد أو ربمَّا هو جزءٌ لا يتجزَّأُ منهُ. أو يجوزُ القولُ أنَّ مصطفى سعيد شخصيةٌ مثيرةٌ للجدلِ من صنعِ الطيب صالح قد جعلَ منها خلطةً غريبةً مزجَ فيها تجاربَ من عرفهم من سياسيين وأدباءْ وأصدقاء سودانيين في لندنْ.
في هذهِ الشخصيَّةِ استلهمَ الكثير من الأفكار الناجحةِ أدبيَّاً وعلى المدى البعيد.
وهذا رأيي الشخصي.. أذكرُ منها تمسكَّهُ بواقعهِ وحضارةِ شعبهِ وتمازجَ الأضدادِ في موضوعاتهِ والبحثِ عن وسيلةٍ جديدةٍ يعرضُ من خلالها حلمَهُ باكتشافِ الغير وهو في قمةِ اعتدادهِ بنفسهِ وحضارتهِ وفي أوجِ طموحهِ ورغبتهِ المتأججةِ المُحرقةْ.
لا تهمُّني تفاصيل الرواية بقد ما يهمُّني مغزاها المُبهم والمفتوح على الاحتمالات فلا هيَ رمزية في نظري لا هيَ واقعية صرفة هي تمازج بين هذا وذاك وإناء شفَّاف عرفَ كيفَ يستعملهُ الطيِّب بحيثُ يصبُّ في داخلهِ ما يشاءْ من رؤيةٍ جديدة مفعمةٍ بالأملِ والندِّيةِ تجاهَ الغربِ المتعجرف وعنجهيتهِ واستعبادهِ للرجلِ الأسودِ وموطنهِ أفريقيا . هيَ وثبةٌ في وجه الظلمِ والإستعلاءِ الغربيينْ .وردُّ اعتبارٍ للكرامةِ الإفريقية المستلبةِ منذُ قرونٍ عديدة على يدِ ذاتِ الجمالِ والحضارةِ والسطوةِ والنفوذِ ( الإمبراطورية البريطانيةْ ) .
عودةُ مصطفى سعيد إلى الوطن بعد مغامراتهِ العاطفيةِ ورحلتهِ العلميةِ العريقةِ في بلادِ الضبابِ فيها الكثيرُ من الغموض وموتهُ في قريتهِ فلاحاً فقيراً يجعلُ الروايةَ من أعصى الرواياتِ وأعظمها في آنٍ واحد. بل أنَّ موتهُ على ترابِ وطنهِ أخيراً يذكرُّني اليومَ بهجرةِ الطيِّب صالح الأخيرةِ إلى وطنهِ جنوباً بعدما ملأَ الدنيا وشغلَ الناسَ ووطنَّ النفسَ لينامَ قريرَ العينِ في ظلِّ نخلةٍ عاشقةٍ على ضفةِ نهرِ النيلِ الذي أحبَّهُ بكلِّ كيانهِ... فوداعاً أيُّها الطيِّبْ .

***************


أقمارٌ مائيَّةٌ لشرفةِ السيَّابْ

في ذكرى رحيلهِ الرابعةِ والأربعينْ



ذاكرةُ الحبقِ الشعريّْ



القصيدةُ السيَّابيَّة تسدُّ عليَّ جميعَ المنافذ. وتراودني عن كُلِّ شيءْ . عن الحنين الطفوليِّ والمطرِ والندى والذاكرة . لا أعرفُ لماذا ينهلُّ الحبقُ من الجهاتِ الستِّ ويرشحُ زهرُ اللوزِ غيرُ المرئيِّ في فضاءاتِ خيالي وكياني المحترقة .
أكُلُّ قصائدهِ حدائقُ تجمعُ كلَّ الزهورْ ؟؟!
لا أدري ما الذي أصابني بحنينِ النحلِ إليها ؟؟
ها هنا من خلالِ عينيهِ السماويَّتينِ أرى إلى جلجامشَ وهوَ يجرُّ الزمنَ العجوزَ من قرنيهِ إلى الحقيقةِ المطلقةِ كألفِ شمسٍ ربيعيَّةْ .
***

بئرُ الأساطير


ما أشبَهَ الحياةَ الشخصيَّةَ لشاعرنا بالبئرِ العميقةِ المسحورةِ والخافيةِ الكنوزِ والأساطير. هكذا كنتُ أحسُّ عندما أقرأُ في الكتبِ والمراجعِ التي دوَّنتْ سيرتهُ الشعريَّة والحياتيَّة . وكم كانَ يعجبني ويجذبني الكاتب الفلسطيني الدكتور عيسى بُلاَّطة في كتابهِ الذي ألَّفهُ عن شاعرنا . ولا يقلُّ عنهُ جمالاً وذكاءً وبحثاً وتمحيصاً كتابُ الناقد الفلسطينيِّ الكبير اللامع والرائع إحسان عباس . فقد انكبَّا على بئرٍ لا تنضبُ أساطيرها مدى الدهرِ ومدى الشعرِ والسحرِ . ومتَحا منها ما شاءَ لهما أن يمتحا . حتى سكرَ كُلُّ من شربَ من هذهِ البئرِ الغريبةِ . ولم يعُدْ إلى صحوهِ المُكفهرِّ ولم يفق لهُ قلبٌ أبداً .
***

بين إمرئِ القيسِ وت.س. إيليوت


بوتقةُ القصيدةِ لدى بدر تضمُّ غزلَ امرئ القيسِ النقيَّ البريءَ وذهنيَّةَ وعمقَ الشاعر الإنجليزي ت.س.إيليوت. وهذا ما جعلَ التنوَّعَ في النصِّ الشعري يبهرُ الجميعَ ويرتقي بالذائقةِ الجماهيريةِ .
غزَلٌ ومرحٌ وعبثٌ وفرحٌ وبكاءٌ وشجنٌ ..كلُّ هذا بمقدارٍ معلوم . إلى جانبِ عمقٍ وثقافةٍ وتوظيفٍ ذكيٍّ وبارعٍ للإشاراتِ التاريخيةِ والرمزية. بالإضافةِ إلى مسحاتٍ متوهجَّةٍ من الأصالةِ التعبيرية والمجازيةِ العربية .
نحنُ إذن أمامَ بوتقةٍ مُلوَّنةٍ غنيَّةٍ متموِّجةٍ بالتناصْ والخيالِ والصور الشعريةِ الجديدةِ والمعاني البكرِ التي لا أظنُّ أنَّ شعراءنا كانوا سيفطنونَ لها حتى لو بعدَ قرنين أو ثلاثةٍ من الزمنْ .
***

جيكورُ أمَّاً


لا شكَّ أنهُ لا توجدُ بينَ القُرى والمدائنِ التي ولدَتِ الشعراءَ أمٌّ أحنُّ وأعطفُ على ابنها من جيكور . لذلكَ حفظَ لها شاعرها الأزليُّ هذا الوُدَّ . وتغنَّى بعطفها وحنوِّها وجمالِ بساتينها وغاباتِ نخيلها ونقاءِ هوائها .
فهيَ للسيَّابِ بمثابةِ نهر أيفون لشكسبير . أو دمشق القديمة لنزار قبَّاني . أو قلب فلسطين النابض بالوفاءِ لمحمود درويش . أو غابات تشيلي وسحرها لبابلو نيرودا أو العاطفة الأندلسِّية لغارسيا لوركا .
إنَّ كُلَّ كلمةٍ في أواخرِ حياةِ الشاعر كانتْ مشدودةً بحبلٍ من الضوءِ الخفيِّ النديِّ إلى جيكور . إلى قلبها المشتعلِ بالحنانِ.
وعبقريَّةِ ابنها البارِ وعاطفتهِ المذهلة .
***


أحلام غرائبِّية لإيديث ستويلْ


كادَ الطفل في الشاعر أن يلمسَ أحلام ايديث ستويل بقلبهِ
كادَ أن يلبسَ معطفَ أوراقها واخضرارَ لياليها وبحيراتها
كادَ أن يكونَ أناها الآخر
وبسمتها التي يشقُّ بها ضبابَ العالمِ الحجريِّ
كادَ أن يكونَ نفسَهُ وروحَ حلمهِ وحلمها.
***

شاعرُ الوطنِ المذبوحِ بسيفِ الأعرابْ


قلَّما يتغلغلُ شاعرٌ إلى مطاوي نفسكَ كما يتغلغلُ السيَّاب . حتى كأنَّ شعرهُ عنقاءٌ أو كائنٌ ضوئيٌّ يخترقُ ما ظلَّ فينا من الصخورِ والصلصالِ والترابِ والضبابِ والأسئلةِ والموسيقى الخفيَّةِ الزرقاءْ .
فهو يمتحُ الكلمةَ من بحارِ أساه وينحتها من مقالعِ حزنهِ وفرحهِ بالحياة . من عيدهِ المعلَّقِ فوقَ غاباتِ النخيلْ . من مأتمهِ القائمِ في أعالي وطنهِ المذبوحِ بسيفِ الأعرابْ .
ألشعراءُ لديَّ في كفَّةٍ والسيَّابُ في كفَّةٍ أخرى . لا لشيءٍ ... لا لشيءٍ .. فقط من أجلِ هذا الدفقِ الحريريِّ الرخص ِ الهادرِ كمهرةٍ أصيلةٍ في حنايا قصيدتهِ الجريئةِ والبريئةِ والمنفعلةِ والمشتعلةِ بالماءِ وسرابهِ .
***

مائيَّةُ السيَّابْ


لم يفتقدَ بدرُ مرحَ بويبْ حتى آخرِ لحظةٍ من حياتهِ العريضةِ القصيرةِ والقصيدةِ أيضاً . وهذا ما جعلَ أصابعنا الحجريَّةَ تتفتَّتُ في حضرةِ موجهِ الناعمِ . المُباغتِ والمليءِ بالتحنانِ والذكرى .
لا أكادُّ أمسُّ بقلبي قصيدتهُ حتى تمتلئُ صحراءُ أيامي بالرذاذِ . وتطفحُ بالرشاشِ الحبقيِّ الدائمِ . ويطفحُ قلبي بأشعارِ سافو . ولا أرى حينها إلاَّ احتراقَ السفنِ الورقيَّةِ الصغيرةِ في اليمِّ الغامضِ . ولا أسمعُ إلاَّ صياحَ بحَّارةٍ مجهولينَ يأتي من البعيدِ تحملهُ رياحُ السندبادِ ونارُ إيديث ستويل المُجنَّحة .
***

قصاصةُ عطر


لا هنا ... ولا الآن ..... في حضرةِ الليمونِ.. والسوسنِ .. وحدائقِ بابلَ المعلَّقةِ الموجودةِ والمفقودةِ ... والمرميَّةِ في بحارِ الروحِ.. وغيابها الورديِّ.....
في لجَّةِ حرائقِ الشعرِ وعذريَّةِ بخورهِ وعبقهِ يترامى العطرُ الأنثويُّ الأسطوريُّ ويتسلَّقُ جدرانَ المُخيِّلةِ الزرقاءْ .
ذلكَ العطرُ القادمُ من الأماسي البعيدة المذهَّبةِ العاطفةِ والشعورِ والخيالْ .
***

نهرُ الوردِ المُجفَّفْ


يتراقصُ في اللا مكانِ على أعلى ضفةٍ حالمةٍ بالصباحِ الغريبِ العاشقِ نهرٌ كأنهُ قلبُ شاعرٍ يعشقُ سبعَ حوريَّاتٍ جامحاتِ الجمالِ والفتونِ والجنونِ والهوى
نهرٌ خالدٌ متجدِّدُ الأشواقِ والأوراقِ والرؤى وألوانِ السريالييِّنَ الفرنسيِّينْ
نهرٌ يعانقُ طيفَ من أحبَّ وصدَّتهُ بلوعةٍ كهربائيةٍ وروعةٍ عاليةٍ
يجذبني ترجيعُ خريرهِ كأنهُ السيرينُ الخُلَّبُ وكأنني توزَّعتُ إلى ألفِ عوليسٍ مسكونٍ بالرهبةِ والندمِ والعشقِ القتَّالِ والكبرياءْ
تماماً كأنني وورد زورث .
***

أحجارُ النبوءة


أتذكَّرُ الآن تلكَ الحادثةَ الغريبةَ التي قرأتها عن عرَّافةٍ أعرابيَّةٍ التقت السياب برفقةِ اثنين من أصدقائهِ فرمتْ لهم أحجارَ الغيبِ. فشذَّ حجرُ بدر عن حجريِّ صديقيهِ وارتمى بعيداً خارجَ الدائرةِ المحفورةِ في الرمل . وقد كانَ أصفرَ اللونِ ضئيلاً . فجاءَ تفسيرُ العرافة ِ أنَّ صاحبهُ يموتُ غريباً معتلاَّ فقيراً وحيداً خارجَ بلدهِ .
عندها انتفضَ الشاعرُ غاضباً وانهالَ على العرافةِ المسكينةِ بأقذعِ الشتائمِ وسطَ ضحكِ مرافقيهِ وهزلهم .
لا أدري سرَّ الحزنِ الذي يشعلني كالقمرِ عندَ تذكُّرِ هذهِ القصةِ الموجعةِ وتذكُّرِ قصيدةِ محمد الماغوط عن السلحفاةِ التي ركبها السيَّابُ ليبلغَ الجنَّةَ . بينما الجنَّةَ بعيدةٌ وقصيَّةٌ وهيَ مُعدَّةٌ فقط للعدَّائينَ وراكبي الدراجاتْ .
آهِ كم كانَ الماغوطُ صادقاً في حزنهِ ذاكَ وحبِّهِ اللا إراديّْ .
***

إكتمالاتُ النرجسْ


كما اكتملَ النرجسُ الأليفُ في عينيّْ شاعرتهِ البغداديَّةِ لميعة عباس عمارة. فقد اكتملَ عذابُ أميرِ الشعر العربيِّ الحديثِ وامرئِ القيسِ الأخيرِ زمانهُ. وكانَ اكتمالاً شهيَّاً يغري كلَّ قلوبِ الشعراءِ العربِ المجدِّدينَ ويوجعهم . والأخطرُ من كلِّ هذا أنهُ يستدرجهم كالطيورِ الغبيَّةِ إلى الفخِ الجحيميِّ . وكالفراشاتِ الساذجةِ إلى محرابِ النارْ .
***

فسحةٌ لفوضى الكلامِ البريءْ


الأعرابُ الذينَ نقضوا عهدَ الحديبية كما يدَّعي أبو سفيانَ في بعضِ لحظاتِ صحوهِ وصفوهِ .
الأعرابُ وهم أشدُّ كفراً ونفاقاً وقسوةً من قتلوا بدر شاكر السياب الشاعرَ العربيَّ العراقيَّ وهو يزحفُ على أعتابِ الجنَّةِ . وبعدها لا أدري ماذا صُنعَ بروحهِ لكنِّي أعلمُ أن ألفَ شاعرٍ عربيٍّ عُلِّقتْ رؤوسهم تحت كُلِّ جسورِ العالمِ الجديدِ وفوقَ جميعِ بواباتهِ .
***


في ظلالِ غاباتِ النخيلْ


النخيلُ العربيُّ يشبهُ إلى حدٍّ كبير قامات النساء . خصوصاً نخيلُ جنوبِ العراقِ الذي تغنَّى بهِ بدر بعدما ترعرعَ وشبَّ في ظلالهِ . وغاباتُ النخيلِ العراقيِّ ايضاً تشبهُ إلى حدٍّ جامحٍ أعينَ النساءِ الحور . وهذا ما أثبتهُ بدر في شعرهِ .
وهذا الأمر هو في نظري أهمُّ الأسبابِ لتلكَ العذوبةِ والرقَّةِ والرومانسية في لغةِ شعراءِ العراق. والأهمُّ من كلِّ هذا هو تربيةُ الحلمِ بأحضانِ القصيدةِ عندهم كما يُربَّى الوليدْ .
النخيلُ في إحدى صورِ تعريفهِ كائنٌ حلمي أو مرادفٌ ضروريٌّ لزهوِ المرأةِ العربيةِ وكبرياءِ جمالها . وهو أيضاً صورةٌ جلِّيةٌ لعنفوانِ الحبِّ العربي على مرِّ الأشعارِ والعصورِ والهوى والأنوثةِ والأنهارِ الزرقاءِ والنجومِ الخفيضةِ والمطرِ السيابيِّ والسماواتِ المبتلَّةِ برائحةِ الفرحِ الباكي .
***

مزاميرُ المطر


لأمطارِ الشعرِ ألحانٌ لا نسمعها . نحسُّها بحواسنا فقط . ونعانقُ شذاها العابقَ وننسبها إلى جيكور وأقمارها وغمامها الشبيهِ بالهالاتِ السماويَّةِ .
ننسبها لجيكورَ ودمعها السخيِّ البهيِّ الحائرِ فوقَ صليبِ الكونِ والمُعدِّ كالبذورِ الغنيَّةِ بالخصبِ لقلبِ الأرضْ .
لأمطارِ تلكَ السنينِ الموغلةِ في الشجنِ عطرٌ أنثويٌّ وموسيقى لا تُصنَّفُ . ومسكٌ وبخَّورٌ وذكرى يرفرفُ صفصافها كيَدَيْ شهريارَ في أبدِ الخواءِ . وكقلبِ شهرزادَ في الليلةِ الثانيةِ بعدَ الألفِ .
فسلامٌ على السيابِ وعلى نخيلهِ المنطلقِ إلى صدرِ السماءِ كالسهمِ العاشقِ
وسلامٌ على مطرهِ في العالمين .




ديسمبر 2008



*************

إنفلاتُ هوميروس العرب إلى الأزرقِ الورديّْ

كلمات في وداع أجمل الفرسان محمود درويش




رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش حالة عصيَّةٌ في غاية إلتباس العاطفة والشعور ومكاشفة النفس .. ومشهدٌ هوميريٌّ صعبُ الوصف والتصديق .
حتى أنَّ قلوبنا نحن العرب قد تحوَّلت في مساءِ التاسع من آب في ظلال السبتِ المشئوم إلى فراشاتٍ مائيةٍ عطاش يطاردها سيف شهريار في فضاءٍ سحيق .
أو إلى أيدٍ بلورِّيةٍ تبحثُ في الظلامِ عن خيطٍ من النورِ ليرفعها من جحيمِ المأساة .
لم نرِد نحن العرب العاطفيون تصديق ذاكَ النبأ الجلل .
كنَّا نتشبَّثُ بالسرابِ والوهمِ ونهربُ من مجرَّدِ فكرةِ تصديقِ رحيل أجملِ الفرسان العرب وأنبلهم عشقاً .
موت درويش لا يُصدَّق هكذا وبكلِّ بساطةٍ... ذلك أنهُ كان ممَّن صبغوا حياتنا على مدى نصف قرن بألوان الطيف وبقزحِ البهجة والأملِ والجمال ومقاومة الألم والتمردِّ على الظلمِ وعلى تسلِّطِ الغير .
شخصياً عندما صدمني خبر رحيلهِ طفقتُ على وجهي في الظلامِ واستسلمتُ لبحرٍ من الدمع الحبيس وأطلقتُ لهُ العنان . في تلكَ الليلةِ القاسيةِ القلبِ .
قلتُ لعلُّ آخرَ محمود ماتَ وليسَ أناهُ .قلتُ كلاماً خفيَّاً كثيراً ..كبيراً كحقلِ الضباب. كنتُ أستلُّ روحي التي ناوشتها الذئاب .
وأصبغُ ليلي بحنَّاءِ امرأةٍ فينيقيةٍ . أو كنعانيةٍ تليق بأجملِ أبناءِ جلعادَ الذي عادَ إلى أحضانِ أمهِ فلسطين .

لا شيءَ في درويش ينازعني إليهِ اليومَ أكثرَ من ضوءِ وحنينِ صوتهِ .
لصوتهِ بعدٌ جمالي رمزيٌّ رهيب . لا أستطيعُ الصمود أمام تموُّجاتهِ وإغراءاتهِ اللامحدودة الأنغامِ . أحياناً يخيَّلُ لي أنني أصغي إلى روعةِ المزامير . الغرابة أن كل جلال وجمال شعر محمود درويش لا يشدُّني بنفسِ القدرِ كما يفعلُ صوتهُ وحركات يديهِ الملوكيَّتين الباذختي الفضةِ .
بعد هذا الرحيلِ الباذخِ الحزن لن أنحاز إلى محمود السياسي البارع أو الوطنيِّ العنيد الذي كسرَ جبروت الحكم العسكري وقسوة سياستهِ وهو بعدُ في عمرِ الوردِ وليونةِ الياسمين ونصاعةِ القمر .

لن أنحاز إلى محمود درويش الرمز الثقافي الفلسطيني والعربي بقدر ما سأنحاز لمحمود العاشق والشاعر المرهف الذي فهمَ سرَّ المعادلة الذكيَّة بين الشاعر والمتلَّقي... الشاعر الذي رفعَ سقفَ الشعر العربي إلى أعلى من زرقِ النجوم في الليالي المخمليةِ . والوحيدِ منذ جدِّهِ الأكبر - أحمد بن الحسين المتنبي – الذي أعاد للشعر هيبته المنهوبة وخلعَ عليهِ رداءَ الأسطورة المسلوب.
فالأساطير بعيدةٌ عنَّا نحن العرب وهيَ لا تخلقُ في التاريخِ الإنساني كلَّ يومٍ أو كلَّ شهرٍ .. فمنذُ المتنبي ونحنُ في حالة انتظارٍ طالَ أمدها لأسطورةٍ أبطأت سيرها حتى منَّ التاريخُ علينا بها أخيراً وكانت أسطورةً عصيَّةً جامحةً وعنيدةً ولا تسلِّمُّ نفسها بسهولةٍ للزمانِ الغشومِ . ولكنَّها حينَ ترحلُ . ترحلُ بفداحةٍ عاليةٍ وخسرانٍ مبين .

تُرى هل تركَ لنا الشاعر بعضَ كلامٍ وتعابير ومفرداتٍ وصياغات ومجازات لم تستعملَ على يديه .. وما زالت عذراوات أبكاراً تستحقُّ بأن نودِّعهُ بها .. لا أظنُّ ذلك .. رثاء درويش هو رثاء للغةِ العالية .. للجمالِ المحضِ.. للبهاءِ الخالص.
ماذا يفيدُ صراخنا وعويلنا النائمَ الجميلَ في حضرةِ الغياب ؟!
هل يستَّلهُ تفجُّعنا من بينِ الحوريَّات اللواتي يهدهدنَ روحه الشفيفة الآن على ضفة الفراديس البيضاءْ ؟!

آهِ كم عرفنا عند رحيلهِ كم كنَّ بحاجةٍ إلى البكاء .. كما لو أنَّ الدمع جاءَ ليطهِّرنا أو ربمَّا ليعمِّدنا من خطايانا ... كم عرفنا ما لا يمكن أن نعرف من سرِّ الأبديةِ الغافي في جذوعِ سنديانِ الجليلْ .
نحنُ بعد انهيارِ هذا الصرحِ الشعريِّ العظيمِ علينا أصبحنا كائناتٍ أكثر احتفاءاً بالنور والماءِ .. وأقوى على تحمِّل لسعاتِ الجمال والحبْ والندى الفجريِّ .
أصبحنا أخفَّ من فراشات الجليل وأرقَّ من عبقِ هوائهِ بعدما انهارت علنا آخرُ ناطحةِ سحابٍ عملاقةٍ من أقحوانٍ وقرنفلٍ وسفرجلٍ ورياحينَ وأغصانِ مرجانَ ونوارس ضائعةٍ ملوَّنةٍ ومهاجرةٍ إلى بحرٍ خفيٍّ وزرقةٍ غامضةٍ .
رحلَ نشيدنا الحافي وأجملُ مزاميرنا العذريَّةُ .. رحل سادن وجعنا الجليليُّ وأحلى شباب أمنَّا فلسطين . رحلَ مستعجلاً وقبلَ أن يودَّعنا بقبلةٍ وأن ينتصرَ بقصيدتهِ . رحلَ مدجَّجاً بعذابهِ الخاصِّ وبشوقهِ لخبزِ أمّهِ وقهوتها الصباحيَّةِ. وبشعرِ الألم ولسعةِ الندمْ .

في خضمِّ حزني المشتعل عليهِ لا أستطيع الكلام .. أنا فقط أستلُّ الحروف استلالاً ممَّا لم ينغلق بعد من فجوةِ البابِ الذي انغلقَ على مرحلةٍ لن تتكررَّ في نظري أبداً . ولن يجود حتى ألفُ زمانٍ أندلسيِّ بمثلها .

وسيشهدُ تاريخُ الغدِ أنَّ محمود درويش كانَ مشروعاً شعرياً استثنائياً قلَّ نظيرهُ أو إنعدمَ . لا في العصرِ الحديثِ فحسب . ولا في اللغةِ العربيةِ وحدها . بل في كلِّ العصورِ الإنسانيةِ وآدابها الأخرى .
وهو يُعدُّ في نظري – من غيرِ مغالاةٍ – أحد أعظمِ عشرة شعراءٍ كونيين على مرِّ التاريخِ البشريِّ . منذ هوميروس وفرجيل حتى بودلير وبابلو نيرودا ولوركا مروراً بدانتي وشكسبير والمتنبي والمعريِّ . أو ثاني أعظم شاعرٍ في العربيةِ بعد المتنبي ولا أريد أن أضمَّ له سوى دواوينه التي بدأها بورد أقلَّ وهي مرحلته الشعرية الأخيرة
التي إمتدَّت إلى أكثر من عشرينَ عاماً رغم إعجابي بأغلبِ شعرهِ ونثرهِ .
يليق بكلِّ شعراءِ العربية والعالمِ أن ينحنوا إجلالاً لشاعرٍ أعطى حلمه كلَّ شيءٍ يملكهُ . وبذلَ أقصى طاقتهِ ليرتفع بالشعر العربي إلى أعلى قمةٍ تعبيريةٍ مجازيةٍ تصويريةٍ . ومكاشفةٍ للذاتِ الإنسانية بلغها منذ إمرئ القيس حتى الآن .
سيمرُّ دهرٌ حتى نكتشفَ الخلل بصورة عمليةٍ ملموسةٍ . عندها سنعرفُ كم من المعايير الجمالية ومقاييس الذائقة الأصيلة قد انهار وأصبحَ هباءً برحيلهِ .
وسنعرفُ أيضاً كم اُستنزفَ من الجمال والروعةِ والسحرِ البكر في الكلام المائل إلى جرح الشمس الزرقاءْ .. الذي كانَ ينثرهُ درويش على آمالنا وآلامنا فننتفضُّ بكلِّ نبضِ الأرضِ في دمنا .

تسألنا أحلامنا في الليلِ والنهارِ .. أينَ هو الآن ؟؟ أين طفلُ الندى والأقحوان ؟
أينَ ملاكنا الشريد الطريد ؟؟! كيفَ ترجلَّ عن حصانِ النشيدْ ؟! أينَ هو الآنَ ؟
ألم يخجلْ من دمعِ أمِّهِ ؟؟؟!
كأنمَّا طار محمودُ كالعنقاءِ إلى غيرِ رجعةْ .


2008-08-21


************

حسين مهنَّا : علاقةٌ متجددَّة مع مسمَّيات الجمال



لم أكن أحسب أنني على موعدٍ باذخٍ مع كل هذا النقاءْ , وهذه الأصالة التعبيرية التي ذكرتني بالشعراء العذريين العرب أو بأقرانهم الأبطال العشّاق في القرون الوسيطة , ولكن .... أن تجد شاعراً حقيقياً بكلِّ ما تنطوي عليه الكلمة من مغزى ودلالة , ومتواضعاً ونبيلاً كطيران الفراشِ الأنيق إلى سدَّةِ الحلمِ , في هذا الوقت بالذات , فهذه نادرةٌ قلمَّا يجودُ الزمن البخيلُ بمثلها .
حتى أنني عندما أهداني الشاعر ديوانيهِ الأخيرين الصادرين عن مؤسسة الأسوار
بطبعةٍ أنيقةٍ مخمليَّةِ الطراز, وهما " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" و" الكتابان :ويبدأ بالأوَّل وينتهي بالثاني" تيَّقنتُ أنني أقفُ على كلمةِ الشاعر وبيت قصيدهِ , ولم أتفاجأ أبدا من حجم الطاقة النورانية والزخم الشعوري المنفلت منهما .

الديوانان عبارةً عن سجلَّين للندى, والأزهار, والتراب المعشوق, والضبابِ الطفوليِّ الناعسِ في ظلال أشجارِ اللوزِ والزيتونِ والسنديانِ , وعن سمفونيَّة عشقٍ لا تحاول المآلفة بين فوضى حواسها ومشاعرها , بينَ الحسيِّ والمجرَّد .
لم أكدْ ألمسهما حتى انبثقت من أصابعي الأنهارْ , وخفَّت في القلبِ المذبوحِ بسيفِ اشتهاءِ شتاءٍ بعيدٍ , كلُّ العصافير المُلوَّنة بألوان الفرح الخفيِّ والغناء, والنجوم الخريفيَّة المبتلَّة بدموع كيلوباترا وليلى وجولييت والزا وفاطمة ومي .

كيفَ لا وأنا على موعدٍ مع كُلِّ هذا الإحتفاء بالجمال والأنثى والحبقِ النسائيّْ؟
كيفَ لا ...... وأنا على موعدٍ مع مملكة النقاء الأبجديّْ؟

ما أن بدأتُ بالقراء المتأنيَّة التي ينبغي أن يُقرأ بها شعرٌ في مثل هكذا حجم , حتى انزاحت الحُجب والستائر عن ذاكرتي المثقلة بعشبِ الصحراء, وعن الديوانين, وتأكدَّ رهاني من جديدٍ على صاحبهما, رهاني الذي بدأتهُ منذُ سنين عديدة وأخذَ ينمو رويداً رويداً حتى اكتملَ اليومَ بدراً مبينَ النورِ والهالةِ في سماءِ شعرنا العربي الفلسطيني , وأظنُّ أن الناقدة والشاعرة الأمريكيَّة "إميلي ديكنسون كانت محقَّةً عندما قالت أنَّ أجمل الشعر في نظرها ذلكَ الذي تقرأهُ فتحسُّ أنَّ قمة رأسكَ قد أُنتزعتْ من مكانها , أظنها لم تكن تعني الاَّ شعراً كشعر حسين مهنا , ذلكَ أنَّ شعر حسين مهنا ينتزعُ قمة رأسك وقلبكَ وأحاسيسكَ معاً وفي لحظةٍ ضوئيةٍ واحدة, أو هو كالمغناطيس الهائل الذي يجذبكَ الى ذاتك الجميلة الأخرى, أو أشبه بغناءِ الأمازونيات في الأوديسة, ذلك الذي لا يختلفُ كثيراً عن النغمةِ الشجيِّة المتدافعة بحرارة من أقصى قلبِ شاعرنا وكأنها بركانٌ احتبسَ طويلاً , وها هو يتكأُ اليومَ على قريحةٍ سيَّالةٍ تجددُّ أشياءها باستمرار وبهجة . وتشحذُ ذاكرتها الايروسية وذائقتها الرفيعة المتجددَّة بالبلوَّر النسائيِّ الناصع الرهافة والحساسيَّة والصوتْ .

في هذينِ الديوانين الصغيرين حجماً, الكبيرين تأثيراً وقيمة جمالية, يحاولُ شاعرنا كما في أعمالهِ الشعرية السابقة تجديدَ العلاقة الشعرية والمجازية مع مسميَّات الحبِّ والجمال والأنوثةِ , التي يرتكزُ عليها شعرهُ الرقيق المخمليِّ بالأساسْ ,
والمراوحُ بينَ الخطابِ الذاتي الوجداني المكاشفِ للنفسِ ولواعجها وحريَّةِ الدفق الشعوريِّ العذب في فضاءٍ مُلوَّن بأناشيدِ الحُبِّ , وفي عناقٍ واضحٍ وجليٍّ لمناخات يستحضرها الخيال المرهف ويستعذبها القلب , لخلق رؤى مزهراتٍ واستدعاء طقوس غنائيَّة سيالَّةٍ بالوجد الصافي , يصعدُ منها بخورُ الأنوثةِ العبق جنباً الى جنبٍ ورذاذَ لغةِ البوح , والكشف , حتى لتظنَّ في وهلةٍ أنَّ ما كان يريدُ أن يفرغهُ الشاعر, قد اختمرَ في روحهِ دهراً طويلاً , ربمَّا يرجعُ الى حنايا الطفولةِ , قبلَ أن تتبلوَّر تجربتهُ أخيراً وتخرجُ لاهثةً على الورق ونابضةً في النصِّ .

وكما عهدناهُ دائماً, صلباً, حُرَّاً ,مترفِّعا, أبيَّاً,ً يقفُ الشاعرُ في قصيدةِ " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" طوداً شامخا في أرضيِّةِ التمرِّد على أشكال القهر والظلمِ التاريخي ويعلنُ موعداً له في انتظارِ الحياة , يقول:
لي موعدٌ في انتظارِ الحياةِ / كأني أراكم / كما قد رأتكم دمائي / على بابِ عايَ
تشدونَ خيلاً وتعدونَ خلفي / ويومَ صرختم ببابِ أريحا / تموتُ .... تموتُ / وراحابُ تحيا / حملتُ الحياةَ على راحتيَّ / وسرتُ على مهلٍ / أنثرُ الحبَّ والشعرَ / سرتُ ... وسرتُ .... وسرتُ / أنا أستزيدُ الحياةَ حياةً / وأنتم تشدُّونَ خيلاً وتبغونَ حتفي/ .
نجدُ استلهام الرموز التوراتية في هذا النص يتحدُّ اتّحاداً فذَّاً مع المشهدِ الشعري, نراهُ يرتفع ويذوبُ ذوباناً رائعاً في تركيبِ اللغة , وينصهرُ طواعية في النغمةِ الحزينة المتحدِّية , المستمدَّة كلَّ شموخها وصفائها وجلاءِ اللحظةِ الشعرية المتوَّترة المتجذرَّةِ في لهبِ القلبِ المُحبّْ وعنفوانهِ .

الشاعر لا ينحني الاَّ للجمال ولا يدين الاَّ بدينهِ حتى لو وقفَ أمامَ ربَّاتهِ الكثيرات
, وحتى لو ذرفَ سخيَّ دمعهِ على أطلال علاقاتهِ فإنهُ يعلنُ أنهُ لن ينكسرَ أمام أحد , وسوفَ يساجلُ عدوَّهُ وتاريخه الدامي معاً , كما نقرأ في هذا المقطع .
عناةُ يا عناةُ ...../ ها أنا أدقُّ بابَ قصركِ المنيفِ / نازفاً قطعتُ دربيَ الطويلَ /
حاملاً على يديَّ بعضَ جثَّتي / وخالعاً أمامَ ناظريكِ ثوبَ خيبتي / فباركي إن
شئتِ موتيَ الكبيرَ / أو باركي قيامتي ....../ وعلمِّيني كيفَ أستطيعُ أن أساجلَ الطغاةَ / طعنةً بطعنةٍ / وطلقةً بطلقةٍ / فقد سئمتُ رقصةَ المذبوحِ في محافلِ السلام .

وممَّا يلفتُ نظري في قصائد حسين مهّنا أنها تتقاسمُ البهاء اللفظي والرعشة الموسيقية مع باقي المنثورات والشعر العمودي , في جدَّةٍ لا ينقصُ شيءٌ من ضيائها وأصالتها المعهودة , وفي تكثيف دافق للأحاسيسِ , يشدنُّي بما يحتضنُ من خيالات, وأوصاف بكر , ومناخات, وقوَّة لهفةٍ الى المطلقْ , والتغنِّي بما يتركُ سحرهُ – المطلق- في الروحِ والقلبِ من فراشاتٍ وكائناتٍ جميلة .

والرائع أنَّ الطبيعةَ أيضاً تمتزجُ امتزاجاً وثيقاً بروحِ شاعرنا وتنعجنُ بموادهِ الأوَّلية وأفكارهِ , وأصواتهِ القرمزيَّة , فحيناً نرى السنونو تمرحُ في فضاءِ قلبهِ كما تبتغي فتغمرُ دربَ حياتهِ الجديبَ بوردٍ كثيرٍ وشوكٍ أقلّْ , وحيناً آخر نراهُ على بابِ عناة نازفاً , مطالباً ايَّاها أن تعلمُّه مساجلة الطغاة, وحيناً في غمرة الغوايةِ لتسميَّةِ حبيبتهِ الاسم الذي يليق بحبِّهِ لها وبجمالها, وحيناً مسائلاً معذَّباً , يقول:
لماذا جعلتِ الفؤادَ يودُّكِ هذا الودادْ ؟/ وكيفَ دخلتِ حياتي على غيرِ وعدٍ ؟/
وهل يا تُرى أصدقُ الحبِّ / ذاكَ الذي يطرقُ البابَ / _ من أنتَ....... ؟؟/
ما أنتَ ....؟ / من أينَ ....؟/ ...... ما تبتغي ؟؟!/
مطرقٌ لا يردُّ / كأني على رقعةٍ الحبِّ بعضُ مداد .
مع هذا النبض الشعري الدافئ الغنيِّ تحوَّلنا نحنُ أيضاً إلى مدادٍ غامضٍ بلا لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ , فوقَ الصفحاتِ البيضاءْ المحترقةِ بجمرِ الحُبْ .

وكأني بحسين مهنا الشاعر يراوغُ قصيدته ويستلُّها من لهيبِ العنقاء ومن رمادها الأخضر الطريِّ بطريقةٍ غايةً في الأناقة التعبيريَّة والتصويريَّة والإيحاءِ المعنويِّ والدلالي , وفي كثافة شعورية وصُوَرية وزخم موسيقي هادئ الجرس يذكرُّني بموسيقى الغُرَف الهادئة , الباعثة على الاسترخاء الشعوري والراحة والسكينة .
كما في هذه القصيدة :
لكِ اللهُ / ما تفعلينَ بقلبٍ أحبَّكِ / حُبَّ الرسولِ لأهلِ الكتاب
ذبحتِ مُحبَّاً ..../ فماذا عساكِ تقولينَ / في حضرةِ اللهِ يومَ الحسابْ ؟
تجسيد البعد النوستالجي هنا وتوظيفهُ بهذا الشكل الرقيق والبالغ النعومة يفتحُ أفقاً مموسَقاً من الغنائيَّة المتردّدة العذبة , والمرهفة النَفَس , واستخدام لغة المخاطبة يشكلُّ دلالة معرفية نورانية , إشراقية كما في الأدب الصوفي, على الولع الظاهرِ والملموس حتى في الخفيِّ من أنَّاتِ ووجعِ قصيدة حسين مهنَّا ونصهِ .
ها هو يقولُ في مزجٍ بالغِ العذوبةِ والشاعرية بينَ النبرةِ العالية وحساسيَّةِ الوجدانِ العميقة , في مقطعٍ من قصيدةٍ شفيفةٍ شفافةَ الضوء .
سألتكِ موتاً جميلاً
اذا كنتِ حوَّاءَ / من يا تُرى قد أكون؟
سأحملُ عريكِ في مقلتيَّ / وأمشي على جمراتِ الظنونْ
ودربيَ دربُ الشقاءِ المقيمِ / وتدرينَ أني طريدُ النعيمِ
غداةَ لبسنا العراءَ وشاحاً......./ سألتكِ أن تستظلِّي / بما قد يقيكِ
من النظراتِ المريبةِ / بئسَ الزنى في العيون .
لا أعرف بماذا أصفُ روعة هذا الكلام , وخصوصاً الشطر الأخير, إنهُ ولا شكَّ أعلى بكثيرٍ من السحرِ, وأغلى من غار النصر .

وفي فسحةٍ أخرى, ومن أريجِ العبارة وعطرها الأنثويِّ , ومن تجليَّات قيس بن الملوَّح في عشيَّاتِ ليلى العامرية, يطلُّ شاعرنا في قصيدةٍ عذراء فتدهشني مزاميرهُ إذ أسمعهُ يقول
أجمِّعُ حُبَّ النساءِ / بحبِّ أسميهِ ...../ ماذا أسمِّيهِ..... ؟ / قيسٌ يسمِّيهِ ليلى / إذن / أسميهِ باسمكِ / - لا لن أبوحْ : وعدتكِ الاَّ أبوحَ / فحبكِ سرِّي الجميلُ
وبعضُ الغرامْ / إذا كانَ بالسرِ أحلى .
التساؤل في هذه القصيدة يبلغُ قمة الذكاء الشعري في انسيابيةٍ تحملُ الكثير من الخفةِ والرقة والشفافية واللوعة والحنين , أكادُ هنا أن المسَ بجدارة بعض الوهج النابع من المهارة الفردية والحذق الشعري العالي الذكاءْ, والرؤى الصادقات , أكادُ في هذه القصيدة كما في قصائد كثيرة غيرها أن ألمسَ الدموع العاشقة الحقيقية التي لا تفيض الاَّ من أحداقِ العشَّاق , وأشعرَ بصدى هذا الكلام يتوِّجُ في نفسي حلماً غائباً , حلما ما , بالظفرِ ربمَّا أو بالخسارةِ , بالحزنِ على فقدانِ شيءٍ ما , وبالفرحِ الذي يعدُّ باستردادهِ مرةً أخرى , ويمنحُ لذةَ الشعورِ بالعثورِ على نجومهِ الضائعة .

أعترفُ أنني نادراً ما يشدُّني شعرٌ لقراءتهِ , حتى لو كانَ للكبارْ , نادراً ما أقرأُ شعراً بكلِّ هذا الحنوِّ والحدبِ والتفاعل الخيميائي العجيب , وبكلِّ هذا التأثرِّ العاطفي الإنساني والوجداني , ولا أذكرُ الاَّ دواوين تعدُّ على أصابعِ اليدين , مثل "خذ وردة الثلجِ, خذ القيروانية " لسعدي يوسف أو "كأني غريبكِ بينَ النساء" لشوقي بزيع أو " سرير الغريبة " و"لماذا تركت الحصانَ وحيداً" لمحمود درويش أو "ضجر الذئب " ليوسف أبو لوز , أو "أوَّل الجسد آخر البحر " لأدونيس ,أو " طعم قديم للحلم " لوليد منير, أو " انَّ بي رغبةً للبكاءْ " لأحمد العوَّاضي , مرجعيَّات شعرية نمتْ تحت جلدي ونامت, منذُ نعومةِ الأظفارِ في الأشعار, لا زلتُ أعتبرها نقاط تحوُّل, أو كواكبَ تسكنني, أو مخلوقات غامضة تركت شيئاً غريباً فيَّ, أنحني أمامها بخشوعِ راهبٍ وبرهبةِ عاشقٍ للأبجدية, وأضمُّ إليها اليوم ديوانيْْ حسين مهنّا الصادرينِ مؤخراً , وبكثير من الإعتزاز والفخر, وبدفقٍ هائلٍ من الحُبْ النقيْ .

مطالع حزيران 2008

****************************

" ففي الصيفِ لا بدَّ يأتي نزارْ "

في ذكرى عقدٍ على رحيلهِ


أذكرُ ذاتَ صباحٍ ربيعيِّ غائمٍ وماطرِ في مطالعِ أيَّار بعيدٍ قبل عشر سنوات كيف سافرت إلى مدينةِ الناصرةِ لشراءِ بضعة دواوين للشاعر السوري الكبير والمُختلفِ عليهِ نزار قبّاني , كان حينها قد رحلَ قبل أيامٍ معدودات , وكنتُ في شوقٍ لأقفَ على ماهيَّةِ وسرِّ هذا الشاعر المثير للجدل والإهتمام والإعجاب , خصوصاً وأنني لم أقرأه تلك القراءة الكافية العميقة الاَّ في نطاقٍ محدود كانت تتيحه مكتبة المدرسةِ أو منهاج التعليم أو الجرائد التي وصلت الى يدي آنذاك .
إنتقيتُ أكثر من أهمَّ عشرة دواوين لنزار من بينها ديوانه الأوّل " قالت لي السمراء" الى جانب " الرسم بالكلمات" و"هل تسمعين صراخَ أحزاني " و"قصيدة بلقيس" وغيرها , وحاولت الغوص في شعريَّة واحدٍ من ألمعِ وأغزر وأمهر وأصفى الأصوات في قيثارة الشعر العربي لا في عصره الحديث بل في عصورهِ جميعها .
لا أظنُّ أن رحيل الشاعر كان محفزَّا لي لقراءتهِ وإستكشاف لمعان إبداعهِ الخفيَّ كالمحارِ والظاهرِ كالشمسِ في عليائها . بل الإختلاف عليه من طرف النقاد وكثرة الهمز واللمز فيه ولم يوارى جثمانه الغضُّ الثرى بعد .

رغم قراءاتي الكثيرة للمدرسة الرومانسية الساذجة بأفكارها في النصف الأوَّل من القرن العشرين , التي إنتمى اليها نزار ولم ينتمِ , أقصد أنه إستفادَ منها ولم يسرْ في نهجها , ورغم إعجابهِ بشعر شعرائها الكبار أمثال إلياس ابو شبكة وعلى محمود طه وعمر أبو ريشة , فإنني وجدت لاحقاً أنه مختلفٌ كثيراً في أدقِّ تفاصيلِ كتابتهِ الشعرية حتى عن أكثرهم وأعمقهم رومانسيةً وتجديداً وتمرداً على القديم , إنَّ نزار قباني شيءٌ آخر مختلف ومتغيرٌ ولا يمتُّ الى ما قبلهِ من رؤى شعرية ورؤيةِ الى القصيدة المستقبلية وطريقة تفكير ,وموضوعات فنيَّة , بأية صلة , أنهُ من أعظم أوائل المؤسسينَ لمدرسة الشعر الحديث وأحدُ أولئك الذين حوَّلوا الشعر العربي الى " خبزٍ يوميٍّ " على حد تعبيرهِ , بعدما كسروا التابوهات المقدَّسة تكسيراً يليق بها على أعتاب القصيدة . وبعدما أشعلوا الحرائق في الذائقة العربية العامة الجماهيرية والنخبوية وفي اللغة المتوارثة وثيابها الرثَّة .

لم يُحارَب نزار قباني من جهات ثقافية أو دينية أو سياسية أو إجتماعية إلاَّ لأنَ صدقهُ الفطري الإنساني قد أخذ بفضحِ جهلها وتخلَّفها ومحاولة التمردَّ عليها , كلُّ النقاد الذينَ فتحوا نيرانهم عليهِ كانوا ينتمونَ بوعيهم الى ضلال مرحلة بائدة ولم يروا أبعد من سياج أنفسهم أو ما وراءَ نوافذ أرواحهم , أرادوا للشعر العربي أن يبقى ممثلاً مملَّ الدور , وللمرأة أن تبقى تمثالاً خزفياً جامداً في النصوص والأدبيَّات .
أظنُّ أنَّ أعظم ما في نزار قباني صدقهُ الذي يجعلك لا ترى في سهولة كتابتهِ الشعرية وقرب المجاز والصور والمعاني من المُتخيَّل أيَّ نقصانٍ أو مذمةً شعرية , بل ترى إجتياحاً طاغياً نبيلاً لذائقة جماهيرية إستعبدتها زمناً ليسَ قصيراً كليشيهات فارغة من أيِّ مضمون حيٍّ , جديد , وطازج , يلمسُ قضايا تهمُّ الإنسان المعاصر في القرن العشرين , ولا يستوحي ويستلهم الماضي بالضرورة .

عشقَ نزار سوريا عشقاً أسطورياً وتغزلَّ بها وأحبَّ مدينتهُ الأم بإمتيازٍ قلَّ نظيره , رغم طوافه في كلِّ أرجاء الدنيا بقيَ خيطٌ واحدٌ من اللازورد , من الضوء , من المخملِ الشاميِّ , من الدانتيل الدمشقيّْ يشدُّهُ إليها , وإلى أزهارها وشوارعها وحاراتها وروائحها وطيورها . حتى أنه لم يستطيع التفلَّت من الحنين الشديد الممضِّ الى الكتابة عنها كما يكتب عن إمرأة أو حبيبةٍ في شعرهِ , لقد ملكت حواسه وملأتها بالعطر النفَّاذ , أسمعهُ يخاطب شقيقه صباح القباني في تقديمهِ لكراسة معرض رسومهِ وتأمَّل كيف كان وطنه بالنسبة لهُ لوحةً فريدةً تضمُّ كلَّ فنون الرسم والتجريد , وتحوي جميع العناصر التي خلعَ عليها صفة السحر , يقول:

"عندما نثر صباح قباني مئات الصور التي رسمها لبلادي أمامي لأكتب عناوينها، شعرت أن جميع اشجار التين، والحور، والصفصاف، والزيتون، والورد البلدي تنبت في راحة يدي.. وان الخراف الربيعية تترك بعضا من صوفها الأبيض على أصابعي. ‏
صارت يدي ـ وهي تقلب الصور ـ يداً أخرى: عليها يسقط المطر، وتكبر سنابل القمح، ويسرح الرعيان، ويدبك الراقصون، ويغني الحصادون، وتملأ القرويات من ينابيعها الجرار، وتتناثر عليها مضارب البدو، وإيقاعات المهباج، وعبق القهوة العربية الطيبة. ‏
صارت يدي مسرحاً تمتزج فوقه الألوان، والأصوات، والأهازيج، وتذوب كلها في نشيد واحد.. هو نشيد الأرض. ‏
صارت يدي ـ والشكر لصباح ـ مرعى جَمَال. ‏
وكما أخصبت يدي، وهي تتنزه مع صباح على طرقات بلادنا الجميلة التي نعرفها ولا نعرفها، ستخصب أيديكم، فصباح قباني يضع الوطن في راحة يدنا كما توضع التفاحة في يد طفل يرى التفاح للمرة الأولى. ‏
سورية، تفاحة شهية، سكرية الرحيق، لكن أكثرنا مع الأسف لم يجرب أن يصل الى منابع النكهة والحلاوة في داخلها. ‏
سورية، عند أكثرنا تفاحة ذهنية، تفاحة من المجردات، والخرائط، والأناشيد المدرسية. ‏
لكن الوطن، ليصبح وطناً حقيقياً، لابد أن يخرج من نطاق التجريد ليكون وطناً نراه، ونشمه، ونلمسه بالأصابع. فلا وطن خارج نطاق الحواس الخمس. ‏
وصباح قباني حاول بمعرضه الصغير أن يُخرج التفاحة الجميلة من دهاليز الذهن وأقبيته.. ويضعها بكل ملاستها واستدارتها في تجويف يدنا. ‏
صور صباح الجميلة أهدتنا وطننا الجميل.. مرة ثانية". ‏
نزار قباني

منذُ زمن وفكرة الكتابة عن نزار تلحُّ عليَّ ولكن ماذا أكتب عن شاعر ربمَّا لم يكتب عن أيَّ شاعر عربي آخر مقدار ما كُتبَ عنه ؟ في مقالات وشهادات وحوارات وكتب نقدية وأدبية ورسائل جامعية وغيرها .

نزار في نظري المتواضع مزيجٌ نادرٌ وفي غاية الروعة للشاعرين الفرنسيين
"بودلير " و"بريفيير " في مزجهِ بين النزعة الإباحية الجنسية والعادي اليوميِّ أو الشيء وضدهُ في بساطةٍ غنيةٍ , لا يحقُّ لأيٍّ كان أن ينكرَ فضلهُ على القصيدة العربية وعلى ايقاعاتها وتطوير موضوعاتها وإغناء صوَرها وتجريب أساليبها وتراكيبها , شعرهُ خير من حطمَّ الذهنية الشعريَّة الى حين , لمائيَّة الحياةِ فيه .

نزار ليس شاعر عمقٍ فكريٍّ بل هو شاعرُ عمقٍ عاطفيٍّ وهذا ما أخذه عليه النقاد وعابوهُ . ولكنَّ الحقيقة الحقَّة لا توجبهُ أن يكونَ الاَّ كما يريدُ هو لا كما يريدهُ له الغير , لا أرى في هجومهم عليه أيَّ مبررٍّ وهو إنما أرادَ أن يجعلَ من الشعر طيراً صباحيَّا يحطُّ على نافذةِ معشوقتهِ , حراً من أغلال الفكر والأسئلة الوجودية , فهو من قال ذات يوم " أعتقد أن التغيير الكبير الذي أحدثته، هو إنزال الشعر إلى الشارع العام، وتحويله إلى مادة متفجرة، وحركة عصيان شعبية. لا أحد يستطيع أن يقول لك اليوم إنّه لا يحب الشعر، أو لا يقرأه أو لا يفهمه. فلقد مزجت الشعر السياسي والشعبي في كأس واحدة، وأزلت الكلفة نهائياً بين القصيدة وبين من كتبت من أجلهم. بكلمة واحدة، ألغيت فاكهة الشعر من حياة الناس، وأطعمتهم حنطة الشعر".

وكما يقول الكاتب وائل عبد الفتاح عنهُ " بحث عن لغة مختزلة، كما فعل يوسف إدريس عندما عثر على لغة سرد خارج التطوّر الرتيب لكتابة القصص. بدايتهما كانت تقريباً في وقت واحد. «أرخص ليالي» كتاب يوسف إدريس الأول كان في 1952، قبلها بسنوات قليلة، كانت مجموعة نزار الأولى «قالت لي السمراء» تصدر في بيروت. الاثنان طالعان من نكبة فلسطين وما تلاها من تفكيك لمؤسسات الفن والذوق، ناهيك بالسياسة والسلطة.
ولم يكن جديداً على الشعر العربي الأوصاف الحسية للمرأة، لكن نزار ظهر في فترة استعارت البرجوازية أخلاقها من العصر الفيكتوري، ولم يتمرد شعراؤها على الرومانتيكية الساذجة. كان جواً خاملاً، تقليدياً، وكان طبيعياً أن تكون قصائد تتحدث عن النهد والحلمات والنبيذ والحشيش والأفخاذ... قنبلة في ساحة معبد فرعوني ".

فهمَ نزار عقليَّة الرجل الشرقي وعرفَ كيفَ ينقلُ أقدامهُ في حقل الألغام العربي . وعرفَ جيداً كيفَ يغتنمُ فرص النجاحِ والفتح, في حينَ ضيعَّ الكثير من مجايليهِ الفرص الذهبيَّة الكثيرة , ممَّا أبقى رنينهُ يصلُّ الى ما وراء المجد والزمن بينما تلاشت أصوات شعراء عرب آخرين أتوا قبلهُ وبعدهُ في رياحِ الخمول وكثرة الأسماءْ .

أنا أنتمي الى نزار قباني , أنتمي الى هذه الظاهرة الفريدة والحالة الشعرية الهائلة التي دوَّخت العالم العربي من أقصاه الى أقصاه أكثر من نصف قرن , أنتمي الى قصائده التى تربَّى عليها كلُّ الشعراء العرب الآتين بعده لا أستثني أحداً , إعترفوا بذلك أو أنكروا , ولا أريد له أن يكونَ عميقاً كما أرادوهُ هُمْ ونقادهم , بل أريدهُ ماضياً كالسيفِ وخفيفاً كذاكرة الندى ومؤجلاً كقرنفلِ الصباحْ وحاراً كمطرٍ في نيسانْ .





مصابٌ بلعنةِ فراعنتها



أقيمت في مسرح الميدان الموجود في مدينة حيفا قبل مدةٍ وجيزة إحتفالية بتدشين نشر رواية الشاعر والروائي الفلسطيني المعروف والمقيم في عمَّان إبراهيم نصر الله " زمن الخيول البيضاء " والتي قامت بتبنيّها واحتضانها مكتبة كل شيء في حيفا وهي من كبريات دور النشر هنا في الداخل الفلسطيني , ولكن حلقةً ضائعةً لا زلتُ أبحثُ عنها في تبلوِّر هذه العلاقة المفاجئة بين دور النشر عندنا والأدباءِ المقيمين خارج الوطن , لا أريد أن أقول الأغيار أو الأجانب حتى لا أُتهَّم بالتطرَّف الثقافي أو بالعنصريَّة , مع أنَّ الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله من لحم هذا الوطن مقتطعٌ ,
وليس من باب التقليل من قيمة شاعر وكاتب بحجم إبراهيم نصر الله بالتجائه القسريِّ إلينا بعدما كانت كبرى دور النشر في عالمنا العربي" المؤسسة العربية للدراسات والنشر" تحتضنهُ كأبنها وتتبنَّى كتبه . فأنني أعترف بأنه من أنشط الكتاب والشعراء الفلسطينيين في الوقت الراهن ويمتاز برأيي بغنى ثقافي وحضور أدبي آسر وشاعرية إنسانية رقيقة ومسحة غنائية صافية الجرس وعميقة الحسِّ , قرأت ربمّا كلَّ دواوينه الشعرية الأمر الذي لم أفعله حتى هذه اللحظة مع رواياته اللاتي يبدو لي أنها من الأهمية الأدبية والتاريخية بمكان .
ولا زلت أذكرُ ديوانيه " مرايا الملائكة " وحجرة الناي" وما تركاه في ذهني من عبق وتحت لساني من طعم طيِّب فأقفُ مذهولاً أمام عبقرية شعرية تستحقُ الإلتفات والمتابعة ولا أريد أن أرّددْ ما قاله كبار النقاد العرب عن شاعر مثل إبراهيم نصر الله ومنهم عبد العزيز المقالح واحسان عباس وغيرهم كثرٌ . ولكني أريد فقط وضع بضعة نقاط على حروف مبعثرة . وأريد أن أسأل نفسي هذا السؤال الحائر,من ينشرُ لنا نحنُ الجيلُ الشابْ ؟ ألهذا الحدِّ الرخيص وصلت قيمة الكاتب أو الشاعر عندنا؟
إلى مشارف كلام ٍ جارحٍ كهذا " عزيزي أنشر لوحدك وعلى نفقتكَ ولا علاقة لنا بك" حتى أنه بات وقد أضاع بوصلة روحه وأصبح حاله أو كونهُ كاتبا على حدِّ تعبير الروائي الكولومبي الفذ غارسيا ماركيز مأساة كبرى لا تعدلها مأساة في العصر الحديث . بعد تخلِّي دور النشر عنه وبعد حصاره من جهاته الستِّ على يدِ الشلّلية "الأدبية" البغيضة التي تتشدقُّ بدفاعها عن الأدب والثقافة حيناً وتارة تتنافحُ بمساعدة الشعراء الجدد وتقديم يد العون المعنويِّ والماديِّ لهم . وهم في وهمهم يشطُّونَ ويعمهون . فأنهم لا يجيدون الاَّ وطئ هام الجيل الذي يصغرهم , وتعمية وتدليسَ بل إنكارَ إنجازِ غيرهم خصوصاً اذا كان أفضلَ ممَّا قدَّموا هم .

ويقفز الى ذهني في سياق حديثي هذا كلام لصاحب دار نشر لها أسمها عن شاعر كبير عندنا بأنه أصبح يطبعُ دواوينه على نفقته الخاصة طباعة ً رقمية باهظة الثمن وبنسخ قليلة بعدما سئمَ مماطلات وأكاذيب دور النشر الواهية التي رفعت شعاراً يقولُ بأنَّ الشعر والرواية قد اُلغيا منذ زمن ٍ بعيد ٍمن قائمة المواضيع التي تسعى هي في سبيل طباعتها ونشرها والترويج لها ودعم كاتبها , وبات البحث الأكاديمي والدراسة العلمية سيَّدا الموقف , "مع الإحترام لمقولة الدكتور الناقد جابر عصفور بأننا نعيش في زمن الرواية" , هذا حسب كلام مسؤول كبير في دار نشر فلسطينية عريقة, بينما دور نشر عندنا تقوم بإستيراد الأسماء والفرسان من الخارج والميدان ملئ هنا ويضيق بهم .
كنت في الماضي قد سألت صاحبَ دار نشر إذا كان في وسعه أن يصدرَ لي ديوانا شعرياً فأجاب بأنَّه لا يرفض طباعة أيَّ كتاب على نفقة مؤلفّهِ هذا عدا أنهُ إذا نشره سيحتفظُ بالمطبوع لديه كما أكدَّ لي قائلاً أنه سيسوَّقهُ في معارض عربية خارج البلادْ. وهذا هو المتداول لدى دور النشر العربية في الخارج . يأخذون الكتاب المطبوع وربمَّا يبيعونه لصاحبه بعدما يكون هذا المسكين قد دفع نفقات طباعتهِ , أي يقبضون الثمن مرتينْ , تخيَّل أن دور نشر كثيرة تأخذ سعرَ الطباعة والكتاب نفسهُ أيضاً , هكذا شرحَ لي صاحب دار نشر مرموقة في رام الله وهكذا فهمتُ منه الاَّ اذا قصرَ فهمي . مع أنَّ سعر طباعة أي كتاب في الخارج قد تضاعف أيضاً كما هو الحال هنا "في الداخل الفلسطيني" , وعادة ما تتكرَّم دور النشر على المؤلَّف"إذا كانوا كرماءَ معهُ" بأعداد قليلة من النسخ يهديها لأصدقائه أو يحتفظُ بها لنفسه في زمن ثقافة الفضائياتْ ,وهنا أسأل نفسي "ترى هل جرى هذا الأمر مع الكاتب إبراهيم نصر الله أيضاً" ؟ هل رضي بنسخٍ قليلةٍ كما رضيَ غيرهُ مجبراً .

دائماً أقول أن أزمة النشر آخذة ٌ لدينا نحنُ خصوصاً بتفاقمٍ مُحزن . فقبل سنين معدودة كان بإمكان من يملكُ ألف دولار من الكتاب والشعراء أن يطبعَ كتاباً متوسِّط الحجم "ديوان شعري مثلاً يحوي مئة صفحة أو أكثر بقليل بغلاف أنيق" . أماَّ اليوم فالأمر مختلفٌ ويدعو إلى الأسف في ظلِّ غلاء الطباعة والورق, فسعر طباعة كتاب كهذا تضاعف الى حوالي ثلاثة أضعاف أو أكثر . ولا يوجد من يموَّل هذا المشروع الاَّ " دائرة الثقافة العربية " التي دخلت في تناحر مرير ومشاحنة مع الوزير الجديدْ الذي قيَّد يديها وأرجلها ولن يطلقهما الاَّ أن يشاء الله . وكنتُ قد منيَّتُ نفسي بها وبمساعدتها زمناً . فقد برأتُ نفسي من هذا الرجاءِ خصوصاً بعدما تيقنتُ أنَّ إسمي مصابٌ بلعنةِ فراعنتها أو ربمَّا مكتوبٌ في سجّلاتها السوداءِ أو قوائمها المنسية وأنني ضمن من لا تنفعهم شفاعة الشافعين لديها .
ماذا يصنعُ مثلي إذن ؟
لا أنكرُ أنَّ الشعر في حالة إنحسار كما يذهبُ الى هذا بعضُ الأصدقاءْ . وأنه يُطبعُ ويُباع بنسخٍ قليلةٍ ومحدودةٍ وبطبعات زهيدة تدعو الى الإشفاقْ المُرِّ الحقيقي , وبتنكرٍّ صريحٍ كضوء الشمس من دور النشر الكبيرة أو الصغيرة أو من دوائر "القرصنة الثقافية الرخيصة" على حدٍّ سواءْ.
لكن من هو المسؤول الرئيسي والأوَّل عن هذا الوضع المزري ؟ هل هو صاحب دار النشر المستورد للشعراء والكتاب الأغيارْ والوافدين ؟ أم المؤسسة البيروقراطية ودوائرها المذكورة آنفاً ؟ أم هو الهبوط الحادُّ في مستوى الذائقة العامة للقرّاء بسبب هذا الكمَّ الهائل من الكتابة الرديئة والركيكة والساذجة التي تملأُ صحفنا الورقية والرقمية وأغلب مواقعنا الالكترونية؟
أعرفُ أنهُ لا توجد إجابة مقنعة وشافية على مثل هذه الأسئلة البريئة . وأعرفُ أيضاً أن الحال ربمَّا تزدادُ سوءاً في المستقبل على ما هي عليه الآنْ . ولا يسعُ طموحي الاَّ أن يقفَ مشدوهاً أمام الآخرين عاجزاً حتى عن مناغاة حلمه الطفل . وأتساءلُ هل كان بإمكان كاتبٍ مثل باولو كويلو أو جوزيه ساراماغو أو كاتب كماركيز مثلاً أن يصل الى ما وصلَ اليه لو لم يكن يملك الكثير من الإمكانيات التي يفتقرُ اليها الكثير منَّا ؟ لكن لماذا أذهب بعيداً , هل كان بمقدور شاعر كمحمود درويش مثلا أن يصل الى ما وصل اليه من دون المساعدة الكبيرة له من أحزاب ومؤسسات وعلاقات توفرت له ولم تتوفر لغيره , وهذا ينطبق أيضاً على شاعر بحجم أدونيس أو حتى على شاعرنا العزيز ابراهيم نصر الله , هل كان بإمكان كاتب عملاق وضخم الإنتاج مثل ابراهيم الكوني أن يكتب أكثر من ستينَ مؤلفاً ترجمت الى جميع اللغات الحيَّة حتى كأنهُ آلة بشريةُ ثقافية موسوعية مثيرة للجدل والدهشة ومسكونة بعذابات وتجليَّات الصحراء في تنوِّع ثقافي إنساني يدعو الى الإطمئنان على ثقافتنا العربية وبأنَّ هناك من لم يزل قادراً على حمل المشعل ذاته الذي حمله الجاحظ وأبن رشد وأبن سينا والفارابي وغيرهم , هل كان على ما هو عليه الآن من إقترابٍ ودود لجائزةِ نوبل من دون الدعم الهائل الذي لقيَه من دور النشر الغربية قبل العربية والتي كفلت له نجاحهُ ككاتب يعدلُّ ربمَّا مارسيل بروست أو فرانتز كافكا في نظرهم ؟ ولكن لا ينسلُّ من نفسي في نهاية هذه المكاشفة/ المساءلة المريرة الاَّ طيفٌ قزحيٌ واحدٌ يسائلُ وما من مجيب , هل هناكَ أزمة نشر أم وعي ؟ !! أم أزمة أدب ؟؟!


********************


لمحة عن جمال الترَّفع

سهيل كيوان نموذجاً


من منَّا نحنُ المنتظرون ما لا يأتي , البسطاءُ في صياغة أحلامنا , المحكومونَ بالعدم وشقاءِ الدمِ الأزرقِ " حبر مواجعنا والنجوم" , يملكُ نفسهُ اللاهثة خلف سرابِ الأهواءِ الفضيِّ , كما يملكُ عفويَّة أحلامهِ وبساطتها المؤجلَّة , ولا يترَّصدُ الفُرَصَ المُبتذلة واللحظاتِ الحرجة والمواقف الرخيصة ليرمي ظهورَ أصدقائهِ الساذجين اللاهينَ بسهامِ عبثهِ غيرِ البريء ؟؟
من منَّا لا يُروِّجُ لأضغاثِ أوهامهِ وهشاشةِ أمانيهِ المُهشَّمةِ كالبلوّر على صخرِ الحياة , المبعثرة على سطحِ كوكبٍ ضائعٍ في مجرَّتهِ ؟
من لا ينافقُ في أصغرِ جزئيَّاتِ علاقتهِ مع الأشياءِ والآخرين ؟؟

حبَّذا لو فعلنا كلَّ هذا ولكن بقدرٍ معلوم ٍ ...حبَّذا .
"كُلنَّا في الهواءِ سواء" هذا ما نكتشفهُ في النهاية ونعترفُ بهِ , هذه الحقيقة تطبقُ علينا كلعنةٍ محتومةٍ , كظلامٍ قاسٍ.
إنَّ ما أغراني بكتابةِ هذا الكلامِ الجريحِ يراودني منذ زمنٍ حتى رنَّ هاتفي ذاتَ مساءٍ
وطُلبَ إليَّ أن أكتب تحيةً تقييميّة للصديقِ الكاتب سهيل كيوان بمناسبة تكريمهِ من مدرسةٍ في قرية كفر قرع , حينها أغراني سريعاً جمالُ ترَّفعهِ عمَّا إنحطَّ إليهِ الكثيرُ من الآخرينْ , من أخلاقيَّات صدئتْ في الشمس العربية , فمنهم من يطعنُ من الخلف , ومنهم من ترميني نرجسيَّتهُ بتلكَ التهمةِ أو بذاكَ الإفتراءْ أو ربمَّا بنصالِ الحقدِ المزمن , ومنهم من يتعامى ويصمُّ أذنيهِ عن صراخِ ضميرهِ في زمنٍ لا يقيمُ وزناً لقيم ولا لمُثلِ , تزدادُ فيهِ حاجتنا إلى درعٍ من الذهبِ الُمقوَّى ليلفُّنا كالجناحِ الدفيءِ ويحمينا من سطوةِ بردِ الآخرينْ .

الكتابة عن أديبٍ بحجم سهيل كيوان مُربكة قليلاً أو ربمَّا كثيراً , ممَّا وضعني في موقفٍ حرجٍ من نفسي وترددّتُ حينها لإتسَّاعِ معنى الكاتب سهيل كيوان وضيق عبارتي , فروائيٌّ مثلهُ متعددُّ الأساليبِ والطرقِ التعبيرية وفسيح المجالاتِ يحتاجُ أدبهُ الى دراسةٍ وبحثٍ علميين دقيقين أمينين ومن أكادميين متخصِّصين ليُوَّفى بعضاً من حقهِ , لا إلى كلامٍ قليلٍ عابرٍ , لإيماني بقيمة كاتب مكافح وعصاميِّ تركَ بصمتهُ على أدبنا المحليِّ , وبأنَّ خيرَ من يقيمُّ سهيل كيوان أدبهُ نفسهُ , رواياتهُ , مقالاتهُ , حسُّهُ النقدي ,سخريتهُ المرَّة ,عصاميَّتهُ الفذة , وطعمُ قصصهِ المراوغة والمراوحة بينَ الأدب الإجتماعي أو السياسي الملتزم والمفارقة الساخرة المنتقاة بعناية فائقةٍ كحجر الزاوية , وفوقها تلتئمُ مداميكُ البراعة الفنيَّةِ واللغويَّةِ .
لا أكونُ مغالياً إذا قلتُ أن سهيل كيوان يعدُّ واحدا من القلائل ممَّن يتحلّون بصفات الفرسان النبلاءْ في أدبنا الفلسطيني , فهو من زمرة أدباءٍ قلةٍ عندنا لا يقلونَّ في المستوى الأدبي الرفيع عن مجايليهم في العالم العربي في شيء , ورثوا عن جدهم عنترة بن شدَّاد بعض خصالٍ حميدة , منها العفة , حتى أنهم لا يسألون جزاءَ إقدامهم ويعِّفون عند المغنم .

بدأ كاتبنا حياته الأدبية بكفاحٍ دؤوب وإيمان جميلٍ بقيمة الكلمة التي يعشقها , ولا زالَ يشقُّ طريقه الوعرة بعنفوانٍ ومثابرةٍ يليقان بهِ وهذا هو سرُّ نجاحهِ أدبيّاً وإعلامياً .
من خلالِ معرفتي بهِ إكتشفتُ أنهُ طيرٌ نادرُ الريشِ بينَ أقرانهِ فهو ليسَ كالعديدِ من "الأدباء" عندنا ممَّن يتخذون من التملّقِ , والرياءِ الأدبي , والتمسّح بأعتابِ ذوي النفوذ , والمزاحمة والمخاصمة على أتفه الأمور وسيلةً رخيصةً إلى كُلِّ غاية أرخصَ منها . فهو ينتمي الى نفسهِ قبل كلِّ شيء , الى أفراحهِ وأحزانهِ , آمالهِ وآلامهِ , إنطلاقاتهِ وإنكساراتهِ, ماضيهِ وحاضرهِ ومستقبلهِ . ولا ينتمي الى مدارس الأكاديميين الجافة والجوفاءْ ولا الى نظرياتهم العقيمة التي فشلت في أن تخلق أدباً حقيقياً يليقُ بنا نحنُ العرب ,كما لم تفلح في إطلاق طائرٍ اللغة والفن والجمال من عقالِ الطين المتكدسِّ من عصور الإنحطاط إلى فضاءات تشعُّ سحراً . وسماوات مضيئاتٍ بالرؤى وقيم الحريَّة والإنسانية المُشبعة بالمُثل الرفيعة السامية .

سهيل كيوان أديب بكلِّ معنى الكلمة وأعمقِ مغزاها , أجملُ ما فيهِ ترفعُّهُ وجرأة أدبهِ وذكاؤهُ اللَّماحُ , همُّهُ فقط أن يبدعَ ويتطوَّر ويجيد فيما يكتب من رواياتٍ إلى أدب أطفال ٍ مرورا بمقالات إجتماعية نقديةٍ وأدبيةٍ ونصوصٍ مفتوحةٍ على الإحتمالات. دونَ أن يوارب أو يتسلَّقَ على أكتافِ الآخرينْ كما يفعلُ الأدباء الصغار غيرهُ , لديهِ إستعدادٌ فطريٌّ لقولِ كلمة الحقِّ ولو في وجهِ سلطانٍ جائرْ , ولا يداهن في رأيٍ يقتنعُ بهِ أبداً . منفتحٌ وخالٍ من مفاهيم تتمسكُّ بها الشللية وتنادي بها بأسم الأدب .
سهيل بالإضافةِ الى كونهِ كاتباً ساخراً لاذعاً بإمتياز تعدُّ مقالاتهُ الساخرة فتحاً مبيناً في أدبنا المحّليْ هو أيضاً كاتبٌ إجتماعي واقعيٌّ بإمتيازٍ وتفوقٍّ ونجاحٍ أيضاً . تعتزُّ به فلسطينيتنا وعربيتنا , هذا ما نجده في رواياتهِ ومقالاتهِ الكثيرة وقصصهِ التي لم تنل في ظنيِّ الشخصي حقها من النقد والإهتمام الفلسطيني والعربي . وأرجو أن يأتي ذلك اليوم الذي يُنصَفُ فيهِ أدبُهُ , ولا أظنُّ ذلكَ اليومَ بعيدا أو أنهُ بطيء المجيء .

يملكُ سهيل كيوان طاقة فريدةً وإستثنائية على ليِّ أعناقِ الكلماتْ ونحتها بصورةٍ تبدو وكأنها لُمِّعتْ بأحجارِ الضوءْ , وأنها لم تُخلقْ أبداً إلاَّ لكيْ تُوضع في مكانها المنشودْ والمُحددِّ لها في النصْ , لا قبلْ ولا بعدْ ولا أقلَّ ولا أكثرْ . كلُّ هذا في إستعمال دقيق ورقيق , مُحكم وحكيم لأدواتهِ الفنية , التي يحتلُّ التشويق الأدبي أعلى درجاتها .

أتمنى لهذا الكاتب المتنوِّع الثرِّ , المثير للإهتمام والإعجاب , المسكون بالجمال والتمردِّ على اللغة , الحياة المديدة السعيدة ودوام الإبداعْ والعطاءْ .

****************



نزيف الأسئلة

بين التكرّس الأدبي والواقع الجديد



منذ تلك المساءات الشفافة البعيدة التي أسرتني بها حبال الشغف الغير مرئية بهذه اللغة المتفرّدة وتخييلاتها ورؤاها المشتعلة في جسد القصيدة العربيّه منذ أكثر من خمسة عشر قرناً .ومنذ تلك اللحظات الزرقاء الغاربة وراء شفق الصبا كأنها ظلال عيون حور . وأنا في مدٍّ وجزر من يقيني وشعوري الساحر بشبه ذنب لتضحيّتي في سبيل هذا الشغف بالغالي والرخيص عندي . كما أن الفجوة بين المشهد الواقعي الحقيقي والحلم الرؤيوي لديَّ تزدادُ إتساعاً وعمقاً وغربة ً يوماً على يوم بل لحظة ً على لحظة وسط هذه التيارات العاتية للمذاهب الأدبية والأفكار الجديدة . وفي خضّم التناحر الثقافي الرقمي الذي بات يقنعنا بأن ما يكتب اليوم من نثيرات عادية تبحث عن الشعر ولا تجده وتملأ عالمنا هو الصورة الحقيقية والنموذج الأعلى للشعر العربي . ويجهل أصحابها أن الشعر هو موروث ولغة وفكر وعاطفة وخيال وذوق ومقاييس جمالية وإيقاع . تجتمع كلّها في هورمونيا عجيبة وتتحدُّ إتحاداً يصعبُ تفكيك ذراته.
وأصبح لزاما عليَّ أن أرد ُّ على حيرة القلب فيما يفسرُّ إنهزامية الشعر وغروب شمسه عندنا وفي أماكن أخرى من العالم .فإنَّ
ألكثير من الأسئلة النازفه والمتعلّقة بالمصير الحتمي للشعر خاصة وللإبداع عامة تلّحُّ عليَّ اليوم كما لم تلحُّ عليَّ بهذا الزخم وبهذه الحساسيّة في أيِّ وقتٍ مضى . ذلك أننا نعيش على شفا مرحلة فاصلة في تاريخ البشر من إنعدام مركزيّة الخطاب الحضاري . المتمثلة بالفنون والآداب وإنتهاء زمن التفرّد والنجوميّة والأضواء. وفقدان الكلمة لقيمتها العليا.
أحياناً أقول أن هذا التراجع في القيمة الأدبية أو الفكرية عندنا يرجع الى فقر في تجاربنا الحياتية بالقياس الى الغرب . أو يعود الى عقلية غير متحرّرة بعد من قيود عديدة منها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية .
نعم, لدينا مواهب ربما بحجم مدهش ولكننا لا نملك أدباً كأدب الغير ولا أدباء مكرَّسين وناجحين في الوقت نفسه كهنري ميلر وماركيز وتوماس مان وغيرهم لسبب بسيط فقط , لأنهم جعلوا من الحرية الانسانية قيمة عليا فوق كل القيم والاعتبارات .ولأنَّ لغتهم ممتزجة حتى القرار بدماء تجاربهم الحياتية , ومتقاطعة مع خطوطها الكثيرة الطولية والعرضية كل تقاطع ومتماهية مع ذواتهم حتى النهاية , ولا سلطة لدين أو أخلاقيات أو تقاليد مجتمع على أقلامهم ,هنالك فقط إخلاص للفن والتجربة , هذا عدا عن تقديس الكلمة بوصفها المادة الخام المستعملة في صياغة الملحمة والتاريخ والمستقبل .
هذه التداعيات ربمّا تفتّحت جروحها من قبل . ولكنها لم تكن ذات وجعٍ
مقلق كما هي الآن . كنت في حداثتي أحاول أن أعزّي النفس وأرفو جراحها بشتّى الأسباب الداعية الى التفاؤل والشجاعة في مواجهة هذه الحياة بسلاح الشعر ولكنّي في هذا الوقت بالذات أعرف كم كانت نزوة الحداثة جامحة .وكم كان مسكوناً حصان تلك المرحلة بعد الطفولية بلهيب بابلو نيرودا .كانت الأشياء "كل أشياء الكون" لا تزال محتفظة في ذهنيتي الغضةِ تلك بكلِّ حرارتها وغناها الوجودي المعنويِّ . كان الواقع بكلِّ صوره وتجلياته اللانهائية يبدو لي وكأنه مأسطرٌ " من أسطورة" ولم تنشرخ مراياه بعد وتتكسّر أمام عينيَّ كما هي الآن . كسرٌ من نجوم على شاطئ وجداني . كنت أعيش بالروح في صميم رومانطيقية أوائل القرن التاسع عشر الأوروبية وكان جسدي في أواخر القرن العشرين .أي أنَّ قرنين من الزمن تقريباً كانا يفصلان ما بين روحي وجسدي . وكان الشعر بأجنحته يشرع لي أبواباً سماويّة غريبة ويدشنُّ أرضي بالفتوحات الجديدة .كنت مثل شاعر دون جوان يعيش ويدور في مدار وهمه يكتب حياته قصيدةً في إنتظار عبثيِّ لمن أحبّْ حتى لو كان إنتظاره أطول وأسخف من إنتظار "جودو" بآلاف المرّاتْ .
كنت أعتقد كما يعتقد الحالم أن الشعر لا زال الملك أو كما قال نزار قباني يوما عنه بأنه "ملك الملوك" . هذا إحساس يصحبني وأحاول أن أخدع نفسي به . ولكن الحقيقة الواقعية تقول أن الشعر لم يعد ملكاً ولا حتى صعلوكاً بل أقلّْ من ذلك بكثير . ولم تعد هذه المهنة الملعونة / المقدّسة تردُّ على تقلبّات روح العصر وسؤالها الوجوديِّ الصعب .
ولقد قادني إحساسي بهذ الفراغ النسبي لجماليّات الحياة وروحانيتها وشعوري بضحالة تجربتها وسطحّيتها أن أطرح على شاعر فلسطيني يعتبر رمزا شعرياً لامعا لا في مرحلة سابقة وحسب بل في الراهن واللاحق سؤالاً بديهيّا يلخصُّ الكثير من قلق الريح والحبر فيَّ .
ماذا يحتاج الشاعر العربيُّ أليوم لكي "يكون"؟
وبكل ما تحمل هذه أل" يكون " من معان ٍ ودلالات وأبعاد وتصوّرات .
في حديث لي مع الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم قال أن على ألشاعر لكي يكون حاضراً في المشهد الإبداعي العربي
بقوة ونجاح وعمق عليه أن تتوّفر له ثلاثة أسباب أو عناصر مهمّة .
العنصر الأوّل هو الإستعداد النفسي السيكولوجي الداعي الى تحفيز السليقة البديهية لدى الشاعر للكتابة ومحاورة الأشياء . بالإضافة الى الموهبة الفطرية التي تولد معه وتنمو بالرعاية والقراءة والتثقيف وتصقلها الأسفار
وهي الشيء الوحيد المحتفظ بفرادة الإنسان وتميّز طابعه .
والعنصر الثاني فهو ما أسماه القاسم بالرهبنة الشعرية أو الإنقطاع والتكرّس للشعر والإخلاص له والإيمان بقيمته العليا وجعله فوق كل إعتبار آخر. مهما كانت العواقب والظروف الحياتية . بوصفه أحد آخر المحاربين الوجوديين على كياننا كبشر نملك أحاسيسَ وعواطفَ سامية ويجدر بنا أن نعبرَّ عنها وفق أهوائنا وأحلامنا الغير منهوبة . أمّا العنصر الأخير فهو التجربة الشخصية الحياتية بكل ما فيها من تقلبّات ورغبات وبكل ما تحمل من جموح الحياة وتناقضاتها . كأن يبيت الإنسان في سجن وضيع ويصبح في فندق سبعة نجوم . أو تقذفه الحياة من قمة أحلامه الى هاوية جحيمه بين عشيّة وضحاها . وأضاف أيضاً أن الشاعر لا تصنعه الأضواء ولا الدعاية بقدر ما يصنعه نصه . ولا فائدة من تلميع إسم شاعر معيّن إذا كان ما يكتبه رديئاً. ففي عصور خلت إمتلأت الأرض بأصوات مندثرة لشعراء كثيرين عاصروا هوميروس والمتنبي ودانتي وشكسبير .إذ أن المقياس الوحيد للنجاح الأدبي الحقيقي هو القيمة الكتابية وليس أي شيء آخر .
وأردتُ هنا أن أشددَّ على كلمة "رهبنة"لأن هذا المصطلح فضفاض لا أعتقد أنه يناسب زماننا ومكاننا بقدر ما كان يناسب الماضي . كنت مقتنعاً أنه لا يفيد شيءٌ وسط هذا الكم الهائل من الأسماء وأمام أساليب وطرق جديدة لنشر الأبداع وتوصيله بأسهل الطرق الى عقلية قارئ مشغول بسطحيّات الأمور ومنهمك بما يتيحه العصر من شواغل أخرى أكثر تسلية ً
وبساطة ولا تشقُّ على الذهن . أما اليوم فالرهبنة الشعرية التي يحلم بها بعض المثقفين بإيمان الشعراء العميق علَّ مركبها يوصلهم الى شواطئ الإبداع الجديدة والنائية قد تكسرّت هي ومركبها الهش على صخور الواقع القاسية وتناثر حطامها على شاطئ الحياة .
كنت مسكوناً بنار نبيلة ومأخوذا بروعة هذا التمردِّ الجليِّ ونبرته التي أخرجتني من صلب واقعي بعض الشيء وأشعلت حطام هذا المركب الغريق "مركب الرهبنة الشعرية" وحوّلته رماداً لعنقاء أخرى. بينما كان صوت القاسم يفيض حباً لهذا الوطن وترابه.وحماسةً وكرماً قلمّا وجدتهما في شاعر غيره . كان بسيطا خلوقاً كفارس القصيدة النبيل.
ألذي ما زال من أهمِّ المدافعين عن قداسة وأصالة لغتنا ومن المتغنيّن بروعة الشعر العربي القديم وإشراقة ديباجته وغنى تجربته . هو حارس جمالية الموروث الشعري العربي ومن أبرز القابضين على جمر القصيدة المقاومة والهادرة في وجه الظلم والقمع والموت العربي .
ولكني في أعماق نفسي كنت أحسُّ أن هذا الكلام ربما يكون حماسيّاً أو ربما يكون عزاءً حميماً لي من راهب الشعر العربي المتمرّد . وكنت في دخيلتي أقول أرجو أن يكون هذا الكلام الذي يقال صحيحاً لأحاول أن أرممَّ به بعض خراب الروح . وأشحن همتي لكتابة قصيدة جديدة تسيل دم الأسئلة فقط .لا أريد لها أن تتحدَّى طائرة أو بارجة .بل أريدها أن تنطلق كفراشةٍ أو كطير سنونو في المدى أو تذوب كقطرة ضوء بنفسجّية اللون على أعتاب الشمس .وأنا واثق أشدَّ الثقة من أن الشعر قد مات وليس هذا الغناء المنطلق من حناجرنا بين الحين والحين . الاَّ مارشاً جنائزياً في طريق الشعر الأخيرة .


*************************

فرادة القراءة والإضافة


أحياناً كثيرة أسأل نفسي ما جدوى أن أكتب نصاً شعرياً آخر؟ ما فائدة أن أضيف الى هذا الكم المعرفي الهائل كلمة بسيطة ؟إذا كانت لا تحملُ في طياتها فرادة عظيمة . وأنا مؤمن أعمق الإيمان أني كمن يضيف الى محيط زاخر بالمياه قطرة ماء واحدة لا تزن ذرة من خردلٍ. أو يشعلُ شمعة خضراء صغيرة في نهار مليء بالشموس العظيمة الضوء . كثيراً ما ينتابني شعورٌ بأني عبثاً أضيعُ عمري وأني لن أصنع أفضل ممّا صنع غيري أو أضيف جديداً مبتكراً , ويراودني شوقٌ كبيرٌ حينها الى الصمت الجميل "صمت رمبو" أمام هذه الملايين من المجلدات والكتب التي تفيض وتزخرُ بها مكتبات العالم وصروحه الحضارية الثقافية . وأقول في سرّي " هل هناك شيءٌ جديٌّ لم يقال بعد , أو هل هناك سؤال لم يسأل حتى الآن" ؟؟. وما زال محتفظاً بحرارته الأولى وبجدارة أن يُطرح .
أنا أدعو نفسي دائماً الى تجاهل هذا السؤال تماماً وأحاول أن أتمرّد على روتينية الحياة والكون القاسية . ولكنَّ خوفاً في داخلي ينمو ويحدثني بأني ربمّا سأستيقظ في غدٍ بعيدٍ ذات صباح ربيعيٍّ بلا قصيدة . أستيقظ بلا رغبة حية بتأثيث هذه الفوضى العارمة التي تجتاح ما حولنا . وتحوّله الى رماد عنقاء ملوّن . أو الى قبض ريح .
ربمّا سأستيقظ بعد إنطفاء شعلة العاطفة البودليرية العظيمة وتلاشي لمعان الذكاء الشعوري الراجح على كل ملكاتي المكتسبة . أقصدُ بذكائي الشعوري تفجرَّ الحسِّ الإنساني المتصيّد لكل متناهٍ في الصغر من ذرات الحياة والوجود . أما الملكات المكتسبة فهي كثيرة منها إكتساب العلم والثقافة والإلمام باللغات العديدة لتوسيع مدارك العقل وعاطفة القلب .
إن لهفتي في إبتداع شيءٍ جديد له خصوصيته وجدته وتميّزه هي ما يدفعني غالبا الى التمسّك بأطياف الحلم الأخير المتلاشي في فضاء التفجرِّ المعرفي والديموغرافي الهائل ووسط تصحرِّ القصيدة الكليِّ في مناخ فقير وخالٍ من الإضافات النوعيّة أو تلك المتفلتة من سطوة التابوهات عليها.
ولكن هل هناك عبقرية في الخلق الإبداعي من غير عبقرية فهم ومحاورة ومكاشفة الأصل الموروث والمؤثرِّ ِفي نفس قارئه ؟ بملامسة مواطن القوة والجمال والجدّة فيه . والتأسيس عليها .
وهذا لا يأتي الاَّ عبر قراءة كاشفة ونافذة لها فرادة الحسِّ وعبقريته .
فكلُّ الإبداع في نظري كتابة واعية على كتابة واعية أخرى .
رغم الوعود الكثيرة التي قطعتها على نفسي بقراءة قدر ما أستطيع من المأثور الفكري الشعري القديم أو الغربي الحديث خصوصاً الروائي الذي طالما تمنّيت أن أكشف خفايا سحره وأستبطن جماله , إلاّ أني حتى هذه اللحظة لم أحققُّ الاَّ الإنجاز القليل المتواضع وما زلت في انتظار الفتح الكبير عله يغني العاطفة والعقل من جوع .
ألم أعد نفسي بقراءة الإلياذة بصمت داخلي وبنفس طويل أو ملحمة جلجامش البابلية كاملة قراءة كاشفة وفاحصة ومتأنية ومن غير توقفٍّ ؟ ولم أفعل, وهذا ينطبق على مؤلفات الأدباء الروس الكبار أمثال دوستوفسكي وتولوستوي وغوركي وبوشكين , ومؤلفات الكتّاب الفرنسيين ومنهم هوغو وفلوبير وبلزاك . والأدباء الألمان وعلى رأسهم جيته وتوماس مان وشيلر . أقصد بقرائتهم قراءةً كاشفة أصلُ فيها الى قاع نفسية الكاتب , والحقيقة المطلقة لعراء الذات أمام بياض الورقة ,والى ما أراد الكاتب أن يوصله الى الغير ,من خلال تمعّنِ الحبر الخفي المتلألئ بين ثنايا سطوره والأهمِّ من كلِّ هذا أن أصل الى عبقريّة الإضافة الحقيقية وفرادتها داخل النص.وسأضرب مثلاً على هذا من خلال قراءتي لأعمال الكاتب اللبناني العالمي المبدع والمثير لغبار الجدل جبران خليل جبران فهو متجددٌ في كل أوان وقادر على إدهاشك وتغيير رأيك المسبق عنه في كلِّ مرةٍ جديدة تقرأه . ففي كل قراءة تجد نفساً آخر وروحاً جديدة وعالماً مختلفاً وكأنَّ الذي يكتب شخصٌ آخر فهو يختزن طبقات ثقافية رهيبة ويمتلك بعداً انسانياً عميق الجذور والأصالة . تستطيع أن تكتشف في كل قراءة نهرا جديداً يتغلغلُ فيكَ ويرفُّ كأنه طائرٌ غريبٌ وتلمسَ ضوءاً يدغدغُ أطرافك وقيمة فنيّة وإنسانية فذةً بالإضافة الى حلم متناسخ عبر القراءات . فجبران كاتبٌ يعرف كيف يضيف وكيف يحررُّ ذاته تحريراً كاملا في الكتابة . وهذا التجددِّ الدائم لماء الإبداع وجدته أيضاً عند شاعر لبناني جنوبي جددَّ في بلورة القصيدة العربية وإشكالية حداثتها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي هو محمد علي شمس الدين فمنذ قراءتي الأولى له قبل سنوات عدة ما زال يثير فيَّ الفضول والرغبة في كشف قاموسه الشعري المكثّف والصعب والمشاكس والمستند الى عالم غنيِّ متنوعِّ ولا نهائيٍّ من التصاوير التي تشكلُّ خامة كتابته الشعرية , فهو عميق الغور متعددُّ المعاني يغلب على شعره الغموض الشفيف ومساءلة الموجودات الجمالية . وتفيض كتابته بتوظيف الرموز التاريخية والأسطورية الكثيرة بما يشبه الإيحاء المجازي والتناص التاريخي في جدّة ٍ إبداعية وإحتراف أدبي مشهود . ممّا يجددُّ في روح ونهر الشعر العربي الحديث .
وحتى هذه اللحظة أتشبّثُّ بالمنى وأتمسكُّ بحبال الوهم والحقيقة علنَّي أحققُّ وعدي لنفسي , أقول أحيانا ربما جنى عليَّ الشعر بأن وهبني لعنة رفاهية القراءة المتمثلّة بمزاجيتي الغريبة المرهفة القصيرة النفس أحياناً لديَّ والتي ما أن تهبط على زهرة حتى تطير الى أخرى وهنا أقصد المواد الفكرية والفلسفية المستعصية والتي تذكرني بلغة دروس الحساب الجافة ,فكل قراءاتي الفكرية الأولى كانت كهبوب النسيم الخفيف على حديقة المعرفة , ولم تكن قراءة المقيم المتبصّر المستجلّي للخفايا.
كثيرا ما حرضّني الأدباء المصريون الكبار" أدباء الحديث الخفيض" أمثال سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وأنيس منصور, وبقوة لا يُصمد في وجهها على إقتحام عوالم أدباء الانسانية خصوصاً في العام الأخير كما لم يحرضنّي أحدٌ يوماً ما على التوّفر الفسيح الجادِّ على كنوز هذا الأدب , والنهل من ينابيعه الثرّة الصافية التي لا تنضب الى الأبد , وأذكر كيف كان الكاتب المصري توفيق الحكيم أوّل من حرضنّي على قراءة شيء من تراث الشاعر الفرنسي جان كوكتو, ولكنني في كل مرةٍ كنت أشعر بضآلة ما يكتب اليوم إزاءهم ,وأخاف أن يجيء ذلك اليوم الذي أصمت فيه أمام روعة وإدهاش أعمالهم , أخاف ألاَّ أضيف الى ما قدّمت أياديهم شيئاً يُحفظُ لي . وأخاف من صباحٍ بلا قصيدة أو قصيدة بلا صباح يعانق جمال صمتها .


****************************



وداعاً نزيه خير ....وداعاً عاشقَ الياسمين


وأخيراً رحلَ نزيه خير , عاشقُ الياسمين الحييُّ وغرّيدُ الكرمل وما زال ترجيعُ نشيد إنشادهِ يترددُّ في كياننا , رحلَ مستعجلاً وقبلَ أوان إزهار اللوز , قبل أن يعانق مدينته الضائعة ويمسح الثلج عن خدّها . قبل أن يكملَ نبوءة الريح التي تغنىّ بها طويلاً . كأنه وقصيدته على سفر الى ما وراء المطلق.
لا زلتُ أذكرُ صوته الشجيَّ الممسوح بفضة الدمع وعبقه الحار والمشحون بعاطفة الصيف الغريب يتسربُّ الى قرار كياني الجريح في ذلك الصباح التموزي العذب الباهر ريحه والمسكون بالتجليّات .
لن أذكر الآن إطراءه لديوانيَّ الأولين وكلامه الحميم عنهما وهو الذي لم يجامل أحدا أبداً ولم يطرِ شاعراً في وجهه الاّ فيما ندر .
لن أذكر صدق وفائه الذي فاض من حديثه ذاك فهو أكبر من أن يذكر فكلنا نعرفه في طوايا نفوسنا ونقرُّ بسموِّ روح صاحبه .
بل سأذكرُ ندمي المتفتحِّ مثل زهرة النار , ندمي لأني تقاعست ربمّا بلا سبب عن تلبية دعوته عندما دعاني الى لقاء في برنامجه الأدبي الثقافي الأثير عندي "شرفة" ذلك البرنامج الذي كان يعدّه إعداداً راقياً ويقدّمه
في قناة 33 في التلفزيون . طلبت منه حينها بأدب وحبٍ ولطف جمِّ أن يُرجأ مشاركتي ولقائي به الى المستقبل الغير منظور . وكم هي خسارتي فادحة الآن .ماذا كان سيحدثُ لو كنت إستثمرت هذا اللقاء معه؟
لا أدري ما هو سبب تقاعسي عن هذه المشاركة آنذاك وكان أجدر بي أن أغتنم مثل هذه الفرصة التي ضيعتها كما ضيَّعت غيرها .لترسيخ قناعتي بما أقوم به .
أهو الحياء أم الخوف؟ أم شيءٌ آخر؟ وقتها فقط حين لم يعاتبني الشاعر الرقيق الناعم الكلام أتهمتُ نفسي بهما .
رغم مشاغلي الكثيرة أيام السبت لم أكن لأفوّت فرصة مشاهدته والإستماع الى محاوراته الذكية الصريحة وأسئلته المتغلغلة في أعماق الوعي الثقافي السائد عندنا , كانت تشدني وتأسرني طريقته في مناقشة المواضيع , وعباراته الشفافة المنحوته من صخر المعرفة وكانت حساسيّته الشعرية الواضحة جليّاً في مكاشفاته الكثيرة تلك سيدة المشهد .
أذكر في أحد الحلقات مع الروائي سهيل كيوان دفاعه الجريء عن ديوانيَّ الأولين في وجه لصوص "دائرة الثقافة" .
أستطيع أن أقول الآن وبلا محاباة ورياء وتصنعٍّ بل بثقةٍ وفخرٍ يعانقان النجوم أن نزيه خير هو الذي علمّني الإحتفاء برائحة الطبيعة وبأنوثتها وبأسماء الورد أكثر في شعري , قاموسه الشعري قاموس جميل لعشق الأرض بأزهارها ومكانها وأبعادها ومسميّاتها المطلقة . وهو أيضا من أغراني بحشد مواصفات ومعانقات تاريخية في تناص رائع . كيف لا وهو أحد شعرائنا الكبار .
لا أكاد أصدقُّ حتى هذه اللحظة رحيل هذا الفارس العربي النبيل ولا أستطيع أن أتخيّلْ مشهدنا الشعري خالٍ من إطلالته العالية ,لا أستطيع تصوّر وجداننا الشعري الجمعي خال من حضور إبداعه . فهو ريحان وعبقٌ في الذاكرة . كان منفتح العقل والقلب والروح لم يكن أبدا ضيق السريرة والعلن كان أفقه مفتوحا لكل طائر غريب .
لم أسمع منه كلمة واحدة تدل على ملل أو إحراج أو ما شابه في كل أحاديثي الهاتفية معه كان يشعُّ بشاشة وطيباً ومرحاً حتى في أشدِّ فترات إنشغاله .كأننا كنا متعارفين منذ سنين طويلة أو كأننا أصدقاءٌ من جيل واحد .
أذكرُ الآن مقالاته ولغته التي فاضت حزنا ووفاءً وصدقاً إثر وفاة البعض من أصدقائه الشعراء العرب منهم عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وعبد الله البردوني ,لم يهذبُّ لوعته أبداً , أذكر كيف كان يتفجرُّ نثره رثاءً قوياً وعاطفة صادقة ًأعظم بكثير من عاطفة كتبت مراثي المدن الأندلسية . كانت مقالاته تلك أيقونة في صدر مرحلة ذوت من سفر الوجود الشعري الإنساني , وكانت تقريباً وإختزالاً لذلك البعد المترامي في المسافة والهويّه والثقافة والإنتماء .
لم أمر بالدالية يوماً أو أنظر اليها وهي خبط العصا جغرافياً من هضاب طبعون الأ عشقتها لأجله أو تذكرته وسكنت إطمئناناً الى هذا القرب الجغرافي الروحي الشعريِّ الجماليِّ المشترك بيننا , لن أصرخ ذات يوم وأقول قولة أخيك الكبير بدر شاكر السيّاب
"قساة كلُّ من لا قيت" أو قولته الأخرى "كلُّ من أحببتُ غيركَ ما أحبوني " ولكن سأقول رغم هذا البكاء الخفيِّ الذي يملأ غصن جسدي أنني لستُ بحاجةٍ الى دمع يهبُّ من فضاء الروح لأثبت لك حباً غامضا مجهولاً منحتكَ أيّاه , لم تزحزحني عنه قسوة الآخرين وزيفُ أشباه الشعراء . فإلى جنان الخلد والشعر والنبوغ يا أبا فادي أيها الكبير الذي عانق صوته الشجيُّ أعماق الروح منيّ ذات صيف جميل هادئ . الى جنة الله يا شاعرا لم يوارب يوما ولم يتلوّن ولم يجامل أحدا وكان وفاؤه عندي مثلاً .

*************


طيور السكونك


انتقد احد الكتاب في مجلس ضمني به ,مؤخراً اضافة الى شاعر آخر صديق ,الحداثة الشعريه, واردف قائلاً ان الاعجاب بالشعراء المحدثين هو آني ومرتبط بحميمية معينة.
وأضاف الشاعر نقدا على هذا النقد فقال ان الشعرية العربية الحالية تفتقر الى الشعراء الحقيقيين, أمثال المتنبي في شعرنا العربي القديم , والذي يعتبره صاحبنا الشاعر الأوحد في تاريخ الادب العربي عامة.
ثم إنتقل بعد ذلك الى الكلام عن الشعراء اليونانيين ,وعن الشاعرة اليونانية سافو المعبرة عن الوجد الانساني والفرح بالحياة والتحرق بالجمال الخالص قبل ولادة حضارات الشعوب الأخرى,وقبل نطقها بأول كلمة تعبر عن خلجات روحها بالأوصاف والتشبيهات العذراء.
كنت أسمع ولا أنكر ما يقال لكنني خرجت من المجلس وأنا مليء بالتساؤلات الغامضة حول عملية الكتابة الابداعية ومثقل بضباب القصيدة الفضي ,وبسحر الأفكار الجميلة ألمجنحة, نفس الغموض والأفكار والرغبة الجامحة في استقصاء تجربة الغير الكتابية التي كانت وما زالت تنتابني بقوة عند سماعي لأحاديث كتاب وشعراء عرب وأجانب,أمثال البياتي وأدونيس ومحمود درويش وعصام العبدالله وبول شاؤول والماغوط وباولو كويلو وساراماغو ,حول علاقة الكتابة والشعر والفن بالحياة وبطبيعة النفس البشرية والأمزجة
الجمالية المختلفة .
تلك أحاديث كانت دائماً تتركني أبحث عن ذاتي الشعرية تحت سماء لا اعرفها .تماماً كما قال صديقي الكاتب .... أحاديث كانت تترك فراغاً روحياً ,وعلامة سؤال في ذهني دائماً حول أمور كثيرة ومتشعبة .
كنت أحس من خلال حديثهم أنهم يعبرون عن نفسي وذاتي ألتائهة الباحثة ابداًعن ألامثل والأجمل , أكثر مما عبروا عن ذواتهم.
فأنا لا أفهم سر هذا الغموض الشفاف النابع من قلق الشاعر أو الفنان على مصيره ,في عصر الذره , والنابع ايضاًمن حزن عميق أسطوري بعيد النزعة كحزن عبد القادر الجنابي او حزن ناتان زاخ أو محمد الماغوط او ادونيس ,والقائمة طويلة .
أظن أنه من المهم أن نحاول استدعاء مخيلة الآخر المختلف .
او نمتلك حاسة اضافية تحاول التقريب بيننا وتجعلنا نتأثر بعضنا ببعض لبلورة رؤى شمولية
طازجة وجديدة,وذات روح متمردة وثائرة على قيم جامدة.
أما عن مسألة انصهار النثر بالشعر أوالعكس فلا بأس بأن نستمتع بنماذج راقية لنثرية بول فاليري وسعيد عقل وجبران وأمين نخلة .
والاعجاب بنرجسية بروست وطاقته على التغلغل في نفس المكان وفي نفس ألقارىء.
ان النثر في رأيي هو بلورة المادة الكتابية والشعر هو اطلاق أجنحة لطائر حبيس في اللاوعي الذاتي.
النثر تراكم وتجمع لمخزون الوعي في بؤرة واحدة والشعر محاولة لنثر مخزون اللا وعي في الهواء الطلق. الشعر أخيرا نوع من مشاكسة فردية لروح الوجود.
ولكتابة مادة ابداعية كقصيدة مثلاً,لا بد وأن تتوفر للشاعر فسحة من الحرية على حد تعبير ناتان زاخ, والا سيجد نفسه محاصراً بما يفسد عليه احساسه بجمال الشعر والحياة .وبجمال روحه أيضا.
الشعراء هم (طيور سكونك)هذا الكوكب الموبوء بالظلم كما يقول الشاعر السوري المعروف نزيه ابو عفش .والسكونك هذا طائر اسطوري جميل او ربما مخلوق غريب نصفه طائر ونصفه الثاني حيوان حساس لدموعه رائحة عطر تدل عليه صياده ,فاذا وجده أخذ السكونك بالبكاء المر كوسيلة اخيرة للنجاة و لدفع الخطر عنه واسترحام الصياد.
ويبقى السؤال عن الشعر والشعراء مفتوحاً.

*****************************



لغة الجمال


لكلٍ منا حاسةٌ تقرأُ في ما وراء النص أو ترى المعنى في اللا معنى أو الحسيّ في المجرّد أوالعكس ! ربما نسميها الذوق أو مقياس الجمال . ولكنها نسبية على أية حال . ننفذ بواسطتها إلى الحس الخفي والى مواطن عميقة داخل الموروث الأدبي والفني . أو داخل الرؤيا الانسانية الداعية الى مثل عليا ، المتمثلة بجمالية لها علمها ولها مدارسها ونظرياتها التي تدرس في المعاهد والجامعات في الشرق والغرب نفهم من خلالها أعمال عظيمة ونستوعبها ونحلل في ضوئها الياذه هوميروس . وإنياذة فرجيل وفردوس ملتون ،وكوميديا دانتي ، وروائع شكسبير وكيشوت سرفانتس المدهش تحليلاً ذاتياً يدخل الروعة والإعجاب الى نفوسنا ويمدنا بشوق جارف الى المعرفة واكتشاف سر الحياة فينا .

هذا ما يتعلّق بحراس الجمالية الكبار . ولكن هل خطر ببالنا أن نسأل أنفسنا مرة أين الجمال فيما نكتب ونرسم وننتج من أعمال أدبية وفنية نظنُها ذات قيمة حقيقية ؟ في زمنٍ إنهارت فيه الصروح الفنية والأدبية والمعنوية الشاهقة التي كانت تزين حياة الأجداد وتضفي رونقاً على تاريخ الكتابة .
لا أدري ما الذي يدفعني للقول أن السواد الأعظم من كتابات شعرائنا وكتابنا الشباب خالية من جوهر الجمال الحقيقي ، الجمال الذي نلمسه في كتابات وإبداعات أخرى إخترقت جدار الصمت والزمن والأرض والأسئلة المفتوحة .

والجمال هو ذاك العنصر المشع الباقي والخالد في كل شعر عالمي وعربي وفي كل نص أدبي تحدى المذاهب والمدارس الأدبية التي إنقرضت أو إنقرض تأثيرها على ما أظن . وأصبح هاجس ما بعد الحداثة الهَمَّ الأول والعنصر الوحيد الذي يشدنا ضوؤه السحري في هذه الأيام المشحونة بالألم الأخضر والقلق . فالشعر العربي اليوم يراهن على الجمالية ويراهن على المضمون ايضاً .
بعد تراجع الشكل التقليدي - في رأيي - وإندحارهِ الى الأبد . ولا مستقبل للتقريرية في الشعر العربي أو العالمي بعد اليوم . الشعر يخطو اليوم نحو التعبير بالطاقة التصويرية الهائلة أو المجازية اللغوية الجديدة . أو بتفجير الطاقة الكامنة في اللغة الحية المعاصرة على حد تعبير أدونيس . فالحداثة في العالم اليوم تخطو نحو السحر الشفاف والغموض الممسوح بالضوءِ . واعتناق مبدأ - هنا الآن - المختزل لفكرة الحداثة . لدى بعض الشعراء والمفكرين العرب والأجانب على حد سواء.ولكن ما يجري عندنا هو عكس ذلك باستثناء مجهودات فردية قليلة . لو عدنا الى أغلب النصوص التي تطالعنا اليوم من على صفحات الجرائد لوجدناها تفتقر الى كمية وافرة من زيت السمك على حد تعبير الناقد اللبناني مارون عبود. فهي تعاني من فقر الدم . ولا نحس أنها حية أو أن بها معلماً واحداً للحياة ، أغلب القصائد ايضاً كلمات مرصوصة تائهة . وخالية تماماً من الجمال والإيقاع النفسي الداخلي والخارجي . كما أنها خالية أيضاً من الأوزان والموسيقى . أو ربما كانت أوزانها رتيبة مملة وتقليدية . وبما أن بعض الشعراء اللبنانيين يطلق على الأوزان والبحور صفة أسوار حول مدينة الشعر وأظنه شوقي بزيع ، فإنني أقول أن السور الوحيد حول مدينة الإبداع والشعر ، هو الجمال .
جمال الصدق والفكرة والطرح والإيقاع والدهشة . فالوزن وحده لا يفي بالغرض والمعاني معروضة في الشوارع كما قيل قديماً . ويقال الآن . لكنها بحاجة الى صياغة جديدة مختلفة . وقريبةٍ من قلب الراهن الموجود .

من هنا فإنني أنصح الجميع باللجوء الى الموروث العام العربي والعالمي والاستفادة منه بعد استيعابه جيداً . والتجديد من خلاله في كل الأساليب . وطالما أن الحداثة هي البحث عن المجهول المطلق ، والمجهول الجمالي المندثر فينا طبعاً , كما قال - قائلٌ مرةً فلا بأس إذا أبحرنا في بحار الإبداع على طريقة الأبطال اليونانيين ، بحثاً عن عوالم جديدة أو أرض عذراء . مملوءة بالسحر والضوء والجمال . والرغبة المجنحة الى إكتناه الذات والوجود .
قصيدة جميلة لا تفصح عن نفسها بسهولة هي محاولة لفهم العالم ولفهم الذات بحساسية مرهفة وليس أكثر أو أقل من ذلك . أو ربما هي محاولة للتمرد على الموت بسلاح أبيض . وفي اعتقادي ان انقلابات الشاعر على نفسه من خلال التجديد في الصور والمعاني والأساليب التي هي الجوهر دائماً ، لها دلالات واضحة أن الكتابة الإبداعية بحاجة دائماً الى التغيير والرفض وتجديد واعٍ مستمر . وما الشعر الحُر إلا صورة حية من صور هذا التغيير . والتجديد ، الذي يضعنا دائماً أمام تحديات كبرى . وأمام طموح عظيم لا ساحل له . توحي به ثورة عارمة في الشعر اجترحها السياب وحمل نارها شعراء قصيدة حية ذات دم حار . كأدونيس والماغوط وأنسي الحاج ودرويش وسعدي يوسف . فرسان الحداثة الشعرية العربية وحراسها الجدد المحترقة أصابعهم بشمس برتقالية وبندى أخضر اللون .




******************************


عنقـــاءْ الشِعــر


كثيراً ما أستهوتني فكرة الحديث عن اللحظة الشعرية الخاصة ، أو فكرة التأمل اللاشعوري لحالة الرؤيا الشعرية المنثالة من تخيلاّت وتصوّرات لا ترتبط بزمان ومكان ، بقدر ما ترتبط بعناق الشاعر الرائي لذاتهِ الأولى الرافضة كُلياً إنفصالها عن جزئيات حياته وطرق تفكيرهِ وبروق عواطفهِ الملغزة . إلى أبعد حدود الإلغاز .

فالحديث عن الشعر أشبه بالحديث عن شيءٍ نحسُّه ولا نستطيع أن نفسّر بالكلمات البسيطة الحسيّة ظاهرته المجرّدة ومعناه المجهول ، كالحب مثلاً ، المرتبط بإفرازات هرمونية كثيرة ، وتغيرات فسيولوجية في أجسادنا العاشقة لا نستطيع أن نحدّد منبعها ونتخيّل ماهيتها . وجوهرها ، ربما هي مصدر أحاسيس وعواطف ، فإنَّ الشعر ، هذا المفهوم الدقيق وبالأصح الكائن الغامض كلما أحسست بأني سَبَرتُ غورهُ واكتشفت موطنه الأصلي البعيد وجدتُ نفسي أجهل الجاهلين به ، هو يتكوّر بشكل سريع وغريب ومفاجىء كالشهوات المؤجلة أو كالمطر الاستوائي الحزين المنهمر داخلنا وفي أعماقِ ذواتنا ، ما عادَ ذلك الحنين القديم أو التحفة الزمنيّة أو الصديق الروحي الذي ألِفَه الرومان والإغريق والجاهليون ومن أتى بعدهم من شعوب وحضارات . فطالما وجدتُ نفسي في دوامة نوازعه الطاغية . أدور في فلك لا نهاية لهُ . هو فلك الشعر أو مجازياً بقعة الضوء الباقية في سراديب أرواحنا . حتى أني أصبحت أشبّههُ بطائرِ الفينيق أو بعنقاء الألم والرماد ، إذا إختفت ما تلبث أن تظهر بلون وشكل جديدين لتحلّق من جديد في فضاء الكون والحياة .لتملأهما أصداءً ساحرةً وألواناً جديدة براقةً كأنما طائر الشعر هذا يشكلُّ القاسم المشترك بين كل الطيور السماويّة على هذه الأرض . والنغمة الموزّعةُ على التاريخ . والتي غناها فرجيل وهوميرس ونرفال وبودلير ورمبو . وردّدها المئات في الشرق والغرب مع تنويعات وإضافات رائعة ، فنرى هذا الطائر المحاصر ذا الريش الملوّن ينطلق الى آفاق غير محدودة ليتحد مع ألوان وأطياف قُزّحية مترامية في السماءْ . أقصد بها الرؤية الكونيّة الشموليّة للشعر الجديد في زمنٍ لا محدود الإمكانيات يتقدّم بسرعة مركبة فضاءْ الى الأمام ... ومن أهم مظاهره الإنترنت ، المرادف لعالمية الشعر ولا نهائيته وعمق رؤياه . وبعد تأثيره ، ونفاذه جمالاً وإيحاءً أكثر مما كانَ عليه في ماضٍ مظلمٍ متحجرٍ . رغم وجود أقلامٍ مضيئةٍ كثيرة أنارتهُ بالأشعة الملونة الهادئة . فالمعادلة الجديدة في رأيي الشخصي هي أن الشعر لكي يكون جديراً بالخلود والأبدية فلا بدَّ له أن يصهر ويصب المذاهب الكثيرة في بوتقةٍ واحدة .مذاهب كالسريالية والواقعية والتجريدية الشعرية والرمزية والرومانطيقية والوجودية وغيرها ، وتتلاحمُ فيه ثقافات اخرى متعدّدة . نلمحها في ما وراء النص لمحاً خفيفاً رغم الإمحّاءِ والذوبان بتأصيلية بارعةٍ فيه . وتتوارد فيه أفكار مجنحّة وجميلة . وأيديولوجيات ذاتية عديدة . فنجد الشعر واحداً لا يتجزأُ معناه وكتلةً لا تنفصل عراها في أي زمان ومكان يستلهم الحقيقة فينا أولاً وفي كل عناصر الوجود وذراتهِ المتناهية . ويعبر بالرسم وبالكلمات وبألف وسيلة أخرى كاللون والإيقاع النفسي والتواتر الذهني والوزني . والتناسق الحرفي . في كل سطر من سطور القصيدة ونراه بعيداً كل البعد عن معايير نقدية بالية وآراء مضلّة وعدميّة .ومقاييس لا تنطبق على الإبداع في شيء . ولا تنضوي تحت لوائِهِ الشمسي الخفاق وتحت سرحة الأصالة ، الباسقة في أعلى الكلام.
فالشاعر يتفاعل مع الأشياء الغير شعرية في العالم المادي ويحولّها بحساسيّة عالية ثرّه ومتوقدة وبحس مرهف ونفس خلاقة الى موتيف شعري جديد ويمسح عن الموجودات غبار الجمود والصمت والزمن البالي ليراها حق الرؤية ويشعلها من الداخل والخارج بالحياةِ ، ليسري ضوؤها الى كل الحنايا المعتمة الأخرى وهو يستطيع إيجاد التآلف والتناغم التاميّن . بين المتناقضات والمتضادات . في عالمهِ الذهبيّ لينطقها ويجعلها رموزاً وإيحاءاتٍ يحدب من خلالها على نفسِهِ المائيّة الهادرة . في صحراءٍ ملأى بالقيم الرملية الفاسدة وبالمتحجرات ، ويوظف المهمشات في قلبِ المشهد بعدما أُغفلت زمناً . رغم أنها تحتفظ بقدر لا بأس به من حرارة الواقع وجمالهِ وقدسيّته العالية والرائعة ، لكي نحسها ونراها بعد رفع الستار والغبن الحقيقي عنها ونلمسها بالوجدان الملتهب . وبالخصوصية الحميمة ليكتمل فينا الرضى بالعمل وإبداعِهِ كأنهُ قطعةٌ منّا ، وبالصدق الذي يعمّدُ الكتابة بالنار المقدسة ، وبالدمع الهاطل من سماءٍ خفيضة فضيّة اللون ، الصدق المقلّم الوحيد لأزهارنا البريّة والمكوّن للنواة الحقيقية المتجذرة فينا للخلق والإبداع ، فلو لم يكن الشاعر أو الكاتب أو الفنان صريحاً مع نفسه وصادقاً في تجربته لأنعدمت الثقة بينه وبين الجمهور المتلقي ولأنقطعت العلاقة من قراءة ، أول نص أو مشاهدة أول لوحة أو ربما تلاشت الأفكار والمناظر في ذهنه كأطياف الدخان .

******************************************


مركب زياد خداش النشوان


الكتابة لدى القاص الفلسطيني زياد خداش حالة استقصاء عجيبة لمكنونات النفس البشرية وبلورتها بفنية عالية وحذق ماهر من الصعب وانت تقرؤه ان لا تقف امام مرآة نفسك المجردة وتستجلي ما اختزن في الذاكرة الايقونية تلك من مكاشفات مدهشة، فالكتابة الجديدة لدى زياد تجعلك تعيد النظر بالنص النثري وبكتابات طفت على سطح ادبنا الفلسطيني مدة من الزمن.

في قصص زياد ونصوصه الكامنة في صميم الشعرية اللغوية السردية ينتابني شعور بالمطر الانثوي المفاجئ القادم من سماء مجهولة ومشغولة بالدمع الفضي، وشعور بالدخول في شتاء الحنين لكلماته المشعلة بالشوق الى صيف بعيد غامض عند قراءته، احس برياح استوائية تهب من مكان ما خفي داخل الروح كأنها بقايا نشوة، بدلالات حسية غابت في كتابات أُستاذه حسين البرغوثي وحضرت في رؤاه المكتوبة على ماء اللغة، الهادر في روحي والباحث عن بقعة مستعادة ومسحورة لا اعرفها، كأسراب طيور تهاجر الى شاطئ غربي.. مهجور في روايات ماركيز المبتلة بالشمس وبالعصافير الزرقاء، الباحثة عن
فردوس مفقود.


شخصيا اقول انني لا أستطيع ان افهم هذا الكاتب من غير أن المس هذه الطاقة المجازية في قاع النص او في لغة الغياب عن واقع ذي ألوان عارية، أو من غير أن أدرّبَ نفسي على الطيران ضد الريح القديمة، وان أسبح ضد تيار الرتابة الذهنية القاتلة، سباحة علمني اياها تمرد زياد الجديد، بنصه السهل الممتنع المخاتل على ادب يحاول النهوض من سبات رمادي على ضفة الابد، لحظات زياد خداش ومدنه تمتد في نفسي وتخلق عالما من الاشياء الذاهبة إلى الامس, الأشياء التي خلقتنا وتركتنا فرادى كالسهام الهائمة في فضاء خاو غريب، لحظات كالاطياف الغاربة. التي تمتد حول امرأة من ضباب وفرح وألوان ناصعة الصوت في جو باهت.

كلما تعمقت في هذا العالم ازداد قربا من نفسي التي تبحر في خلاياه المسكونة بالشمس والورد القاسي القليل, كلما تعشقت ريحه غسلتني نار انفاسه بالاسئلة، الصلبة الملحة، والمطرودة من فردوس القواميس , بينما زياد يحدث اشجاره عنها ويحاور مدنها المسحورة ويذهب بعيدا بعيدا حتى آخر فراشة في شفقها المعلق فوق حبل السماء.

وزياد خداش المسكون بهاجس الانثى، يثور على نمطية في السرد القصصي ويشحن عباراته بقوة مجازية ونصه بدراما عميقة تأصيلية مشوبه بمثالية راقية حالمة بعالم آخر وبساطة غنية مركبة تتخذ الأسلوب البعيد الصعب قناعا شفافا لها ومركبا نشوانا في العاصفة الهوجاء.

****************************************

جنة السيّاب الضائعة


لا أعرف سرَّ هذه النوسطالجيا الغريبة التي إنتابتني مؤخراً لإعادة قراءة ديوان الشاعر العربي الفذ بدر شاكر السيّاب.ونحن نقترب من الذكرى الثالثة والأربعين لرحيله المفجع .
أهو حنين مجهولٌ الى جنته الضائعة . والى شموسه الخريفية وعصافيره الخضراء ؟
أم أحساس عبثي بشبه قرابة روحية إفتراضية وثيقة العرى تربطني بهذا الشاعر المشاكس والمهمّ عندنا أهميّة ناظم حكمت للأتراك ولوركا للإسبان؟
ذلك أن السيّاب ربّى في نفسي لغة ً شعرية ً صافية من الزوائدِ اللفظية التي تراكمت في وعيي الشعري قبل أن أهتدي إليه .
زوائد الشعر العربي القديم والكلاسيكي الحديث .
فلغة السيّاب الكبير لغة منتقاه ومصّفاه شعرياً ولو عارض ذلك النقاد وقالوا بإطنابه في السطر الشعري . فإنه كان أقدر الشعرا العرب على تحويل الكلام العادي الى شعر خالد يجري من القلب .
ولغته أيضا حالمة بيوتوبيا موعودة وزاخرة بالرموز الرومانسية وهذا الشيء أعجبني جداً في مطالع ولهي بالشعر .
فتوحاته في الشعرية العربيه الجديدة أخذت جانباً كبيراً على عدة مستويات . منها تليين عصيِّ اللغة وتطويعهِ ونفثه من أعماق القلب على سجيّته . وجعل حروف القصيدة العربية كأنها عصافير جنة ضائعة وأطياف مجنّحة .
كنت أسألُ نفسي قبل أن أقرأه بوَعي ْ أسئلة كثيرة حول المخزون الروحي للرومانسية العربية المشبعة بآلام الذات فقط والمتأخرة عن الرومانسيات الأخرى الواقعية الى حد مقبولْ .
فلا أجد أثرا لهذه الأصداء عند سابقيه سوى أصداء ثائرة خافته عند الشابي في بعض أشعاره التي كتبها عندما أقترب سراج روحه من الإنطفاء .
إذن هذا الفتح الشعري الذي أنجزه السياب عظيم وغير مسبوق .
فقد كانت اللغة مع جماعة أبولو حالمة ً رقيقة هشة تخلو من معانقة الواقع وتنقصها التجربة في إكتناه آلام الغير . ولم تحفل كثيرا بأعماق النفس البشرية على مستوى كوني . كانت الروح الشاعرة تعانق نفسها فقط . بينما أصبحت عند السيّاب تعانقُ وتنصهر وتذوب مع عوالم بائدة أو على حافة التلاشي .
ولم يأتِ شاعر قبل السيّاب مازج وقاربَ بين الشعر العربي والأوروبي الإنجليزي منه خاصة مثل هذه المقاربة الشفافة والحميمة . وقد ذكر السيابَ ذلك في لقاء صحفي معه في إذاعة لندن حيث قال أن قصيدة الشاعر الإنجليزي شلي وهي بعنوان القبرّة " the sky lark " كانت الحافز الأساسي له لكتابة الشعر الحر حيث شبّه شلي في سطورها الأولى طيران الطائر في الهواء وفي سطرها الأخيرة رفرفته وتحليقه . في نظام تدويري للقصيدة لا ينقطع المعنى بين كل بيت وآخر فيه ِ.
صرنا نجد نفس التقنيّات التي في القصيدة الإنجليزية ونفس الرؤى وطرق التعبير في شعر بدر وهذا تجديد جريء وخطوة مباركة تُحفظ له .فقد كان من الشعراء الحقيقين الأوائل الذين إستفادوا من إطلاعهم على الآداب الأخرى وهضم جمالياتها جيّدا .
كان مثل جذوة ألم عظيم وما شعره غير تطاير الشظايا عن هذه الجذوة. وفي ظنّي أن السيّاب لم يتجاوز مجايليه شعريا الاّ بفضل هذا الألم فتفوّق على شعراء العراق ومنهم البياتي ونازك الملائكة وعلى شعراء عرب منهم صلاح عبد الصبور ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم . لأن بدر إندفع بكل طاقته وبكل قواه للشعر وساعده إنفعال طبيعي على التمّيز والتفوّق الكمّي والنوعي .
ورغبة متقدة الى الثورة والتجديد في ضوء الإنقلابات السياسية وغليان الشارع العربي وإنهيار القيم القديمة التي نادت بها القومية العربية وإحتلال فلسطين . كل هذا الى جانب كبير من الحساسيّة الرومانسية .المتطلعة الى عالم آخر أو جنة ضائعة أو يوتوبيا عُليا .
يحاول بها أن يلغي غربته ويردم الهوّة بين روحه وجسده.
وهنا يجوز أن نقول أن قاموس السيّاب الشعري قاموس إستثنائي , هكذا أعتقد . لأن تعابيره الشعرية وخيالاته وتصوراته ورؤاه كأنها تأتي من مكان آخر .لا من هذه الأرض التي نحيا عليها وخاصة من العراق الذي يُملأ كل ساعة دما ودمعا وظلما .
إن هذا التغيير الذي إبتدعه يحتاج الى كثير من الذكاء والمكر الشعري مع الحفاظ على الجدّة والأصالة العروضيّة العربية .
ورغم خروجه عن العمود الشعري الخليلي فإن له ما لا يقلُّ عن نصف إنتاجهِ الشعري يشهدُ له بأنه ظلَّ وفيّاً حتى ساعته الأخيرة للموروث العربي ولأصالته . وما محاولاته التجديدية إلاَّ مراعاة لنفسه الثائرة وتحقيقا لها في عصر شعري متغيّر يختلف عن أمس المتنبيّ وأبي تمام . ومكان مختلف عن أمكنتهم.
نفس بدر التي لم تجد في الخيال الشعري القديم وفي أوزان الخليل الفراهيدي ضالتّها المنشودة, بل لم تجد ذلك الإتسّاع الكافي والأفق الرحب لتفجير طاقة فنيّة جبارة كانت خاتمة حتميّة للكلاسيكية الشعرية العربية بمفهومها الجماعي الأشمل . ولا أقصد الكلاسيكية الفردية . بل انتهاء القداسة للعامود الشعري وتكسيره .
بعدما كانت القصيدة قبل ثورة السيّاب أشبه بتمثال خزفي لا نبضاً حارقاً فيه للحياه . يعمدُ إليه الشعراء الخزافون فيهذبونه ويقلمون رغباته ويقيدونه بالأصفاد الأدبية والأخلاقية .بخلاف شعراء الشعوب الأخرى الذين ينفثون قصائدهم كالبراكين مهما كانت حجارتها ومعادنها خاماً .ما دامت أشكالها أروع للرائي من تلك التماثيل الخزفية . وما دام فيها ذلك الوهج الأبهى من ألف شمس .
كانت قصائدهم تكتبهم بتفجّرها وإنثيالها على هواها حاضنة ً رؤى طازجة وباحثة عن مسارب جديدة .
وهذا الشيء وجد صداه في نفس شاعرنا المتأثرة بأبعاد الشعر الكوني والحسِّ الجماعي .ذلك الحس ُّ الذي نما عنده بعد إنخراطه المبكرِّ بالحزب الشيوعي العراقي .
عايش بدر أزمته الروحية الشعرية بكل معانيها حتى النخاع وإصتبغت حياته بها . أزمة المبدع العربي المثقّف والبرجوازي الفقير والمحروم حتى من عطف وحدب المرأة التي يحبُّ . ممّا ولدَّ عنده أحساسا طاغيا بالضياع العاطفي وبالفراغ الروحي لازمه حتى غروب أيامه . ورفد قلبه بأجمل المزامير والألحان التي أثرت سمفونية الشعر العربي الحديث . وأغنت تجربته . ومهدّت السبيل للحداثة العربية ولما بعدها وتشظّت في أصوات شعراء الستينيات والسبعينيات وشكلّت مرجعية هامّة لهم ولم أتوا بعدهم .وأصبح هذا الريفي الحالم الثائر الطموح بروميثيوس شعرنا الحديث ومؤسسُّ حريته ومؤثثُّ لغتنا بالنار بعدما أثقلت بجليد التقليد . فجاءت تجربته مفصلا هاماً وعلامة فارقة ً في أصعب مراحل شعرنا وأدقِّ ظروفه
وأشدّها حساسية . وبعدما آن له أن يشبَّ عن الطوق ويتبع َ الأحصنة المجنحّة الأخرى .


ديسمبر 2007


**********************

رحلة أودوسيوسية


تهويمات في رواية "هل تريد أن تكتب رواية " للكاتب ناجي ظاهر


الكتابة الروائية كما يقول الكثيرون عمل ملزم أكثر من كتابة أي نوع أدبي آخر كالشعر ,والمقالة والقصة. ومشروع بحاجة الى جهد والى مثابرة وتضحية فعلية وإمتزاج الذات بالواقع.وأيمان جميل بالفكرة والكلمة كأيمان كاتبنا .كي يخرج بصورة لائقة كما خرجت رواية الكاتب والقاص النصراوي
ناجي ظاهر."هل تريد أن تكتب رواية" والتي نحن بصددها الأن.
الرواية في رأيي الذي استخلصته من قراءتي الممتعة لها .نشيد أناشيد الكاتب ,هي ملحمة واقعية ذاتية هادئة راح الراوي فيها يتحدث عن همه الحياتي من خلال التركيز على بؤرة الضوء الكامنه في روحه وهي فتاة في العشرين من عمرها دخلت عالمه الخاص وأراد أن ينصت الى هم تجربتها من خلال علاقتها به .وصياغتها في عمل إبداعي . زاحمه في حلمه هذا شاب آخر في مثل سنها فهم الحداثة بصورة خاطئة ولم يستطع أن يصل الى جوهرها.
في هذه الرواية يتجلى لنا دخان الكلمة التي حلم بها الكاتب وحاول أن يقولها .تماما كما حلم جبران بكلمة كتابه النبي المتراقصة في سكينة روحه كالضباب. وإذا كانت الرواية تذكّر نوعا ما بكتاب جبران الساحر "الأجنحة المتكسرة "من حيث صياغة الحلم والهروب الى عالم مثالي فسيح حاشد بالرؤى وبالقيم النبيلة وحتمية الحب فهو تعانق أجواء لا غير . فهي منزوعة من لحم الواقع .
وترابية الحياة .رغم حملها البعد الرمزي أو بعد ألأنا/ الآخر الميتافيزيقي .ومشحونة بغيبيته وتوتره ومفاجآت كثيرة داخل السيلق السردي, وهذا ما نلمحه في مسحتها البرجوازية المستمدة من عوالم بلغت حد الروعة في كتابات بلزاك ومحمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.
رغم سيكولوجية النص الناعمة والحوار الداخلي الرائع المنطلق الى الكون الخارجي . ورغم النشيج الخفي والتراكم الزمني والرغبة المكبوتة والسريالية الخافتة والظاهرة إلا ان قوة التشويق وفنية السرد عاليتان ومبطنتان في أحيان كثيرة بمرارة وخيبة
وإسترجاع ماض تهدم .ومكابدة حنين غير نمطي الى ذكريات بيضاء بعيدة وغائمة .يصيب الراوي المسكون بقريته سيرين بجوها وترابها وأشيائها الغاربة الى الأبد .سيرين الأم والتراث الروحي الجمالي .ذات الجرس والوقع الأسطوري .
وكأنها منزوعة من عالم ألف ليلة وليلة . أو ربما هي تداعيات شوق الى الأمس الضائع .أو ربما هي المرأة/الحلم التي راحَ يحدثنا عنها ويقارب ما بين زمنه وزمنها بوجع متفلت .ويحلم بكتابتها في لا وعيه الصافي طيلة ثلاثة عقود.بلغة ثائرة متمردة محتشدة بالشوق الى الحرية والكمال . تليق بجمالها وتحرّقه الأبدي .
هي الأنثى الموعودة التي ملأت عالمه الخاص وحواسه بالأطياف الزاهية وذهب خلالها يبحث عن فتاته الأخرى ومعناه المجرّد وعن أجوبة لأسئلة وجودية كثيرة أضنته كما أضنت جلجامش.
انَّ أروع ما في رواية كاتبنا هو هذا المونولوج الداخلي مع الطبيعة أولا ومع نفسه ثانيا ومع فتاته أخيرا .حوار يبدأ من خصوصية حميمة وينطلق الى أرجاء العالم الفسيحة محللاً وكاشفا ومسلطاً النور على مناطق معتمة داخل النفس البشرية والذات المبدعة تحديدا من خلال أستشهادات وفلسفة راقية عميقة لكتاب وروائيين كبار مثل ساراماغو وتوفيق الحكيم الذي أحسست تأثر الكاتب بأسلوبه.
وأفكار استقاها الكاتب من قراءاته المختلفة .وكانت حصاد ثقافة عميقة واسعة زينّت المشهد الدرامي بصور رائعة ودقيقة بعيدة كل البعد عن المباشرة والتقريرية والأنفعالية .بل تتخذُ المجاز والأيحاء البليغ والأستعارة .لباساً قشيبا وشفافا لدلالات ومعان ظاهرة ومضمرة مبعثرة هنا وهناك في حنايا الرواية. حيث يأخذنا بمهارة عالية من حالة الى أخرى مع زخم تعبيري واضح لخفايا نفسيّات أبطاله
ولواعجهم الى حرقة الإنتظار كل هذه السنين ليكتمل الحلم .أو النبوءة .أو الأمل الذائب في نفسه لتحقيق ما فاته وهو في شبابه الغض.بواسطة تمثلّه تجربة فتاته وأحتضان حاضرها وماضيه وجعل الناصرة مدينته التي أحب شوارعها وحاراتها وأزقتها مركز هذا العالم وبؤرة ضوئه .
يحاول الكاتب أن يستعيد أحلامه المفقودة وماضي مجد الحضارة العربيه التي ينتمي اليها معنويا في مواجهته الشاب المتأورب أو المتأمرك ربيب العولمة الداعية الى طمس الهوية الانسانية التي تؤثث حياتنا بالغنى الروحي والتطلع الى غد اكثر اشراقاً وجمالا من الأمس. غد مغسول بالطمأنينة
ترمز اليه نهايه الرواية المعلّقه والمفتوحة على الأنعتاق .
ولقد نحسُّ أن الكاتب جعل من هذه الفتاة العشرينية صدى هائما للحياة التي يبحثُ عنها .كمن يفتشُ في سادوم الجديدة عن فردوس مفقود .أو ربما كانت تذويب لحظات الحريّة والأنفلات داخل نفسه الحزينة الصارخة في عالم فوضويِّ قاسٍ معذّب نُصاب فيه بقلق وجودي عظيمْ.فالشوارعُ يصفها الكاتب بالقسوة في لهجة طافحة بالمرارة واليأسْ .
كذلك الحياة أيضا تريدُ أن تفترسه وكأنها تنين ضارٍ
مرعب,حتى في مناجاته للشجرة التي تحمل عدة أبعاد ,لا يخفى هذا الحس بالضياعْ وبالأزمة المصيرّيه الملحة على نفسه وعلى كيننونته كأديب,
حتى في حواراته نلمسُ التمزقَ الروحي يقف كالشبح خلف الكلمات وثنايا النص الموغل في الكشف عن سحرية الحياة والحب.المصاغ بشعرية عالية لا نسمع الاّ رفيفها ,وبكثافة رائعة.تختزل قصر الرواية أختزالا جميلاً ,وتتركها مشرعة ومقنعة وموجعة في الآن معا .
" هل تريد أن تكتب روايه" فاتحة خير في أدبنا المحلي وخطوة جريئة الى الأمام ,وقنديلٌ فضيٌّ
جريح في مملكة الظلام .أتمنىّ لحامله الكاتب الأخ ناجي ظاهر أن يستمرَّ في طريقه تلك .المحفوفة بالتحدّي الأكبر ويتحفنا بروائع أخرى كهذه علّه يجد فيها ضالته ُ أو يصل الى شاطئ مجهول بعد رحلة ٍ
أودوسيوسيه أرهقته كثيرا ً . فله الحياه ودوام الأبداع الجميل كروحه.

*********

ماركيز ويوسا : رحمةً بنا



كثيرةٌ هي الروايات التي أمرُّ بها عرضاً, كما تمرُّ الريح الجنوبية في أغنيةِ الشاعر الإنجليزي شلي, وأكثرُ منها الدواوين الشعرية, المتأرجحةِ في مدىً من التلاشي والانسياحِ المتوَّهم, من دون أن أجنيَ منها قطرة رحيقْ.
كثيرةٌ هي الروايات التي لا تستحقُ منَّا أن نضيعَ ساعةً واحدةً في الوقوفِ على لا جدواها وعدمِّيتها,وقليلةٌ الروايات العصيةُ المخاتلة للذات.
ولكنني أجدُ دائماً الصنف الثاني منها وأفرحُ بهِ أيمَّا فرحٍ, محتفياً بفرادتهِ وعمقِ مغزاه وفلسفتهِ المؤَّسسةِ على أفكارنا وبداهتنا الإنسانيةِ .

لذلكَ أعلنُ أنهُ إذا ما إستمرَّ ضغطُ غابرييل غارسيا ماركيز الروائي الكولومبي وماريو فارغاس يوسا الروائي البيروفي على مخيَّلتي فسأستقيلُ من الحلمِ يوماً, ومن البحثِ عن الشعر ومنابعِ الجمال والمثاليةِ واستدعائها .
دائماً أحسُّ بأنَّ هناكَ ذاكرةً إيروسيَّة ملوَّنةً بألوانِ الطيفِ تولدُ فيَّ, في مكانٍ ما من وجداني, وتضغطُ عليَّ بيدٍ حريريةٍ خفيفةِ الندى, تمسُّ روحي وتزوَّجُ الجمالَ للحريَّةِ والثورة للعدالةِ الإنسانيةِ المطلقةْ .
في هذا الوقتِ بالذاتِ لا تستهويني إلاَّ الحدَّة المفرطة في إكتشافِ معنى الحياةِ وسرِّ جمالها وسعادتها, ولا أصلُ إلى الضالةِ المنشودة من دونِ أن أركبَ على حصانِ هذين الكاتبينِ المُجنَّح .
كتابتهما لا ينقصها شيءٌ من لذعِ بهار أمريكا اللاتينية, لا تسبحُ إلاَّ في فضاءٍ من سحرِ الوقوفِ على أعلى قممِ النفسِ الشعوريةِ, ولا ترفرفُ إلاَّ بأجنحةٍ من نورٍ نسائيٍّ وتساؤلٍ وتفاؤلْ.
في حضرتهما لا تستطيعُ التفلَّتَ من تحرِّشِ الحقيقةِ بكَ. لا تستطيعُ إلاَّ أن تصرخَ معهما كالذئبِ في براري الشتاءْ .
هنالكَ إلمامٌ عبقريٌّ بخبرةٍ فرديةٍ قلمَّا نجدها في أعمقِ الرواياتِ الحديثةِ , وأكثرها احتفاءً بطبيعةِ المشاعرْ,هنالكَ حديقةٌ للحواسِ يانعةٌ .
ماركيز ويوسا جناحانِ أزرقانِ يحلِّقانِ في سماءِ الروايةِ اللاتينيةِ الإسبانيةِ ويرفعانها عالياً عالياً حتى الشمس. كثيراً ما أثقلا دمي بالنوارس.
في لحظاتٍ بلورِّيةٍ ثمينةٍ تقدسُّ مشاعركَ وترفعها كالقربانِ الأخيرْ, هما لا يدعاكَ تتنصلُّ من مهنةِ الحُبِّ الملازمةِ لأعضائكَ. ومن رائحةِ المرأة الموعودةْ. التي استقالتْ منكَ منذ زمنٍ بعيدٍ في فضاءِ نصٍ مفتوحٍ على التجلِّياتْ .
منذُ أن حملني ماركيز في ذاكرةِ غانياتهِ الحزينات وقبلها في مئةِ عامٍ من العزلةِ, إلى أعلى قمةٍ للكثافة التعبيرية والإيحائيةِ, منذ أن أبحرَ بي في بحر يوليس , وأنا لا أستطيعُ الهبوطَ ثانيةً من الأولمب التصويري الخارق, لا أستطيعُ حتى المحاولة أو التفكير في النزولْ .
إستعنتُ بيوسا مرةً في دفاترِ دون ريغو بيرتو "التي كرَّستُ لقرائتها شهرين كاملين لكثافة إيحاءاتها مع أني عادةً ما أقرأ روايةً في يومٍ واحدٍ" ولكنني لم أذهبْ إلاَّ بعيداً نعو علاءِ الضبابِ, علاءِ التماهي في الروايةِ حتى النخاعْ.
كنتُ أقرأ وأعيد قراءة ما أقرأهُ ثانية ً , العمق في هذه الرواية عصيٌّ , والرهافة في تكثيف الأحاسيسِ عاليةٌ وتداعيات الحلم موجعةٌ هناكَ بعد فلسفي ورمزي للجنس والحبِّ, هناكَ إعتراف بخسارةٍ ما, أو غضبٍ مُبرِّحٍ " كتبها يوسا بعد فشلهِ في إنتخاباتِ رئاسةِ بلدهِ البيرو عام 1990".
لوكريثيا هنا وهي بطلة رواية يوسا تحركُّ مجرى الأحداثِ بهدوءِ كما يحرِّكهُ عجوز ماركيز "الذي تستيقظُ غريزتهُ وبقوَّةٍ مفاجئةٍ في نهاية الشوط" في ذاكرة الغانيات الحزينات, وفونتشيتو يلتقي لقاءً عفويَّاً مع ديلغادينا بطلة ماركيز أيضاً .
ولا أدري ما هو سبب التهويم على أيغون شيلي الرسام النمساوي الخليعْ , أهو من بابِ الاحتفاءِ بموتيفِ الجسدْ والذوبانِ في هيولى الجنسِ ؟
هناكَ مكانٌ فسيحٌ في الروايةِ لهُ وكأنها كُتبت من أجلهِ وحدهُ, ولتقصِّي رغباتهِ وشهواتهِ وتفكيكِ غموضِ رسومهِ وموديلاتهِ .

ولكنني لا أعرفُ بالضبطِ أين يلتقي كلا الكاتبين وأين يفترقانْ وما هيَ أوجه الشبهِ بينهما بالرغم من أنَّ أحدهما يتقاطع معِ الآخر بصورةٍ خفيَّةٍ, ويتداخل معهُ في تآلفِ وتناغمٍ مدهشٍ, وفي أنبلِ وأعلى تضحيةٍ للإبداع, " أن تكتبَ بحبرِ روحكَ ".

كلاهما يرتكزُ في أعمقِ أعماقهِ على نقطةِ ضوءِ إيمانهِ وتبتلِّهِ لما يصنعُ, لينجزَ عملهَ على أتمِّ وجهٍ وفنٍ ودهشةٍ وغرابةٍ, وهنا أستذكرُ سفَرَ ماركيز إلى القريةِ النائية في بلدهِ كولومبيا ليستحضرَ أحلام وتخييلاتِ كتابهِ الرائعِ أو ملحمتهِ الخالدة "مئة عامٍ من العزلة "وهناكَ انقطعَ عدة شهورٍ ليكتبها بعدَ أن إمتلأ بها وعاشها روحياً .
لن أذهب إلى ما ذهبَ إليهِ البعض بأنَّ ماركيز متأثرٌ ببعضِ كتاباتهِ وخصوصاً هذه الروايةِ الفذَّة, بألف ليلةِ وليلة " سفر العرب" أو هو مشتبكٌ بصورة أو بأخرى في رواية ذاكرة غانياتي الحزينات بعناقٍ واضحٍ وجليٍّ بالكاتب ياسوناري كاوباتا الذي يوردُ في مستهلِّ روايتهِ الآنف ذكرها مقطعاً افتتاحياً لهُ, الحقيقة أنني لم أقرأ بعد ياسوناري لأحاول الربط بين الاثنينْ, واختزال المسافةِ بين بطلة ماركيز "ديلغادينا" وبينَ بطلةِ ياسوناري كاوباتا في روايتهِ " بيت الجميلاتْ النائماتْ ".
أظنُّ أن يوسا وكاوباتا وماركيز يلتقون جميعهم تحت جسر واحدٍ, هو جسر توظيفِ الجنسِ في الأدبِ وفلسفتهِ بلغةِ الحلمْ .

النص الحقيقي هو في رأيي ذلك النص الذي يأتي من حنايا الطفولةِ, من أقصى الحنينِ إلى الغيابِ الضروري لاستشعار الخسران .
هو ذلك الطفل الأبدي الذي يعيشُ في الطفولةِ, مخضبَّاً بالأوهام والأحلامِ والعبثِ الضعيفِ والهشِّ الذي يحتفي بهِ يوسا في دفاتر دون ريغو بيرتو, عبث عاشقي الكواكبِ والجبال ووعدِ المواطنين بالقمرْ.

الرائعِ في أعمالهما أنها تأتي في أغلبِ الأحيانِ من المُتخيَّل, كما يقولُ ماريو فارغاس يوسا في حوارٍ معهُ بأنَّ الرواية هيَ مملكةُ الكذب, بينما الشعر هو عاطفة الإنسانيةِ الحقيقية .
ثمَّةَ اندفاعٌ نحو الحلمِ البريء, والفراشاتِ الصفراءْ , يجعلكَ تلمسُ هذهِ الطاقة البالغة القوَّةِ والهائلةَ الساكنة المفردات بحركةٍ وانفعالٍ عجيبْ .
في الروايات التي ذكرت هنا لم أتخيَّل نفسي لحظةً واحدةً أقرأ نثراً عادِّياً أو ما يقارب النثر , هو نمطٌ فريدٌ جديد, شعرٌ وأجملٌ من الشعر , تجربة لا محدودة ومفتوحةُ التأويلْ على الاحتمالاتْ.
تذويبُ الكلامِ هنا يعطينا أشجاراً ونساءً دائراتٍ وخارجاتٍ عن مدارِ الرتابةْ, أشياءً غامضةً, واضحةً , تكتظُ فينا بالزهورِ , حتى لننزفَ شذى ومخلوقاتٍ من وهجٍ وأقواسِ قزحٍ وبياضٍ وياسمينْ .
ها أني أكتظُ بالعبارةِ والمعنى , بالإشارةِ واللمحِ .
لم أكن أحسبُ أنني سأتلاشى مع كلِّ هذه الجماليات المتقنةِ حدَّ اللعنةِ والهذيانْ.


13.7.2008

**********


مهزلة " أمير الشعراء " المُبكية



أظُّنُ أن الشاعر المصري العملاق أحمد شوقي كان سيزهد بلقبهِ الشعري الأثير على قلبهِ " أمير الشعراءْ " لو كشفت له حُجُبُ الزمن قليلاً ممَّا أخفتْ .
ولو حملَ لهُ وحيَهُ الشعري أنباء الغد, لكان ألقى هذا اللقب إلى جُبِّ يوسفَ عليهِ السلام .
فما يحدث هناك في إمارةِ أبو ظبي. رابية الغنى الخليجيةِ وبحبوحة الإنتعاش الإقتصادي النفطي, وشاطئ راحتها المُتعبْ يبعثُ فعلا على الخجل وإتهام الذات بوصمةِ السذاجة العربية , ذلك أنَّ متابعتي لبرنامج المسابقة الشعرية ( الأكثر رواجاً وأهميةً على إمتدادِ الجسدِ العربي الجريح ) المُسمَّاةِ "أمير الشعراء" على فضائيات " بيفرلي هيلز العرب وأخواتها " أصابتني بصدمة جديدة متمثِّلةً بجرعة يأس أخرى من جرَّاءِ إنكساري أمامِ مسكنةِ الشعراء المتسابقين وقلةِ حيلتهم تجاه مزاجية وقسوةِ النقَّادِ المُحكِّمين .
لا أعرف لماذا يقيمون مثل هذهِ المسابقات التي لا تهدف إلاَّ لتقزيمِ القامات الشامخة , وإعلاءِ شأنِ الأقزامِ من المتشاعرينْ , لا أفهم سرَّ ارتباطِ الشعر بالسلطةِ المادية , ما دامَ هو خبز الروح في عشائها الأخير ؟
بغضِّ النظرِ عن جدِّية بعض النصوص المتمسِّحة بأعتاب ذوي النفوذ والبريق, فإنَّ سخطي يصبُّ على مشاركين ممتازين لا أعرف كيف اقتنعوا أن يسوِّقوا مهزلة هزيلة تبعثُ على البكاءِ قبلَ الضحكِ كهذهِ .

وأريدُ أن يقنعني أحدٌ بجدوى إقامتها في أبو ظبي بالذات "حاضرة الذهبِ الأسود", أو ربمَّا بمسألةٍ أقلَّ خطرا وساذجة أيضاً وهي تحديدُ عمر المشاركين بينَ سنِّ الثامنة عشرة حتى جيل الخامسةِ والأربعين , لماذا هذه السذاجة , ألا يبدعُ المرءُ بعدَ الأربعين, وقبلَ الثامنة عشرة ؟

لا يورثُ المشهدُ غيرَ الحزن في النفسِ أمام الأشجار اليانعة المُقصَّفةِ الكبرياءْ , قبالة تهكمِّ واضحٍ سافرٍ وجلَّيٍ من طرف اللجنةِ المُوَّقرة التي تضم نقاداً متفرغين وضاجِّين بالمللِ العربي الفكري الرتيب . ولستُ أنسى أن كُلَّ مشارك لهُ من سخريتهم المُرةِ واستخفافهم بقدرهِ وأشعارهِ نصيبٌ .
هناكَ قصائد جميلة وصلت حدَّ الدهشة والروعةِ ولكنها كُنست سريعاً وبغيرِ سببٍ بمكنسةِ الغبارِ عن أرضيَّةِ المسابقةِ لسببٍ أجهلهُ. ربمَّا يرجعُ إلى مزاجيةِ اللجنةِ "المُوَّقرة" أو نرجسِّيةِ الروحِ العربيةِ الناقدة .

منح شاعرٍ جائزة مثل هذه " مليون درهم إماراتي " على بضعةِ قصائدِ قليلة مجازفة في غايةِ السخفِ والمجانيةِ وتحملُ بعداً سطحياً مجحفاً بحقِّ تجارب أخرى, تعملُ في صمتٍ وتنسجُ الحرير في الظلامْ من دونِ إنتظارِ أيِّ مردودْ .
لا أؤمن بأحكامِ نقادٍ هم أنفسهم بحاجة إلى إكتسابِ أسسِ النقد ومعرفة مواطن الروعة في النصِّ , وبحاجة إلى تفكيكِ القصيدة على ضوءِ علمٍ محايدٍ وإحساسٍ عميقٍ بنبض الشعرِ , وليسَ إلى إلقاءِ الكلامِ على العواهن .

أنا على يقينٍ قاطعٍ أنَّ للفضائيات الشعرية دوراً رائداً في حراسةِ نار الإبداع وسدانة دارهِ . ولكن ليسَ بهذا الشكل الإنتقائي المثير للشكِ , وكما قالَ قائلٌ من المتسابقين بأنَّ أجمل النصوصِ وأروعها وأعلاها قيمةً فنيةً وشعريةً ذُبحت بسيوفٍ ظالمةٍ على أعتابِ بكارتها في المسابقة ولم ترحم اللجنة النقدية صراخها وعويلها, قصائدُ لا تدري بأيِّ ذنبٍ قُتلتْ . في وقتٍ كانت تُتوَّجُ قصائدُ عقيمةٌ لا أدري بأيِّ حقٍ تُزفُّ هي الأخرى إلى خدرِ النبوغ والجوائز .

بلى أستطيع أن أفهم كلَّ هذه المفارقات حينَ أرى السيَّاب في حُلُمي ينامُ على رصيفِ الجنونْ .

أستطيع عندها أن أفهم حتى النهاية .

**********************

شيء عن الأيديولوجيا الضالَّة والحُبِّ والحربْ




في البدءِ حيثُ كانَ الحُب أصرخُ صرخةَ قلبٍ مسحوق ومحروق بالفوسفورِ غير المرئيِّ " أحبُّكِ غزَّة أحبُّكِ " أيتُّها القدِّيسةُ العالية. أحبُّكِ وأتساءلُ في خضّمِ هذهِ المعمعةِ غيرِ المنتهيةِ المجنونة الملتهبة. ألا يوجدُ في هذا الكونِ الموبوءِ بالظلمِ ومزاجِّيةِ الجنرالاتْ وعاطفةِ الروبوتِ الأحمقِ من يوقفُ شلاّلَ دمكِ النورانيّْ ؟
من يمنعُ ذبحكِ أيتها العذراءُ بسيوفِ الأعرابِ الدخلاءِ والأصلاء ؟
من يُنـزلكِ عن الصليبِ العامِ العربيِّ والأجنبي ؟
أتساءلُ وأتألَّمُ بكلِّ ما في الصباحِ الشتائيِّ من وجعٍ وحمَّى . ما قيمةُ ما يُكتبُ ويذاعُ ويُنشرُ ويُلقى في محافلِ الصمتِ أمامِ دمِ صغاركِ الملائكة ؟
ما قيمةُ هذيانِ كلِّ شعراءِ العالمِ المحمومِ وعويلهِم في شوارعِ العالمِ المتحضِّرْ والمغسولِ بالظلامِ لا بالنورِ ؟
وما قيمةُ ركضهم ككلابِ بابلَ في شوارعِ وسهوبِ العالمِ الثالثِ أو العاشرِ أو ربَّما المنسيِّ إلى أبدِ الآبدينَ وقيامةِ إخوةِ يوسفَ من الجبِّ ؟
أتساءلُ وأتخيَّلُ نفسي شاعراً في مقهى مسائيٍّ بقلبِ فضائكِ المخزونِ بالألوان البيضاءِ والودِّ الدافئ .. أتخيَّلُ نفسي مسيحاً آخرَ يُرجمُ حتى الموتِ ويُرفعُ على جلجلتكِ الطاهرةِ.. ولا أحدَ في العالمِ يُجيبُ صدى صُراخهِ المسكوبِ على أعتابِ القطبِ الشماليِّ الأصمِّ .
أحبُّكِ غزَّةَ وأحملُ وجعي وأرقى إلى سدرةِ المنتهى.. أرقى إلى سدَّةِ الكونِ وأبكي بخضوعْ... بخضوعٍ كأنني في حضرةِ عشتارْ .
أحبُّكِ وأتساءلُ ما معنى أن يترككِ العالم في هذا الليلِ التتريِّ القاسي .. أينَ التأثيرُ الفعليُّ للشعوبِ والحُكَّام ؟ أليسوا بشرا مثلنا.... ألسنا بشراً مثلهم ؟
كلُّ ما يحصلُ من شجبٍ واسنكارٍ لا يوقفُ دم طفلٍ واحدٍ يسيلْ على صدرِ الأرضْ .... أنتِ وحدكِ يا غزَّة ونحنُ العربُ نتفرَّجُ على مسرحيَّةِ موتكِ المُعلَّقةِ على تاريخِ هزيمتنا فهل نحنُ بشرٌ.. هل حكَّامنا بشر ؟ لستُ في محفلٍ لتعريةِ الذاتِ أو جلدها.. أبداً.. ولا أقصدُ سخريةً ما في قولي هذا فنحنُ اليوم أبعدُ ما نكونُ عنها ولستُ هنا بصددِ مناقشةِ فكرة أيديولوجية أو أرمي إلى استفهامٍ حولَ الهوِّيةِ العربيِّةِ البائسة .. لا شيءَ غيرَ ما يلتاعُ بي من تلكَ الحادثةِ المستنكرةِ الغريبةِ والتي تذكرتها الآن وكانَ حدثَّني بها صديقٌ صدوق حينَ قالَ لي أنهُ تراسلَ كتابياً عبر الشبكةِ العنكبوتية مع فنانةٍ تشكيليةٍ وكاتبةٍ من أصلٍ عربي تعيشُ في عاصمة ألمانيا برلينْ منذُ سنواتٍ عديدة . وحاولَ أن يسألها بفضولِ جاهلٍ عن طبيعةِ الحياةِ هناك وما إذا كانَ هناكَ تشابه معيَّن بينَ الحياةِ في دولةٍ عربيةٍ والحياة في دولةٍ أوروبيةٍ كألمانيا ؟ وحاولَ أيضاً بسذاجةٍ أن يستفزَّها بسؤالٍ آخر حولَ الفوارقِ الأساسيةِ التي يتميَّزُ بها الإنسانُ الغربي عن الإنسانِ العربي المقيم في الأقطارِ العربيةِ.. فأجابتهُ حينها إجابةً لاذعةً واصفةً العربَ بأقلِّ من بشر وقالت كلاماً ظلَّ في نفسي كالجمرِ المتوقدِّ لا يخبو أبداً .
ردَّت الفنانةُ التشكيلية والكاتبةُ العربية بسؤالٍ آخر وهو " هل العرب بشر "
حتى نقارنَ بهم الشعوب الأخرى المتحضِّرة ؟ ونصحتهُ أن لا يستفزَّها بشأنِ أبناءِ جلدتهِ العربْ وأن يبتعد عن هذهِ الأفكار التي تزعجها والسخيفةِ أشدِّ السخفِ في نظرها. وقالتْ أنهُ إذا أرادَ أن يقارنَ العربَ بشيءٍ فليقارنهمْ أوَّلاً وقبلَ كلِّ شيءٍ بغيرِ البشرْ وبعدها بأيِّ شيءٍ آخرَ يدبُّ على قدمينِ أو أكثرْ . ولكن حتى الحيوانات الضارة لا يجوزُ قتلها بهذه الطريقة فما بالك بالبشرْ .. كلُّ الضلالية والإنفصام النفسي والبعدِ عن الحقيقةِ لدى المنشقِّين عنَّا من " المفكرِّين والكتَّابِ والفنانين " لا يبرِّرُ قتلَ طفلٍ واحدٍ منَّا .
الآن وفي ظلِّ عجزنا وعدمِ تأثيرنا وهواننا على الناسِ يطفو على السطحِ هذا السؤالْ ويسيتيقظُ في الضميرِ الإنساني في أحلكِ الفتراتِ التي واجهت وتواجه أهلَ غزَّة خصوصاً والفلسطينيينَ عموماً ويقفُ حيالها العالمُ عاجزاً لا عن توفير العيشِ الكريم للإنسان العاديِّ بل من أجلِ وضعِ حدِّ لهذا الوضع الذي لم يعد يطيقهُ حتى الحجرْ.. ومن أجلِ وضعِ حدٍ نهائيٍّ لشلالاتِ الدمِ والدموعِ.
أعترفُ أن سؤالَ الكاتبةِ المُتأوربةِ يثيرُ الاشمئزاز وهو لا يصدرُ عن عقلٍ سويٍّ ويحملُ كلَّ معاني الوجعِ وهو متجذِّرٌ لا شكَّ في أعماقِ الخسارةِ.. لكن لا أستطيعُ أن أعبرَّ عمَّا ينتابني أنا أيضاً لرؤيةِ هذا الدمار الشاملِ الذي لا يستطيعُ عقلٌ أو خيالٌ منطقيٌّ أن يتقبلاهُ .
اليوم عندما أتذكرُّ كلامَ ذلك الصديق أحسُّ بالمرارةِ وبرمادِ الخسرانِ على طرفِ لساني ولا أستطيعُ أن أشمَّ من كلامِ الكاتبةِ العربيةِ المتأوربةِ أيَّ حقدٍ أو روح انهزاميةٍ أو ضلالٍ.. فقط أجلسُ أمامَ مرآةِ العالمِ وأتوجَّع بصمتٍ ولكن بعنفٍ أعمقَ وأشدَّ من ذي قبلْ .
أتوَّجع لا من أجلِ ما حدثَ وما سيحدثُ في الآتي والغدِ بل من أجلِ هذا السؤالِ التائه ومن يقيني بأنهُ لا يوجد في هذا الكونِ قوةٌ واحدةٌ عادلةٌ تقفُ إلى جانبِ العربْ وحقهم المهضوم والضائع في اختيارِ مصيرهم... قوة واحدة لا غير تملكُ ضميراً إنسانياً يقظاً بل ومتوهجاً.. تفصلُ بينَ الطرفين وتفضُّ النـزاعَ العبثيَّ الدائرَ منذُ ما يقربُ المئةَ عامٍ وأكثرْ .
نحنُ لسنا مخلوقاتٍ هلاميةٍ ولا كائناتٍ سرياليةٍ تعيشُ على هذهِ الأرضِ الحبلى بالألمِ منذُ النبيِّ آدم.. والمحمولةِ كصخرةِ سيزيف على أكتافِ بنيها.. نحنُ بحاجةٍ إلى حلِّ موضوعيٍّ ونهائيٍّ لهذهِ القضيةِ المتأرجحةِ على كفِّ عفريتٍ أجنبيٍّ.. حلٍّ يمكِّنُ الشعبينَ من العيشِ بسلامٍ وأمنٍ عادلين وشاملينْ .. ولسنا بحاجةٍ إلى حربٍ ودماءٍ وأشلاءٍ وجنونٍ ومعاركَ استنـزافٍ سياسيِّ عقيمٍ لا يغني ولا يسمنُ من جوعٍ... وكفى .



********************




الشاعر الفلسطيني الشاب نمر سعدي
في لقاء خاص "بالقدس" الفلسطينية :


*دواويني التي ارسلها لقسم الثقافة العربية نامت على الرف نومة أهل الكهف في حين طُبعت سخافات كثيرة أخرى**عندنا الشعر على مستوى بعض الأفراد الذين تكرّمهم دائرة الثقافة
* ضلّ من يقول أن الشاعر يكتب لنفسه فقط* اقول أن أغلب المحررين الأدبيين في الصحف أرباع مثقفين بل ربمّا أصفار مثقفين، ولا يتمتعون بثقافة راقية، وذوق سليم، فهم إما يخلطون الغث بالسمين، والدر بالحصى، أو يطرحون النص في سلة المهملات، لجهلهم بمواطن الفن والسحر فيه، وهذا ما حصل فعلا معي ومع غيري من الشعراء
رام الله-القدس-امتياز المغربي
هو الذي قال في احد قصائده التي اسماها لهفة الفينيقْ روحي تنامُ على تنفُّس...مائِها الدُريِّ في...أشعارِ هولدرلينَ...فيما جلدُها الرخوُ المضمّخُ...بالنعاسِ وبإنسيابِ العاجِ...يشهقُ في شراييني...ويعوي في شتائي...لم أقترنْ بفضائها اللغويِّ...إلاَّ كي أردَّ النقصَ....عن أسرابِ موسيقايَ...أقطف حكمة بيضاء...من بستان فردانيتي...أنا لهفة الفينيق...في غدها المحّنى بالحدائق...والرماد الارجواني المعطر...، كان هذا مقطع شعري للشاعر نمر أحمد نمر سعدي، الذي ولد في قرية بسمة طبعون، وهي قرية في الجنوب الشرقي من حيفا، وهو ناشط في المجالات الثقافية ويطمح في يوم ما الى تجسيدها بصورة اكثر فاعلية، أما اهتماماته فهي كتابة الشعر وقراءته واستكشاف خفاياه وكتابة المقالة. وقراءة الرواية والدراسة الأدبية عربيا وعالميا , والإطلاّع على ما ترجم من الشعر العالمي إالى اللغة العبرية .والنشر في جرائد محلية وفي بعض المواقع الأدبية مثل دروب والحوار ودنيا الوطن والجبهة. وكان لنا هذا اللقاء الخاص بالقدس مع الشاعر الفلسطيني الشاب نمر سعدي.
1. حدثنا قليلا عن بداياتك عن العائلة والقرية والاصدقاء ومكان الدراسة واكتشاف نفسك أو من اكتشف موهبتك في الشعر والادب؟ حدثنا عن أول قصيدة وسببها؟
البدايات ترجع ربمّا الى أواخر الثمانينيات أو بداية التسعينيات .فأنا لا أعرف بداية شغفي باللغة والأدب ولكنني لا أذكر وقتا من حياتي لم أكن ميّالاً الى الأدب ففي دراستي الأبتدائية كنت أقرأ كتاب حقول في اللغة والأدب السنابل الذي كانت تقرره دائرة المعارف . وفق منهاج اللغ العربية . في الأ سابيع الأولى من الفصل الدراسي الجديد متعرفا على نماذج عديدة من الشعر العربي والعالمي وقصص من الآداب العربية والروسية والصينية والأوروبية .
هذا الى جانب الجمال الطبيعي لشمال فلسطين والقرية التي تربيّت فيها الذي ربىّ داخلي ما يشبه الحنين الى مكاشفة حية بيني وبين الكون . وأوجد نزعة خافتة الى تغيير أو خلق شيء ما.
أقرُّ أن نصف موهبتي يرجع الى بيئتي القروية الهادئة وترابية الحياة فيها
وهدوئي النفسي في فترة الطفولة وما بعدها بقليل . أظن أن الابداع الحق لا ينمو ويتطوّر الاّ في ظل الطبقة الاجتماعية البرجوازية وهذا ما حصل معي بالفعل . فالعائلة كانت تمنحني الحرية المطلقة في تسيير بعض الأمور الشخصية . وهذا ربما جزء صغير أعزو اليه عدم جديتّي في إستكمال الدراسة العليا ولكن من يدري . ربمّا أستكملها في يوم ما ,أصدقائي في هذه الفترة كانوا مشغولين عن الإهتمامات التي شغلتني .كان همهم اللعب واللهو . كنت أكبر من جيلي . فكريا وعاطفيا .
كان مكان دراستي قريتي الوادعة نفسها . وكان اكتشافي لنفسي في سن مبكرة نسبياً .ولم يكتشف موهبتي الاّ استاذ الإنشاء والتعبير في أواخر المرحلة الثانوية . أي أواخر1994 وبدايات 1995.
بالنسبة لأوّل قصيدة فهي لا تحضرني . ولكنني أذكر أنني بدأت كلاسيكياً بحتاً .معنى هذا أن مخزوني الشعري والثقافي الأوّل كان بالأساس مخزوناً تراثيا عربيا بحتاً بالإضافة الى النماذج التي تعلمتها في المدرسة وهي من الأدب العالمي .أماّ سبب الشعر أو الدافع وراء كتابة القصائد الأولى عندي فهو دافع خفي يدعوني في بداية الأمر الى تقليد أو مجاراة الجاهليين او الأمويين أو العباسيين من خلال نصوصهم التي تعلمناها .
2. هل أثرت الطبيعة المحيطة بك في أشعارك؟
بالطبع كان التأثير كبيرا هناك نزوع طبيعي لدي واستعداد نفسي لإستيعاب كل ذرات الجمال الخارجي للطبيعة . أو تقاسم التناسق الجمالي لهذه البقعة الطيّبة التي تمتد على جسد الجليل كله حتى بحر حيفا غربا .
قلت أن نصف موهبتي يرجع الى الجمال الطبيعي الذي يتصف به شمال فلسطين بجباله وسهوله وتضاريسه المكونة لجزء من طبيعة بلاد الشام يتميّز بغناه وصفاء هوائه وروعته . يمتد حتى أعالي لبنان ماراً بشرقي سوريا . في النهاية كل أشعاري تستند على هذا الإرث الجمالي الطبيعي الهائل الذي ورثته النفس وتمتعت به وتغنت بحسنه.
3. إلى أي المدارس الشعرية تنتمي؟
أنا من الشعراء الذين يرون أن النص الشعري بوجه خاص أو الكتابي بوجه عام ينتمي الى الكاتب بصفته منتجه . أي ينتمي الى لا وعيه أولا . وثانيا الى ثقافته وقراءاته وثالثا الى بيئته وزمنه . النص هو نتاج نفسي معّين يدل على الكاتب ولا يدل على سواه وهذا ما ذهب اليه بعض النقاد وفسّروه . مسألة المدارس عندي مسألة تتعلق بالجماعة أكثر من تعلقّها بالفرد . اليوم لم يعد عندي أية ثقة بالشعارات الأدبية . كأن يقولون هذا من مدرسة الاحياء وهذا من مدرسة الديوان وهذا من مدرسة التفعيلة وهذا من مدرسة شعر النثر . هذا عبث نقّاد لا غير . نقاد لم يقدموا الكثير أو المهم بالأحرى خلال قرن من الزمن. بالرغم من أن النقد عندنا كانت له جناية كبيرة على الأدب .النقد عندنا لم يتطوّر بصورة فعلية الاّ عندما أخذ يحتك بالغرب ويطبّق نظرياته وقد اعترف مارون عبود أن نقده ما هو الاّ وجهات رأي قد تصيب أو تخطأ . وكذلك الأمر مع الآخرين أمثال نعيمة والعقاد وطه حسين . تجربة نعيمة في الغربال تجربة أنضج قليلا وخالية من الشك ولكن كل هذه المحاولات لم تكن الاّ ارهاصات في سبيل نقد أدبي علمي ازدهر على يد محمد غنيمي هلال ومحمد مندور . وأعجب لقول ناقد ومترجم كبير عندما يقول أن الشعر النثري هو الحالة النموذجية الأصيلة والحتمية الشعرية التي توّصل اليها الشعر العربي . أو هو أمتداد طبيعي له. في نظري لا توجد قصيدة نثر أو شعر نثري . هنالك نص لا غير . نص يحتفي ربما بصور شعرية أو يعبّر عن حالة شعورية , كان التأثر بهذا النوع من الشعر مستجلباً من الغرب . وكان شعراؤه الأوائل مأزومين على صعيد المثل . فعبّر عن ثورة ورفض مع بدايات محمد الماغوط الذي قال انه بدأ كتابة الشعر النثري في سجن المزة وكانت قصيدته الأولى تعبّر عن انقلاب وهياج وتمرد وضياع روحي .ثم طورّها أدونيس وانسي الحاج فأحتضنت أبعادا شتى . منها الغزل والنثر الذاتي .وتناولها شعراء نثر مثل قاسم حداد وعبده وازن وكتبها شعراء التفعيلة كسعدي يوسف ودرويش وقباني . ولا أجد مبررا لكتابتهم هذه وهم المتمرسون بالعروض والتفعيلة .
أماّ مدرسة الإحياء فأذكر أن عميدها شوقي أثرّ عليّ كما لم يؤثر شاعر آخر عربي أو أجنبي علي , حتى بت أقول أنني لولا شوقي لما صرت شاعرا ً أذكر أنه سيطّر عليّ السنين الشعرية الخمس الأولى وطغى عليّ شعره الصافي الجزل المشرق الموسيقي السلس . شوقي أكثر الشعراء العرب الكلاسيكين احتفاء بالوسيقى الشعرية وهذا الأمر أعجبني جداً
خصوصاً لامتلاكي أذناً موسيقية مرهفة . أعتقد أنني قرأت كل ما كتب شوقي من شعر وأمتلأت به وتمثلته في فترة ما من حياتي دعيتها الشوقية. حتى أخرجني السيّاب من سجنه ودائرته في عام 1996 في أوائل أكتوبر , فوقعت في اسر السيّاب محب وتلميذ أحمد شوقي ثانية . ولكن السيّاب لم يكن كشوقي . كان برجوازيا ثائرا مسكوناً باللهيب حتى الموت. كان ثائرا على مجتمعه وعلى أغلال القصيدة العربية .
في النهاية آمنت بمدرسة الشعر الحر ورأيت في شعر التفعيلة أفقاً جديدا يشرع التحدي أمام أنصاف أو أرباع المواهب من أنصار قصيدة النثر التي يحاولون بها تخريب الشعر العربي بنماذجهم الرديئة القريبة من التقرير اليومي العادي . ولم أستطيع أن أتصوّر الشعر العربي بدون وزن وموسيقى مارشية مهيبة كما في العروض العربي . هناك موسيقى خارجية يشي بها الوزن العروضي وموسيقى داخلية تشي بها الحروف.
رغم كتابتي لشعر النثر والقصيدة العامودية انا من اتباع التفعيلة .التي أعتبرها الوريثة الشرعية الوحيدة للشعر العربي.
ولكن الشاعر أخيرا هو تابع نفسه . أو نصه بالأحرى.
4.ماهي الرموز والدلالات التي تستخدمها في شعرك، ولماذا؟
كل كتاباتي أو أشعاري تتمحوّر في نهاية المطاف حول مسألة مكاشفة الوجود . واكتناه أسراره . والإجابة على الكثير من الأسئلة الكبيرة حتى لو كان النص مكتوباً بلغة الحب ومحاورة الجماليات الكثيرة . القصيدة هي سبر غور الذات في كثير من الأحيان . وفهم المتناقضات الكثيرة .
أقول أنه كلماّ ازدادت المتناقضات في الحياة كلما وجدت حاجة في نفسي للكتابة والشعر . وكلما ازدادت الحياة قسوة . وجددت في روحي نزوعا صلبا وطاغيا لتجميلها وتفتيت قساوتها بالشعر .لا داعي هنا الى تعديد المتناقضات . فهي ملأى من حولنا .
سؤال الحرية هو سؤال مركزي في شعري وأحاول في العديد من التجارب الشعرية أن أثير بعض القضايا المتعلقة بها .
مثلا ديوان عذابات وضاح آخر . يتحدث عن اشكالية الحب وتحقيقه .
في عالم الواقع لا في عالم الخيال . الا يوجد هناك عناق خفي مع روميو وجولييت ومجنون ليلى وأنطونيو وكليوبترا . حيث وجد مسيح الحب وجد أيضا يهوذا البغض واستحالة الوصال والأمن. والحب المتبادل.
شعري وصف لعيني السا جميلة ضائعة في غابة من المتناقضات يحاول افتراسها ذئب المفارقة والمستحيل .
استخدامي لهذه الرموز والدلالات هو ما سيضمن لشعري العيش بعد أن يموت كل شعر كان يعبرّ برخص وابتذال عن قضايا صغيرة.
5. اصداراتك الشعرية حدثنا عنها؟
منذ أواسط التسعينات وأنا أكتب الشعر وبدأت نشر البواكير في الأتحاد الحيفاوية بفضل الكاتب يوسف فرح . كتبت عدة دواوين منها عذابات وضاح آخر وأوتوبيا أنثى الملاك الذين نشرتهما بنسخ محدودة عام 2005 رغم أن الأول جاهز للطبع منذ أيار 2003 . في مرحلة ما بعد النشر في الاتحاد عام1999.توقفت عن النشر في الصحف المحلية . الى أن بدأت مع مطالع عام 2005 بالنشر مجددا في عدة صحف منها الاتحاد وكل العرب والأخبار التي تصدر في الناصرة ويرأس تحريرها الكاتب محمود أبو رجب . الذي كان له دور أجّله وأعترف أنه ساعدني كثيرا في النشر ساعة تخلىّ عني الجميع وأبرز اسمي في حين كان الآخرون يحاولون طمسه.
في الداخل هناك أزمة حقيقية لشاعر موهوب فهو إن لم تتبناه المؤسسه الثقافية ان وجدت أصلا فأنه في النهاية لن يستطيع أن يفعل شيئا . لن تصدر دواوينه ولن يترجم الى أي لغة ولن يلتفت اليه أحد . هناك الكثير من الضبابية والفساد القائم هنا حيث يستطيع كل شخص يملك المال أن يكتب كلاما سخيفا وفارغا من كل مضمون وخال من أية ثقافة وينشره وينال عليه الجوائز والتكريم . ولا أعرف لمن أتوجه ليكون لي عونا في نشر شعري وديواني الذي لو جمعته لجاوز العشر مجموعات من الشعر .الوضع هنا مزري ولا مستقبل لكاتب أو شاعر في الوسط المحلي الا بقدر محدود هذا هو رأيي الشخصي الذي ربما أختلف مع غيري به . أما في الوسط اليهودي . فربما كاتب ناشئ لا يتجاوز الخامسة والعشرين يكتب رواية وتترجم الى عدة لغات أوروبية وتتبناها دور النشر المختلفة
وتكون لصاحبها سبب نجاح باهر .ادبي ومادي . هذا ما يحصل عند الغير . وفي الدول المتقدمة المتحضرة.
وينطبق على المؤسسه عندنا البيت التالي
لقد اسمعت لو نديت حيّا ولكن لا حياة لمن تنادي .
6. في صيف عام 1991 بدأت رحلتك الشعرية ونشرت ألبواكير في الاتحاد الحيفاوية حدثنا عن ذلك بالتفصبل؟
الطريق الى الشعر الفصيح عندي بدأت في هذه السنة بالذات من خلال حبي واعجابي وشغفي بالشعر الشعبي وهذا تطور عندي الى ان جرّني الى العروض وتفاعيل الخليل والشعر العربي والأدب العالمي . روايات فرنسية عديدة مترجمة الى العربيه تركت أثرها الوجداني علي في تلك الفترة . وأنغام تجويد القرآن أيضا كانت تسحرني . وروايات جرجي زيدان في مرحلة متقدمة على قراءة المتنبي وأبو تمام وأمراء الشعر الأموي والعباسي وشعراء الإحياء وعلى رأسهم شوقي .ثم قراءة جبران ونعيمة في أواخر الثانوية . جبران ونعيمة كاتبان خطيران جدا في تشكيل هوية المثقف في حداثته أي في مرحلة الثانوية الخاصة . ولا يستطيع أي قارىء أن يفلت من تأثيرهما الخارق .
جبران ونعيمة كاتبان عالميان استوعبا كل ميزات الكتاب العالميين في نظري ولا أكون مجاذفا اذا قلت ان موهبة جبران لا تقل عن موهبة الروائي الفرنسي العظيم مارسيل بروست . ولكن ظروفه لم تساعده ليكتب مثلما كتب بروست . بروست ذخر طاقته في البحث عن الزمن الضائع . وجبران بددها هنا وهناك .بالرغم من أن حياتيهما كانتا متشابهتين . وعلى وتيرة وطول لا يختلف كثيرا . مات مارسيل في سن الواحدة والخمسين أما جبران فمات مسلولا في الثامنة والأربعين .
7. شعرك أثار الجدل في الاوساط الثقافية خصوصا بعد ان نشرت مجموعتين من الشعر الحداثي بعنوان عذابات وضاح آخر وأوتوبيا انثى الملاك، حدثنا بالتفصيل عن ذلك؟
من خلال قراءاتي وتأثري بالشعر العالمي والعربي نشأت عندي ميزة خاصة وسمت شعري وهي المعانقات العديدة والمصافحات مع الكثير من الشعراء والكتاب الكونيين . وبرز تمثل افكارهم ومحاورتهم ثقافيا .
وذهنيا وحضاريا وشعوريا . شعرية التجاور هذه اعجبتني ولكن البعض اعتبرها عرض عضلات غير مبرر.ولكنها في الأخير محاولة لإستنطاق الأنا والوصول اليها من خلال الغير .وأيضا تبنّيت أسئلة غير مطروحة بشفافية عالية ومهارة شعرية والتزام فني في الشعر المحلي مثل أسئلة الحرية والحب كما في ديوان عذابات وضاح آخر .أيضا الموسيقى داخل قصيدتي تعبرّ عن حالة شعورية يصعب تجاهلها.وهناك أجواء موّشاة جميلة وعوالم أقرب الى عوالم رمبو ولوتريامون ألذي تأثرت بسرياليته وأحببت غرابته وظرافة وجدة صوره . في حين كان الشعر المحلي يقيم سدا بينه وبين التجديد على نطاق الموضوع والتركيب والرؤيا . أكاد القول أن الكثير من شعرائنا سوى قلة قليلة لم يفهم حتى هذه اللحظة معنى ومكونات القصيدة القبل حداثية فكيف يفهم الحداثة أو كتابة ما بعد الحداثة .
عندنا الشعر على مستوى بعض الأفراد الذين تكرمهم دائرة الثقافة ما يزال يعيش في النصف الأول من القرن الماضي على مستوى اللغة ,والموضوع والرؤيا والطرح.
8.متى بدأت تنشر على الانترنت ولماذا؟
بدأت النشر على النت مطالع عام 2005 لأنني أعتبر ان العصر الذي نعيش فيه هو عصر النت والتقنية الالكترونية الفاتحة لمجالات لا نهائية تمنح القصيدة كونيتها التي طالما حلمت بها وتعطيها أيضا لا محدودية تليق بها وتشرعها على الجهات الأربع حتى حافة الأرض . وهذا فتح تكنولوجي جديد وباهر .
9.متى تكتب الشعر؟
أعتقد أن كل الأوقات صالحة للكتابة .وأعتبر ان الشاعر او الكاتب الحقيقي يستطيع أن يبدع متى شاء أنّى شاء . هذا متعلق بتركيبته . أكثر مما هو متعلق بالزمان والمكان . أنا أكتب خلال اليوم في أغلب الأحيان ونادرا ما أكتب خلال الليل.
10.ماهي رسالتك من الشعر؟
ضلّ من يقول أن الشاعر يكتب لنفسه فقط . يكتب لنفسه نعم ولكن يكتب ايضا للآخر المختلف . الكتابة عملية للتبعثر في كل الفصول . والعيش في كل العصور . أنا أحاور في كتابتي فرجيل وهوميروس الذين قرأتهما وتسكن نصوصهما لا وعيي الخاص. الشعر عندي هو فنية الكشف والتعرية الوجودية . والتمازج مع موروث آخر . يسحرني ويقنعني .
حتى الشعراء المغمورين العرب والأجانب فأنني اعيد صياغتهم بلغتي فأنا في النهاية مشارك حيوي في غزل وإتمام هذا النسيج الشعري الكوني ورسالتي ان أكون أنا وأن لا يتلاشى صوتي مع أصوات غيري . وأن أحقق ذاتي الشعرية الأخرى التي ورثت الكثير عن جدها المتنبي وصنوه بايرون . وأن أسكت هذا النداء الى المجهول الجمالي المطلق.الصارخ أبداً. الى ما لا نهاية.
11. ماهي الابداعات الادبية والصور الشعرية التي تجلت في شعرك؟
أنصح بالرجوع الى قصائدي واستجلاء الصور التي لا مجال لحصرها هنا فهي كثيرة وعديدة ومتنوعة وغنية ومستمدة من خيالات وثقافات لا تعدُّ ولا تحصى .هذا سؤال فضفاض ويحتاج الى دراسة أطمح أن يقوم بها أحد هؤلاء المخلصين للشعر والفن الكتابي .في يوم ما .
12. ماهي المواضيع التي تطرق لها شعرك والسبب في اختيارها؟
المواضيع التي تطرق اليها شعري كثيرة ومتنوعة وقد أتيت على ذكرها عندما تحدثت عن الدلالات والرموز في شعري . أما السبب في اختيارها فلظنيّ انها تشكل بؤرة مهمة يجب تسليط الضوء عليها . الحديث عن الهم الجماعي في النص المكتوب ينبع من ميل ونزعة لصياغة هم فرداني ملحّ وهذا يتجلى عند شعراء كثر .كالسياب مثلا.وينبع ايضا من حلم بحياة أفضل للجميع على هذه البسيطة.
13. هل من الممكن ان تسرد لنا ثلاثة اقوال لنقاد حول شعرك
كتبت عني بعض المقالات النقدية . وممن كتب الروائي الفلسطيني سهيل كيوان والدكتور بطرس دلة والدكتور منير توما والسيد شاكر فريد حسن والدكتور الناقد العراقي ثائر العذاري وغيرهم .
والمقالات منشوره على النت ولا يحضرني الآن شيئا من أقوالهم .فمن أراد البحث عنها فهي موجودة ومنشورة في عدة مواقع أدبية معروفة.
14. هل لك ان تسرد لنا القليل من ديوانك الشعري الأخير ؟
هاتان قصيدتان من نتاج عام 2005
ألنوارس في دمي تبكي

سألمُّ يوماً ما تناثرَ من صدى
قدميكِ حولَ ضفافِ قلبي
مثلَ عطرِ النارِ يفجأُني
النوارسُ في دمي تبكي
لأوَّلِ مرَّةٍ في الروح ِ
تملأني بدمعِ شقائقِ النعمان ِ
قلبي زائدٌ عن حدِّهِ
أو ناقصٌ من وردهِ
شفة ً تقلِّمُ لي حنانَ الأرض ِ
وهو يفيضُ عن وجهي
وعن لغةِ إرتحالي في الضبابْ
سألمُّ يوماً ما
بأهدابي زهورَ بحيرةِ ألحُمَّى
تهدهدُ روحَ لامرتينَ
في شفقِ العذابِ
تضيئني لغتي
بلا قمَرٍ رخاميٍّ
ويطفئني عراءُ جمالكِ
الممهورِ بالموجِ الحزينِ
على ذبول الصمتِ
والمهدورِ بالنعناعِ
في أبدِ السحابْ

**************

لهفة ُ الفينيقْ


روحي تنامُ على تنفُّس ِ
مائِها الدُريِّ في
أشعارِ هولدرلينَ
فيما جلدُها الرخوُ المضمّخُ
بالنعاسِ وبإنسيابِ العاجِ
يشهقُ في شراييني
ويعوي في شتائي
لم أقترنْ بفضائها اللغويِّ
إلاَّ كي أردَّ النقصَ
عن أسرابِ موسيقايَ ........
بيضاءّ أقطفَ حكمة ً
من بستانِ فردانيَّتي ....
أنا لهفة ُ الفينيقِ
في غدِها المُحنَّى بالحدائق ِ
والرمادِ الأرجوانيِّ المُعطّرّ ِ
بالحنينِ الى مكانٍ
لستُ أعرفهُ
الحنينِ الى زمانٍ
ليسَ يعرفني ....ولوعة ُ أسئلهْ
ترفو عذابَ الليلِ
في قلبي ......ونارُ قرنفلهْ
بدمي أراها في الهواءِ الرخص ِ
تنحلُّ القصيدة ُ دونَ قُبلتها
ووحدي لا أرى
عطشَ الإباحييّنَ ينضحُ من أصابعها
على قمرِ القرى
في القلبِ وهو يخبُّ في جمرِ
لعينيها الغوايةِ كائناً / صفة ً
ويلحقُ قيصرا.

15. كيف تحدثت عن المرأة في شعرك؟
المرأة في شعري تحتلُّ مكانا بارزا لشدة تأثيرها على الشاعر بوجه خاص فهي ملهمته وعلى العالم بوجه عام . الأنوثه متشعبة في كل شيء وتطال كل شيء هناك من يقول ان الحضارة أنثى . وأن الشمس أنثى وأن الطبيعة أنثى , وهذا ما آمن به الشعراء على مرِّ العصور .هي من الأشياء التي يجدر أحتفاؤنا بضوئها الخفي . والهائل في الوقت ذاته .هناك شعراء كان دافع الكتابة لديهم الحب .فهم غارقون في فيوضاته وهيولاه .أماّ
حديثي عن المرأة من خلال كتابتي يركزُّ على دورها وخصوصيتها في الحياة بصفتها العنصر الأهم والمكّمل للرجل . وبصفتها أيضا رافدا من أهم وأغزر الروافد ألتي تخص كل فن وأدب . كل القطع الموسيقية في العالم ترتبط ارتباطا وثيقا بالحب والمرأة كذلك الشعر والنثر والرواية الحديثة . فهي تصوير للمرأء وصدى علاقتها مع الرجل في أبهى تجلّيات هذه الصلة والعلاقة . المرأة أساس غنى عاطفي يستطيع الأنسان أن ينطلق منه ويكوّن فنه . هي اذن قبل كل شيء النواة والبذرة حتى قبل أن يتكلم الشاعر عن همومه الذاتية والحياتية والحرب والسلم وأوجاعه وأفراحه وملذاته وأحزانه .
لا يوجد هناك شاعر واحد أو كاتب لم يكتب عن المرأة . ولا يوجد موسيقي قديم أو حديث لم يكن عمله صدى لعلاقة حب وتخليدا لها.
16. ما سبب توجهك ايضا لكتابة المقال وماهي المواضيع التي تتطرق إليها؟
أنا مقل في كتابة المقال الأدبي الذي أحاول فيه أن أشرح بعض آرائي وأسلّط الضوء عمّا خفي من تجربتي الشعرية .وهو كثير .وعلاقتي بالشعراء, وإبراز نظرتي وإعجابي وتأثري بنصوص مختلفة لشعراء وكتاب مختلفين.
17.ما رأيك في الشعر الفلسطيني الحديث، وبماذا يختلف عن الشعر القديم؟
الشعر الفلسطيني في العشرين سنة الأخيرة عند شعراء مثل محمود درويش وسميح القاسم وغسان زقطان وعز الدين المناصرة والمتوكل طه ويوسف أبو لوز . وسواهم من طبقتهم وجيلهم يحتل مكاناً مهما في صدارة الشعر العربي . وأعتقد أن الشعراء الفلسطينيين يقاسمون اخوانهم الشعراء العراقيين والسوريين واللبنانيين أمارة الشعر الحديث . في حين تزدهر في مصر والسعودية وبلاد المغرب الرواية ويعلو النص النثري وصوت المقالة والنقد.
اختلاف الشعر الفلسطيني عن الشعر القديم يرجع الى اختلاف طرق التعبير والهم الذاتي والمرحلة والبحث عن هوية يحاول الحاضر طمسها . الشعر الفلسطيني شبيه بالشعر العربي الى حد التماهي . بالشعر الجزائري مثلا في كثير من الأحيان لا أستطيع أن أميّز شعر عز الدين ميهوبي عن شعر سميح القاسم .وبما أن جيل كامل من الشعراء العرب تأثروا بهذا الثلاثي الرائع وأقصد محمود درويش وسميح القاسم وعز الدين المناصرة . فاننا نستطيع أن نجد تشظّيهم في أصوات شعرية عربية كثيرة . ونلمس أصداءهم البعيدة الرجع في المشهد الكلي للشعر الحديث متجاورة مع أصداء أدونيس وسعدي يوسف والمقالح وأمل دنقل.
18.مارأيك في الشاعر الفلسطيني اولا والعربي ثانيا؟
الشاعر الفلسطيني اليوم يعيش حالة من الضياع الثقافي فهو من ناحية يسعى جاهدا للحفاظ على ماضيه والتمسك بهويته التاريخية والحضارية ومن جهة اخرى يحتضن المنفى مرغماً ويفتشُّ في بلاد وثقافة غيره عن ملجأ لوجعه وإنكساراته . أغلبية الشعراء الفلسطينيين الكبار مشردون عن أوطانهم . ويفيضون حنيناً الى طفولة بيضاء . كانت لهم في ظلال شجر السنديان . جلهم في الشتات يعيش أزمة مصيرية ثقافية أما هنا نحن في الداخل . فالتواصل ضعيف الى حدّ ما مع الخارج العربي .مما يجعلنا نعيش في شبه انقطاع لولا ما يتيحه النت . أما صورة الشاعرالعربي فلا تختلف كثيرا عن صورة الشاعر الفلسطيني .
فالنخبة امثال أدونيس وسعدي يوسف . لم يستطيعوا أن يجدوا الحرية الفكرية المرجوّة في بلادهم . ولم يفلحوا في ايجاد هرمونيا مع الواقع الثقافي والفكري في أوطانهم , بالاضافة الى ظروف كثيرة اجتمعت لديهم ,أبرزها سطوة السلطة وتجبرها . مما حدا بهم الى الرحيل الى الغرب والإنتماء ولو كان ذلك في أقصى دخيلتهم الى الغرب حضاريا وثقافيا.
19. هل هناك شعر مستهلك ولماذا؟
يوجد هناك شعر مكرّر حتى أنه فاقد للونه الأصلي . ويوجد أيضا شعارات مستهلكة عندنا في الشعر العربي وهي كثيرة .
نتيجة عدم الانفتاح وعدم التحاور الثقافي والأستفادة من موروث الغير الجمالي . لم يتطور الشعر العربي بصورة فعلية الاّ بعد احتكاكه بالأداب الأخرى .وتمثلِّ جمالياتها اللا نهائية . وهضم موروثها من الألياذة الى مؤلفات شكسبير مرورا بكوميديا دانتي الالهية.
20.ماهي مشاكل الشاعر الفلسطيني المعاصر؟
مشاكل الشاعر الفلسطيني المعاصر متعددة منها . استحالة البقاء أمام تيّار العولمة الداعية الى تهميشه . الخوف من تلاشّيه وخسران هويته الثقافية الحضارية وموروثه التاريخي . استمرارية النزاع الدائر على وطنه . فقدان استراتيجية الدفاع عن الحلم بالمستقبل .الوصول الى ايجاد أفق أوسع للحرية الذاتية .
هنا أعني حالة الشاعر الفلسطيني المقيم في الشتات.أولاّ . وثانيا الشاعر الفلسطيني المقيم في وطنه .

21. هل ان تسرد لنا مقطعين شعريين من شعرك؟

سأسرد قصيدة بعنوان لي ولها
لي ولها


كلُّ ما تتمخضُّ عنهُ القواميسُ
لي ولها
كلُّ ما تتمخضُّ عنهُ النفوسُ
التي إحترقتْ مرةً
في فضاءِ البنفسجِ
وهيَ تزينُّ صلصالها
بأغاني النجومِ..........
ألحياةُ التي أفحمتْ شاعري
بالفراغِ البريءِ
وما تتمخضُّ عنهُ المزاميرُ
لي ولها
لي جنونُ أبي الطيّبِ المتنبي
وخسرانُ سلمِ بن عمرو
وموتُ إمرىء القيسِ
من غيرِ معنى يؤكدُّ
ماهيّةِ الرملِ والشعرِ
أمّا لها
فالنهارُ الذي يسكبُ الآن َ
فوقَ جفافِ الكلامِ جدائلها
والحمامُ الخفيُّ الذي
يتساقطُ كالدمعِ
من ناطحاتِ السحابْ
لها قسوةُ الأمنياتِ
وكلُّ إحتضارِ الضبابْ.

22. في رصيدك مئات القصائد الغير منشوره بسبب التعتيم الاعلامي والحصار الذي يضرب على كل ما هو جميل وجيد في الحياة، بماذا تعلق على ذلك؟
أقصد بهذا القول أن أغلب المحررين الأدبيين في الصحف أرباع مثقفين بل ربمّا أصفار مثقفين ولا يتمتعون بثقافة راقية وذوق سليم فهم إما يخلطون الغث بالسمين والدر بالحصى أو يطرحون النص في سلة المهملات . لجهلهم بمواطن الفن والسحر فيه . وهذا ما حصل فعلا معي ومع غيري من الشعراء .
23. ما هو دور المؤسسات الثقافية في دعم الشاعر الفلسطيني؟
أجبت على هذا السؤال سابقا .
لا أظن أنه توجد مؤسسات ثقافية فعلية وذات تأثير ملموس لدعم الشاعر الفلسطيني . أنا أعتقد أن الثقافة والشعر والفن عندنا نحن العرب في أسفل سلمّ الأفضليات إذا كان هناك سلّم أصلاً . دواويني التي بعثتها لقسم الثقافة العربية نامت على الرف نومة أهل الكهف أو أكثر بقليل وطبعت
سخافات كثيرة . في كل دقيقة يطبعون لمن هبَّ ودب َّ وعندما أستفسرُّ عن كتابي يقولون لا توجد ميزانية.أعتقد أنه توجد هناك عصابة رخيصة تحتكر هذا الذي يدعى بدائرة الثقافية العربية. وتدير بيروقراطية النشر والدعم فيه. أنا أعتقد أنه لا توجد مصداقية وتوجد علاقات عامة ورياء ومحاباة وجهل وجاهلية وتخلّف .
24. مواقف حدثت معك ولن تنسها في رحلتك عبر بحور الشعر؟
أذكر موقفا طريفا مع الشاعر الكبير سميح القاسم . كنت في الناصرة قبل مدة وأحببت أ أمر لأسلّم على الشاعر سميح القاسم وكانت معي جريدة الأخبار وفيها منشورة قصيدة لي . رأيت سميح الكبير في غرفة أشبه بردهة تميل الى الصغر . كنت قد أهديته ديوانين من قبل , رحبَّ بي وصبَّ لي القهوة بنفسه . أبدى اعجابه بالديوانين . مدَّ لي سيكارة بارلمنت . ودخنّا سوياً . تناول مني الجريدة وقرأ قصيدتي بصوته الجهوري الصافي . لا أنسى أنه أستاذ كبير في فن الإلقاء .
كان كريما صريحا شفافاً لم أكن قد قابلته من قبل ولم أعرف شيئاً من نبله وبشاشته . أثناء الإلقاء نبهنيّ الى وجود خطأ عروضي داخل القصيدة وأكدَّ ذلك . وتداركت هذا معه . كنت وقتها أعتقد أنني تمرستُّ في علم العروض وأستظهرت خفاياه . ولكن لكل جواد كبوة أو كبوات وفوق كل ذي علم عليم . تعلمت أيضا أن سميحاً هذا شاعر كبير وإنسان أكبر . لا تخفى عليه في علم ولا في أدب خافية . ويستحقُّ مكتباً أكبر بكثير من مكتبه في كل العرب.
25. الى ماذا يحتاج الشاعر الفلسطيني؟
الشاعر الفلسطيني . بحاجة الى تطوير أدواته الشعرية والحد من القلق الوجودي الذي يتأكل روحه . منذ أكثر من نصف قرن . الشاعر الفلسطيني بحاجة الى فسحة ضوء وعطر وحرية وجمال وحب , تغسل الدم النازف من أرضه وتاريخه.وماضيه وحاضره.والى لغة تخاطب خارقة وعابرة للقارات يستطيع ان يكسب بها الرأي العم العالمي ويقنع بها خصومه . ولا بأس اذا صيغت من فراشات ملونة حديدية وندى ناري . واذا حملت كل صخب الأرض وهدوء السماء .
26. ماهي طموحاتك المستقبلية؟
لا أطمح بشيء لا أستطيعه . أطمح بأشياء بسيطة لا علاقة لها بجدي المتنبي . القائل
اذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم ِ
أن أستمر في الكتابة هذه المهنة المقدسة والملعونة في آن معاً , وأن أجد الأمن الذي لم يجده السيّاب . وراحة أبي تمام الكبرى ,والرضى النفسي .وفي النهاية أن أجد دار نشر تساعدني في طبع أعمالي.وأن أترجم إلى عدة لغات . وأحظى ببعض الدراسات الأدبية مثل غيري .
27.ماذا تقول لكل الشعراء؟
لا أجد ما أقوله للشعراء الاّ الذي قلته هنا .
* عن جريدة القدس
25/12/2007







**********************



الشاعر الفلسطيني - نمر سعدي – في لقاء أدبي لزمان الوصل :
حاوره : مرهف مينو – زمان الوصل



الصورة من ندوة لتكريم الشاعر
لو كنت لا أعرف نمر سعدي لظننت أنه شاعر ستيني، فحرصه على تقاليد قصيدة التفعيلة حد التقديس يشجع على مثل هذا الظن..فضلا عن انتهاجه نهج الستينيين في محاولة غزل خيوط الواقع ونسجها في نسيج رومانسي يتخذ من عناصر الطبيعة وعاءً لقضايا الفكر.
ثائر العذاري - ناقد عراقي -

لم اجد اجمل من هذه الكلمات لوصف الشاعر نمر سعدي .....
عرفناه شاعرا متمكنا مجيدا يحلق في سماء الشعر بأسلوب مميز يظهر جليا في قصائده التي يبدو وكأنها تنسلخ من روحه المبدعة سنحاول في هذا اللقاء أن نسلط الضوء أكثر على هذا الشاعر ونتعرف عليه عن قرب

• • تعرفنا على الشاعر نمر سعدي من خلال ما قرأناه من خلال الصحف والدوريات الثقافية او ما يصلنا من خلال شبكة الانترنت .. نريد ان تحدثنا عما لا نعرفه عن نمر سعدي كبداية .

أوّلا أنا عربي مسلم أعيش في فلسطين المحتله في بقعة تدعى الجليل . من عائلة متواضعة من ضلع فلسطين وملح أرضها تسكن في قرية بسمة طبعون في الجنوب الشرقي من مدينة حيفا الساحلية .
وثانيا أنا كائن مملوء بالأحلام والطموحات والرؤى النبيلة ومسكون بعشق الحرية . وليست الكتابة عندي الاّ محاولة جريئة مني لتجسيد هذه الأحلام وممارسة الحرية ومنحها بعض الشرعية الوجودية لكي تتنفس في رئة حياة باتت جامدة وتتواجد في صخب هذا الواقع الذي بات يثقل كواهلنا بماديته وضيق أفقه ومحدوديته . .........أخيرا لكل شخص أن يفسرّني كيف شاء هواه من خلال قصيدتي .

في ليلةٍ ما عندما يصحو الندى
في حنطةِ الأيام ِ
سوفَ يضيئني وجعي الذي أدمنتهُ
زمناً ...وتركضُ في مفاصلِ وردتي
نارُ المجوس ِ.....
يحيلني ندمي
الى أنقاضِ فردوس ٍ
يحيلُ دمي
فقاعاتِ النبيذِ المُرِّ
في قلبِ إمرئِ القيسِ
المُعذَّبِ بالجمالِ الحُرِّ
أو بلحاقِ قيصرْ

• • من الملاحظ أن المرأة تحتل مساحة واسعة من شعرك ؟

في الفترة الأخير أحاول أن أعطي المرأة بعدا رمزيا في قصيدتي وأمنح هذه العلاقة الملتبسة بعض الشفافية ليحاول الآخر أن يستشف ما يخفى عليه داخل جوهر الأنوثة . فنحن كبشر رجالاً ونساءً يكملُّ أحدنا الآخر ولا تقتصر صلتنا بعضنا ببعض على الحب أو ألنوازع البيولوجية فقط . هناك في بعض القصائد الأخيرة إستدعاء للمرأة المعجزة أو إمرأة اليوتوبيا الموعودة التي لا تتحقق الاّ في داخلنا وفي أعماق وهمنا وفردوسنا المفقود ولا نجدها في واقعنا . هذا الأحساس ينبع من خوف فقدانها وخسارتها كقيمة جمالية كبرى . كل كاتب أو شاعر أو فنان يستشعر هذه الخسارة الإفتراضية وهذا الفقد الوهمي قبل أن يقعا لذلك فهو متطرفٌّ الى أبعد حد بمثاليته الغنية الثرّة .من جانب آخر نحن نحاول دائماً التغنيّ بمزامير الطريق ولا نصل أبداً وهذا هو سر الجمال والسعادة هنا . المرأة كمدينة مسوّرة سحرية اذا وصلتها ضاع كل شيء . وقيمتها الجوهرية الفذة تكمن في هذه الضبابية التي تحيطها بالغموض والمجهول.

• • تعددت أساليبك الشعرية فتارة تكتب بالتفعيلة وتارة القصيدة العمودية .... فلما التنقل من مدرسة لأخرى ؟

أنا بالأساس شاعر عمودي أي بدأت عمودياً ولا زلت أكتب قصائد عمودية كشعراء كثر وهذا لا يضير فهناك شعراء عموديون وتفعيليون في نفس الوقت كنزار قباني ومحمد علي شمس الدين وسميح القاسم ولكني وجدت فيما بعد أن التفعيلة هي الصورة الحية المقنعة لتطوّر القصيدة العربية والأمتداد الطبيعي للموروث الجمالي الشعري لدينا . أعتقد أن التفعيلة حاولت بكل صدق أن تذهب بعيداً وتحتوي تجارب صادقة وأن تعبّر جليّا عن مكنونات الشاعر العربي في الوقت الراهن .القصيدة العمودية مرتبطة ذهنيا عندنا وقبل كل شيء بخيام البدو وأبلهم وظبائهم .ولكنها إستطاعت أن تتطوّر عندما كتب بها شعراء موهوبون . الشكل الشعري لا يهم كثيرا هنا. ما هو الاّ وعاءً أما المهم فالسائل الذي يملؤه .
التجربة النثرية مثيرة للجدل والإهتمام لأنها إستوعبت الكثير من العناصر والجماليات الجديدة . وأتمنى أن لا يكون هناك فجوة عميقة بين تطوّر هذه وحضور تلك . لأن النثر في النهاية يرجع نثرا مهما بلغ من الروعة والبلاغة ويحسب علينا كذلك في المستقبل . هناك مثلا تجارب النفرّي وأبن عربي وأبن حزم الأندلسي هي حسب مقاييس الغرب لقصيدة النثر تجارب شعر محض ولكنها في موروثنا تجارب نثر فنيّ أو صوفي أو نثر جمالي ذاتي وجداني . أما الشعر فلا مبّدل له . هل يستطيع أحد أن يغيّر شعر المتنبي ؟ أو شعر أبي تمام . لا أظن ذلك .
• • ما رأيك بالحركة الشعرية المعاصرة " الغير ملتزمة بالتفعيلة أو القصيدة العمودية " عربيا ؟

هناك بعض الضبابية أنا لا أستطيع أن أميّز موهبة كبيرة حقاً .
وكل الشعر يبدو لي متشابها بعض الشيء . نحن نسير حسب قول أينشتاين الى الكارثة الثقافية . المشكلة أن الشعراء النثريين لدينا مثقفون وكاتبو دراسات نقدية وأبحاث وعلى مستوى عالٍ من الإطلاع وهم واعون جيداً لمشكلة هيمنة النثر الجمالي . لا أعرف سر هذه الحملة على الإيقاعات العربية . هناك شعراء مثل سعدي يوسف الذي فتح المجال أمام اليومي والشائع ومثل أدونيس الذي أغرى الآخرين بالشعر الفكري المشبع بالرمزية والغموض والذهنية والتقريرية أحياناً.
أنا ضد هيمنة القصيدة العمودية ولكنني أيضاً ضد هيمنة قصيدة النثر . حتى أدونيس" رغم إعجابي بشعره وتنظيره الجريء "في كثير من كتاباته لقصيدة النثر غامض وغير متسلسل وتغلب عليه الذهنية والفكرية أحيانا . أنا أحب شعره التفعيلي أكثر . وأحترم ريادته وتجديده في الأوزان العربية وفي المحتوى والمضمون .
• • نمر سعدي ... هل أنت متأثر بتجربة شعرية حديثة أو قديمة ؟

من الصعب عليَّ أن أجزم بكلمة واحدة أنني متأثرٌ بتجربة بعينها قديمة أو جديدة . أؤمن أن المبدع اذا توقفّّ عن القراءة فقد أنقطع وحيه وجف نبعه. تجاوز الذات شيء مهم لدي وانقلابات الشاعر على نفسه أيضا . أحيانا تجربة واحدة غنية ومتنوعة كتجربة "ماركيز" تغنيني عن تجارب عدة فقيرة .
كل يوم جديد أكتشف تجارب جديدة تقنعني بضرورة المتابعة والكتابة .في النهاية أنا متأثر بالمجموع الكلي للتجارب الجيّدة الحقيقية ولست متأثرا بتجربة واحدة فقط .

• • لمن تحب أن تقرأ ؟

لشعراء وكتاب كثيرين عرب وأجانب لا مجال هنا لحصرهم جميعا , ربما أقرأ في الصباح في رواية من روايات مركيز وفي الليل أقرأ في ديوان المتنبي . هناك تنويع كبير ولا محدودية في القراءة الموزّعة على الشعر والرواية والمقالة النقدية ولكنني في أحيان كثيرة أقرأ طويلا متأملاً في وجوه الناس والطبيعة والأشياء . وأجد في ذلك كنزاً عظيماً وحكمة.

• • هل تعتبر نفسك تعبر عن جيل من شعراء الحداثة ,ام ان نمر سعدي نسيج خاص ؟

بل أجد نفسي في آن واحد أعبرُّ عن جيل من شعراء الحداثة ابتدأ بالسيّاب والبياتي ونازك الملائكة وأمل دنقل وحجازي وقباني واستمرَّ حتى شوقي بزيع وعبد العزيز المقالح ومحمود درويش وحسب الشيخ جعفر وأدونيس . وأحاول من جهة ثانية صنع نسيج خاص بتجربة منفصلة تنمو رويدا رويدا وعلى حدة .
• • وجدنا بعض قصائدك العمودية الكلاسيكية قد كتبت بشكل شعر تفعيلة ما السبب ؟

لا يوجد أهمية عندي لتقسيم وتوزيع القصيدة . التوزيع التفعيلي للقصيدة العمودية نجده عند شعراء كثر مثل محمد الفيتوري ونزار قباني وشوقي بزيع وعلي جعفر العلاّق والبياتي وهذا أمر يعدُّ ثانويا في كتابة الشعر . ربما هذا نوع من التجديد في العمود الشعري على مستوى الشكل . كل شاعر حرٌّ بتقطيع قصيدته ما دامت سليمة من الكسر في وزنها .وكل قارئ ذكي يكتشف لعبة التقطيع تلك من السطر الأول .عدا أن هذا الأمر لا يضير القصيدة شيئا بل يقوم بتحديثها وتقديمها بصورة مفاجئة ومغايرة تتناسب مع الراهن أكثر . وهناك قصائد كثيرة لعلي جعفر العلاّق موزعة توزيعاً تفعيلياً وهي قصائد عمودية بالأساس .


حب بلا امرأة يغلف نومَه
المرئي بالكلمات تقطرُ من
دموع النورس البريِّ
.. كان غناؤها المائيُّ
يجرحهُ كزقزقة العصافير
الغريبة عن سماء الله
كانَ معبّأً بالبرق من أعلاهُ
حتى أخمص القدمين
يبحثُ في خلايا الأرضِ
عن منفى ومفردةٍ بلا ماضٍ
يؤنثها يُعيد بها تفاصيل
الرواية أو يدقُ بها
على الروحِ التي نامت
على وجع الترابِ
بلا مراودةٍ ويحتضنُ الفضاءَ
بلا يدين وقبلتينِ
من السرابِ الهش
ينظرُ دونما شفق
بعين غزالةٍ مذبوحةٍ
بهلال شهوتهِ/ مرايا للغيابْ



• • هل قرأت لشعراء سوريين وهل تعتبر الحركة الشعرية السورية مؤثرة في الأدب العربي ... طبعا في الفترة الراهنة ؟

قرأت لكثيرين منهم أدونيس ومحمد الماغوط ومحمد منير خلف
وياسر الأطرش ونوري الجراح ونزيه أبو عفش ومحمد الصالح الحسين وبهيجة مصري وغالية خوجة . كلهم كبار ويستحقون القراءة . وأعتبر الحركة الشعرية في سوريا من أقوى الحركات التي تحتضن المشهد الشعري في العالم العربي . وهي مؤثرة ومتطوّرة بشكل مذهل . وقد قمت بالإطلاع على الدواوين التي يصدرها اتحاد الكتاب عندكم فأصبت بالذهول من نضوج التجارب الشعرية وغناها بالمقارنة بما يجري في فلسطين .
أنتم تتفوقون علينا أضعافا مضاعفة .

• • غزة ...؟؟؟ أنت في قلب الحدث نتاجك الشعري الذي وصل لم يتناول ما يستجد من أحداث على أرض فلسطين ؟

منذ شغفي الأوّل بالشعر وأنا أحاول أن أتخلّص من شعر الحدث والمناسبات الذي رحل زمنه مع أن مصيبة غزة ليست مناسبة .
أحاول أن أصوغ مأساة غزة في كل ما أكتب من شعر ممزقّ بين الواقع والخيال والحرية والظلم ولكني قلت شعرا كثيراً لفلسطين كلها ولا أريد أن أجزأها فهي حاضرة في كل ما كتبت وما سأكتب حتى لو كان شعرا بسيطا أو شعرا يعبرُّ عن قضايا كبرى . يجب على الشعر أن يعبّر عن الحدث بصورة غير مباشرة ومن هنا تنبع قوته وحدته . الشعر عندي ليس شعارا ولا تقريراً يومياً. أنا أعبرُّ عمّا يحدث في كل بقعة موبوءة بالظلم في العالم بصورة مغايرة وجماعية أكثر .

• • نلاحظ انك تنشر الكثير من موادك في زمان الوصل فهل من الممكن شرح السبب ؟

لا لغير أنه يحتفي بنصوصي دائما وينشرها . وأود أن أتمنى له دوام الإستمرار والنجاح .

• • نمر سعدي ... تفضل النشر الالكتروني أم الورقي ... السبب ؟

أفضلُّ النشر الورقي بالصفة الأولى والألكتروني بالصفة الثانية .
وقد يكملُّ أحدهما الآخر. اليوم بالذات النشر الألكتروني مهم لأنه يتيح المجال أكثر لإنتشار النص الأدبي .ويشرع تحدِّ آخر أمام الكاتب ليتقن أدواته ويبدع ويجاري غيره . ولكنني أظن أن في النص المنشور ورقياً حميمية خاصا تربطه بصاحبه .










الشاعر نمر سعدي في حوار
مع وكالة الأنباء الفلسطينية وفا


نمر سعدي: من الصعب إثبات الشاعر نفسه في ظل الثورة المعلوماتية .


حاورهُ الأديب ناجي ظاهر



الناصرة 25-12-2007 وفا- يقول الشاعر نمر سعدي، إنه من الصعب على المرء أن يكون شاعرا في فترتنا الراهنة، فترة الانفجار المعلوماتي عبر الشبكة العنكبوتية.
ويضيف السعدي، في حديث لـ"وفا"، أنه في الفترة السابقة، فترة ظهور رواد الشعر الحديث تحديدا، كان مطلوباً من الشاعر فقط كتابة قصيدة جيدة، وبهذا كان يشار إليه بالبنان، أما في فترتنا الحالية يجهد الشاعر في إبراز نفسه سواء كان في المواقع الالكترونية المتعددة ، أو لدى المعروفين من الكتاب والشعراء.
ويبلغ السعدي الثلاثين من العمر، وابتدأ رحلته مع الشعر منذ أكثر من عقد من الزمن، وهو من أبناء قرية بسمة طبعون العربية، واصدر خلال عامي 2005 مجموعتين شعريتين هما:"اوتوبيا أنثى الملاك" و"عذابات وضاح آخر".
ويذكر كتابته للشعر في سن الرابعة عشرة حتى السابعة عشرة، تركت آثاراً واضحة على مسيرته الحياتية، وإن اختياره للشعر جاء من أجل أن يعيد إلى ذاته بهجة الحلم المنكسر.
ويكتب السعدي ما يطلق عليه اسم شعر التفعيلة، وأثار شعره منذ بداية نشره لنماذج منه في أواخر الألفية الماضية، في صحيفة" الاتحاد" الحيفاوية، ، العديد من ردود الفعل المحبذة، تمثلت في عدد من المقالات وفي تحيات وصلت إليه من قراء عبر أصدقاء له من الشعراء والمثقفين كما يشير.
ويلفت السعدي، إلى أن السهولة في النشر، ترافقت بصعوبة قصوى، في التعامل فيما بينه وبين الحياة الثقافية، فهناك سهولة في التواصل مع شعراء في الدول العربية المجاورة، إلا أنه كثيرا ما يجد صعوبة في الوصول إلى شاعر في بلاده.
ويعزو ذلك لسكنه قي قرية بعيدة، ما يضطره في كثير من الأحيان للانتقال من قريته إلى مدن مجاورة مثل الناصرة أو حيفا، لينشر قصيدة له وليشرف على طباعتها حتى لا تحوي أخطاء مطبعية.
من ناحية أخرى تمكن السعدي من إقامة علاقة مع واحد من الشعراء من أبناء جيله، هو سامي مهنا، ابن بلدة البقيعة، ومشاركته في إقامة ندوتين شعريتين إحداهما أقيمت في منطقة حيفا والأخري في مدينة عكا، بمبادرة من مؤسسة الأسوار للتنمية الثقافية الناشطة في المدينة.
وبات الشعر، بكل ما يتضمنه من رومانسية، واحدا من أبعاد السعدي الشخصية، التي يعرف بها في العديد من الأماكن بما فيها أفراد من المجتمع وأفراد من العائلة والبلدة.
ويجري السعدي الاتصالات عبر البريد الالكتروني التابع له، مع عدد وفير من الكتاب والشعراء من دول العالم العربي المحيط بنا، وتمكن من اخذ مكانه إلى جانب شعراء ومبدعين، لم يلتق بهم ولم يتعرف إليهم إلا عبر صفحات الصحف والمواقع الالكترونية، ولم يكن يحلم أن تنشر نماذج من أشعاره إلى جانب أشعارهم وبأكثر من لغة غير العربية.
ويتطلع السعدي إلى التفرد في القول، وأن يعمل من أجل أن يكون له صوته الخاص به وبصمته مهما كثر عدد الشعراء.


*************










.


مقالات وحوارات في الشعر والأدب



نمر سعدي


***********

أُنوثةُ القصيدة لدى الشاعر شوقي بزيع




هو شاعر لبنانيٌّ من مواليدِ الجنوبِ في مطلعِ الخمسينيَّات. له حتى الآن أكثر من عشرةَ مجاميعَ شعريةٍ بدأها بعناوين سريعة لوطن مقتول عام 1978 ولا زالَ من ألمعِ الشعراءِ العربِ وأرقِّهم حاسَّةً وأصفاهم شفافيَّةً.
لا أعرفُ في الحقيقةِ بماذا أُشبِّهُ قصائد هذا الشاعر المُتجذِّرِ في أديمِ الأنوثةِ وفي خميرةِ الجمالِ.. أأشبِّهها بلمعانِ أجسادِ النساءِ اللواتي كانَ يتلصَّصُ عليهنَّ طفلاً من وراءِ أوراقِ الأشجارِ التي تشبهُ بريقَ الذهبِ؟؟ أم أأشبِّهها بالأزهارِ البيضاءِ اللوزيَّةِ ؟؟ أم بالأرضِ الجنوبيَّةِ التي عشقها بكلِّ سهولها وجبالها وفتنةِ وديانها وروعةِ تضاريسها؟.. فهذا الشاعرُ يستطيعُ أن يُدخلكَ إلى حلقاتِ الوجدِ الصوفي الجماليِّ الشعريِّ بلمحةِ البصرِ... وبدفعةٍ واحدةٍ يستطيعُ أن يُبلِّلَ قلبَكَ بالماءِ الغامضِ والبرقِ الحزين.
في قصائدهِ الكثيرُ من فتنةِ الأنوثةِ العصيَّةِ على الفهمِ.. فأنتَ تقفُ وكأنكَ أمامَ إعجازٍ يملأُ قلبَكَ بالانبهارِ وروحكَ بالإعجابِ الرفيع.
ألفاظُ شوقي بزيع منتقاةٌ بدقةٍ ورهافةٍ وحسٍّ موسيقيٍّ بارعٍ وذكاءٍ شعريٍّ نادرٍ قلَّما وجدتهُ عند الشعراءِ اللذينَ يكتبونَ قصيدةَ التفعيلةِ. فعباراتهُ الشعريَّة شفافةٌ كالماءِ وليِّنةٌ كالغيومِ تنسابُ في نفسكَ كما ينسابُ النهرُ الحافي في دروبِ الحصى. فتدغدغُ عواطفكَ وتوقظُ ما هجعَ من أحلامكَ الخضراء. وتحملكَ وتحرضِّكَ على فعلِ الحُبِّ والتأملِ في شظايا الأملِ..والحلولِ في بهاءِ الكونْ.. يقولُ في إحدى قصائدهِ عن مأساةِ الشاعر الحديث:
دائماً يكتُبُ ما يجهله
دائماً يتبع سهماً غير مرئي
ونهراً لا يرى أوّلَهُ
ينهر الأشباح كالماعز عن أقبية الروح
وكالسّاحر يُلقي أينما حلّ
عصا الشك
ليمحو بعضُهُ بعضاً
مقيمٌ أبداً في شبهة البيت
ولا بيت له
كلما همّ بأن يوضح يزداد غموضاً
وبأن يفصح يزداد التباساً،
والذي يكتبه يحجُبُهُ
هي يدري أن بعض الظنّ إثمٌ
ولذا
يومئ للمعنى ولا يقربُهُ
يدّعي الشاعر أن الشّعر ذئبٌ
فيقول الناس:
إن هو إلاّ شاعرٌ
والشّعر أضغاثُ رؤىً خادعةٍ
لم يصدّق أحدٌ ما زعم الشاعر،
لم ينتبه الناس إلى الموت
الذي ينهش في هيئة ذئبٍ
جسمُه الرثّ
لكي يستخرج المعنى الذي في قلبه،
الناسُ نيامٌ
فإذا الشاعرُ مات
انتبهوا!.
في هذهِ القصيدة استشرافٌ لنبوءةِ الشاعرِ وفيها بعدٌ رمزيٌّ لعبثيَّةِ ما يحاولهُ في حياتهِ. ولكن الصياغة في قمةِ الذكاءِ الشعريِّ والمكاشفة.

أوَّلُ معرفتي بالشاعر شوقي بزيع كانت من خلالِ قصائدَ متفرقة في الصحافةِ العربيةِ وما كانَ يصلنا من نتفِ أشعارهِ في صحافتنا المحليَّةِ في الداخلِ الفلسطيني وقد كانَ دسماً على قلَّتهِ. ثُمَّ في أيَّار عام 2001 وقعَ بصري في معرضِ الكتابِ الذي تقيمهُ مكتبةُ (كلُّ شيء) في حيفا على ديوانيهِ الصغيرين ( قمصان يوسف) و( كأني غريبك بينَ النساء) فولجتُ عالمهُ الشعريَّ السحريَّ من خلالِ ديوانيهِ هذين وخصوصاً الديوان الثاني الذي راقَ لي.. دخلتُ إلى مملكتهِ المعلَّقةِ فوجدتُ في أروعِ دواوينهِ هذا اشتغالاً مُتقناً على الصورةِ الشعريَّةِ وعلى تركيبِ الجملةِ في القصيدةِ وعلى التدويرِ البديع الذي لا يخرجُ بكَ عن سياقِ الحالةِ الموسيقيَّةِ العامةِ في النصِّ.. للوهلةِ الأولى تشعرُ أنَّكَ أمامَ شعرٍ جديدٍ تعبَ صاحبهُ عليهِ كثيراً..
فهو موصولٌ بأصالةِ اللغةِ المصفَّاةِ وصرامةِ أساليبها وغزارةِ معانيها ومفرداتها الشعريَّةِ التي كأنها قد نُحتت من الصخرِ الليِّن.. وفي الوقتِ نفسهِ نجدُ أخيلتهُ وكأنها تنهمرُ علينا بصورهِ المخترعةِ من عالمِ المستقبلِ وفضاءاتِ قصيدةِ النثرِ الرحبةِ الزاهيةِ بالأقواسِ القزحيَّةِ. والمشبعةِ بالرذاذِ الضوئيِّ.
فنيَّةٌ التجاورِ والتناصِ والمحاورة موظفةٌ بدقةٍ متناهيةٍ في السياقِ وفي الجملِ المحمولةِ على أنفاسِ الأنثى المعشوقةِ البعيدةِ أو ربمَّا المستعصيَّةِ على يدِ الشاعرِ.
وهذا ربما تأثيرٌ من شعراءِ النثرِ البارعين ومنهم عبده وازن وعباس بيضون.. فشاعرنا يعترفُ أنهُ يصبُّ تقنياتِ قصيدة النثر وجمالياتها في قوالب موسيقية عبر مجال التفعيلةِ اللينةِ الطيِّعة.. التي ترشِّحهُ مع شعراءٍ قليلينَ ليكونَ أجملَ فرسانها بعدَ رحيلِ أميرها محمود درويش.

تروقنا في قصائد شوقي أيضاً براعةُ السردِ الذي يدخلُ في الحوارِ الذاتي للقصيدةِ حتى أنَّ بعضَ النقادِ العرب عزا هذا الأمرَ إلى تأثُّرِ شاعرنا بالفنِ الروائي وأساليبهِ. وهذهِ الميزة من خصائصِ شوقي بزيع بل من أهمِّ ميِّزاتهِ.

للأشياءِ في شعر شوقي بعدٌ آخرُ غيرُ محسوسٍ فللصيفِ طعمٌ غريبٌ يختلفُ عنهُ في الواقعِ وللفتةِ الأنثى أيضاً مسحةٌ تليقُ بحفيداتِ دعد وليلى وجولييت وكليوبترا وإلزا.. حتى الليل والأزهار ومسمَّياتُ الطبيعةِ تكتسبُ روحاً وقيمةً وملمساً خاصاً يشي بالسحرِ وينضحُ بمعناهُ الكامنِ وغموضِ تكوينهِ.
فإنني عندما أقرأُ لشوقي أجدُ أنَّ النساءَ جديراتٌ بهذا الحدبِ الذي يمحضهُ لهنَّ الشاعر العاشقُ فها هو يُضفي عليهنَّ جمالاً على جمالٍ ويوشحهنَّ بالفتنةِ الغريبةِ المستغلقةِ ومناديلِ الهيام.. ويجعلهنَّ كائناتٍ من أحلامٍ وسرابٍ.. وهذا أجملُ ما في عملِ الشعرِ وأروعُ ما في لعنةِ الكلام.
فلشاعرنا مقدرةٌ عجيبة على تنقيةِ عالمهِ الشعريِّ من الشوائبِ والزوائدِ وإضفاءِ مسحةِ الحلمِ على الواقعِ المجبولِ بالحديد.

فشوقي وعمر بن أبي ربيعة يصدران عن قوس واحدٍ كما قالت العرب. فهما يتداخلان هذا في ذاك ولا تفصلُ بينهما لغةُ التماهي الحسيِّ.. ولا ينفصلُ وجدُ أحدهما وهيامهُ عن لهفةِ الآخرِ تجاهَ الأنوثةِ ومعناها. تلكَ الأنوثةِ التي يحبَّانِ كلٌّ بمقدارٍ والتي طفقا يصورانها حسيَّاً رغمَ أن أشواقهما تجريديةٌ بحتةٌ وسرياليةٌ حداثويةٌ تنهضُ من انكساراتِ اللغةِ وأفراحها المخبوءةِ..
أستطيعُ القولَ أنَّ عمر بن أبي ربيعة قد بُعثَ لنا بعدَ أكثرَ من ألفٍ وأربعمائةِ عامٍ في ثيابِ شوقي بزيع الشاعر الثائرِ على رتابةِ أحلامهِ الشعريَّةِ.

للشاعر قصائدُ بالغةُ الجمالِ والخصوصية اللفظيةِ والشفافيةِ.. قصائدُ تبلغُ حدَّ النشوةِ والكمالِ بامتيازٍ.. منها قصيدة كأني غريبك بينَ النساء فهيَ من الروعةِ والدقةِ في التصوير بحيثُ تجعلكَ تذهلُ عمَّا قرأتَ قبلها من شعرٍ..
يقولُ في مطلعها:
يدُكِ الأرضُ رابضةٌ منذُ أكثرَ من صخرةٍ فوقَ صدري
وطافيةٌ كالزمانِ على قُبَلي الخاسرةْ
تتجلِّينَ لي كمآذنَ مضمومةٌ حولها قبضةُ الريحِ
أو كبلادٍ تضيءُ لها كالسماواتِ أطيافك الغابرةْ
تتجلينَ لي مثلما يتجلَّى الكسوفُ على جبلٍ شاهقٍ
أو كعاصفةٍ تتواجهُ مع نفسها في خريفٍ بلا شرفاتٍ
لكي أتنسَّمَ تفاحكِ الدنيويَّ
كما يتنسَّمُ وردُ المقابرِ رائحةَ الآخرة.

ألا نسمعُ هنا أصداءً للمزاميرِ ولنشيدِ الإنشادِ؟؟ ألا نلمسُ تقاطعاً حتميَّاً مع أنغامٍ أوركستراليةً تتنـزَّلُ من سماءٍ حزينةٍ وبعيدةِ الجرح؟
ألا تذكِّرنا انسيابيةُ هذهِ القصيدةِ وتهاديها بموسيقى الغرفِ الهادئةِ؟
والمطالعِ الهوميريةِ العاليةِ النبرةِ.. ؟ والحادةِ كالسيفِ اليمانيِّ؟
هذهِ القصيدة العامرةُ تستولي عليكَ وتخلبُ قلبكَ.. إنها نشيدٌ رزينٌ صارخٌ لتمجيدِ الأنوثةِ.

حتى لو كنتَ لا تعرفُ شوقي بزيع فإنَّكَ ستختارهُ من قراءةِ أوَّلِ سطرٍ شعريٍّ لهُ في قصيدةٍ عابرةٍ تجدها في مجلةٍ هنا أو جريدةٍ هناكَ ولكنكَ لن تنساهُ أبداً.. لا تستطيع أن تتفلَّتَ من سحرِ ماروتهِ الطاغي وتوحشِّ انهماراتهِ وبوحهِ العالي.
وسيحصلُ لكَ كما حصلَ لقارئٍ إتصلَ بقناةِ الجزيرةِ وكانت تبثُّ برنامجاً أدبياً وقالَ مصارحاً المذيعَ بأنَّ في العالمِ العربيِّ شعراً جيِّداً يستحقُّ القراءةَ وعندما سألهُ المذيعُ بعضَ أسئلةٍ يحاولُ فيها استجوابهُ.. قالَ هذا المواطنُ العادي جدا والمثقفُ أنَّ هنالكَ في لبنانَ شاعرٌ غيرُ معروفٍ كبقيةِ النجومِ من الشعراءِ ولكنهُ شاعرٌ حقيقيٌّ وساحرٌ بكلِّ ما تنطوي عليهِ هذهِ الكلمةُ من أبعادٍ ومعانٍ.. يستحقُّ القراءةَ والاهتمامَ في محيطِ هذا الغثِّ من الشعرِ. قالَ القارئ الحقيقيُّ أن الشعراء الجيِّدين كشوقي بزيع يجرفهم طميُ القصائد الركيكة في عصرِ الكمِّ ولا يجدهم إلاَّ من يُحسنُ اكتشافَ اللؤلؤِ تحتَ الرمالِ.. لم أستغرب حينها كلامه وابتسمتُ ابتسامةً خفيفةً وقلتُ في سرِّي شكراً لشوقي بزيع الذي يزيدُ أحلامنا جمالاً.. وينقعُ جفافَ أرواحنا بالرذاذ.. ألفَ شكر....!


************





سلامٌ على قمرِ البنفسجِ في عينيكَ

إلى محمود درويش




ها قد مرَّ عامٌ على الغياب.. ونحنُ لا زلنا نعيشُ في الوهمِ من انطفاءِ العنقاء وحتَّى هذهِ اللحظةِ الكاذبةِ الصادقةِ نحاولُ الإمساكَ بالأطيافِ الذهبيَّةِ الهاربةِ من خيالاتنا دونَ جدوى... ونُجرِّبُ أن نقيسَ أيامنا الحنطيَّةَ بالماءِ المسفوحِ من قلوبنا على رحيلكَ يا سيِّدَ الكلام.. الصامتَ الأبديِّ في حضنِ منيرفا وفي حضورِ كلامها الأخضرِ.

يا طفلَ الأقحوانِ.. أيُّها الحصانُ العصيُّ على الريحِ الأنثويَّةِ.. لا تخجل بنا وبعجزنا عن رثائكَ.. لا تخجل بكلِّ الهذياناتِ التي فاضَتْ على أرضنا العربيةِ اليابسةِ الجرداءِ سوى من دماءِ الحالمينَ أمثالكَ...
لا تخجل بنا يا وريثَ عذاباتنا أمامَ نساءِ أولمبَ الفاتناتْ.. فكُلُّ أقمارنا في غايةِ الغباءِ والحيرةِ... وكُلُّ عظامنا لا تضيءُ الظلامَ الصلبَ..

أتبلَّلُ بالمَطرِ المورقِ وأعجبُ لكَ كيفَ استطعتَ أن تحملَ صخرةَ سيزيفَ إلى هذهِ الهوَّةِ القاحلةِ الهائلةِ الطائرةِ في الجحيمْ.... كيفَ استطعتَ أن تُحوِّلَ شتاءاتي جميعها إلى شتاءٍ واحدٍ باذخٍ مُعذَّبٍ يليقُ بالشعرِ والبكاءِ على طللِ العولمةِ .. ويرتفعُ بالموسيقى الزرقاءِ ويضيءُ بخواتمِ ريتا سُدُمَ القلبِ.
وقد كانت شتاءاتي من قبلكَ صخوراً تنهمرُ عليَّ من كُوَّةٍ صفراءَ في السماءِ الزجاجيَّةِ المُكسَّرةِ... آهِ كم كانت شتاءاتي عقيمةً من دونكَ..

مرَّ عامٌ على الغيابِ ونحنُ لو تفكَّرنا قليلاً في حضرةِ الغيابِ منذُ الأزلِ وإلى الأبدِ وأنتَ تحاولُ بأشعاركَ المزهرةِ كاللبلابِ أن تلقي علينا بصيصاً من شعاعِ الحضورِ العاطفي الإنساني المعرفي المتمرِّدِ ولو من وراءِ حجابْ.
عندما أقرأُ اليومَ في دواوينكَ الأخيرةِ وأنا بالذاتِ أنحازُ إلى مرحلتكَ الأخيرةِ التي تذكِّرني بكلِّ أمجادِ الشعرِ الذي يدغدغُ الروحَ.. يضربني بقوَّةٍ هائلةٍ برقُ الحقيقةِ.. أُدركُ تماماً أننا نحنُ أشباهُ الشعراء ما زلنا بعيدينَ سنينَ ضوئيةً عن عوالمكَ الشعريةِ الساحرةِ التي جُبتها كغزالٍ شريدٍ شاردٍ.. وأننا في الزمنِ الأخيرِ مغفَّلونَ في لعنةِ التجربةِ.
أنتَ وحدكَ فينا من قبضَ على الجمرِ المقدَّسِ يا بروميثيوس.. من دون أن يرتعشَ لكَ قلبٌ أو يرمشَ لكَ جفن. أنتَ وحدكَ يا سليلَ أسطورةِ هذهِ الأرضِ النبيَّةِ من نثرَ الزهرَ اليابسَ على بحيراتِ العالمِ القاسي..
فهَلْ تغفرُ لنا حُبَّنا الذي قتَلَكَ كالذئبِ بلا رحمةٍ وألقى بكَ في جُبِّ يوسفَ عليهِ السلامْ.. هل تغفرُ لنا حماقتنا وبراءتنا وقلَّةَ صبرنا..

قصائدكُ تراوغنا بالذهبِ والصباحاتِ الصيفيةِ ولا نفلتُ بتاتاً من سطوتها اللامعةِ.. فنحنُ مدينونَ لكَ بالنرجسِ وترويضِ الكلامِ الجامحِ في بريَّةٍ ممتدَّةٍ في الفضاءِ خلفَ هذا البحرِ الذي أدمنَ صداقتَكَ. وأدمنَ عشقَ ممالككَ العاليةِ وزهوةَ روحكَ ونبلَ السيوفِ التي حفَّت خيلاءكَ ذات حلم.

لحيفا هسيسٌ ناريٌّ لا يسكنُ لحظةً واحدةً مسائلاً عنكَ. لا يسمعهُ إلاَّ محبُّوكَ وقلبي فهو يرهفُ السمعَ كلَّ صباحٍ ومساءٍ ويمتلأُ بهِ كما يملأُ قوسُ قزحٍ برذاذِ الماء المتطايرِ .

سلامٌ عليكَ وخزامٌ أليفٌ يطوِّقُ وجهكَ
سلامٌ على روحكَ الوامقةِ أمامَ السماءِ كعبَّادِ الشمس
سلامٌ على قمَرِ البنفسجِ في عينيكَ
سلامٌ أخيرٌ على بهاءِ زهرةِ اللوزْ....









*************


قُبلةٌ للبياتي
في ذكرى رحيلهِ العاشرة




عبد الوهاب البياتي أحدُ أعمدةِ الشعرِ العربيِّ الحديث الثلاثة.. إضافةً إلى بدر شاكر السيَّاب ونازك الملائكة. ويحتلُّ البياتي في اعتقادي المكانَ الثاني بعدَ السيَّاب من حيثُ الأهمِّية والدور الريادي الذي لعبهُ في تطويرِ الشعرِ العربي الحديث.
خصوصاً في فترةِ الخمسينات.. أما بعد ذلك فقد انطلقَ وحلَّقَ عالياً في تجربتهِ الشعرية.. بعدَ احتكاكهِ بحركة الشعر العالمي وتأثرهِ بها.
حينَ أخلى السيَّابُ لهُ الساحة الشعرية برحيلهِ عام 1964 فجدَّدَ في نظري في مضمونِ القصيدة وأعطاها بعداً إنسانياً أكثر.
نستذكرهُ اليومَ بعدَ مرورِ عشرِ سنوات على رحيلهِ عن عالمنا فنسترجعُ تلكَ الضجة الهائلة والدويَّ الكبير اللذين أحدثهما برحيلهِ. فنحسُّ ونحنُ نعيدُ تقليبَ صفحاتِ الماضي ونُمعنُ النظرَ في عناوينِ ذاكَ الحدثِ المفجعِ مثلِ( رحيلُ آخر العمالقة) و( انهيارُ آخر ناطحةِ سحابٍ للشعرِ العربي) وغيرها الكثير.. نحسُّ بأننا أمامَ تجربةٍ شعريةٍ عظيمةٍ أرهبَت حتى السيَّابَ في أوائل الخمسينيَّات.
وجعلَت صوتَ البياتي ندَّاً قويَّاً ومنافساً يُحسبُ لهُ ألفُ حسابٍ في الخصومةِ الشعريَّةِ وأيضاً في الزمالة اللدودةِ في اجتراحِ القصيدةِ الحرَّة للسيَّاب ونازك.

خلالَ تعرُّفي على البياتي عام 1998 وقراءتي لدواوينهِ كلِّها في مرحلةٍ لاحقةٍ على تعرُّفي بخصمهِ الألدِّ السيَّاب لم يجذبني كثيراً حينها.. فقد اكتشفتُ سرَّهُ بعد عدةِ سنوات من قراءتي الأولى لهُ. في البدايةِ وجدتُ لغتهُ مختلفةً عن لغةِ بدر.. وكانت تتمحور حولَ الهمِّ الإنساني وتنفخُ في بوقٍ ثوريٍّ حميم وشموليٍّ جامعةً أطيافاً ذاتيةً رفيعةً في أفقٍ إجتماعيٍّ وإنسانيٍّ رحبْ.
فالبياتي عرفَ منذُ البدايةِ أنَّ عليهِ أن ينطلقَ إلأى سماءٍ العالمِ وينعتقَ بالألوانِ الكثيرةِ محرِّراً ذاتهُ من قيودِ الرومانسيةِ والذاتيةِ التي أثقلتْ روحَ السيَّاب.
كانَ عليهِ أن يسبحَ في فضاءٍ جديدٍ لم يسبقهُ إليهِ أحدٌ.. فها هو يسافرُ إلى عاصمةِ روسيا موسكو ويزورُ دولَ شرق أوروبا وإسبانيا ومصر (التي مكثَ فيها زمناً) وأمريكا اللاتينية طامحاً في فتحِ كوَّةِ الطائرِ الحبيسِ في قلبهِ منذُ الفِ قرن.

تعانقَ البياتي فكريَّاً وروحيَّاً مع شعراء عالميين كثر من بينهم ناظم حكمت وبابلو نيرودا وأكتافيو باث ورافائيل ألبرتي وغيرهم من مثقفي الشيوعية وثوَّارها وعلى رأسهم تشي جيفارا. ولا أنسى علاقتهُ بالروائي الكولومبيِّ الكبير والمتوَّجِ بنوبل جابرييل غارسيا ماركيز وإشادةِ الأخيرِ بقيمتهِ ومنزلتهِ في أكثر من مناسبة ومهرجانٍ أدبي.
اكتشفتُ فيما بعد أنَّ البياتي يؤثِّر في القارئِ أكثر من سواهُ من الشعراء العرب المعاصرين. فأصوات البياتي قلَّما تغيبُ من ذاكرة أيِّ شاعرٍ عربيٍّ ستينيٍّ أو سبعينيٍّ أو حتى ثمانينيٍّ .. حتى أنا لم أستطع أن أتفلَّت بسهولةٍ من تأثيرِ جملتهِ الشعريةِ وسحرِ تعابيرهِ الطاغي.
مرحلةُ الشاعر الذهبيةُ تفتَّحت ما بعدَ سنواتِ الستين خصوصاً في السبعينيَّات فما قبل هذهِ المرحلة كانَ البياتي يميلُ إلى سهولةِ القصيدةِ وقصرِ جملها بالرغمِ من براءةِ ألفاظهِ فقد كنَّا نجدُ في ثمارهِ بعضَ الفجاجةِ ربمَّا لكثرةِ قوافيهِ التي كانت توحي بالسجع وتبعثُ على الملَلْ.. وأيضاً لتكرارهِ الجملة الواحدة في قصائد كثيرة. مرحلتهُ التدويرية أنضج بكثير وأكملُ وهيَ التي غيَّرت المفهوم السائدَ بالنسبةِ للقصيدة الوجودية الرازحة تحتَ أعباءِ الحياةِ والمشرَّدة في سهوبِ العالمِ الثالث. البياتي شاعر شموليٌّ بالمفهوم الحديث والدقيق للكلمة. ولكنهُ أحد أعظم ممثلِّي تيَّار السهل الممتنع في القصيدة العربيةِ الحديثة.

يأتي ولعُ البياتي بالصوفيين من شعورٍ عميقٍ بانتمائهِ لتراثهِ الديني وارتباطهِ بالموروث الجماليِّ الضخمِ للشعرِ الصوفي. فقد أغرمَ بالحلاج وابن الفارض وابن عربي وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي منذُ نعومةِ أظفارهِ. ولم يضفي عليهِ هذا التعلُّقُ بهولاءِ إلاَّ قدسيةً وأصالةً وبريقاً وبهاءً في عيونِ مجايليهِ وأندادهِ من الكتَّابِ والشعراءِ العالميين. فهو لم يختر أقنعتهُ عبثاً ولم يتقمَّص شخصيات أبطالهِ من بابِ اللهو والتلاعبِ والمجانيَّة. فهو يحملُ من وضاحِ اليمن وحافظ الشيرازي وبابلو نيرودا ولوركا الأشياءَ الكثيرة. حتى أنهُ في النهايةِ قد انكسرَ تحتَ أعباءِ أشواقِ ابنِ عربي أستاذهِ وشيخهِ على مقربةٍ منهُ في دمشق منفاهُ وقدَرهُ.

ولا أردِّد الآن إلاَّ ما ردَّدتهُ منذ عشر سنوات في مرثيةِ شاعرِ الحبِّ والمنفى والعذاب والأمل:
ومن بعد سبعينَ عاماً من الحبِّ والجوعِ والذكرياتْ
يعود الغريبُ إلى دارهِ من بلادِ الشتاتْ
ومن بعد هذا النـزيفِ الحرورِ بصحراءِ نجدِ
وثلجِ سيـبيريا يسافرُ من بحر وجد لوجدِ
يعودُ السنونو إلى وكرهِ
يحطُّ الرحالَ ويُلقي ذخيرةَ شوقٍ قديمٍ على ظهرهِ
سلوهُ لماذا يعانقُ صمتَ الدجى والبحارْ ؟
ويرقدُ في جفنِ هذا النهارْ ؟
سلُوهُ وفي مقلتيهِ الجوابْ
كضوءٍ بهِ يستنيرُ الضبابْ
لماذا يصيرُ لهيبُ العذابْ
رماداً ويُطوى جناحُ السفارْ ؟
ويبردُ كالثلجِ قلبُ الحياةْ ؟
وتنطفىءُ النارُ...
تخبو قناديلُها الذكرياتْ ؟



***************


محمد علي شمس الدين..
بين لغةِ الحلمِ وهاجسَ الحداثة





أُعجبتُ بكلامهِ عندما رأيتهُ يتحدثُ على فضائيّةٍ سعوديةٍ عن سرياليةِ المتنبي..قالَ أنَ بيت المتنبي المشهور( نحنُ قومٌ ملجنِّ في ثوبِ ناسٍ فوقَ طيرٍ لها شخوصُ الجمالِ ) أروعُ ما لدى العرب من تراثٍ سرياليِّ..ولو عاصرَ دالي المتنبي لرسمَ هذا البيت رسماً يدهشُ كلَّ نقَّادِ الفنِ الحديثْ. كانَ ذلكَ منذُ سنواتٍ عدَّة.. كانَ الشاعر ذكيَّاً في طريقةِ نقاشهِ وعرضهِ لمشكلاتِ الشعرِ العربي الحديث.. ومراوغاً في الإجابةِ على الأسئلةِ الشائكة ومحدِّثاً لبقاً وشاعراً يملكُ ثقافةً استثنائيةً فذَّةً لا زالت تبهرني وتدهشني حتى اليوم.

كانَ يتدفَّقُ في كلامهِ كالنهرِ البريء وكنتُ في شوقٍ مُشتعلٍ بكلِ حرائقِ الشعرِ لسماعهِ.
ولا أُنكر أنني متأثِّرٌ بالشعرِ اللبناني تأثُّراً جارفاً وخصوصاً بالجنوبي منهُ وشاعريهِ الجميلين محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع.. اللذين خلخلا بقصيدتهم التفعيلية وتجديدهم الجمالِّي الجريء مسلَّمات القصيدة العربية الحديثة وغيَّرا مسارها بقوة كأنهما أحفادُ بروميثيوس وحملةُ مشعلهِ المقدَّس في الأرضِ المظلمة.أو أحفادُ ديكِ الجنِّ الحمصي في بلادِ الشام. ديكِ الجنِّ الحمصي الذي تغنَّيا بهِ وبعشقهِ وغيرتهِ وجنونهِ طويلاً.

محمد علي شمس الدين شاعر يدينُ لهُ فنيَّاً وعلى مستوى بناءِ القصيدة الحديثة الكثيرُ من الشعراءِ العرب فهو يعرفُ ماذا يريدُ من الشعرِ ومن نفسهِ أيضاً. تعرفتُ إليهِ عبر دواوينهِ الشعرية التي لا تتركُ القارئ في اطمئنانهِ الشعري أبداً وتدفعهُ للقلقِ المضني والبحث عن الآفاقِ الجديدة المجهولة.
كنتُ قد قرأتهُ بنهمٍ ضارٍ قبلَ عدَّةِ سنواتٍ فأدركتُ انني أقفُ أمامَ قامةٍ سامقةٍ وضاربةٍ في أقصى سماءِ اللغة. لمستُ في كتابتهِ الشعريةِ نموذجاً شعرياً حداثوياً نقيَّاً من الزوائدِ والشوائبِ ومكتوباً بحساسّيةٍ عاليةٍ وتركيزٍ جمٍّ قلما وجدتهما عند غيرهِ من الشعراءِ المعاصرين. فهو يتغلغلُ بحسِّهِ الصافي وذكائهِ الفطري إلى جوهرِ الحداثةِ وسرِّها الدفين متشرِّباً بها حتى النخاع. ومشبعاً ظمأ فؤادهِ وروحهِ التي ترفرفُ في محيطٍ يلهثُ شعراؤهُ في شمسِ الصحراءِ العربيةِ القاسية.
أظنُّ أنَّ الكثير من الشعراءِ العربِ تأثروا ظاهرياً بالحداثةِ المستوردةِ من الغربِ وربما بأفكارها أيضاً ولكنهم ظلَّوا بعيدينَ عن نفسِّيتها والخوض في غمارها ذلكَ أنهم لم يرضعوا لبانها في المهادِ ولم يدرجو على هواها في الطفولة وإنما تلَّقوها عن مدارسَ ومنظرِّين وشعراءٍ تأثروا بها أكثر من معانقة نارِ حقيقتها. ومعرفةِ خفاياها.
ولا أريد أن أشيرَ إلى شعراءَ كأدونيس وعبد العزيزِ المقالحِ هنا وهم في نظري مجدِّدون في الأشكال الشعرية أكثر منهم مجدِّدين في المضامين. بل أكتفي بالقولِ أنَّ شعراءَ الحداثةِ المرموقينَ بذلوا قصارى جهدهم لكي يصلوا إلى حالةِ الرضى النفسي حولَ تجاربهم الشعريةِ. ومنهم محمود درويش وسعدي يوسف ونزيه أبو عفش وحسب الشيخ جعفر ولكنهم لبعدهم عن منابعِ الثقافةِ الفرنكفونية في فترةٍ مبكِّرةٍ على تفتُّحهم الشعريِّ أخفقوا في كتابةِ قصيدةٍ عربيةٍ ينطبقُ عليها مقياسُ الحداثةِ بكلِّ الجماليَّاتِ والعناصرِ المتعارفِ عليها.
يقول حولَ سؤال عن الماضي في شعرهِ وتجليَّات الحياةِ الجميلة : ( عمليّة القطع مع السيرة ليست سهلة ولا صحيحة. الحداثيّون في الغرب Modernists قطعوا مع الماضي، حتى إن (ماياكوفسكي) اعتبر الرومنسيّة كعضو مريض في جسم حيّ. ايضاً (يوجين يونسكو) المسرحي السوريالي الفرنسي، كتب هجائيات لفكتور هوغو. ثمّ استيقظ العالم على ما بعد الحداثة ليجد أن الحداثيين لم يفهموا جدل العلاقة مع الماضي. لا شيء يموت. كلّ شيء يولد. الولادة هي تجدّد. كلّ قصيدة تخزن كلّ الشعر. لا يؤسّس تجاوز على أي جهل. المعادلة هنا دقيقة جدّاً وخطيرة.)


شمسُ الدين شاعر ثقافةٍ مركبَّة كما يقولُ عنهُ المستشرق الإسباني بدرو مارتينيز مونتافيز فما أن فتحَ عينيهِ على دنيا الشعرِ إلاَّ وجدَ نفسهُ متوفِّراً على منابعِ الكبارِ من الشعراءِ النبوءيونَ أمثال ملارمه وبودلير ولوتريامون ورمبو هؤلاء اللذينَ جعلوا للقصيدةِ رؤى مجنَّحةً ولما يتصِّلُ بها من طقوسٍ لكتابتها أداةً لفهمِ واقعِ الحديدِ والذهب.. وخيطاً رفيعاً من النورِ يربطهم بالوحيِ ولغةِ الأحلامِ الشفيفِ الرفيعة.
لا أعرفُ سبب قلَّةِ انتاج الشعراءِ اللبنانيين وعلى رأسهم محمد علي شمس الدين الذي لم ينتج نصف ما أنتجهُ مجايلوهُ فلهُ عشرة دواوين صغيرةِ الحجمِ كبيرةِ القيمةِ أولها( قصائد مهرَّبة إلى حبيبتي آسيا) وآخرها (الغيومُ التي في الضواحي) الصادر عام 2008 الذي نلمسُ فيهِ لوعةَ ومرارةَ حرب تموز عام 2006ولا يفارقنا شبحُ الحزن على ما حصلَ بالجنوب.ولهُ أيضاً ثلاثةُ كتبٍ نقديةٍ هي رياح حجرية ..والطواف.. وحلقاتُ العزلة. ويحضرني الآن أيضاً الشاعر اللبناني أنسي الحاج فقد بنى مجدهُ الشعري على أقَّل من سبعةِ دواوين.فالمسألة مسألة كيف لا كم في الكتابة.

منذُ ديوان شاعرنا الأوَّلِ ( قصائد مهرَّبة إلى حبيبتي آسيا) الصادر عام 1975 وهو في ارتقاءٍ تعبيريٍّ مستمرٍ نحوَ الكمالِ المجازيِ. فهو يشدِّد كثيراً على الناحيةِ الصورية والحسيَّة في قصيدتهِ. ونجدُ في ديوانهِ هذا أنهُ منذُ بداياتهِ لا يقولُ كلاماً مجانياً ولا يحفلُ بالشعاراتِ المستهلكةِ ولا بالتقريرية. هناكَ فقط ايحاءٌ شعريٌّ فذٌّ وتراكيب منحوتةٌ من أقصى الروح.
نراهُ بعدَ ذلكَ يصعدُ في أُفقٍ تخييلي مزركش بالألوانِ الضاريةِ وفي اتجاهٍ عموديٍ في أعمالهِ اللاحقةِ مثل( أما آنَ للرقصِ أن ينتهي؟) فنلمسُ هذا التمرَّدَ الخطيرَ على ترسُّباتِ القصيدةِ العربيةِ من أواخرِ الستينياتِ إلى يومنا هذا.ونجدُ أيضاً التبرَّم الواضحَ بأساليبِ اللذينَ يرتكزونَ على التراثِ من غيرِ أن يفهموا متطلباتِ الكتابة الشعريةِ الجديدةِ ووعيها العميق. فهم لا يعترفونَ بأنَّ وراءَ الليلِ التتريِّ شمساً للحرية.
فالقصيدةُ مشروعُ مغامرةٍ وتحدٍّ دائمٍ وليسَ في الشاعرِ الإشكاليِّ أيَّةُ صفةٍ تدعو إلى القناعةِ والكفافِ على مستوى الخيالِ والرؤيا.. فهو في بحثٍ مستمرٍ عن الأمثل والأجدر.
وفي قلقٍ وجوديِّ كأنَّ الريحَ تحتهُ وكأنهُ على سفينةِ السندبادْ.
إذن نحنُ أمامَ شاعرٍ عربيٍّ اشكاليٍّ يبلغُ في كتابتهِ أقصى حدودِ الاشكاليةِ والجمالِ وما بعدهما تغني قراءتهُ كلَّ بضعةِ شهور عن عشراتٍ غيرهُ ولهذا السبب أجدني أعودُ إليهِ كُلَّ بضعةٍ شهورٍ لأقفَ على مصادرِ الرحيقِ والشهدِ. لا لشيٍ فقط لجدَّةِ معانيهِ وكثافةِ صورهِ وأصالتهِ. وهذا ما حدا ببعضِ النقادِ العربِ إلى الإشادةِ بأهميةِ تجربتهِ والإشارةِ إلى قدرتهِ غيرِ المسبوقةِ على استعمالِ الرموزِ والأساطيرِ وتوظيفها بالشكلِ اللائق.

فهو قيس وجميل وكلُّ العشَّاق العرب في آن واحدٍ وهو يستندُ على التراثِ العربي بقدرِ ما يستندُ على التراثِ الغربي.. يقولُ في آخرِ دواوينهِ (الغيوم التي في الضواحي) في قصيدة (وجهٌ لليلى) ويرتكزُ على ما تبقَّى من الضوءِ في عينيِّ ليلى العربيةِ كما ارتكز أراغون على عينيِّ إلزا من قبلهِ:
باب ليلى
كان عشقي لها يعذبني
وموتي جميلا
على قاب قوسين من بابها
يصطفيني
تقول:
وهل أنت قيس العليل؟
أقول: نعم
وأضيف: القتيل
إن ليلى
التي لا تزال هناك
محجبة لا تراني
تحيط بها نسوة من حديد
ورجال عبيد
ونسر عجوز على بابها
يرصد القادمين إليها
فيا أهلها في العراق
اسمعوا زفرتي
وهي تمضي مع الريح
أو دمعتي
وهي موصولة بالفرات الجريح
من الشام تمضي
مواكب عشقي
وتحمل راياتها
في الفلاة
وتحدي لها
بالغناء الحداة
ولكن ما حيّر العقل
حتى براه الجنون
أن ليلى
-التي مت في حبها ألف عام-
تخون


أعتقدُ أننا نحنُ العرب محظوظونَ بشاعر مثل محمد علي شمس الدين متمِّم مسيرة بدر شاكر السيَّاب الذي أحبَّهُ وتأثَّرَ بهِ ولكنهُ اختلفَ عنهُ.


********





مُعضلةُ الصَداقةِ اللدودةْ





تتسِّمُ العلاقةُ بينَ أدبائنا في أغلب الأحيانِ بما يمكن أن نُطلقَ عليهِ تعبيرَ الصداقةِ اللدودةْ. تلكَ النابعة من عدمِ ثقتهم بعضهم ببعض. وبغيرتهم المقيتةِ الجوفاءِ وحسدهم المَرَضي الناتجِ عن ضعفٍ في إنسانيتهم ووسواسٍ يسكنُ مخيَّلتهم.
وهذا ما يلمسهُ ويحسُّهُ ويراهُ بأمِّ عينيهِ كُلُّ من يتعاطى هذهِ المهنةَ الملعونةَ أو حرفةَ جدِّنا الجاحظ. ولا يقتصرُ هذا المصطلحُ الضيِّقُ الجوانبِ على فئةٍ معيَّنةٍ من الناسِ. فمن السذاجةِ أن نظنَّ ذلكَ. بل هو يمتدُّ حتى يطالُ المثقَّفينَ والمبدعينَ والفنانينَ وحتى أصحابَ المقامات العاليةْ. وحتى الإخوةُ اللذِّينَ سكَنوا داخلَ رحمٍ واحدٍ لا يسلَمونَ من نارِ هذهِ النـزعةِ الناقصةْ.
ولقد أعترفُ أن خصلةَ الحسدِ والغيرةِ لا يكادُ يسلمُ من لوثتها إنسانٌ إلاَّ من عصمَ اللهُ. فكُّلُّ العلاقاتِ الإنسانيةِ محكومةٌ في ما وراءِ كواليسها في النهايةِ لمشاعرَ متضاربةٍ وعواطفَ سوداءْ.
ولا أعتقدُ أنَّ السببَ الذي يجعلنا نضمرُ مثلَ هذهِ الأحاسيسِ التي لا تسمنُ ولا تُغني من جوعٍ جديرٌ بشكلٍ أو بآخرَ بالوقوفِ عندهُ أو ربمَّا هو مهمٌّ ومصيريٌّ في حياتنا ليجعلنا نتنَّكرُ بعدَ طولِ عشرةٍ لأقربِ المقرَّبينَ إلينا ونطعنُ في ظهورِ أحبائنا. ربمَّا ينبعُ هذا السببُ من الإرثِ الأبديِّ الخاسرِ الذي ورثناهُ عن جدِّنا قابيلْ حينما قتلَ أخاهُ مدفوعاً بغرائزهِ الجهنمِّيةْ.
يحدثُ عادةً أن تجلسَ بصحبةِ من يدَّعونَ حبَّكَ أمامكَ وهم في حقيقةِ نفوسهم وطوايا قلوبهم كاذبونَ وما وهم صداقتهم لكَ إلاَّ كحبالٍ من سرابٍ يحاولونَ بواسطتها التسلَّقَ والوصولَ إلى ما يريدونَ من مآربَ صغيرةٍ رخيصةْ.
أشدُّ ما يُزعجني في أصدقائي الحسدُ على ما أنا باكٍ منهُ كما قالَ المتنبي ذاتَ يومٍ لأنهُ أدركَ بفطنةِ قلبهِ أنَّ العربَ بالذاتِ يُسيطرُ عليهم منطقُ القبيلةِ ولا يستطيعونَ الفكاكَ مهما فعلوا من عقليَّةِ الجاهليةِ الغابرة.
إنَّ رغمَ ما يُزيِّنُ نفوسَ الشعراءِ والأدباءِ من طيبةٍ وحُبٍ للخيرِ والتسامحِ فهم لا يزالونَ مدفوعينَ إلى عصورِ الظلمةِ الشعورية. ورغمَ ما يملأُ حدائقَ قلوبهم من أزهارٍ وطيرٍ وأضواءِ نجومٍ زرقاءَ كنجومِ الشاعرِ الفرنسي أرثور رمبو فهيَ لا تخلو عادةً من بعضِ العناكبِ السوداءِ القاتلةِ اللسعاتْ.كنتُ دائماً أعتقدُ أنَّ انهزاميتنا المُتجَّذرةَ في أعماقِ التاريخِ والماضي هيَ التي تدفعُ كاتباً صديقاً متخفيِّاً وراءَ اسمٍ مستعارٍ ليهاجمكَ على موقعٍ مبتذلٍ على شبكةِ الإنترنت من دونِ أيِّ ذنبٍ إقترفتهُ. فقط لنشر قصيدةٍ أو مقالٍ أو ربمَّا نجاحكَ بنشر مجموعةٍ شعريةٍ انتظرتْ طويلاً.
هشاشةُ العلاقةِ بينَ الأدباءِ لا أشبِّهها إلاَّ بإشكاليةِ العلاقةِ بينَ متنافسينَ في كُلِّ شيءٍ حتى في أحلامهم ويقظاتهمْ. اشكاليَّة محكومةْ أيضاً بالأهواءِ والأمزجةِ الشخصيَّةِ. فيا حبَّذا لو ترَّفعْنا عن كُّلِّ هذهِ الصغائرِ ونظرنا إلى أعمقِ ذواتنا وطهَّرْنا مرايانا من الأنانِّيةِ والكُرهِ والرغباتِ المُبتذلةْ.


******************



ألبحثُ عن الأوتوبيا





أُصارحكَ القولَ أيُّها الآخرُ يا أخي.. يا صديقي وشاعري القريبَ إلى حافةِ القلبِ كحبَّةِ اللؤلؤِ والمملوءَ بالشَجَنِ الدافئِ كمياهِ الينابيعِ الجوفيَّةِ.. أنَّني منذُ كنتُ وأنا أبحثُ عنكَ كمن يبحثُ عن خيطِ النورِ في غابةِ الظلامِ وأتلَّمسُ نبضَ شعركَ في الريحِ الزرقاءِ العقيمةِ.. لقدْ كنتَ قنديلي في البداياتِ ونجمةَ ليلي الدجوجيِّ البهيمْ.
كنتُ أسألُ عنكَ عبثَ الروحِ وضياعها وأركضُ خلفَ سرابكَ اللا متناهي المضيءِ بماءِ السحرِ والنبوءة.. وعندما كنتُ أغرقُ في خضَّمِ ألمي وأسئلةِ وجودي أجدكَ يداً من حريرٍ خضيرٍ تمتدُّ لي كتلويحةِ الشمعِ الأخضرِ.
وكم مرَّةً شحذتُ همَّتي التي فتَرَتْ مراراً وتكراراً لكتابةِ قصيدةٍ جديدةٍ حبلى بالنورِ والحدائقِ البابليةِ.. وكنتَ لي حينها أجنحةَ النسرِ في مواجهةِ العاصفةِ الرعناءِ.. والشراعَ القزحيَّ في مواجهةِ التيار الهادر.
كانَ كلامكَ يشبهُ عطفَ وحدبَ الأبِ على ابنهِ الضَّالِ في متاهةِ الحرِّيةِ والحُبِّ الخائبِ.. معكَ أعرفُ أنَّ الحياةَ لا كما يُصوِّرها لنا الآخرونَ أنَّها أوتوبيا عادلة ملأى بالفراديس وكنتَ تضحكُ في أقاصي روحكَ سراً وتقولُ أنَّهُ ولا حتى مليونَ شاعرٍ كفرجيلِ أو هوميروس أو محمود درويش أو المتنبِّي أو ربمَّا ملارمه أو شكسبير أو يانيس ريتسوس بقادرينَ ولو للحظةٍ واحدةٍ وقفَ هذهِ المأساةَ أو تحويلَ هذهِ الحياةَ الرجيمةَ إلى أوتوبيا شاعريَّةٍ عادلةٍ تنادي بالقيَمِ الساميةِ ولكنَّكَ كنتَ تقنعني بأنَّ مرضَ الكتابةِ والشعرِ قدرٌ من السماءِ لا مفرَّ لنورسِ القلبِ منهُ ولا مناصَ لفراشاتِ الندى والأقحوانِ من نارهِ الملساءِ الحمقاءْ.
ألشعرُ إذن قدرٌ من السماءِ وعلينا نحنُ العبيدُ البسطاءُ أنْ نتقبَّلهُ نعيماً كانَ أو جحيماً.. شوكاً أو زنبقاً.. مطراً ناعماً أو أحجارَ سجيِّلْ.
أنتَ يا آخري الذي لمْ أستطع الإفلاتَ منهُ... من أغراني بهذهِ اليوتوبيا الكاذبة والخُلَّبِ كبرقِ الحياةِ... أنتَ لا أحدَ غيركَ من دفعني على مركبِ سندبادَ لأعيدَ فصولَ روايةِ يوليسَ وأعيشَ العمرَ كلَّهُ على قلقٍ كأنَّ ريحَ المتنبِّي من تحتي ومن فوقي وعن شمالي ويميني وفي قلبي وروحي.
لا تزالُ كلمتكَ ترنُّ رنيناً خفيفاً في سمعي وترسبُ في قاعِ القلبِ كالدرةِ الثمينةِ في جوفِ البحرِ الصامتْ.... أنا في شوقٍ ربيعيٍّ خاسرٍ لتلويحةِ مراياكَ المندثرةِ وأنهمرُ كالضوءِ على عالمي الداخليِّ وجسمِ الأوتوبيا.. وليذهبْ ندمُ ديكِ الجنِّ على حبيبتهِ وردَ إلى الجحيمْ... وليصيرَ شعرُهُ هلاماً لكلامي.
مرَّةً قلتَ لي ما معناهُ أنَّ القصيدةَ هيَ مركبٌ سكرانٌ من مراكبِ رمبو ربَّما يحملكَ إلى الفردوسِ أو إلى الجحيمِ.. القصيدةَ شتاءٌ من المجازِ الحُرِّ مُبلَّلٌ بالأحاسيسِ الغريبةِ والاستعاراتِ المُجنَّحةِ.. ودربٌ مسكونٌ بالنورِ والندى وعبقِ الأرجوانِ إلى الأوتوبيا الموعودةِ المُعلَّقةِ في أعلى اشتهاءاتنا الخاسرةِ.. تلكَ التي كانتْ كانت قابَ قبلةٍ من دمي ولمْ أنجحْ البتَّة باحتوائها ساعةَ احتضانِ ضبابها اللا مرئِّيْ والمخاتلِ مثلَ نهرٍ يختبئُ في السماءْ.
منذُ تلكَ اللحظةِ وأنا أبحثُ عنكَ وعنها في خلايا دمي وفي قصيدتي ورمادِ عنقائها وترابِ سمائها البلوريِّ بلا فائدة.. أبحثُ عنكما فلا أرى غيرَ ظلِّكَ رابضاً على مساحةِ الشعرِ والحدائقِ والشتاءِ... ولا أرى غيرَ تطايرِ أوراقها المُلوَّنةِ في السماءِ السابعةِ ولا أحسُّ إلاَّ بانسرابِ شعاعها من وصايا دمي وأقاصي هيامي.
نمْ أنتَ يا صديقي وهيَ هناكَ في البرزخِ اللا محسوسِ تماماً كالقصيدةِ التائبةِ المحمولةِ إلى أعلى فراديسِ انتظاري... أمَّا أنا فلا لن أحطَّ رحالَ حلمي ولن أصادقَ غيرَ ريحِ جديِّ المتنبِّي... سأصعدُ أعلى هاويةٍ فيكما وأصرخُ كالذئبِ الضاري في ليلكما الحميمِ... وأبحثُ عنكما إلى الأبدْ..... إلى الأبدْ.



************************


الطيِّب صالح يهاجرُ جنوباً




لم أقرأ رائعة الطيِّب صالح موسم الهجرة إلى الشمال إلاَّ مؤخَّرا قبلَ عدةِ شهور وكم عاتبتُ نفسي لذلكَ.. منذ سنينٍ وأنا أتلهَّفُ لقراءتها ولم أفعلْ رغم ما كنت أسمعُ عنها من أهميَّةٍ أدبيةٍ رفيعة منذ سنواتٍ عديدة وأنها تضيفُ لقارئها الكثير.. حتى أنها اختيرتْ عام 2002 ضمن أهمِّ مائة رواية عالمية وقد اشترك مئةُ ناقد وكاتب عالمي من أكثر من 50 دولة لتقييمِ الأعمال المختارة.
موسمُ الهجرةِ إلى الشمال روايةٌ تستحوذُ على كلِّ مشاعركَ بلا استئذانٍ وتضربكَ كأنها إعصار إفريقيٌّ قادمٌ من الشمالِ حيثُ عاشَ بطلها وغامرَ وقاربَ بينَ جسدِ أوروبا البضِّ الفائرِ المنادي بألفِ فمٍ المشتعلِ بالرغباتْ وجسدِ أفريقيا الذائبِ شوقاً ولهفةً إلى حريَّةِ المعرفةِ وحريَّةِ الحبِّ والحياةْ.
تعتبر هذه الرواية الخالدة من أروع الروايات العربية التي تناولت الصراع الإنساني بين عقليَّة الغرب وروحانية الشرق حتى أن بعض النقاد ومنهم الناقد المصري رجاء النقَّاش قد تعاطفَ جدا مع هذه الرواية بزعمِ أنها فريدةٌ في موضوعها وطريقة سردها وفلسفتها بين الرواياتِ العربيةِ الأخرى المعاصرةِ لها حينها. وقالَ أيضاً أنَّ لها بعداً خفيَّاً لا بدَّ من الوصولِ إليه.
بينما ربطَ البعض بينها وبين توارد أفكار أو خواطر في روايات أخرى مثل قنديل أم هاشم للكاتب المصري يحيى حقِّي وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم . والحيُّ اللاتيني لسهيل ادريس وقارنَ البعض بينها وبين مرتفعات وذرنغ للكاتبة الإنجليزية إميلي برونتي .
بطلُ رواية الطيِّب وهو مصطفى سعيد شخصية عميقة وغامضة تجمعُ في كيانها العبقري والشرقي الرومانسي والإفريقي الباحث عن ذاتهِ والرجلُ المتمرِّد.
ويقول الطيِّب صالح أن بعض النقاد والدارسين وجدوا في الرواية ثقافات من مختلف الأجناس ولمسوا أيضاً فلسفات لشعوبٍ كثيرة ولم يستطيعوا أن يجدوا أثرَ المتنبي كبريائهِ العربيِّ فيها. أي لم يعثروا على العنصر العربي في تكوينها.
يبدو الكاتب في روايتهِ تائها يبحثُ عن نفسهِ في كيانِ غيرهِ. كبحثِ مصطفى سعيد عن أسئلتهِ في علاقتهِ بجين موريس... وفي أجسادِ نسائهِ الأخريات اللواتي تهاتفنَ على سمرةِ جلدهِ وبريقِ عينيهِ وحدَّةِ عقلهِ وطقوسهِ السحريةِ الغرائبيَّةِ.
لا أريدُ أن أثقلَ الروايةَ بالبعدِ الجنسي الذي اعتمدتهُ الرواية في بعض تصريحاتها وتلميحاتها هنا وهناك على لسان بنت مجذوب أو ود الريِّس . فهنا يشفعُ للكاتب جمالُ تصوريهِ الواقعيِّ للحاضر السوداني الرامز إلى الشرق العربيِّ بكلِّ ما يحتوي من خرافات وسحر وضلالات وتجاوزات.هيَ مواجهة بينَ انسان العالمِ الثالثِ بكلِّ ما لديهِ من أدواتٍ وخصائصْ وبينَ انسانِ العالمِ الأوَّلِ المتقدمِ .
في حديث للطيَّب صالح يقولُ فيهِ أنه التقى بجين موريس بطلةِ روايتهِ موسمِ الهجرةِ إلى الشمالْ واحتسى معها القهوة في متحف الفنون بلندن. وهناكَ دارَ بينهما حديث طويل حولَ الحضارة الغربية والشرقية وأسباب الخلاف وأوجهِ الشبهِ وحولَ مفاهيمِ الحريَّةِ والحبِّ. وافترقا بعد ذلك ولم يلتقيا. وكان ذلكَ الحديث هو الخيط الرفيع الذي راحَ الكاتبُ ينسجُ بهِ أولى أحلامِ الروايةِ العظيمة. التي كانت نقطة تحوُّل في الروايةِ العربية الحديثة .
موسمُ الهجرةِ إلى الشمال رغم رصانةِ لغتها العربيةِ وجدَّتها روايةٌ حديثة بكلِّ ما في الكلمةِ من معنى ذلك أنها تلتصقُ التصاقاً وثيقاً بالواقعِ من حيثُ الصور والإيحاءِ وتسلسلِ الأحداث بينما هيَ تبحثُ موضوعاً فلسفياً رمزيَّاً وتحملُ أفكاراً ساميةً تعبرُّ عنها بزخمٍ وحسٍّ كونيين من منطلق الحبِّ والمعرفةِ واللذةِ والموتِ وهذا ما منحها عالميتها وشهرتها إذ تُرجمتْ إلى أكثر من ثلاثين لغةٍ حيَّةٍ . وأظنها كانت جديرة أن توصلَ صاحبها إلى مصافِ نوبل التي زهدَ بها لتطَّفلِ العرب عليها حسبَ قولهِ.
إذن الطيِّب صالح هو مصطفى سعيد أو ربمَّا هو جزءٌ لا يتجزَّأُ منهُ. أو يجوزُ القولُ أنَّ مصطفى سعيد شخصيةٌ مثيرةٌ للجدلِ من صنعِ الطيب صالح قد جعلَ منها خلطةً غريبةً مزجَ فيها تجاربَ من عرفهم من سياسيين وأدباءْ وأصدقاء سودانيين في لندنْ.
في هذهِ الشخصيَّةِ استلهمَ الكثير من الأفكار الناجحةِ أدبيَّاً وعلى المدى البعيد.
وهذا رأيي الشخصي.. أذكرُ منها تمسكَّهُ بواقعهِ وحضارةِ شعبهِ وتمازجَ الأضدادِ في موضوعاتهِ والبحثِ عن وسيلةٍ جديدةٍ يعرضُ من خلالها حلمَهُ باكتشافِ الغير وهو في قمةِ اعتدادهِ بنفسهِ وحضارتهِ وفي أوجِ طموحهِ ورغبتهِ المتأججةِ المُحرقةْ.
لا تهمُّني تفاصيل الرواية بقد ما يهمُّني مغزاها المُبهم والمفتوح على الاحتمالات فلا هيَ رمزية في نظري لا هيَ واقعية صرفة هي تمازج بين هذا وذاك وإناء شفَّاف عرفَ كيفَ يستعملهُ الطيِّب بحيثُ يصبُّ في داخلهِ ما يشاءْ من رؤيةٍ جديدة مفعمةٍ بالأملِ والندِّيةِ تجاهَ الغربِ المتعجرف وعنجهيتهِ واستعبادهِ للرجلِ الأسودِ وموطنهِ أفريقيا . هيَ وثبةٌ في وجه الظلمِ والإستعلاءِ الغربيينْ .وردُّ اعتبارٍ للكرامةِ الإفريقية المستلبةِ منذُ قرونٍ عديدة على يدِ ذاتِ الجمالِ والحضارةِ والسطوةِ والنفوذِ ( الإمبراطورية البريطانيةْ ) .
عودةُ مصطفى سعيد إلى الوطن بعد مغامراتهِ العاطفيةِ ورحلتهِ العلميةِ العريقةِ في بلادِ الضبابِ فيها الكثيرُ من الغموض وموتهُ في قريتهِ فلاحاً فقيراً يجعلُ الروايةَ من أعصى الرواياتِ وأعظمها في آنٍ واحد. بل أنَّ موتهُ على ترابِ وطنهِ أخيراً يذكرُّني اليومَ بهجرةِ الطيِّب صالح الأخيرةِ إلى وطنهِ جنوباً بعدما ملأَ الدنيا وشغلَ الناسَ ووطنَّ النفسَ لينامَ قريرَ العينِ في ظلِّ نخلةٍ عاشقةٍ على ضفةِ نهرِ النيلِ الذي أحبَّهُ بكلِّ كيانهِ... فوداعاً أيُّها الطيِّبْ .

***************


أقمارٌ مائيَّةٌ لشرفةِ السيَّابْ

في ذكرى رحيلهِ الرابعةِ والأربعينْ



ذاكرةُ الحبقِ الشعريّْ



القصيدةُ السيَّابيَّة تسدُّ عليَّ جميعَ المنافذ. وتراودني عن كُلِّ شيءْ . عن الحنين الطفوليِّ والمطرِ والندى والذاكرة . لا أعرفُ لماذا ينهلُّ الحبقُ من الجهاتِ الستِّ ويرشحُ زهرُ اللوزِ غيرُ المرئيِّ في فضاءاتِ خيالي وكياني المحترقة .
أكُلُّ قصائدهِ حدائقُ تجمعُ كلَّ الزهورْ ؟؟!
لا أدري ما الذي أصابني بحنينِ النحلِ إليها ؟؟
ها هنا من خلالِ عينيهِ السماويَّتينِ أرى إلى جلجامشَ وهوَ يجرُّ الزمنَ العجوزَ من قرنيهِ إلى الحقيقةِ المطلقةِ كألفِ شمسٍ ربيعيَّةْ .
***

بئرُ الأساطير


ما أشبَهَ الحياةَ الشخصيَّةَ لشاعرنا بالبئرِ العميقةِ المسحورةِ والخافيةِ الكنوزِ والأساطير. هكذا كنتُ أحسُّ عندما أقرأُ في الكتبِ والمراجعِ التي دوَّنتْ سيرتهُ الشعريَّة والحياتيَّة . وكم كانَ يعجبني ويجذبني الكاتب الفلسطيني الدكتور عيسى بُلاَّطة في كتابهِ الذي ألَّفهُ عن شاعرنا . ولا يقلُّ عنهُ جمالاً وذكاءً وبحثاً وتمحيصاً كتابُ الناقد الفلسطينيِّ الكبير اللامع والرائع إحسان عباس . فقد انكبَّا على بئرٍ لا تنضبُ أساطيرها مدى الدهرِ ومدى الشعرِ والسحرِ . ومتَحا منها ما شاءَ لهما أن يمتحا . حتى سكرَ كُلُّ من شربَ من هذهِ البئرِ الغريبةِ . ولم يعُدْ إلى صحوهِ المُكفهرِّ ولم يفق لهُ قلبٌ أبداً .
***

بين إمرئِ القيسِ وت.س. إيليوت


بوتقةُ القصيدةِ لدى بدر تضمُّ غزلَ امرئ القيسِ النقيَّ البريءَ وذهنيَّةَ وعمقَ الشاعر الإنجليزي ت.س.إيليوت. وهذا ما جعلَ التنوَّعَ في النصِّ الشعري يبهرُ الجميعَ ويرتقي بالذائقةِ الجماهيريةِ .
غزَلٌ ومرحٌ وعبثٌ وفرحٌ وبكاءٌ وشجنٌ ..كلُّ هذا بمقدارٍ معلوم . إلى جانبِ عمقٍ وثقافةٍ وتوظيفٍ ذكيٍّ وبارعٍ للإشاراتِ التاريخيةِ والرمزية. بالإضافةِ إلى مسحاتٍ متوهجَّةٍ من الأصالةِ التعبيرية والمجازيةِ العربية .
نحنُ إذن أمامَ بوتقةٍ مُلوَّنةٍ غنيَّةٍ متموِّجةٍ بالتناصْ والخيالِ والصور الشعريةِ الجديدةِ والمعاني البكرِ التي لا أظنُّ أنَّ شعراءنا كانوا سيفطنونَ لها حتى لو بعدَ قرنين أو ثلاثةٍ من الزمنْ .
***

جيكورُ أمَّاً


لا شكَّ أنهُ لا توجدُ بينَ القُرى والمدائنِ التي ولدَتِ الشعراءَ أمٌّ أحنُّ وأعطفُ على ابنها من جيكور . لذلكَ حفظَ لها شاعرها الأزليُّ هذا الوُدَّ . وتغنَّى بعطفها وحنوِّها وجمالِ بساتينها وغاباتِ نخيلها ونقاءِ هوائها .
فهيَ للسيَّابِ بمثابةِ نهر أيفون لشكسبير . أو دمشق القديمة لنزار قبَّاني . أو قلب فلسطين النابض بالوفاءِ لمحمود درويش . أو غابات تشيلي وسحرها لبابلو نيرودا أو العاطفة الأندلسِّية لغارسيا لوركا .
إنَّ كُلَّ كلمةٍ في أواخرِ حياةِ الشاعر كانتْ مشدودةً بحبلٍ من الضوءِ الخفيِّ النديِّ إلى جيكور . إلى قلبها المشتعلِ بالحنانِ.
وعبقريَّةِ ابنها البارِ وعاطفتهِ المذهلة .
***


أحلام غرائبِّية لإيديث ستويلْ


كادَ الطفل في الشاعر أن يلمسَ أحلام ايديث ستويل بقلبهِ
كادَ أن يلبسَ معطفَ أوراقها واخضرارَ لياليها وبحيراتها
كادَ أن يكونَ أناها الآخر
وبسمتها التي يشقُّ بها ضبابَ العالمِ الحجريِّ
كادَ أن يكونَ نفسَهُ وروحَ حلمهِ وحلمها.
***

شاعرُ الوطنِ المذبوحِ بسيفِ الأعرابْ


قلَّما يتغلغلُ شاعرٌ إلى مطاوي نفسكَ كما يتغلغلُ السيَّاب . حتى كأنَّ شعرهُ عنقاءٌ أو كائنٌ ضوئيٌّ يخترقُ ما ظلَّ فينا من الصخورِ والصلصالِ والترابِ والضبابِ والأسئلةِ والموسيقى الخفيَّةِ الزرقاءْ .
فهو يمتحُ الكلمةَ من بحارِ أساه وينحتها من مقالعِ حزنهِ وفرحهِ بالحياة . من عيدهِ المعلَّقِ فوقَ غاباتِ النخيلْ . من مأتمهِ القائمِ في أعالي وطنهِ المذبوحِ بسيفِ الأعرابْ .
ألشعراءُ لديَّ في كفَّةٍ والسيَّابُ في كفَّةٍ أخرى . لا لشيءٍ ... لا لشيءٍ .. فقط من أجلِ هذا الدفقِ الحريريِّ الرخص ِ الهادرِ كمهرةٍ أصيلةٍ في حنايا قصيدتهِ الجريئةِ والبريئةِ والمنفعلةِ والمشتعلةِ بالماءِ وسرابهِ .
***

مائيَّةُ السيَّابْ


لم يفتقدَ بدرُ مرحَ بويبْ حتى آخرِ لحظةٍ من حياتهِ العريضةِ القصيرةِ والقصيدةِ أيضاً . وهذا ما جعلَ أصابعنا الحجريَّةَ تتفتَّتُ في حضرةِ موجهِ الناعمِ . المُباغتِ والمليءِ بالتحنانِ والذكرى .
لا أكادُّ أمسُّ بقلبي قصيدتهُ حتى تمتلئُ صحراءُ أيامي بالرذاذِ . وتطفحُ بالرشاشِ الحبقيِّ الدائمِ . ويطفحُ قلبي بأشعارِ سافو . ولا أرى حينها إلاَّ احتراقَ السفنِ الورقيَّةِ الصغيرةِ في اليمِّ الغامضِ . ولا أسمعُ إلاَّ صياحَ بحَّارةٍ مجهولينَ يأتي من البعيدِ تحملهُ رياحُ السندبادِ ونارُ إيديث ستويل المُجنَّحة .
***

قصاصةُ عطر


لا هنا ... ولا الآن ..... في حضرةِ الليمونِ.. والسوسنِ .. وحدائقِ بابلَ المعلَّقةِ الموجودةِ والمفقودةِ ... والمرميَّةِ في بحارِ الروحِ.. وغيابها الورديِّ.....
في لجَّةِ حرائقِ الشعرِ وعذريَّةِ بخورهِ وعبقهِ يترامى العطرُ الأنثويُّ الأسطوريُّ ويتسلَّقُ جدرانَ المُخيِّلةِ الزرقاءْ .
ذلكَ العطرُ القادمُ من الأماسي البعيدة المذهَّبةِ العاطفةِ والشعورِ والخيالْ .
***

نهرُ الوردِ المُجفَّفْ


يتراقصُ في اللا مكانِ على أعلى ضفةٍ حالمةٍ بالصباحِ الغريبِ العاشقِ نهرٌ كأنهُ قلبُ شاعرٍ يعشقُ سبعَ حوريَّاتٍ جامحاتِ الجمالِ والفتونِ والجنونِ والهوى
نهرٌ خالدٌ متجدِّدُ الأشواقِ والأوراقِ والرؤى وألوانِ السريالييِّنَ الفرنسيِّينْ
نهرٌ يعانقُ طيفَ من أحبَّ وصدَّتهُ بلوعةٍ كهربائيةٍ وروعةٍ عاليةٍ
يجذبني ترجيعُ خريرهِ كأنهُ السيرينُ الخُلَّبُ وكأنني توزَّعتُ إلى ألفِ عوليسٍ مسكونٍ بالرهبةِ والندمِ والعشقِ القتَّالِ والكبرياءْ
تماماً كأنني وورد زورث .
***

أحجارُ النبوءة


أتذكَّرُ الآن تلكَ الحادثةَ الغريبةَ التي قرأتها عن عرَّافةٍ أعرابيَّةٍ التقت السياب برفقةِ اثنين من أصدقائهِ فرمتْ لهم أحجارَ الغيبِ. فشذَّ حجرُ بدر عن حجريِّ صديقيهِ وارتمى بعيداً خارجَ الدائرةِ المحفورةِ في الرمل . وقد كانَ أصفرَ اللونِ ضئيلاً . فجاءَ تفسيرُ العرافة ِ أنَّ صاحبهُ يموتُ غريباً معتلاَّ فقيراً وحيداً خارجَ بلدهِ .
عندها انتفضَ الشاعرُ غاضباً وانهالَ على العرافةِ المسكينةِ بأقذعِ الشتائمِ وسطَ ضحكِ مرافقيهِ وهزلهم .
لا أدري سرَّ الحزنِ الذي يشعلني كالقمرِ عندَ تذكُّرِ هذهِ القصةِ الموجعةِ وتذكُّرِ قصيدةِ محمد الماغوط عن السلحفاةِ التي ركبها السيَّابُ ليبلغَ الجنَّةَ . بينما الجنَّةَ بعيدةٌ وقصيَّةٌ وهيَ مُعدَّةٌ فقط للعدَّائينَ وراكبي الدراجاتْ .
آهِ كم كانَ الماغوطُ صادقاً في حزنهِ ذاكَ وحبِّهِ اللا إراديّْ .
***

إكتمالاتُ النرجسْ


كما اكتملَ النرجسُ الأليفُ في عينيّْ شاعرتهِ البغداديَّةِ لميعة عباس عمارة. فقد اكتملَ عذابُ أميرِ الشعر العربيِّ الحديثِ وامرئِ القيسِ الأخيرِ زمانهُ. وكانَ اكتمالاً شهيَّاً يغري كلَّ قلوبِ الشعراءِ العربِ المجدِّدينَ ويوجعهم . والأخطرُ من كلِّ هذا أنهُ يستدرجهم كالطيورِ الغبيَّةِ إلى الفخِ الجحيميِّ . وكالفراشاتِ الساذجةِ إلى محرابِ النارْ .
***

فسحةٌ لفوضى الكلامِ البريءْ


الأعرابُ الذينَ نقضوا عهدَ الحديبية كما يدَّعي أبو سفيانَ في بعضِ لحظاتِ صحوهِ وصفوهِ .
الأعرابُ وهم أشدُّ كفراً ونفاقاً وقسوةً من قتلوا بدر شاكر السياب الشاعرَ العربيَّ العراقيَّ وهو يزحفُ على أعتابِ الجنَّةِ . وبعدها لا أدري ماذا صُنعَ بروحهِ لكنِّي أعلمُ أن ألفَ شاعرٍ عربيٍّ عُلِّقتْ رؤوسهم تحت كُلِّ جسورِ العالمِ الجديدِ وفوقَ جميعِ بواباتهِ .
***


في ظلالِ غاباتِ النخيلْ


النخيلُ العربيُّ يشبهُ إلى حدٍّ كبير قامات النساء . خصوصاً نخيلُ جنوبِ العراقِ الذي تغنَّى بهِ بدر بعدما ترعرعَ وشبَّ في ظلالهِ . وغاباتُ النخيلِ العراقيِّ ايضاً تشبهُ إلى حدٍّ جامحٍ أعينَ النساءِ الحور . وهذا ما أثبتهُ بدر في شعرهِ .
وهذا الأمر هو في نظري أهمُّ الأسبابِ لتلكَ العذوبةِ والرقَّةِ والرومانسية في لغةِ شعراءِ العراق. والأهمُّ من كلِّ هذا هو تربيةُ الحلمِ بأحضانِ القصيدةِ عندهم كما يُربَّى الوليدْ .
النخيلُ في إحدى صورِ تعريفهِ كائنٌ حلمي أو مرادفٌ ضروريٌّ لزهوِ المرأةِ العربيةِ وكبرياءِ جمالها . وهو أيضاً صورةٌ جلِّيةٌ لعنفوانِ الحبِّ العربي على مرِّ الأشعارِ والعصورِ والهوى والأنوثةِ والأنهارِ الزرقاءِ والنجومِ الخفيضةِ والمطرِ السيابيِّ والسماواتِ المبتلَّةِ برائحةِ الفرحِ الباكي .
***

مزاميرُ المطر


لأمطارِ الشعرِ ألحانٌ لا نسمعها . نحسُّها بحواسنا فقط . ونعانقُ شذاها العابقَ وننسبها إلى جيكور وأقمارها وغمامها الشبيهِ بالهالاتِ السماويَّةِ .
ننسبها لجيكورَ ودمعها السخيِّ البهيِّ الحائرِ فوقَ صليبِ الكونِ والمُعدِّ كالبذورِ الغنيَّةِ بالخصبِ لقلبِ الأرضْ .
لأمطارِ تلكَ السنينِ الموغلةِ في الشجنِ عطرٌ أنثويٌّ وموسيقى لا تُصنَّفُ . ومسكٌ وبخَّورٌ وذكرى يرفرفُ صفصافها كيَدَيْ شهريارَ في أبدِ الخواءِ . وكقلبِ شهرزادَ في الليلةِ الثانيةِ بعدَ الألفِ .
فسلامٌ على السيابِ وعلى نخيلهِ المنطلقِ إلى صدرِ السماءِ كالسهمِ العاشقِ
وسلامٌ على مطرهِ في العالمين .




ديسمبر 2008



*************

إنفلاتُ هوميروس العرب إلى الأزرقِ الورديّْ

كلمات في وداع أجمل الفرسان محمود درويش




رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش حالة عصيَّةٌ في غاية إلتباس العاطفة والشعور ومكاشفة النفس .. ومشهدٌ هوميريٌّ صعبُ الوصف والتصديق .
حتى أنَّ قلوبنا نحن العرب قد تحوَّلت في مساءِ التاسع من آب في ظلال السبتِ المشئوم إلى فراشاتٍ مائيةٍ عطاش يطاردها سيف شهريار في فضاءٍ سحيق .
أو إلى أيدٍ بلورِّيةٍ تبحثُ في الظلامِ عن خيطٍ من النورِ ليرفعها من جحيمِ المأساة .
لم نرِد نحن العرب العاطفيون تصديق ذاكَ النبأ الجلل .
كنَّا نتشبَّثُ بالسرابِ والوهمِ ونهربُ من مجرَّدِ فكرةِ تصديقِ رحيل أجملِ الفرسان العرب وأنبلهم عشقاً .
موت درويش لا يُصدَّق هكذا وبكلِّ بساطةٍ... ذلك أنهُ كان ممَّن صبغوا حياتنا على مدى نصف قرن بألوان الطيف وبقزحِ البهجة والأملِ والجمال ومقاومة الألم والتمردِّ على الظلمِ وعلى تسلِّطِ الغير .
شخصياً عندما صدمني خبر رحيلهِ طفقتُ على وجهي في الظلامِ واستسلمتُ لبحرٍ من الدمع الحبيس وأطلقتُ لهُ العنان . في تلكَ الليلةِ القاسيةِ القلبِ .
قلتُ لعلُّ آخرَ محمود ماتَ وليسَ أناهُ .قلتُ كلاماً خفيَّاً كثيراً ..كبيراً كحقلِ الضباب. كنتُ أستلُّ روحي التي ناوشتها الذئاب .
وأصبغُ ليلي بحنَّاءِ امرأةٍ فينيقيةٍ . أو كنعانيةٍ تليق بأجملِ أبناءِ جلعادَ الذي عادَ إلى أحضانِ أمهِ فلسطين .

لا شيءَ في درويش ينازعني إليهِ اليومَ أكثرَ من ضوءِ وحنينِ صوتهِ .
لصوتهِ بعدٌ جمالي رمزيٌّ رهيب . لا أستطيعُ الصمود أمام تموُّجاتهِ وإغراءاتهِ اللامحدودة الأنغامِ . أحياناً يخيَّلُ لي أنني أصغي إلى روعةِ المزامير . الغرابة أن كل جلال وجمال شعر محمود درويش لا يشدُّني بنفسِ القدرِ كما يفعلُ صوتهُ وحركات يديهِ الملوكيَّتين الباذختي الفضةِ .
بعد هذا الرحيلِ الباذخِ الحزن لن أنحاز إلى محمود السياسي البارع أو الوطنيِّ العنيد الذي كسرَ جبروت الحكم العسكري وقسوة سياستهِ وهو بعدُ في عمرِ الوردِ وليونةِ الياسمين ونصاعةِ القمر .

لن أنحاز إلى محمود درويش الرمز الثقافي الفلسطيني والعربي بقدر ما سأنحاز لمحمود العاشق والشاعر المرهف الذي فهمَ سرَّ المعادلة الذكيَّة بين الشاعر والمتلَّقي... الشاعر الذي رفعَ سقفَ الشعر العربي إلى أعلى من زرقِ النجوم في الليالي المخمليةِ . والوحيدِ منذ جدِّهِ الأكبر - أحمد بن الحسين المتنبي – الذي أعاد للشعر هيبته المنهوبة وخلعَ عليهِ رداءَ الأسطورة المسلوب.
فالأساطير بعيدةٌ عنَّا نحن العرب وهيَ لا تخلقُ في التاريخِ الإنساني كلَّ يومٍ أو كلَّ شهرٍ .. فمنذُ المتنبي ونحنُ في حالة انتظارٍ طالَ أمدها لأسطورةٍ أبطأت سيرها حتى منَّ التاريخُ علينا بها أخيراً وكانت أسطورةً عصيَّةً جامحةً وعنيدةً ولا تسلِّمُّ نفسها بسهولةٍ للزمانِ الغشومِ . ولكنَّها حينَ ترحلُ . ترحلُ بفداحةٍ عاليةٍ وخسرانٍ مبين .

تُرى هل تركَ لنا الشاعر بعضَ كلامٍ وتعابير ومفرداتٍ وصياغات ومجازات لم تستعملَ على يديه .. وما زالت عذراوات أبكاراً تستحقُّ بأن نودِّعهُ بها .. لا أظنُّ ذلك .. رثاء درويش هو رثاء للغةِ العالية .. للجمالِ المحضِ.. للبهاءِ الخالص.
ماذا يفيدُ صراخنا وعويلنا النائمَ الجميلَ في حضرةِ الغياب ؟!
هل يستَّلهُ تفجُّعنا من بينِ الحوريَّات اللواتي يهدهدنَ روحه الشفيفة الآن على ضفة الفراديس البيضاءْ ؟!

آهِ كم عرفنا عند رحيلهِ كم كنَّ بحاجةٍ إلى البكاء .. كما لو أنَّ الدمع جاءَ ليطهِّرنا أو ربمَّا ليعمِّدنا من خطايانا ... كم عرفنا ما لا يمكن أن نعرف من سرِّ الأبديةِ الغافي في جذوعِ سنديانِ الجليلْ .
نحنُ بعد انهيارِ هذا الصرحِ الشعريِّ العظيمِ علينا أصبحنا كائناتٍ أكثر احتفاءاً بالنور والماءِ .. وأقوى على تحمِّل لسعاتِ الجمال والحبْ والندى الفجريِّ .
أصبحنا أخفَّ من فراشات الجليل وأرقَّ من عبقِ هوائهِ بعدما انهارت علنا آخرُ ناطحةِ سحابٍ عملاقةٍ من أقحوانٍ وقرنفلٍ وسفرجلٍ ورياحينَ وأغصانِ مرجانَ ونوارس ضائعةٍ ملوَّنةٍ ومهاجرةٍ إلى بحرٍ خفيٍّ وزرقةٍ غامضةٍ .
رحلَ نشيدنا الحافي وأجملُ مزاميرنا العذريَّةُ .. رحل سادن وجعنا الجليليُّ وأحلى شباب أمنَّا فلسطين . رحلَ مستعجلاً وقبلَ أن يودَّعنا بقبلةٍ وأن ينتصرَ بقصيدتهِ . رحلَ مدجَّجاً بعذابهِ الخاصِّ وبشوقهِ لخبزِ أمّهِ وقهوتها الصباحيَّةِ. وبشعرِ الألم ولسعةِ الندمْ .

في خضمِّ حزني المشتعل عليهِ لا أستطيع الكلام .. أنا فقط أستلُّ الحروف استلالاً ممَّا لم ينغلق بعد من فجوةِ البابِ الذي انغلقَ على مرحلةٍ لن تتكررَّ في نظري أبداً . ولن يجود حتى ألفُ زمانٍ أندلسيِّ بمثلها .

وسيشهدُ تاريخُ الغدِ أنَّ محمود درويش كانَ مشروعاً شعرياً استثنائياً قلَّ نظيرهُ أو إنعدمَ . لا في العصرِ الحديثِ فحسب . ولا في اللغةِ العربيةِ وحدها . بل في كلِّ العصورِ الإنسانيةِ وآدابها الأخرى .
وهو يُعدُّ في نظري – من غيرِ مغالاةٍ – أحد أعظمِ عشرة شعراءٍ كونيين على مرِّ التاريخِ البشريِّ . منذ هوميروس وفرجيل حتى بودلير وبابلو نيرودا ولوركا مروراً بدانتي وشكسبير والمتنبي والمعريِّ . أو ثاني أعظم شاعرٍ في العربيةِ بعد المتنبي ولا أريد أن أضمَّ له سوى دواوينه التي بدأها بورد أقلَّ وهي مرحلته الشعرية الأخيرة
التي إمتدَّت إلى أكثر من عشرينَ عاماً رغم إعجابي بأغلبِ شعرهِ ونثرهِ .
يليق بكلِّ شعراءِ العربية والعالمِ أن ينحنوا إجلالاً لشاعرٍ أعطى حلمه كلَّ شيءٍ يملكهُ . وبذلَ أقصى طاقتهِ ليرتفع بالشعر العربي إلى أعلى قمةٍ تعبيريةٍ مجازيةٍ تصويريةٍ . ومكاشفةٍ للذاتِ الإنسانية بلغها منذ إمرئ القيس حتى الآن .
سيمرُّ دهرٌ حتى نكتشفَ الخلل بصورة عمليةٍ ملموسةٍ . عندها سنعرفُ كم من المعايير الجمالية ومقاييس الذائقة الأصيلة قد انهار وأصبحَ هباءً برحيلهِ .
وسنعرفُ أيضاً كم اُستنزفَ من الجمال والروعةِ والسحرِ البكر في الكلام المائل إلى جرح الشمس الزرقاءْ .. الذي كانَ ينثرهُ درويش على آمالنا وآلامنا فننتفضُّ بكلِّ نبضِ الأرضِ في دمنا .

تسألنا أحلامنا في الليلِ والنهارِ .. أينَ هو الآن ؟؟ أين طفلُ الندى والأقحوان ؟
أينَ ملاكنا الشريد الطريد ؟؟! كيفَ ترجلَّ عن حصانِ النشيدْ ؟! أينَ هو الآنَ ؟
ألم يخجلْ من دمعِ أمِّهِ ؟؟؟!
كأنمَّا طار محمودُ كالعنقاءِ إلى غيرِ رجعةْ .


2008-08-21


************

حسين مهنَّا : علاقةٌ متجددَّة مع مسمَّيات الجمال



لم أكن أحسب أنني على موعدٍ باذخٍ مع كل هذا النقاءْ , وهذه الأصالة التعبيرية التي ذكرتني بالشعراء العذريين العرب أو بأقرانهم الأبطال العشّاق في القرون الوسيطة , ولكن .... أن تجد شاعراً حقيقياً بكلِّ ما تنطوي عليه الكلمة من مغزى ودلالة , ومتواضعاً ونبيلاً كطيران الفراشِ الأنيق إلى سدَّةِ الحلمِ , في هذا الوقت بالذات , فهذه نادرةٌ قلمَّا يجودُ الزمن البخيلُ بمثلها .
حتى أنني عندما أهداني الشاعر ديوانيهِ الأخيرين الصادرين عن مؤسسة الأسوار
بطبعةٍ أنيقةٍ مخمليَّةِ الطراز, وهما " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" و" الكتابان :ويبدأ بالأوَّل وينتهي بالثاني" تيَّقنتُ أنني أقفُ على كلمةِ الشاعر وبيت قصيدهِ , ولم أتفاجأ أبدا من حجم الطاقة النورانية والزخم الشعوري المنفلت منهما .

الديوانان عبارةً عن سجلَّين للندى, والأزهار, والتراب المعشوق, والضبابِ الطفوليِّ الناعسِ في ظلال أشجارِ اللوزِ والزيتونِ والسنديانِ , وعن سمفونيَّة عشقٍ لا تحاول المآلفة بين فوضى حواسها ومشاعرها , بينَ الحسيِّ والمجرَّد .
لم أكدْ ألمسهما حتى انبثقت من أصابعي الأنهارْ , وخفَّت في القلبِ المذبوحِ بسيفِ اشتهاءِ شتاءٍ بعيدٍ , كلُّ العصافير المُلوَّنة بألوان الفرح الخفيِّ والغناء, والنجوم الخريفيَّة المبتلَّة بدموع كيلوباترا وليلى وجولييت والزا وفاطمة ومي .

كيفَ لا وأنا على موعدٍ مع كُلِّ هذا الإحتفاء بالجمال والأنثى والحبقِ النسائيّْ؟
كيفَ لا ...... وأنا على موعدٍ مع مملكة النقاء الأبجديّْ؟

ما أن بدأتُ بالقراء المتأنيَّة التي ينبغي أن يُقرأ بها شعرٌ في مثل هكذا حجم , حتى انزاحت الحُجب والستائر عن ذاكرتي المثقلة بعشبِ الصحراء, وعن الديوانين, وتأكدَّ رهاني من جديدٍ على صاحبهما, رهاني الذي بدأتهُ منذُ سنين عديدة وأخذَ ينمو رويداً رويداً حتى اكتملَ اليومَ بدراً مبينَ النورِ والهالةِ في سماءِ شعرنا العربي الفلسطيني , وأظنُّ أن الناقدة والشاعرة الأمريكيَّة "إميلي ديكنسون كانت محقَّةً عندما قالت أنَّ أجمل الشعر في نظرها ذلكَ الذي تقرأهُ فتحسُّ أنَّ قمة رأسكَ قد أُنتزعتْ من مكانها , أظنها لم تكن تعني الاَّ شعراً كشعر حسين مهنا , ذلكَ أنَّ شعر حسين مهنا ينتزعُ قمة رأسك وقلبكَ وأحاسيسكَ معاً وفي لحظةٍ ضوئيةٍ واحدة, أو هو كالمغناطيس الهائل الذي يجذبكَ الى ذاتك الجميلة الأخرى, أو أشبه بغناءِ الأمازونيات في الأوديسة, ذلك الذي لا يختلفُ كثيراً عن النغمةِ الشجيِّة المتدافعة بحرارة من أقصى قلبِ شاعرنا وكأنها بركانٌ احتبسَ طويلاً , وها هو يتكأُ اليومَ على قريحةٍ سيَّالةٍ تجددُّ أشياءها باستمرار وبهجة . وتشحذُ ذاكرتها الايروسية وذائقتها الرفيعة المتجددَّة بالبلوَّر النسائيِّ الناصع الرهافة والحساسيَّة والصوتْ .

في هذينِ الديوانين الصغيرين حجماً, الكبيرين تأثيراً وقيمة جمالية, يحاولُ شاعرنا كما في أعمالهِ الشعرية السابقة تجديدَ العلاقة الشعرية والمجازية مع مسميَّات الحبِّ والجمال والأنوثةِ , التي يرتكزُ عليها شعرهُ الرقيق المخمليِّ بالأساسْ ,
والمراوحُ بينَ الخطابِ الذاتي الوجداني المكاشفِ للنفسِ ولواعجها وحريَّةِ الدفق الشعوريِّ العذب في فضاءٍ مُلوَّن بأناشيدِ الحُبِّ , وفي عناقٍ واضحٍ وجليٍّ لمناخات يستحضرها الخيال المرهف ويستعذبها القلب , لخلق رؤى مزهراتٍ واستدعاء طقوس غنائيَّة سيالَّةٍ بالوجد الصافي , يصعدُ منها بخورُ الأنوثةِ العبق جنباً الى جنبٍ ورذاذَ لغةِ البوح , والكشف , حتى لتظنَّ في وهلةٍ أنَّ ما كان يريدُ أن يفرغهُ الشاعر, قد اختمرَ في روحهِ دهراً طويلاً , ربمَّا يرجعُ الى حنايا الطفولةِ , قبلَ أن تتبلوَّر تجربتهُ أخيراً وتخرجُ لاهثةً على الورق ونابضةً في النصِّ .

وكما عهدناهُ دائماً, صلباً, حُرَّاً ,مترفِّعا, أبيَّاً,ً يقفُ الشاعرُ في قصيدةِ " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" طوداً شامخا في أرضيِّةِ التمرِّد على أشكال القهر والظلمِ التاريخي ويعلنُ موعداً له في انتظارِ الحياة , يقول:
لي موعدٌ في انتظارِ الحياةِ / كأني أراكم / كما قد رأتكم دمائي / على بابِ عايَ
تشدونَ خيلاً وتعدونَ خلفي / ويومَ صرختم ببابِ أريحا / تموتُ .... تموتُ / وراحابُ تحيا / حملتُ الحياةَ على راحتيَّ / وسرتُ على مهلٍ / أنثرُ الحبَّ والشعرَ / سرتُ ... وسرتُ .... وسرتُ / أنا أستزيدُ الحياةَ حياةً / وأنتم تشدُّونَ خيلاً وتبغونَ حتفي/ .
نجدُ استلهام الرموز التوراتية في هذا النص يتحدُّ اتّحاداً فذَّاً مع المشهدِ الشعري, نراهُ يرتفع ويذوبُ ذوباناً رائعاً في تركيبِ اللغة , وينصهرُ طواعية في النغمةِ الحزينة المتحدِّية , المستمدَّة كلَّ شموخها وصفائها وجلاءِ اللحظةِ الشعرية المتوَّترة المتجذرَّةِ في لهبِ القلبِ المُحبّْ وعنفوانهِ .

الشاعر لا ينحني الاَّ للجمال ولا يدين الاَّ بدينهِ حتى لو وقفَ أمامَ ربَّاتهِ الكثيرات
, وحتى لو ذرفَ سخيَّ دمعهِ على أطلال علاقاتهِ فإنهُ يعلنُ أنهُ لن ينكسرَ أمام أحد , وسوفَ يساجلُ عدوَّهُ وتاريخه الدامي معاً , كما نقرأ في هذا المقطع .
عناةُ يا عناةُ ...../ ها أنا أدقُّ بابَ قصركِ المنيفِ / نازفاً قطعتُ دربيَ الطويلَ /
حاملاً على يديَّ بعضَ جثَّتي / وخالعاً أمامَ ناظريكِ ثوبَ خيبتي / فباركي إن
شئتِ موتيَ الكبيرَ / أو باركي قيامتي ....../ وعلمِّيني كيفَ أستطيعُ أن أساجلَ الطغاةَ / طعنةً بطعنةٍ / وطلقةً بطلقةٍ / فقد سئمتُ رقصةَ المذبوحِ في محافلِ السلام .

وممَّا يلفتُ نظري في قصائد حسين مهّنا أنها تتقاسمُ البهاء اللفظي والرعشة الموسيقية مع باقي المنثورات والشعر العمودي , في جدَّةٍ لا ينقصُ شيءٌ من ضيائها وأصالتها المعهودة , وفي تكثيف دافق للأحاسيسِ , يشدنُّي بما يحتضنُ من خيالات, وأوصاف بكر , ومناخات, وقوَّة لهفةٍ الى المطلقْ , والتغنِّي بما يتركُ سحرهُ – المطلق- في الروحِ والقلبِ من فراشاتٍ وكائناتٍ جميلة .

والرائع أنَّ الطبيعةَ أيضاً تمتزجُ امتزاجاً وثيقاً بروحِ شاعرنا وتنعجنُ بموادهِ الأوَّلية وأفكارهِ , وأصواتهِ القرمزيَّة , فحيناً نرى السنونو تمرحُ في فضاءِ قلبهِ كما تبتغي فتغمرُ دربَ حياتهِ الجديبَ بوردٍ كثيرٍ وشوكٍ أقلّْ , وحيناً آخر نراهُ على بابِ عناة نازفاً , مطالباً ايَّاها أن تعلمُّه مساجلة الطغاة, وحيناً في غمرة الغوايةِ لتسميَّةِ حبيبتهِ الاسم الذي يليق بحبِّهِ لها وبجمالها, وحيناً مسائلاً معذَّباً , يقول:
لماذا جعلتِ الفؤادَ يودُّكِ هذا الودادْ ؟/ وكيفَ دخلتِ حياتي على غيرِ وعدٍ ؟/
وهل يا تُرى أصدقُ الحبِّ / ذاكَ الذي يطرقُ البابَ / _ من أنتَ....... ؟؟/
ما أنتَ ....؟ / من أينَ ....؟/ ...... ما تبتغي ؟؟!/
مطرقٌ لا يردُّ / كأني على رقعةٍ الحبِّ بعضُ مداد .
مع هذا النبض الشعري الدافئ الغنيِّ تحوَّلنا نحنُ أيضاً إلى مدادٍ غامضٍ بلا لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ , فوقَ الصفحاتِ البيضاءْ المحترقةِ بجمرِ الحُبْ .

وكأني بحسين مهنا الشاعر يراوغُ قصيدته ويستلُّها من لهيبِ العنقاء ومن رمادها الأخضر الطريِّ بطريقةٍ غايةً في الأناقة التعبيريَّة والتصويريَّة والإيحاءِ المعنويِّ والدلالي , وفي كثافة شعورية وصُوَرية وزخم موسيقي هادئ الجرس يذكرُّني بموسيقى الغُرَف الهادئة , الباعثة على الاسترخاء الشعوري والراحة والسكينة .
كما في هذه القصيدة :
لكِ اللهُ / ما تفعلينَ بقلبٍ أحبَّكِ / حُبَّ الرسولِ لأهلِ الكتاب
ذبحتِ مُحبَّاً ..../ فماذا عساكِ تقولينَ / في حضرةِ اللهِ يومَ الحسابْ ؟
تجسيد البعد النوستالجي هنا وتوظيفهُ بهذا الشكل الرقيق والبالغ النعومة يفتحُ أفقاً مموسَقاً من الغنائيَّة المتردّدة العذبة , والمرهفة النَفَس , واستخدام لغة المخاطبة يشكلُّ دلالة معرفية نورانية , إشراقية كما في الأدب الصوفي, على الولع الظاهرِ والملموس حتى في الخفيِّ من أنَّاتِ ووجعِ قصيدة حسين مهنَّا ونصهِ .
ها هو يقولُ في مزجٍ بالغِ العذوبةِ والشاعرية بينَ النبرةِ العالية وحساسيَّةِ الوجدانِ العميقة , في مقطعٍ من قصيدةٍ شفيفةٍ شفافةَ الضوء .
سألتكِ موتاً جميلاً
اذا كنتِ حوَّاءَ / من يا تُرى قد أكون؟
سأحملُ عريكِ في مقلتيَّ / وأمشي على جمراتِ الظنونْ
ودربيَ دربُ الشقاءِ المقيمِ / وتدرينَ أني طريدُ النعيمِ
غداةَ لبسنا العراءَ وشاحاً......./ سألتكِ أن تستظلِّي / بما قد يقيكِ
من النظراتِ المريبةِ / بئسَ الزنى في العيون .
لا أعرف بماذا أصفُ روعة هذا الكلام , وخصوصاً الشطر الأخير, إنهُ ولا شكَّ أعلى بكثيرٍ من السحرِ, وأغلى من غار النصر .

وفي فسحةٍ أخرى, ومن أريجِ العبارة وعطرها الأنثويِّ , ومن تجليَّات قيس بن الملوَّح في عشيَّاتِ ليلى العامرية, يطلُّ شاعرنا في قصيدةٍ عذراء فتدهشني مزاميرهُ إذ أسمعهُ يقول
أجمِّعُ حُبَّ النساءِ / بحبِّ أسميهِ ...../ ماذا أسمِّيهِ..... ؟ / قيسٌ يسمِّيهِ ليلى / إذن / أسميهِ باسمكِ / - لا لن أبوحْ : وعدتكِ الاَّ أبوحَ / فحبكِ سرِّي الجميلُ
وبعضُ الغرامْ / إذا كانَ بالسرِ أحلى .
التساؤل في هذه القصيدة يبلغُ قمة الذكاء الشعري في انسيابيةٍ تحملُ الكثير من الخفةِ والرقة والشفافية واللوعة والحنين , أكادُ هنا أن المسَ بجدارة بعض الوهج النابع من المهارة الفردية والحذق الشعري العالي الذكاءْ, والرؤى الصادقات , أكادُ في هذه القصيدة كما في قصائد كثيرة غيرها أن ألمسَ الدموع العاشقة الحقيقية التي لا تفيض الاَّ من أحداقِ العشَّاق , وأشعرَ بصدى هذا الكلام يتوِّجُ في نفسي حلماً غائباً , حلما ما , بالظفرِ ربمَّا أو بالخسارةِ , بالحزنِ على فقدانِ شيءٍ ما , وبالفرحِ الذي يعدُّ باستردادهِ مرةً أخرى , ويمنحُ لذةَ الشعورِ بالعثورِ على نجومهِ الضائعة .

أعترفُ أنني نادراً ما يشدُّني شعرٌ لقراءتهِ , حتى لو كانَ للكبارْ , نادراً ما أقرأُ شعراً بكلِّ هذا الحنوِّ والحدبِ والتفاعل الخيميائي العجيب , وبكلِّ هذا التأثرِّ العاطفي الإنساني والوجداني , ولا أذكرُ الاَّ دواوين تعدُّ على أصابعِ اليدين , مثل "خذ وردة الثلجِ, خذ القيروانية " لسعدي يوسف أو "كأني غريبكِ بينَ النساء" لشوقي بزيع أو " سرير الغريبة " و"لماذا تركت الحصانَ وحيداً" لمحمود درويش أو "ضجر الذئب " ليوسف أبو لوز , أو "أوَّل الجسد آخر البحر " لأدونيس ,أو " طعم قديم للحلم " لوليد منير, أو " انَّ بي رغبةً للبكاءْ " لأحمد العوَّاضي , مرجعيَّات شعرية نمتْ تحت جلدي ونامت, منذُ نعومةِ الأظفارِ في الأشعار, لا زلتُ أعتبرها نقاط تحوُّل, أو كواكبَ تسكنني, أو مخلوقات غامضة تركت شيئاً غريباً فيَّ, أنحني أمامها بخشوعِ راهبٍ وبرهبةِ عاشقٍ للأبجدية, وأضمُّ إليها اليوم ديوانيْْ حسين مهنّا الصادرينِ مؤخراً , وبكثير من الإعتزاز والفخر, وبدفقٍ هائلٍ من الحُبْ النقيْ .

مطالع حزيران 2008

****************************

" ففي الصيفِ لا بدَّ يأتي نزارْ "

في ذكرى عقدٍ على رحيلهِ


أذكرُ ذاتَ صباحٍ ربيعيِّ غائمٍ وماطرِ في مطالعِ أيَّار بعيدٍ قبل عشر سنوات كيف سافرت إلى مدينةِ الناصرةِ لشراءِ بضعة دواوين للشاعر السوري الكبير والمُختلفِ عليهِ نزار قبّاني , كان حينها قد رحلَ قبل أيامٍ معدودات , وكنتُ في شوقٍ لأقفَ على ماهيَّةِ وسرِّ هذا الشاعر المثير للجدل والإهتمام والإعجاب , خصوصاً وأنني لم أقرأه تلك القراءة الكافية العميقة الاَّ في نطاقٍ محدود كانت تتيحه مكتبة المدرسةِ أو منهاج التعليم أو الجرائد التي وصلت الى يدي آنذاك .
إنتقيتُ أكثر من أهمَّ عشرة دواوين لنزار من بينها ديوانه الأوّل " قالت لي السمراء" الى جانب " الرسم بالكلمات" و"هل تسمعين صراخَ أحزاني " و"قصيدة بلقيس" وغيرها , وحاولت الغوص في شعريَّة واحدٍ من ألمعِ وأغزر وأمهر وأصفى الأصوات في قيثارة الشعر العربي لا في عصره الحديث بل في عصورهِ جميعها .
لا أظنُّ أن رحيل الشاعر كان محفزَّا لي لقراءتهِ وإستكشاف لمعان إبداعهِ الخفيَّ كالمحارِ والظاهرِ كالشمسِ في عليائها . بل الإختلاف عليه من طرف النقاد وكثرة الهمز واللمز فيه ولم يوارى جثمانه الغضُّ الثرى بعد .

رغم قراءاتي الكثيرة للمدرسة الرومانسية الساذجة بأفكارها في النصف الأوَّل من القرن العشرين , التي إنتمى اليها نزار ولم ينتمِ , أقصد أنه إستفادَ منها ولم يسرْ في نهجها , ورغم إعجابهِ بشعر شعرائها الكبار أمثال إلياس ابو شبكة وعلى محمود طه وعمر أبو ريشة , فإنني وجدت لاحقاً أنه مختلفٌ كثيراً في أدقِّ تفاصيلِ كتابتهِ الشعرية حتى عن أكثرهم وأعمقهم رومانسيةً وتجديداً وتمرداً على القديم , إنَّ نزار قباني شيءٌ آخر مختلف ومتغيرٌ ولا يمتُّ الى ما قبلهِ من رؤى شعرية ورؤيةِ الى القصيدة المستقبلية وطريقة تفكير ,وموضوعات فنيَّة , بأية صلة , أنهُ من أعظم أوائل المؤسسينَ لمدرسة الشعر الحديث وأحدُ أولئك الذين حوَّلوا الشعر العربي الى " خبزٍ يوميٍّ " على حد تعبيرهِ , بعدما كسروا التابوهات المقدَّسة تكسيراً يليق بها على أعتاب القصيدة . وبعدما أشعلوا الحرائق في الذائقة العربية العامة الجماهيرية والنخبوية وفي اللغة المتوارثة وثيابها الرثَّة .

لم يُحارَب نزار قباني من جهات ثقافية أو دينية أو سياسية أو إجتماعية إلاَّ لأنَ صدقهُ الفطري الإنساني قد أخذ بفضحِ جهلها وتخلَّفها ومحاولة التمردَّ عليها , كلُّ النقاد الذينَ فتحوا نيرانهم عليهِ كانوا ينتمونَ بوعيهم الى ضلال مرحلة بائدة ولم يروا أبعد من سياج أنفسهم أو ما وراءَ نوافذ أرواحهم , أرادوا للشعر العربي أن يبقى ممثلاً مملَّ الدور , وللمرأة أن تبقى تمثالاً خزفياً جامداً في النصوص والأدبيَّات .
أظنُّ أنَّ أعظم ما في نزار قباني صدقهُ الذي يجعلك لا ترى في سهولة كتابتهِ الشعرية وقرب المجاز والصور والمعاني من المُتخيَّل أيَّ نقصانٍ أو مذمةً شعرية , بل ترى إجتياحاً طاغياً نبيلاً لذائقة جماهيرية إستعبدتها زمناً ليسَ قصيراً كليشيهات فارغة من أيِّ مضمون حيٍّ , جديد , وطازج , يلمسُ قضايا تهمُّ الإنسان المعاصر في القرن العشرين , ولا يستوحي ويستلهم الماضي بالضرورة .

عشقَ نزار سوريا عشقاً أسطورياً وتغزلَّ بها وأحبَّ مدينتهُ الأم بإمتيازٍ قلَّ نظيره , رغم طوافه في كلِّ أرجاء الدنيا بقيَ خيطٌ واحدٌ من اللازورد , من الضوء , من المخملِ الشاميِّ , من الدانتيل الدمشقيّْ يشدُّهُ إليها , وإلى أزهارها وشوارعها وحاراتها وروائحها وطيورها . حتى أنه لم يستطيع التفلَّت من الحنين الشديد الممضِّ الى الكتابة عنها كما يكتب عن إمرأة أو حبيبةٍ في شعرهِ , لقد ملكت حواسه وملأتها بالعطر النفَّاذ , أسمعهُ يخاطب شقيقه صباح القباني في تقديمهِ لكراسة معرض رسومهِ وتأمَّل كيف كان وطنه بالنسبة لهُ لوحةً فريدةً تضمُّ كلَّ فنون الرسم والتجريد , وتحوي جميع العناصر التي خلعَ عليها صفة السحر , يقول:

"عندما نثر صباح قباني مئات الصور التي رسمها لبلادي أمامي لأكتب عناوينها، شعرت أن جميع اشجار التين، والحور، والصفصاف، والزيتون، والورد البلدي تنبت في راحة يدي.. وان الخراف الربيعية تترك بعضا من صوفها الأبيض على أصابعي. ‏
صارت يدي ـ وهي تقلب الصور ـ يداً أخرى: عليها يسقط المطر، وتكبر سنابل القمح، ويسرح الرعيان، ويدبك الراقصون، ويغني الحصادون، وتملأ القرويات من ينابيعها الجرار، وتتناثر عليها مضارب البدو، وإيقاعات المهباج، وعبق القهوة العربية الطيبة. ‏
صارت يدي مسرحاً تمتزج فوقه الألوان، والأصوات، والأهازيج، وتذوب كلها في نشيد واحد.. هو نشيد الأرض. ‏
صارت يدي ـ والشكر لصباح ـ مرعى جَمَال. ‏
وكما أخصبت يدي، وهي تتنزه مع صباح على طرقات بلادنا الجميلة التي نعرفها ولا نعرفها، ستخصب أيديكم، فصباح قباني يضع الوطن في راحة يدنا كما توضع التفاحة في يد طفل يرى التفاح للمرة الأولى. ‏
سورية، تفاحة شهية، سكرية الرحيق، لكن أكثرنا مع الأسف لم يجرب أن يصل الى منابع النكهة والحلاوة في داخلها. ‏
سورية، عند أكثرنا تفاحة ذهنية، تفاحة من المجردات، والخرائط، والأناشيد المدرسية. ‏
لكن الوطن، ليصبح وطناً حقيقياً، لابد أن يخرج من نطاق التجريد ليكون وطناً نراه، ونشمه، ونلمسه بالأصابع. فلا وطن خارج نطاق الحواس الخمس. ‏
وصباح قباني حاول بمعرضه الصغير أن يُخرج التفاحة الجميلة من دهاليز الذهن وأقبيته.. ويضعها بكل ملاستها واستدارتها في تجويف يدنا. ‏
صور صباح الجميلة أهدتنا وطننا الجميل.. مرة ثانية". ‏
نزار قباني

منذُ زمن وفكرة الكتابة عن نزار تلحُّ عليَّ ولكن ماذا أكتب عن شاعر ربمَّا لم يكتب عن أيَّ شاعر عربي آخر مقدار ما كُتبَ عنه ؟ في مقالات وشهادات وحوارات وكتب نقدية وأدبية ورسائل جامعية وغيرها .

نزار في نظري المتواضع مزيجٌ نادرٌ وفي غاية الروعة للشاعرين الفرنسيين
"بودلير " و"بريفيير " في مزجهِ بين النزعة الإباحية الجنسية والعادي اليوميِّ أو الشيء وضدهُ في بساطةٍ غنيةٍ , لا يحقُّ لأيٍّ كان أن ينكرَ فضلهُ على القصيدة العربية وعلى ايقاعاتها وتطوير موضوعاتها وإغناء صوَرها وتجريب أساليبها وتراكيبها , شعرهُ خير من حطمَّ الذهنية الشعريَّة الى حين , لمائيَّة الحياةِ فيه .

نزار ليس شاعر عمقٍ فكريٍّ بل هو شاعرُ عمقٍ عاطفيٍّ وهذا ما أخذه عليه النقاد وعابوهُ . ولكنَّ الحقيقة الحقَّة لا توجبهُ أن يكونَ الاَّ كما يريدُ هو لا كما يريدهُ له الغير , لا أرى في هجومهم عليه أيَّ مبررٍّ وهو إنما أرادَ أن يجعلَ من الشعر طيراً صباحيَّا يحطُّ على نافذةِ معشوقتهِ , حراً من أغلال الفكر والأسئلة الوجودية , فهو من قال ذات يوم " أعتقد أن التغيير الكبير الذي أحدثته، هو إنزال الشعر إلى الشارع العام، وتحويله إلى مادة متفجرة، وحركة عصيان شعبية. لا أحد يستطيع أن يقول لك اليوم إنّه لا يحب الشعر، أو لا يقرأه أو لا يفهمه. فلقد مزجت الشعر السياسي والشعبي في كأس واحدة، وأزلت الكلفة نهائياً بين القصيدة وبين من كتبت من أجلهم. بكلمة واحدة، ألغيت فاكهة الشعر من حياة الناس، وأطعمتهم حنطة الشعر".

وكما يقول الكاتب وائل عبد الفتاح عنهُ " بحث عن لغة مختزلة، كما فعل يوسف إدريس عندما عثر على لغة سرد خارج التطوّر الرتيب لكتابة القصص. بدايتهما كانت تقريباً في وقت واحد. «أرخص ليالي» كتاب يوسف إدريس الأول كان في 1952، قبلها بسنوات قليلة، كانت مجموعة نزار الأولى «قالت لي السمراء» تصدر في بيروت. الاثنان طالعان من نكبة فلسطين وما تلاها من تفكيك لمؤسسات الفن والذوق، ناهيك بالسياسة والسلطة.
ولم يكن جديداً على الشعر العربي الأوصاف الحسية للمرأة، لكن نزار ظهر في فترة استعارت البرجوازية أخلاقها من العصر الفيكتوري، ولم يتمرد شعراؤها على الرومانتيكية الساذجة. كان جواً خاملاً، تقليدياً، وكان طبيعياً أن تكون قصائد تتحدث عن النهد والحلمات والنبيذ والحشيش والأفخاذ... قنبلة في ساحة معبد فرعوني ".

فهمَ نزار عقليَّة الرجل الشرقي وعرفَ كيفَ ينقلُ أقدامهُ في حقل الألغام العربي . وعرفَ جيداً كيفَ يغتنمُ فرص النجاحِ والفتح, في حينَ ضيعَّ الكثير من مجايليهِ الفرص الذهبيَّة الكثيرة , ممَّا أبقى رنينهُ يصلُّ الى ما وراء المجد والزمن بينما تلاشت أصوات شعراء عرب آخرين أتوا قبلهُ وبعدهُ في رياحِ الخمول وكثرة الأسماءْ .

أنا أنتمي الى نزار قباني , أنتمي الى هذه الظاهرة الفريدة والحالة الشعرية الهائلة التي دوَّخت العالم العربي من أقصاه الى أقصاه أكثر من نصف قرن , أنتمي الى قصائده التى تربَّى عليها كلُّ الشعراء العرب الآتين بعده لا أستثني أحداً , إعترفوا بذلك أو أنكروا , ولا أريد له أن يكونَ عميقاً كما أرادوهُ هُمْ ونقادهم , بل أريدهُ ماضياً كالسيفِ وخفيفاً كذاكرة الندى ومؤجلاً كقرنفلِ الصباحْ وحاراً كمطرٍ في نيسانْ .





مصابٌ بلعنةِ فراعنتها



أقيمت في مسرح الميدان الموجود في مدينة حيفا قبل مدةٍ وجيزة إحتفالية بتدشين نشر رواية الشاعر والروائي الفلسطيني المعروف والمقيم في عمَّان إبراهيم نصر الله " زمن الخيول البيضاء " والتي قامت بتبنيّها واحتضانها مكتبة كل شيء في حيفا وهي من كبريات دور النشر هنا في الداخل الفلسطيني , ولكن حلقةً ضائعةً لا زلتُ أبحثُ عنها في تبلوِّر هذه العلاقة المفاجئة بين دور النشر عندنا والأدباءِ المقيمين خارج الوطن , لا أريد أن أقول الأغيار أو الأجانب حتى لا أُتهَّم بالتطرَّف الثقافي أو بالعنصريَّة , مع أنَّ الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله من لحم هذا الوطن مقتطعٌ ,
وليس من باب التقليل من قيمة شاعر وكاتب بحجم إبراهيم نصر الله بالتجائه القسريِّ إلينا بعدما كانت كبرى دور النشر في عالمنا العربي" المؤسسة العربية للدراسات والنشر" تحتضنهُ كأبنها وتتبنَّى كتبه . فأنني أعترف بأنه من أنشط الكتاب والشعراء الفلسطينيين في الوقت الراهن ويمتاز برأيي بغنى ثقافي وحضور أدبي آسر وشاعرية إنسانية رقيقة ومسحة غنائية صافية الجرس وعميقة الحسِّ , قرأت ربمّا كلَّ دواوينه الشعرية الأمر الذي لم أفعله حتى هذه اللحظة مع رواياته اللاتي يبدو لي أنها من الأهمية الأدبية والتاريخية بمكان .
ولا زلت أذكرُ ديوانيه " مرايا الملائكة " وحجرة الناي" وما تركاه في ذهني من عبق وتحت لساني من طعم طيِّب فأقفُ مذهولاً أمام عبقرية شعرية تستحقُ الإلتفات والمتابعة ولا أريد أن أرّددْ ما قاله كبار النقاد العرب عن شاعر مثل إبراهيم نصر الله ومنهم عبد العزيز المقالح واحسان عباس وغيرهم كثرٌ . ولكني أريد فقط وضع بضعة نقاط على حروف مبعثرة . وأريد أن أسأل نفسي هذا السؤال الحائر,من ينشرُ لنا نحنُ الجيلُ الشابْ ؟ ألهذا الحدِّ الرخيص وصلت قيمة الكاتب أو الشاعر عندنا؟
إلى مشارف كلام ٍ جارحٍ كهذا " عزيزي أنشر لوحدك وعلى نفقتكَ ولا علاقة لنا بك" حتى أنه بات وقد أضاع بوصلة روحه وأصبح حاله أو كونهُ كاتبا على حدِّ تعبير الروائي الكولومبي الفذ غارسيا ماركيز مأساة كبرى لا تعدلها مأساة في العصر الحديث . بعد تخلِّي دور النشر عنه وبعد حصاره من جهاته الستِّ على يدِ الشلّلية "الأدبية" البغيضة التي تتشدقُّ بدفاعها عن الأدب والثقافة حيناً وتارة تتنافحُ بمساعدة الشعراء الجدد وتقديم يد العون المعنويِّ والماديِّ لهم . وهم في وهمهم يشطُّونَ ويعمهون . فأنهم لا يجيدون الاَّ وطئ هام الجيل الذي يصغرهم , وتعمية وتدليسَ بل إنكارَ إنجازِ غيرهم خصوصاً اذا كان أفضلَ ممَّا قدَّموا هم .

ويقفز الى ذهني في سياق حديثي هذا كلام لصاحب دار نشر لها أسمها عن شاعر كبير عندنا بأنه أصبح يطبعُ دواوينه على نفقته الخاصة طباعة ً رقمية باهظة الثمن وبنسخ قليلة بعدما سئمَ مماطلات وأكاذيب دور النشر الواهية التي رفعت شعاراً يقولُ بأنَّ الشعر والرواية قد اُلغيا منذ زمن ٍ بعيد ٍمن قائمة المواضيع التي تسعى هي في سبيل طباعتها ونشرها والترويج لها ودعم كاتبها , وبات البحث الأكاديمي والدراسة العلمية سيَّدا الموقف , "مع الإحترام لمقولة الدكتور الناقد جابر عصفور بأننا نعيش في زمن الرواية" , هذا حسب كلام مسؤول كبير في دار نشر فلسطينية عريقة, بينما دور نشر عندنا تقوم بإستيراد الأسماء والفرسان من الخارج والميدان ملئ هنا ويضيق بهم .
كنت في الماضي قد سألت صاحبَ دار نشر إذا كان في وسعه أن يصدرَ لي ديوانا شعرياً فأجاب بأنَّه لا يرفض طباعة أيَّ كتاب على نفقة مؤلفّهِ هذا عدا أنهُ إذا نشره سيحتفظُ بالمطبوع لديه كما أكدَّ لي قائلاً أنه سيسوَّقهُ في معارض عربية خارج البلادْ. وهذا هو المتداول لدى دور النشر العربية في الخارج . يأخذون الكتاب المطبوع وربمَّا يبيعونه لصاحبه بعدما يكون هذا المسكين قد دفع نفقات طباعتهِ , أي يقبضون الثمن مرتينْ , تخيَّل أن دور نشر كثيرة تأخذ سعرَ الطباعة والكتاب نفسهُ أيضاً , هكذا شرحَ لي صاحب دار نشر مرموقة في رام الله وهكذا فهمتُ منه الاَّ اذا قصرَ فهمي . مع أنَّ سعر طباعة أي كتاب في الخارج قد تضاعف أيضاً كما هو الحال هنا "في الداخل الفلسطيني" , وعادة ما تتكرَّم دور النشر على المؤلَّف"إذا كانوا كرماءَ معهُ" بأعداد قليلة من النسخ يهديها لأصدقائه أو يحتفظُ بها لنفسه في زمن ثقافة الفضائياتْ ,وهنا أسأل نفسي "ترى هل جرى هذا الأمر مع الكاتب إبراهيم نصر الله أيضاً" ؟ هل رضي بنسخٍ قليلةٍ كما رضيَ غيرهُ مجبراً .

دائماً أقول أن أزمة النشر آخذة ٌ لدينا نحنُ خصوصاً بتفاقمٍ مُحزن . فقبل سنين معدودة كان بإمكان من يملكُ ألف دولار من الكتاب والشعراء أن يطبعَ كتاباً متوسِّط الحجم "ديوان شعري مثلاً يحوي مئة صفحة أو أكثر بقليل بغلاف أنيق" . أماَّ اليوم فالأمر مختلفٌ ويدعو إلى الأسف في ظلِّ غلاء الطباعة والورق, فسعر طباعة كتاب كهذا تضاعف الى حوالي ثلاثة أضعاف أو أكثر . ولا يوجد من يموَّل هذا المشروع الاَّ " دائرة الثقافة العربية " التي دخلت في تناحر مرير ومشاحنة مع الوزير الجديدْ الذي قيَّد يديها وأرجلها ولن يطلقهما الاَّ أن يشاء الله . وكنتُ قد منيَّتُ نفسي بها وبمساعدتها زمناً . فقد برأتُ نفسي من هذا الرجاءِ خصوصاً بعدما تيقنتُ أنَّ إسمي مصابٌ بلعنةِ فراعنتها أو ربمَّا مكتوبٌ في سجّلاتها السوداءِ أو قوائمها المنسية وأنني ضمن من لا تنفعهم شفاعة الشافعين لديها .
ماذا يصنعُ مثلي إذن ؟
لا أنكرُ أنَّ الشعر في حالة إنحسار كما يذهبُ الى هذا بعضُ الأصدقاءْ . وأنه يُطبعُ ويُباع بنسخٍ قليلةٍ ومحدودةٍ وبطبعات زهيدة تدعو الى الإشفاقْ المُرِّ الحقيقي , وبتنكرٍّ صريحٍ كضوء الشمس من دور النشر الكبيرة أو الصغيرة أو من دوائر "القرصنة الثقافية الرخيصة" على حدٍّ سواءْ.
لكن من هو المسؤول الرئيسي والأوَّل عن هذا الوضع المزري ؟ هل هو صاحب دار النشر المستورد للشعراء والكتاب الأغيارْ والوافدين ؟ أم المؤسسة البيروقراطية ودوائرها المذكورة آنفاً ؟ أم هو الهبوط الحادُّ في مستوى الذائقة العامة للقرّاء بسبب هذا الكمَّ الهائل من الكتابة الرديئة والركيكة والساذجة التي تملأُ صحفنا الورقية والرقمية وأغلب مواقعنا الالكترونية؟
أعرفُ أنهُ لا توجد إجابة مقنعة وشافية على مثل هذه الأسئلة البريئة . وأعرفُ أيضاً أن الحال ربمَّا تزدادُ سوءاً في المستقبل على ما هي عليه الآنْ . ولا يسعُ طموحي الاَّ أن يقفَ مشدوهاً أمام الآخرين عاجزاً حتى عن مناغاة حلمه الطفل . وأتساءلُ هل كان بإمكان كاتبٍ مثل باولو كويلو أو جوزيه ساراماغو أو كاتب كماركيز مثلاً أن يصل الى ما وصلَ اليه لو لم يكن يملك الكثير من الإمكانيات التي يفتقرُ اليها الكثير منَّا ؟ لكن لماذا أذهب بعيداً , هل كان بمقدور شاعر كمحمود درويش مثلا أن يصل الى ما وصل اليه من دون المساعدة الكبيرة له من أحزاب ومؤسسات وعلاقات توفرت له ولم تتوفر لغيره , وهذا ينطبق أيضاً على شاعر بحجم أدونيس أو حتى على شاعرنا العزيز ابراهيم نصر الله , هل كان بإمكان كاتب عملاق وضخم الإنتاج مثل ابراهيم الكوني أن يكتب أكثر من ستينَ مؤلفاً ترجمت الى جميع اللغات الحيَّة حتى كأنهُ آلة بشريةُ ثقافية موسوعية مثيرة للجدل والدهشة ومسكونة بعذابات وتجليَّات الصحراء في تنوِّع ثقافي إنساني يدعو الى الإطمئنان على ثقافتنا العربية وبأنَّ هناك من لم يزل قادراً على حمل المشعل ذاته الذي حمله الجاحظ وأبن رشد وأبن سينا والفارابي وغيرهم , هل كان على ما هو عليه الآن من إقترابٍ ودود لجائزةِ نوبل من دون الدعم الهائل الذي لقيَه من دور النشر الغربية قبل العربية والتي كفلت له نجاحهُ ككاتب يعدلُّ ربمَّا مارسيل بروست أو فرانتز كافكا في نظرهم ؟ ولكن لا ينسلُّ من نفسي في نهاية هذه المكاشفة/ المساءلة المريرة الاَّ طيفٌ قزحيٌ واحدٌ يسائلُ وما من مجيب , هل هناكَ أزمة نشر أم وعي ؟ !! أم أزمة أدب ؟؟!


********************


لمحة عن جمال الترَّفع

سهيل كيوان نموذجاً


من منَّا نحنُ المنتظرون ما لا يأتي , البسطاءُ في صياغة أحلامنا , المحكومونَ بالعدم وشقاءِ الدمِ الأزرقِ " حبر مواجعنا والنجوم" , يملكُ نفسهُ اللاهثة خلف سرابِ الأهواءِ الفضيِّ , كما يملكُ عفويَّة أحلامهِ وبساطتها المؤجلَّة , ولا يترَّصدُ الفُرَصَ المُبتذلة واللحظاتِ الحرجة والمواقف الرخيصة ليرمي ظهورَ أصدقائهِ الساذجين اللاهينَ بسهامِ عبثهِ غيرِ البريء ؟؟
من منَّا لا يُروِّجُ لأضغاثِ أوهامهِ وهشاشةِ أمانيهِ المُهشَّمةِ كالبلوّر على صخرِ الحياة , المبعثرة على سطحِ كوكبٍ ضائعٍ في مجرَّتهِ ؟
من لا ينافقُ في أصغرِ جزئيَّاتِ علاقتهِ مع الأشياءِ والآخرين ؟؟

حبَّذا لو فعلنا كلَّ هذا ولكن بقدرٍ معلوم ٍ ...حبَّذا .
"كُلنَّا في الهواءِ سواء" هذا ما نكتشفهُ في النهاية ونعترفُ بهِ , هذه الحقيقة تطبقُ علينا كلعنةٍ محتومةٍ , كظلامٍ قاسٍ.
إنَّ ما أغراني بكتابةِ هذا الكلامِ الجريحِ يراودني منذ زمنٍ حتى رنَّ هاتفي ذاتَ مساءٍ
وطُلبَ إليَّ أن أكتب تحيةً تقييميّة للصديقِ الكاتب سهيل كيوان بمناسبة تكريمهِ من مدرسةٍ في قرية كفر قرع , حينها أغراني سريعاً جمالُ ترَّفعهِ عمَّا إنحطَّ إليهِ الكثيرُ من الآخرينْ , من أخلاقيَّات صدئتْ في الشمس العربية , فمنهم من يطعنُ من الخلف , ومنهم من ترميني نرجسيَّتهُ بتلكَ التهمةِ أو بذاكَ الإفتراءْ أو ربمَّا بنصالِ الحقدِ المزمن , ومنهم من يتعامى ويصمُّ أذنيهِ عن صراخِ ضميرهِ في زمنٍ لا يقيمُ وزناً لقيم ولا لمُثلِ , تزدادُ فيهِ حاجتنا إلى درعٍ من الذهبِ الُمقوَّى ليلفُّنا كالجناحِ الدفيءِ ويحمينا من سطوةِ بردِ الآخرينْ .

الكتابة عن أديبٍ بحجم سهيل كيوان مُربكة قليلاً أو ربمَّا كثيراً , ممَّا وضعني في موقفٍ حرجٍ من نفسي وترددّتُ حينها لإتسَّاعِ معنى الكاتب سهيل كيوان وضيق عبارتي , فروائيٌّ مثلهُ متعددُّ الأساليبِ والطرقِ التعبيرية وفسيح المجالاتِ يحتاجُ أدبهُ الى دراسةٍ وبحثٍ علميين دقيقين أمينين ومن أكادميين متخصِّصين ليُوَّفى بعضاً من حقهِ , لا إلى كلامٍ قليلٍ عابرٍ , لإيماني بقيمة كاتب مكافح وعصاميِّ تركَ بصمتهُ على أدبنا المحليِّ , وبأنَّ خيرَ من يقيمُّ سهيل كيوان أدبهُ نفسهُ , رواياتهُ , مقالاتهُ , حسُّهُ النقدي ,سخريتهُ المرَّة ,عصاميَّتهُ الفذة , وطعمُ قصصهِ المراوغة والمراوحة بينَ الأدب الإجتماعي أو السياسي الملتزم والمفارقة الساخرة المنتقاة بعناية فائقةٍ كحجر الزاوية , وفوقها تلتئمُ مداميكُ البراعة الفنيَّةِ واللغويَّةِ .
لا أكونُ مغالياً إذا قلتُ أن سهيل كيوان يعدُّ واحدا من القلائل ممَّن يتحلّون بصفات الفرسان النبلاءْ في أدبنا الفلسطيني , فهو من زمرة أدباءٍ قلةٍ عندنا لا يقلونَّ في المستوى الأدبي الرفيع عن مجايليهم في العالم العربي في شيء , ورثوا عن جدهم عنترة بن شدَّاد بعض خصالٍ حميدة , منها العفة , حتى أنهم لا يسألون جزاءَ إقدامهم ويعِّفون عند المغنم .

بدأ كاتبنا حياته الأدبية بكفاحٍ دؤوب وإيمان جميلٍ بقيمة الكلمة التي يعشقها , ولا زالَ يشقُّ طريقه الوعرة بعنفوانٍ ومثابرةٍ يليقان بهِ وهذا هو سرُّ نجاحهِ أدبيّاً وإعلامياً .
من خلالِ معرفتي بهِ إكتشفتُ أنهُ طيرٌ نادرُ الريشِ بينَ أقرانهِ فهو ليسَ كالعديدِ من "الأدباء" عندنا ممَّن يتخذون من التملّقِ , والرياءِ الأدبي , والتمسّح بأعتابِ ذوي النفوذ , والمزاحمة والمخاصمة على أتفه الأمور وسيلةً رخيصةً إلى كُلِّ غاية أرخصَ منها . فهو ينتمي الى نفسهِ قبل كلِّ شيء , الى أفراحهِ وأحزانهِ , آمالهِ وآلامهِ , إنطلاقاتهِ وإنكساراتهِ, ماضيهِ وحاضرهِ ومستقبلهِ . ولا ينتمي الى مدارس الأكاديميين الجافة والجوفاءْ ولا الى نظرياتهم العقيمة التي فشلت في أن تخلق أدباً حقيقياً يليقُ بنا نحنُ العرب ,كما لم تفلح في إطلاق طائرٍ اللغة والفن والجمال من عقالِ الطين المتكدسِّ من عصور الإنحطاط إلى فضاءات تشعُّ سحراً . وسماوات مضيئاتٍ بالرؤى وقيم الحريَّة والإنسانية المُشبعة بالمُثل الرفيعة السامية .

سهيل كيوان أديب بكلِّ معنى الكلمة وأعمقِ مغزاها , أجملُ ما فيهِ ترفعُّهُ وجرأة أدبهِ وذكاؤهُ اللَّماحُ , همُّهُ فقط أن يبدعَ ويتطوَّر ويجيد فيما يكتب من رواياتٍ إلى أدب أطفال ٍ مرورا بمقالات إجتماعية نقديةٍ وأدبيةٍ ونصوصٍ مفتوحةٍ على الإحتمالات. دونَ أن يوارب أو يتسلَّقَ على أكتافِ الآخرينْ كما يفعلُ الأدباء الصغار غيرهُ , لديهِ إستعدادٌ فطريٌّ لقولِ كلمة الحقِّ ولو في وجهِ سلطانٍ جائرْ , ولا يداهن في رأيٍ يقتنعُ بهِ أبداً . منفتحٌ وخالٍ من مفاهيم تتمسكُّ بها الشللية وتنادي بها بأسم الأدب .
سهيل بالإضافةِ الى كونهِ كاتباً ساخراً لاذعاً بإمتياز تعدُّ مقالاتهُ الساخرة فتحاً مبيناً في أدبنا المحّليْ هو أيضاً كاتبٌ إجتماعي واقعيٌّ بإمتيازٍ وتفوقٍّ ونجاحٍ أيضاً . تعتزُّ به فلسطينيتنا وعربيتنا , هذا ما نجده في رواياتهِ ومقالاتهِ الكثيرة وقصصهِ التي لم تنل في ظنيِّ الشخصي حقها من النقد والإهتمام الفلسطيني والعربي . وأرجو أن يأتي ذلك اليوم الذي يُنصَفُ فيهِ أدبُهُ , ولا أظنُّ ذلكَ اليومَ بعيدا أو أنهُ بطيء المجيء .

يملكُ سهيل كيوان طاقة فريدةً وإستثنائية على ليِّ أعناقِ الكلماتْ ونحتها بصورةٍ تبدو وكأنها لُمِّعتْ بأحجارِ الضوءْ , وأنها لم تُخلقْ أبداً إلاَّ لكيْ تُوضع في مكانها المنشودْ والمُحددِّ لها في النصْ , لا قبلْ ولا بعدْ ولا أقلَّ ولا أكثرْ . كلُّ هذا في إستعمال دقيق ورقيق , مُحكم وحكيم لأدواتهِ الفنية , التي يحتلُّ التشويق الأدبي أعلى درجاتها .

أتمنى لهذا الكاتب المتنوِّع الثرِّ , المثير للإهتمام والإعجاب , المسكون بالجمال والتمردِّ على اللغة , الحياة المديدة السعيدة ودوام الإبداعْ والعطاءْ .

****************



نزيف الأسئلة

بين التكرّس الأدبي والواقع الجديد



منذ تلك المساءات الشفافة البعيدة التي أسرتني بها حبال الشغف الغير مرئية بهذه اللغة المتفرّدة وتخييلاتها ورؤاها المشتعلة في جسد القصيدة العربيّه منذ أكثر من خمسة عشر قرناً .ومنذ تلك اللحظات الزرقاء الغاربة وراء شفق الصبا كأنها ظلال عيون حور . وأنا في مدٍّ وجزر من يقيني وشعوري الساحر بشبه ذنب لتضحيّتي في سبيل هذا الشغف بالغالي والرخيص عندي . كما أن الفجوة بين المشهد الواقعي الحقيقي والحلم الرؤيوي لديَّ تزدادُ إتساعاً وعمقاً وغربة ً يوماً على يوم بل لحظة ً على لحظة وسط هذه التيارات العاتية للمذاهب الأدبية والأفكار الجديدة . وفي خضّم التناحر الثقافي الرقمي الذي بات يقنعنا بأن ما يكتب اليوم من نثيرات عادية تبحث عن الشعر ولا تجده وتملأ عالمنا هو الصورة الحقيقية والنموذج الأعلى للشعر العربي . ويجهل أصحابها أن الشعر هو موروث ولغة وفكر وعاطفة وخيال وذوق ومقاييس جمالية وإيقاع . تجتمع كلّها في هورمونيا عجيبة وتتحدُّ إتحاداً يصعبُ تفكيك ذراته.
وأصبح لزاما عليَّ أن أرد ُّ على حيرة القلب فيما يفسرُّ إنهزامية الشعر وغروب شمسه عندنا وفي أماكن أخرى من العالم .فإنَّ
ألكثير من الأسئلة النازفه والمتعلّقة بالمصير الحتمي للشعر خاصة وللإبداع عامة تلّحُّ عليَّ اليوم كما لم تلحُّ عليَّ بهذا الزخم وبهذه الحساسيّة في أيِّ وقتٍ مضى . ذلك أننا نعيش على شفا مرحلة فاصلة في تاريخ البشر من إنعدام مركزيّة الخطاب الحضاري . المتمثلة بالفنون والآداب وإنتهاء زمن التفرّد والنجوميّة والأضواء. وفقدان الكلمة لقيمتها العليا.
أحياناً أقول أن هذا التراجع في القيمة الأدبية أو الفكرية عندنا يرجع الى فقر في تجاربنا الحياتية بالقياس الى الغرب . أو يعود الى عقلية غير متحرّرة بعد من قيود عديدة منها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية .
نعم, لدينا مواهب ربما بحجم مدهش ولكننا لا نملك أدباً كأدب الغير ولا أدباء مكرَّسين وناجحين في الوقت نفسه كهنري ميلر وماركيز وتوماس مان وغيرهم لسبب بسيط فقط , لأنهم جعلوا من الحرية الانسانية قيمة عليا فوق كل القيم والاعتبارات .ولأنَّ لغتهم ممتزجة حتى القرار بدماء تجاربهم الحياتية , ومتقاطعة مع خطوطها الكثيرة الطولية والعرضية كل تقاطع ومتماهية مع ذواتهم حتى النهاية , ولا سلطة لدين أو أخلاقيات أو تقاليد مجتمع على أقلامهم ,هنالك فقط إخلاص للفن والتجربة , هذا عدا عن تقديس الكلمة بوصفها المادة الخام المستعملة في صياغة الملحمة والتاريخ والمستقبل .
هذه التداعيات ربمّا تفتّحت جروحها من قبل . ولكنها لم تكن ذات وجعٍ
مقلق كما هي الآن . كنت في حداثتي أحاول أن أعزّي النفس وأرفو جراحها بشتّى الأسباب الداعية الى التفاؤل والشجاعة في مواجهة هذه الحياة بسلاح الشعر ولكنّي في هذا الوقت بالذات أعرف كم كانت نزوة الحداثة جامحة .وكم كان مسكوناً حصان تلك المرحلة بعد الطفولية بلهيب بابلو نيرودا .كانت الأشياء "كل أشياء الكون" لا تزال محتفظة في ذهنيتي الغضةِ تلك بكلِّ حرارتها وغناها الوجودي المعنويِّ . كان الواقع بكلِّ صوره وتجلياته اللانهائية يبدو لي وكأنه مأسطرٌ " من أسطورة" ولم تنشرخ مراياه بعد وتتكسّر أمام عينيَّ كما هي الآن . كسرٌ من نجوم على شاطئ وجداني . كنت أعيش بالروح في صميم رومانطيقية أوائل القرن التاسع عشر الأوروبية وكان جسدي في أواخر القرن العشرين .أي أنَّ قرنين من الزمن تقريباً كانا يفصلان ما بين روحي وجسدي . وكان الشعر بأجنحته يشرع لي أبواباً سماويّة غريبة ويدشنُّ أرضي بالفتوحات الجديدة .كنت مثل شاعر دون جوان يعيش ويدور في مدار وهمه يكتب حياته قصيدةً في إنتظار عبثيِّ لمن أحبّْ حتى لو كان إنتظاره أطول وأسخف من إنتظار "جودو" بآلاف المرّاتْ .
كنت أعتقد كما يعتقد الحالم أن الشعر لا زال الملك أو كما قال نزار قباني يوما عنه بأنه "ملك الملوك" . هذا إحساس يصحبني وأحاول أن أخدع نفسي به . ولكن الحقيقة الواقعية تقول أن الشعر لم يعد ملكاً ولا حتى صعلوكاً بل أقلّْ من ذلك بكثير . ولم تعد هذه المهنة الملعونة / المقدّسة تردُّ على تقلبّات روح العصر وسؤالها الوجوديِّ الصعب .
ولقد قادني إحساسي بهذ الفراغ النسبي لجماليّات الحياة وروحانيتها وشعوري بضحالة تجربتها وسطحّيتها أن أطرح على شاعر فلسطيني يعتبر رمزا شعرياً لامعا لا في مرحلة سابقة وحسب بل في الراهن واللاحق سؤالاً بديهيّا يلخصُّ الكثير من قلق الريح والحبر فيَّ .
ماذا يحتاج الشاعر العربيُّ أليوم لكي "يكون"؟
وبكل ما تحمل هذه أل" يكون " من معان ٍ ودلالات وأبعاد وتصوّرات .
في حديث لي مع الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم قال أن على ألشاعر لكي يكون حاضراً في المشهد الإبداعي العربي
بقوة ونجاح وعمق عليه أن تتوّفر له ثلاثة أسباب أو عناصر مهمّة .
العنصر الأوّل هو الإستعداد النفسي السيكولوجي الداعي الى تحفيز السليقة البديهية لدى الشاعر للكتابة ومحاورة الأشياء . بالإضافة الى الموهبة الفطرية التي تولد معه وتنمو بالرعاية والقراءة والتثقيف وتصقلها الأسفار
وهي الشيء الوحيد المحتفظ بفرادة الإنسان وتميّز طابعه .
والعنصر الثاني فهو ما أسماه القاسم بالرهبنة الشعرية أو الإنقطاع والتكرّس للشعر والإخلاص له والإيمان بقيمته العليا وجعله فوق كل إعتبار آخر. مهما كانت العواقب والظروف الحياتية . بوصفه أحد آخر المحاربين الوجوديين على كياننا كبشر نملك أحاسيسَ وعواطفَ سامية ويجدر بنا أن نعبرَّ عنها وفق أهوائنا وأحلامنا الغير منهوبة . أمّا العنصر الأخير فهو التجربة الشخصية الحياتية بكل ما فيها من تقلبّات ورغبات وبكل ما تحمل من جموح الحياة وتناقضاتها . كأن يبيت الإنسان في سجن وضيع ويصبح في فندق سبعة نجوم . أو تقذفه الحياة من قمة أحلامه الى هاوية جحيمه بين عشيّة وضحاها . وأضاف أيضاً أن الشاعر لا تصنعه الأضواء ولا الدعاية بقدر ما يصنعه نصه . ولا فائدة من تلميع إسم شاعر معيّن إذا كان ما يكتبه رديئاً. ففي عصور خلت إمتلأت الأرض بأصوات مندثرة لشعراء كثيرين عاصروا هوميروس والمتنبي ودانتي وشكسبير .إذ أن المقياس الوحيد للنجاح الأدبي الحقيقي هو القيمة الكتابية وليس أي شيء آخر .
وأردتُ هنا أن أشددَّ على كلمة "رهبنة"لأن هذا المصطلح فضفاض لا أعتقد أنه يناسب زماننا ومكاننا بقدر ما كان يناسب الماضي . كنت مقتنعاً أنه لا يفيد شيءٌ وسط هذا الكم الهائل من الأسماء وأمام أساليب وطرق جديدة لنشر الأبداع وتوصيله بأسهل الطرق الى عقلية قارئ مشغول بسطحيّات الأمور ومنهمك بما يتيحه العصر من شواغل أخرى أكثر تسلية ً
وبساطة ولا تشقُّ على الذهن . أما اليوم فالرهبنة الشعرية التي يحلم بها بعض المثقفين بإيمان الشعراء العميق علَّ مركبها يوصلهم الى شواطئ الإبداع الجديدة والنائية قد تكسرّت هي ومركبها الهش على صخور الواقع القاسية وتناثر حطامها على شاطئ الحياة .
كنت مسكوناً بنار نبيلة ومأخوذا بروعة هذا التمردِّ الجليِّ ونبرته التي أخرجتني من صلب واقعي بعض الشيء وأشعلت حطام هذا المركب الغريق "مركب الرهبنة الشعرية" وحوّلته رماداً لعنقاء أخرى. بينما كان صوت القاسم يفيض حباً لهذا الوطن وترابه.وحماسةً وكرماً قلمّا وجدتهما في شاعر غيره . كان بسيطا خلوقاً كفارس القصيدة النبيل.
ألذي ما زال من أهمِّ المدافعين عن قداسة وأصالة لغتنا ومن المتغنيّن بروعة الشعر العربي القديم وإشراقة ديباجته وغنى تجربته . هو حارس جمالية الموروث الشعري العربي ومن أبرز القابضين على جمر القصيدة المقاومة والهادرة في وجه الظلم والقمع والموت العربي .
ولكني في أعماق نفسي كنت أحسُّ أن هذا الكلام ربما يكون حماسيّاً أو ربما يكون عزاءً حميماً لي من راهب الشعر العربي المتمرّد . وكنت في دخيلتي أقول أرجو أن يكون هذا الكلام الذي يقال صحيحاً لأحاول أن أرممَّ به بعض خراب الروح . وأشحن همتي لكتابة قصيدة جديدة تسيل دم الأسئلة فقط .لا أريد لها أن تتحدَّى طائرة أو بارجة .بل أريدها أن تنطلق كفراشةٍ أو كطير سنونو في المدى أو تذوب كقطرة ضوء بنفسجّية اللون على أعتاب الشمس .وأنا واثق أشدَّ الثقة من أن الشعر قد مات وليس هذا الغناء المنطلق من حناجرنا بين الحين والحين . الاَّ مارشاً جنائزياً في طريق الشعر الأخيرة .


*************************

فرادة القراءة والإضافة


أحياناً كثيرة أسأل نفسي ما جدوى أن أكتب نصاً شعرياً آخر؟ ما فائدة أن أضيف الى هذا الكم المعرفي الهائل كلمة بسيطة ؟إذا كانت لا تحملُ في طياتها فرادة عظيمة . وأنا مؤمن أعمق الإيمان أني كمن يضيف الى محيط زاخر بالمياه قطرة ماء واحدة لا تزن ذرة من خردلٍ. أو يشعلُ شمعة خضراء صغيرة في نهار مليء بالشموس العظيمة الضوء . كثيراً ما ينتابني شعورٌ بأني عبثاً أضيعُ عمري وأني لن أصنع أفضل ممّا صنع غيري أو أضيف جديداً مبتكراً , ويراودني شوقٌ كبيرٌ حينها الى الصمت الجميل "صمت رمبو" أمام هذه الملايين من المجلدات والكتب التي تفيض وتزخرُ بها مكتبات العالم وصروحه الحضارية الثقافية . وأقول في سرّي " هل هناك شيءٌ جديٌّ لم يقال بعد , أو هل هناك سؤال لم يسأل حتى الآن" ؟؟. وما زال محتفظاً بحرارته الأولى وبجدارة أن يُطرح .
أنا أدعو نفسي دائماً الى تجاهل هذا السؤال تماماً وأحاول أن أتمرّد على روتينية الحياة والكون القاسية . ولكنَّ خوفاً في داخلي ينمو ويحدثني بأني ربمّا سأستيقظ في غدٍ بعيدٍ ذات صباح ربيعيٍّ بلا قصيدة . أستيقظ بلا رغبة حية بتأثيث هذه الفوضى العارمة التي تجتاح ما حولنا . وتحوّله الى رماد عنقاء ملوّن . أو الى قبض ريح .
ربمّا سأستيقظ بعد إنطفاء شعلة العاطفة البودليرية العظيمة وتلاشي لمعان الذكاء الشعوري الراجح على كل ملكاتي المكتسبة . أقصدُ بذكائي الشعوري تفجرَّ الحسِّ الإنساني المتصيّد لكل متناهٍ في الصغر من ذرات الحياة والوجود . أما الملكات المكتسبة فهي كثيرة منها إكتساب العلم والثقافة والإلمام باللغات العديدة لتوسيع مدارك العقل وعاطفة القلب .
إن لهفتي في إبتداع شيءٍ جديد له خصوصيته وجدته وتميّزه هي ما يدفعني غالبا الى التمسّك بأطياف الحلم الأخير المتلاشي في فضاء التفجرِّ المعرفي والديموغرافي الهائل ووسط تصحرِّ القصيدة الكليِّ في مناخ فقير وخالٍ من الإضافات النوعيّة أو تلك المتفلتة من سطوة التابوهات عليها.
ولكن هل هناك عبقرية في الخلق الإبداعي من غير عبقرية فهم ومحاورة ومكاشفة الأصل الموروث والمؤثرِّ ِفي نفس قارئه ؟ بملامسة مواطن القوة والجمال والجدّة فيه . والتأسيس عليها .
وهذا لا يأتي الاَّ عبر قراءة كاشفة ونافذة لها فرادة الحسِّ وعبقريته .
فكلُّ الإبداع في نظري كتابة واعية على كتابة واعية أخرى .
رغم الوعود الكثيرة التي قطعتها على نفسي بقراءة قدر ما أستطيع من المأثور الفكري الشعري القديم أو الغربي الحديث خصوصاً الروائي الذي طالما تمنّيت أن أكشف خفايا سحره وأستبطن جماله , إلاّ أني حتى هذه اللحظة لم أحققُّ الاَّ الإنجاز القليل المتواضع وما زلت في انتظار الفتح الكبير عله يغني العاطفة والعقل من جوع .
ألم أعد نفسي بقراءة الإلياذة بصمت داخلي وبنفس طويل أو ملحمة جلجامش البابلية كاملة قراءة كاشفة وفاحصة ومتأنية ومن غير توقفٍّ ؟ ولم أفعل, وهذا ينطبق على مؤلفات الأدباء الروس الكبار أمثال دوستوفسكي وتولوستوي وغوركي وبوشكين , ومؤلفات الكتّاب الفرنسيين ومنهم هوغو وفلوبير وبلزاك . والأدباء الألمان وعلى رأسهم جيته وتوماس مان وشيلر . أقصد بقرائتهم قراءةً كاشفة أصلُ فيها الى قاع نفسية الكاتب , والحقيقة المطلقة لعراء الذات أمام بياض الورقة ,والى ما أراد الكاتب أن يوصله الى الغير ,من خلال تمعّنِ الحبر الخفي المتلألئ بين ثنايا سطوره والأهمِّ من كلِّ هذا أن أصل الى عبقريّة الإضافة الحقيقية وفرادتها داخل النص.وسأضرب مثلاً على هذا من خلال قراءتي لأعمال الكاتب اللبناني العالمي المبدع والمثير لغبار الجدل جبران خليل جبران فهو متجددٌ في كل أوان وقادر على إدهاشك وتغيير رأيك المسبق عنه في كلِّ مرةٍ جديدة تقرأه . ففي كل قراءة تجد نفساً آخر وروحاً جديدة وعالماً مختلفاً وكأنَّ الذي يكتب شخصٌ آخر فهو يختزن طبقات ثقافية رهيبة ويمتلك بعداً انسانياً عميق الجذور والأصالة . تستطيع أن تكتشف في كل قراءة نهرا جديداً يتغلغلُ فيكَ ويرفُّ كأنه طائرٌ غريبٌ وتلمسَ ضوءاً يدغدغُ أطرافك وقيمة فنيّة وإنسانية فذةً بالإضافة الى حلم متناسخ عبر القراءات . فجبران كاتبٌ يعرف كيف يضيف وكيف يحررُّ ذاته تحريراً كاملا في الكتابة . وهذا التجددِّ الدائم لماء الإبداع وجدته أيضاً عند شاعر لبناني جنوبي جددَّ في بلورة القصيدة العربية وإشكالية حداثتها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي هو محمد علي شمس الدين فمنذ قراءتي الأولى له قبل سنوات عدة ما زال يثير فيَّ الفضول والرغبة في كشف قاموسه الشعري المكثّف والصعب والمشاكس والمستند الى عالم غنيِّ متنوعِّ ولا نهائيٍّ من التصاوير التي تشكلُّ خامة كتابته الشعرية , فهو عميق الغور متعددُّ المعاني يغلب على شعره الغموض الشفيف ومساءلة الموجودات الجمالية . وتفيض كتابته بتوظيف الرموز التاريخية والأسطورية الكثيرة بما يشبه الإيحاء المجازي والتناص التاريخي في جدّة ٍ إبداعية وإحتراف أدبي مشهود . ممّا يجددُّ في روح ونهر الشعر العربي الحديث .
وحتى هذه اللحظة أتشبّثُّ بالمنى وأتمسكُّ بحبال الوهم والحقيقة علنَّي أحققُّ وعدي لنفسي , أقول أحيانا ربما جنى عليَّ الشعر بأن وهبني لعنة رفاهية القراءة المتمثلّة بمزاجيتي الغريبة المرهفة القصيرة النفس أحياناً لديَّ والتي ما أن تهبط على زهرة حتى تطير الى أخرى وهنا أقصد المواد الفكرية والفلسفية المستعصية والتي تذكرني بلغة دروس الحساب الجافة ,فكل قراءاتي الفكرية الأولى كانت كهبوب النسيم الخفيف على حديقة المعرفة , ولم تكن قراءة المقيم المتبصّر المستجلّي للخفايا.
كثيرا ما حرضّني الأدباء المصريون الكبار" أدباء الحديث الخفيض" أمثال سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وأنيس منصور, وبقوة لا يُصمد في وجهها على إقتحام عوالم أدباء الانسانية خصوصاً في العام الأخير كما لم يحرضنّي أحدٌ يوماً ما على التوّفر الفسيح الجادِّ على كنوز هذا الأدب , والنهل من ينابيعه الثرّة الصافية التي لا تنضب الى الأبد , وأذكر كيف كان الكاتب المصري توفيق الحكيم أوّل من حرضنّي على قراءة شيء من تراث الشاعر الفرنسي جان كوكتو, ولكنني في كل مرةٍ كنت أشعر بضآلة ما يكتب اليوم إزاءهم ,وأخاف أن يجيء ذلك اليوم الذي أصمت فيه أمام روعة وإدهاش أعمالهم , أخاف ألاَّ أضيف الى ما قدّمت أياديهم شيئاً يُحفظُ لي . وأخاف من صباحٍ بلا قصيدة أو قصيدة بلا صباح يعانق جمال صمتها .


****************************



وداعاً نزيه خير ....وداعاً عاشقَ الياسمين


وأخيراً رحلَ نزيه خير , عاشقُ الياسمين الحييُّ وغرّيدُ الكرمل وما زال ترجيعُ نشيد إنشادهِ يترددُّ في كياننا , رحلَ مستعجلاً وقبلَ أوان إزهار اللوز , قبل أن يعانق مدينته الضائعة ويمسح الثلج عن خدّها . قبل أن يكملَ نبوءة الريح التي تغنىّ بها طويلاً . كأنه وقصيدته على سفر الى ما وراء المطلق.
لا زلتُ أذكرُ صوته الشجيَّ الممسوح بفضة الدمع وعبقه الحار والمشحون بعاطفة الصيف الغريب يتسربُّ الى قرار كياني الجريح في ذلك الصباح التموزي العذب الباهر ريحه والمسكون بالتجليّات .
لن أذكر الآن إطراءه لديوانيَّ الأولين وكلامه الحميم عنهما وهو الذي لم يجامل أحدا أبداً ولم يطرِ شاعراً في وجهه الاّ فيما ندر .
لن أذكر صدق وفائه الذي فاض من حديثه ذاك فهو أكبر من أن يذكر فكلنا نعرفه في طوايا نفوسنا ونقرُّ بسموِّ روح صاحبه .
بل سأذكرُ ندمي المتفتحِّ مثل زهرة النار , ندمي لأني تقاعست ربمّا بلا سبب عن تلبية دعوته عندما دعاني الى لقاء في برنامجه الأدبي الثقافي الأثير عندي "شرفة" ذلك البرنامج الذي كان يعدّه إعداداً راقياً ويقدّمه
في قناة 33 في التلفزيون . طلبت منه حينها بأدب وحبٍ ولطف جمِّ أن يُرجأ مشاركتي ولقائي به الى المستقبل الغير منظور . وكم هي خسارتي فادحة الآن .ماذا كان سيحدثُ لو كنت إستثمرت هذا اللقاء معه؟
لا أدري ما هو سبب تقاعسي عن هذه المشاركة آنذاك وكان أجدر بي أن أغتنم مثل هذه الفرصة التي ضيعتها كما ضيَّعت غيرها .لترسيخ قناعتي بما أقوم به .
أهو الحياء أم الخوف؟ أم شيءٌ آخر؟ وقتها فقط حين لم يعاتبني الشاعر الرقيق الناعم الكلام أتهمتُ نفسي بهما .
رغم مشاغلي الكثيرة أيام السبت لم أكن لأفوّت فرصة مشاهدته والإستماع الى محاوراته الذكية الصريحة وأسئلته المتغلغلة في أعماق الوعي الثقافي السائد عندنا , كانت تشدني وتأسرني طريقته في مناقشة المواضيع , وعباراته الشفافة المنحوته من صخر المعرفة وكانت حساسيّته الشعرية الواضحة جليّاً في مكاشفاته الكثيرة تلك سيدة المشهد .
أذكر في أحد الحلقات مع الروائي سهيل كيوان دفاعه الجريء عن ديوانيَّ الأولين في وجه لصوص "دائرة الثقافة" .
أستطيع أن أقول الآن وبلا محاباة ورياء وتصنعٍّ بل بثقةٍ وفخرٍ يعانقان النجوم أن نزيه خير هو الذي علمّني الإحتفاء برائحة الطبيعة وبأنوثتها وبأسماء الورد أكثر في شعري , قاموسه الشعري قاموس جميل لعشق الأرض بأزهارها ومكانها وأبعادها ومسميّاتها المطلقة . وهو أيضا من أغراني بحشد مواصفات ومعانقات تاريخية في تناص رائع . كيف لا وهو أحد شعرائنا الكبار .
لا أكاد أصدقُّ حتى هذه اللحظة رحيل هذا الفارس العربي النبيل ولا أستطيع أن أتخيّلْ مشهدنا الشعري خالٍ من إطلالته العالية ,لا أستطيع تصوّر وجداننا الشعري الجمعي خال من حضور إبداعه . فهو ريحان وعبقٌ في الذاكرة . كان منفتح العقل والقلب والروح لم يكن أبدا ضيق السريرة والعلن كان أفقه مفتوحا لكل طائر غريب .
لم أسمع منه كلمة واحدة تدل على ملل أو إحراج أو ما شابه في كل أحاديثي الهاتفية معه كان يشعُّ بشاشة وطيباً ومرحاً حتى في أشدِّ فترات إنشغاله .كأننا كنا متعارفين منذ سنين طويلة أو كأننا أصدقاءٌ من جيل واحد .
أذكرُ الآن مقالاته ولغته التي فاضت حزنا ووفاءً وصدقاً إثر وفاة البعض من أصدقائه الشعراء العرب منهم عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وعبد الله البردوني ,لم يهذبُّ لوعته أبداً , أذكر كيف كان يتفجرُّ نثره رثاءً قوياً وعاطفة صادقة ًأعظم بكثير من عاطفة كتبت مراثي المدن الأندلسية . كانت مقالاته تلك أيقونة في صدر مرحلة ذوت من سفر الوجود الشعري الإنساني , وكانت تقريباً وإختزالاً لذلك البعد المترامي في المسافة والهويّه والثقافة والإنتماء .
لم أمر بالدالية يوماً أو أنظر اليها وهي خبط العصا جغرافياً من هضاب طبعون الأ عشقتها لأجله أو تذكرته وسكنت إطمئناناً الى هذا القرب الجغرافي الروحي الشعريِّ الجماليِّ المشترك بيننا , لن أصرخ ذات يوم وأقول قولة أخيك الكبير بدر شاكر السيّاب
"قساة كلُّ من لا قيت" أو قولته الأخرى "كلُّ من أحببتُ غيركَ ما أحبوني " ولكن سأقول رغم هذا البكاء الخفيِّ الذي يملأ غصن جسدي أنني لستُ بحاجةٍ الى دمع يهبُّ من فضاء الروح لأثبت لك حباً غامضا مجهولاً منحتكَ أيّاه , لم تزحزحني عنه قسوة الآخرين وزيفُ أشباه الشعراء . فإلى جنان الخلد والشعر والنبوغ يا أبا فادي أيها الكبير الذي عانق صوته الشجيُّ أعماق الروح منيّ ذات صيف جميل هادئ . الى جنة الله يا شاعرا لم يوارب يوما ولم يتلوّن ولم يجامل أحدا وكان وفاؤه عندي مثلاً .

*************


طيور السكونك


انتقد احد الكتاب في مجلس ضمني به ,مؤخراً اضافة الى شاعر آخر صديق ,الحداثة الشعريه, واردف قائلاً ان الاعجاب بالشعراء المحدثين هو آني ومرتبط بحميمية معينة.
وأضاف الشاعر نقدا على هذا النقد فقال ان الشعرية العربية الحالية تفتقر الى الشعراء الحقيقيين, أمثال المتنبي في شعرنا العربي القديم , والذي يعتبره صاحبنا الشاعر الأوحد في تاريخ الادب العربي عامة.
ثم إنتقل بعد ذلك الى الكلام عن الشعراء اليونانيين ,وعن الشاعرة اليونانية سافو المعبرة عن الوجد الانساني والفرح بالحياة والتحرق بالجمال الخالص قبل ولادة حضارات الشعوب الأخرى,وقبل نطقها بأول كلمة تعبر عن خلجات روحها بالأوصاف والتشبيهات العذراء.
كنت أسمع ولا أنكر ما يقال لكنني خرجت من المجلس وأنا مليء بالتساؤلات الغامضة حول عملية الكتابة الابداعية ومثقل بضباب القصيدة الفضي ,وبسحر الأفكار الجميلة ألمجنحة, نفس الغموض والأفكار والرغبة الجامحة في استقصاء تجربة الغير الكتابية التي كانت وما زالت تنتابني بقوة عند سماعي لأحاديث كتاب وشعراء عرب وأجانب,أمثال البياتي وأدونيس ومحمود درويش وعصام العبدالله وبول شاؤول والماغوط وباولو كويلو وساراماغو ,حول علاقة الكتابة والشعر والفن بالحياة وبطبيعة النفس البشرية والأمزجة
الجمالية المختلفة .
تلك أحاديث كانت دائماً تتركني أبحث عن ذاتي الشعرية تحت سماء لا اعرفها .تماماً كما قال صديقي الكاتب .... أحاديث كانت تترك فراغاً روحياً ,وعلامة سؤال في ذهني دائماً حول أمور كثيرة ومتشعبة .
كنت أحس من خلال حديثهم أنهم يعبرون عن نفسي وذاتي ألتائهة الباحثة ابداًعن ألامثل والأجمل , أكثر مما عبروا عن ذواتهم.
فأنا لا أفهم سر هذا الغموض الشفاف النابع من قلق الشاعر أو الفنان على مصيره ,في عصر الذره , والنابع ايضاًمن حزن عميق أسطوري بعيد النزعة كحزن عبد القادر الجنابي او حزن ناتان زاخ أو محمد الماغوط او ادونيس ,والقائمة طويلة .
أظن أنه من المهم أن نحاول استدعاء مخيلة الآخر المختلف .
او نمتلك حاسة اضافية تحاول التقريب بيننا وتجعلنا نتأثر بعضنا ببعض لبلورة رؤى شمولية
طازجة وجديدة,وذات روح متمردة وثائرة على قيم جامدة.
أما عن مسألة انصهار النثر بالشعر أوالعكس فلا بأس بأن نستمتع بنماذج راقية لنثرية بول فاليري وسعيد عقل وجبران وأمين نخلة .
والاعجاب بنرجسية بروست وطاقته على التغلغل في نفس المكان وفي نفس ألقارىء.
ان النثر في رأيي هو بلورة المادة الكتابية والشعر هو اطلاق أجنحة لطائر حبيس في اللاوعي الذاتي.
النثر تراكم وتجمع لمخزون الوعي في بؤرة واحدة والشعر محاولة لنثر مخزون اللا وعي في الهواء الطلق. الشعر أخيرا نوع من مشاكسة فردية لروح الوجود.
ولكتابة مادة ابداعية كقصيدة مثلاً,لا بد وأن تتوفر للشاعر فسحة من الحرية على حد تعبير ناتان زاخ, والا سيجد نفسه محاصراً بما يفسد عليه احساسه بجمال الشعر والحياة .وبجمال روحه أيضا.
الشعراء هم (طيور سكونك)هذا الكوكب الموبوء بالظلم كما يقول الشاعر السوري المعروف نزيه ابو عفش .والسكونك هذا طائر اسطوري جميل او ربما مخلوق غريب نصفه طائر ونصفه الثاني حيوان حساس لدموعه رائحة عطر تدل عليه صياده ,فاذا وجده أخذ السكونك بالبكاء المر كوسيلة اخيرة للنجاة و لدفع الخطر عنه واسترحام الصياد.
ويبقى السؤال عن الشعر والشعراء مفتوحاً.

*****************************



لغة الجمال


لكلٍ منا حاسةٌ تقرأُ في ما وراء النص أو ترى المعنى في اللا معنى أو الحسيّ في المجرّد أوالعكس ! ربما نسميها الذوق أو مقياس الجمال . ولكنها نسبية على أية حال . ننفذ بواسطتها إلى الحس الخفي والى مواطن عميقة داخل الموروث الأدبي والفني . أو داخل الرؤيا الانسانية الداعية الى مثل عليا ، المتمثلة بجمالية لها علمها ولها مدارسها ونظرياتها التي تدرس في المعاهد والجامعات في الشرق والغرب نفهم من خلالها أعمال عظيمة ونستوعبها ونحلل في ضوئها الياذه هوميروس . وإنياذة فرجيل وفردوس ملتون ،وكوميديا دانتي ، وروائع شكسبير وكيشوت سرفانتس المدهش تحليلاً ذاتياً يدخل الروعة والإعجاب الى نفوسنا ويمدنا بشوق جارف الى المعرفة واكتشاف سر الحياة فينا .

هذا ما يتعلّق بحراس الجمالية الكبار . ولكن هل خطر ببالنا أن نسأل أنفسنا مرة أين الجمال فيما نكتب ونرسم وننتج من أعمال أدبية وفنية نظنُها ذات قيمة حقيقية ؟ في زمنٍ إنهارت فيه الصروح الفنية والأدبية والمعنوية الشاهقة التي كانت تزين حياة الأجداد وتضفي رونقاً على تاريخ الكتابة .
لا أدري ما الذي يدفعني للقول أن السواد الأعظم من كتابات شعرائنا وكتابنا الشباب خالية من جوهر الجمال الحقيقي ، الجمال الذي نلمسه في كتابات وإبداعات أخرى إخترقت جدار الصمت والزمن والأرض والأسئلة المفتوحة .

والجمال هو ذاك العنصر المشع الباقي والخالد في كل شعر عالمي وعربي وفي كل نص أدبي تحدى المذاهب والمدارس الأدبية التي إنقرضت أو إنقرض تأثيرها على ما أظن . وأصبح هاجس ما بعد الحداثة الهَمَّ الأول والعنصر الوحيد الذي يشدنا ضوؤه السحري في هذه الأيام المشحونة بالألم الأخضر والقلق . فالشعر العربي اليوم يراهن على الجمالية ويراهن على المضمون ايضاً .
بعد تراجع الشكل التقليدي - في رأيي - وإندحارهِ الى الأبد . ولا مستقبل للتقريرية في الشعر العربي أو العالمي بعد اليوم . الشعر يخطو اليوم نحو التعبير بالطاقة التصويرية الهائلة أو المجازية اللغوية الجديدة . أو بتفجير الطاقة الكامنة في اللغة الحية المعاصرة على حد تعبير أدونيس . فالحداثة في العالم اليوم تخطو نحو السحر الشفاف والغموض الممسوح بالضوءِ . واعتناق مبدأ - هنا الآن - المختزل لفكرة الحداثة . لدى بعض الشعراء والمفكرين العرب والأجانب على حد سواء.ولكن ما يجري عندنا هو عكس ذلك باستثناء مجهودات فردية قليلة . لو عدنا الى أغلب النصوص التي تطالعنا اليوم من على صفحات الجرائد لوجدناها تفتقر الى كمية وافرة من زيت السمك على حد تعبير الناقد اللبناني مارون عبود. فهي تعاني من فقر الدم . ولا نحس أنها حية أو أن بها معلماً واحداً للحياة ، أغلب القصائد ايضاً كلمات مرصوصة تائهة . وخالية تماماً من الجمال والإيقاع النفسي الداخلي والخارجي . كما أنها خالية أيضاً من الأوزان والموسيقى . أو ربما كانت أوزانها رتيبة مملة وتقليدية . وبما أن بعض الشعراء اللبنانيين يطلق على الأوزان والبحور صفة أسوار حول مدينة الشعر وأظنه شوقي بزيع ، فإنني أقول أن السور الوحيد حول مدينة الإبداع والشعر ، هو الجمال .
جمال الصدق والفكرة والطرح والإيقاع والدهشة . فالوزن وحده لا يفي بالغرض والمعاني معروضة في الشوارع كما قيل قديماً . ويقال الآن . لكنها بحاجة الى صياغة جديدة مختلفة . وقريبةٍ من قلب الراهن الموجود .

من هنا فإنني أنصح الجميع باللجوء الى الموروث العام العربي والعالمي والاستفادة منه بعد استيعابه جيداً . والتجديد من خلاله في كل الأساليب . وطالما أن الحداثة هي البحث عن المجهول المطلق ، والمجهول الجمالي المندثر فينا طبعاً , كما قال - قائلٌ مرةً فلا بأس إذا أبحرنا في بحار الإبداع على طريقة الأبطال اليونانيين ، بحثاً عن عوالم جديدة أو أرض عذراء . مملوءة بالسحر والضوء والجمال . والرغبة المجنحة الى إكتناه الذات والوجود .
قصيدة جميلة لا تفصح عن نفسها بسهولة هي محاولة لفهم العالم ولفهم الذات بحساسية مرهفة وليس أكثر أو أقل من ذلك . أو ربما هي محاولة للتمرد على الموت بسلاح أبيض . وفي اعتقادي ان انقلابات الشاعر على نفسه من خلال التجديد في الصور والمعاني والأساليب التي هي الجوهر دائماً ، لها دلالات واضحة أن الكتابة الإبداعية بحاجة دائماً الى التغيير والرفض وتجديد واعٍ مستمر . وما الشعر الحُر إلا صورة حية من صور هذا التغيير . والتجديد ، الذي يضعنا دائماً أمام تحديات كبرى . وأمام طموح عظيم لا ساحل له . توحي به ثورة عارمة في الشعر اجترحها السياب وحمل نارها شعراء قصيدة حية ذات دم حار . كأدونيس والماغوط وأنسي الحاج ودرويش وسعدي يوسف . فرسان الحداثة الشعرية العربية وحراسها الجدد المحترقة أصابعهم بشمس برتقالية وبندى أخضر اللون .




******************************


عنقـــاءْ الشِعــر


كثيراً ما أستهوتني فكرة الحديث عن اللحظة الشعرية الخاصة ، أو فكرة التأمل اللاشعوري لحالة الرؤيا الشعرية المنثالة من تخيلاّت وتصوّرات لا ترتبط بزمان ومكان ، بقدر ما ترتبط بعناق الشاعر الرائي لذاتهِ الأولى الرافضة كُلياً إنفصالها عن جزئيات حياته وطرق تفكيرهِ وبروق عواطفهِ الملغزة . إلى أبعد حدود الإلغاز .

فالحديث عن الشعر أشبه بالحديث عن شيءٍ نحسُّه ولا نستطيع أن نفسّر بالكلمات البسيطة الحسيّة ظاهرته المجرّدة ومعناه المجهول ، كالحب مثلاً ، المرتبط بإفرازات هرمونية كثيرة ، وتغيرات فسيولوجية في أجسادنا العاشقة لا نستطيع أن نحدّد منبعها ونتخيّل ماهيتها . وجوهرها ، ربما هي مصدر أحاسيس وعواطف ، فإنَّ الشعر ، هذا المفهوم الدقيق وبالأصح الكائن الغامض كلما أحسست بأني سَبَرتُ غورهُ واكتشفت موطنه الأصلي البعيد وجدتُ نفسي أجهل الجاهلين به ، هو يتكوّر بشكل سريع وغريب ومفاجىء كالشهوات المؤجلة أو كالمطر الاستوائي الحزين المنهمر داخلنا وفي أعماقِ ذواتنا ، ما عادَ ذلك الحنين القديم أو التحفة الزمنيّة أو الصديق الروحي الذي ألِفَه الرومان والإغريق والجاهليون ومن أتى بعدهم من شعوب وحضارات . فطالما وجدتُ نفسي في دوامة نوازعه الطاغية . أدور في فلك لا نهاية لهُ . هو فلك الشعر أو مجازياً بقعة الضوء الباقية في سراديب أرواحنا . حتى أني أصبحت أشبّههُ بطائرِ الفينيق أو بعنقاء الألم والرماد ، إذا إختفت ما تلبث أن تظهر بلون وشكل جديدين لتحلّق من جديد في فضاء الكون والحياة .لتملأهما أصداءً ساحرةً وألواناً جديدة براقةً كأنما طائر الشعر هذا يشكلُّ القاسم المشترك بين كل الطيور السماويّة على هذه الأرض . والنغمة الموزّعةُ على التاريخ . والتي غناها فرجيل وهوميرس ونرفال وبودلير ورمبو . وردّدها المئات في الشرق والغرب مع تنويعات وإضافات رائعة ، فنرى هذا الطائر المحاصر ذا الريش الملوّن ينطلق الى آفاق غير محدودة ليتحد مع ألوان وأطياف قُزّحية مترامية في السماءْ . أقصد بها الرؤية الكونيّة الشموليّة للشعر الجديد في زمنٍ لا محدود الإمكانيات يتقدّم بسرعة مركبة فضاءْ الى الأمام ... ومن أهم مظاهره الإنترنت ، المرادف لعالمية الشعر ولا نهائيته وعمق رؤياه . وبعد تأثيره ، ونفاذه جمالاً وإيحاءً أكثر مما كانَ عليه في ماضٍ مظلمٍ متحجرٍ . رغم وجود أقلامٍ مضيئةٍ كثيرة أنارتهُ بالأشعة الملونة الهادئة . فالمعادلة الجديدة في رأيي الشخصي هي أن الشعر لكي يكون جديراً بالخلود والأبدية فلا بدَّ له أن يصهر ويصب المذاهب الكثيرة في بوتقةٍ واحدة .مذاهب كالسريالية والواقعية والتجريدية الشعرية والرمزية والرومانطيقية والوجودية وغيرها ، وتتلاحمُ فيه ثقافات اخرى متعدّدة . نلمحها في ما وراء النص لمحاً خفيفاً رغم الإمحّاءِ والذوبان بتأصيلية بارعةٍ فيه . وتتوارد فيه أفكار مجنحّة وجميلة . وأيديولوجيات ذاتية عديدة . فنجد الشعر واحداً لا يتجزأُ معناه وكتلةً لا تنفصل عراها في أي زمان ومكان يستلهم الحقيقة فينا أولاً وفي كل عناصر الوجود وذراتهِ المتناهية . ويعبر بالرسم وبالكلمات وبألف وسيلة أخرى كاللون والإيقاع النفسي والتواتر الذهني والوزني . والتناسق الحرفي . في كل سطر من سطور القصيدة ونراه بعيداً كل البعد عن معايير نقدية بالية وآراء مضلّة وعدميّة .ومقاييس لا تنطبق على الإبداع في شيء . ولا تنضوي تحت لوائِهِ الشمسي الخفاق وتحت سرحة الأصالة ، الباسقة في أعلى الكلام.
فالشاعر يتفاعل مع الأشياء الغير شعرية في العالم المادي ويحولّها بحساسيّة عالية ثرّه ومتوقدة وبحس مرهف ونفس خلاقة الى موتيف شعري جديد ويمسح عن الموجودات غبار الجمود والصمت والزمن البالي ليراها حق الرؤية ويشعلها من الداخل والخارج بالحياةِ ، ليسري ضوؤها الى كل الحنايا المعتمة الأخرى وهو يستطيع إيجاد التآلف والتناغم التاميّن . بين المتناقضات والمتضادات . في عالمهِ الذهبيّ لينطقها ويجعلها رموزاً وإيحاءاتٍ يحدب من خلالها على نفسِهِ المائيّة الهادرة . في صحراءٍ ملأى بالقيم الرملية الفاسدة وبالمتحجرات ، ويوظف المهمشات في قلبِ المشهد بعدما أُغفلت زمناً . رغم أنها تحتفظ بقدر لا بأس به من حرارة الواقع وجمالهِ وقدسيّته العالية والرائعة ، لكي نحسها ونراها بعد رفع الستار والغبن الحقيقي عنها ونلمسها بالوجدان الملتهب . وبالخصوصية الحميمة ليكتمل فينا الرضى بالعمل وإبداعِهِ كأنهُ قطعةٌ منّا ، وبالصدق الذي يعمّدُ الكتابة بالنار المقدسة ، وبالدمع الهاطل من سماءٍ خفيضة فضيّة اللون ، الصدق المقلّم الوحيد لأزهارنا البريّة والمكوّن للنواة الحقيقية المتجذرة فينا للخلق والإبداع ، فلو لم يكن الشاعر أو الكاتب أو الفنان صريحاً مع نفسه وصادقاً في تجربته لأنعدمت الثقة بينه وبين الجمهور المتلقي ولأنقطعت العلاقة من قراءة ، أول نص أو مشاهدة أول لوحة أو ربما تلاشت الأفكار والمناظر في ذهنه كأطياف الدخان .

******************************************


مركب زياد خداش النشوان


الكتابة لدى القاص الفلسطيني زياد خداش حالة استقصاء عجيبة لمكنونات النفس البشرية وبلورتها بفنية عالية وحذق ماهر من الصعب وانت تقرؤه ان لا تقف امام مرآة نفسك المجردة وتستجلي ما اختزن في الذاكرة الايقونية تلك من مكاشفات مدهشة، فالكتابة الجديدة لدى زياد تجعلك تعيد النظر بالنص النثري وبكتابات طفت على سطح ادبنا الفلسطيني مدة من الزمن.

في قصص زياد ونصوصه الكامنة في صميم الشعرية اللغوية السردية ينتابني شعور بالمطر الانثوي المفاجئ القادم من سماء مجهولة ومشغولة بالدمع الفضي، وشعور بالدخول في شتاء الحنين لكلماته المشعلة بالشوق الى صيف بعيد غامض عند قراءته، احس برياح استوائية تهب من مكان ما خفي داخل الروح كأنها بقايا نشوة، بدلالات حسية غابت في كتابات أُستاذه حسين البرغوثي وحضرت في رؤاه المكتوبة على ماء اللغة، الهادر في روحي والباحث عن بقعة مستعادة ومسحورة لا اعرفها، كأسراب طيور تهاجر الى شاطئ غربي.. مهجور في روايات ماركيز المبتلة بالشمس وبالعصافير الزرقاء، الباحثة عن
فردوس مفقود.

شخصيا اقول انني لا أستطيع ان افهم هذا الكاتب من غير أن المس هذه الطاقة المجازية في قاع النص او في لغة الغياب عن واقع ذي ألوان عارية، أو من غير أن أدرّبَ نفسي على الطيران ضد الريح القديمة، وان أسبح ضد تيار الرتابة الذهنية القاتلة، سباحة علمني اياها تمرد زياد الجديد، بنصه السهل الممتنع المخاتل على ادب يحاول النهوض من سبات رمادي على ضفة الابد، لحظات زياد خداش ومدنه تمتد في نفسي وتخلق عالما من الاشياء الذاهبة إلى الامس, الأشياء التي خلقتنا وتركتنا فرادى كالسهام الهائمة في فضاء خاو غريب، لحظات كالاطياف الغاربة. التي تمتد حول امرأة من ضباب وفرح وألوان ناصعة الصوت في جو باهت.

كلما تعمقت في هذا العالم ازداد قربا من نفسي التي تبحر في خلاياه المسكونة بالشمس والورد القاسي القليل, كلما تعشقت ريحه غسلتني نار انفاسه بالاسئلة، الصلبة الملحة، والمطرودة من فردوس القواميس , بينما زياد يحدث اشجاره عنها ويحاور مدنها المسحورة ويذهب بعيدا بعيدا حتى آخر فراشة في شفقها المعلق فوق حبل السماء.

وزياد خداش المسكون بهاجس الانثى، يثور على نمطية في السرد القصصي ويشحن عباراته بقوة مجازية ونصه بدراما عميقة تأصيلية مشوبه بمثالية راقية حالمة بعالم آخر وبساطة غنية مركبة تتخذ الأسلوب البعيد الصعب قناعا شفافا لها ومركبا نشوانا في العاصفة الهوجاء.

****************************************

جنة السيّاب الضائعة


لا أعرف سرَّ هذه النوسطالجيا الغريبة التي إنتابتني مؤخراً لإعادة قراءة ديوان الشاعر العربي الفذ بدر شاكر السيّاب.ونحن نقترب من الذكرى الثالثة والأربعين لرحيله المفجع .
أهو حنين مجهولٌ الى جنته الضائعة . والى شموسه الخريفية وعصافيره الخضراء ؟
أم أحساس عبثي بشبه قرابة روحية إفتراضية وثيقة العرى تربطني بهذا الشاعر المشاكس والمهمّ عندنا أهميّة ناظم حكمت للأتراك ولوركا للإسبان؟
ذلك أن السيّاب ربّى في نفسي لغة ً شعرية ً صافية من الزوائدِ اللفظية التي تراكمت في وعيي الشعري قبل أن أهتدي إليه .
زوائد الشعر العربي القديم والكلاسيكي الحديث .
فلغة السيّاب الكبير لغة منتقاه ومصّفاه شعرياً ولو عارض ذلك النقاد وقالوا بإطنابه في السطر الشعري . فإنه كان أقدر الشعرا العرب على تحويل الكلام العادي الى شعر خالد يجري من القلب .
ولغته أيضا حالمة بيوتوبيا موعودة وزاخرة بالرموز الرومانسية وهذا الشيء أعجبني جداً في مطالع ولهي بالشعر .
فتوحاته في الشعرية العربيه الجديدة أخذت جانباً كبيراً على عدة مستويات . منها تليين عصيِّ اللغة وتطويعهِ ونفثه من أعماق القلب على سجيّته . وجعل حروف القصيدة العربية كأنها عصافير جنة ضائعة وأطياف مجنّحة .
كنت أسألُ نفسي قبل أن أقرأه بوَعي ْ أسئلة كثيرة حول المخزون الروحي للرومانسية العربية المشبعة بآلام الذات فقط والمتأخرة عن الرومانسيات الأخرى الواقعية الى حد مقبولْ .
فلا أجد أثرا لهذه الأصداء عند سابقيه سوى أصداء ثائرة خافته عند الشابي في بعض أشعاره التي كتبها عندما أقترب سراج روحه من الإنطفاء .
إذن هذا الفتح الشعري الذي أنجزه السياب عظيم وغير مسبوق .
فقد كانت اللغة مع جماعة أبولو حالمة ً رقيقة هشة تخلو من معانقة الواقع وتنقصها التجربة في إكتناه آلام الغير . ولم تحفل كثيرا بأعماق النفس البشرية على مستوى كوني . كانت الروح الشاعرة تعانق نفسها فقط . بينما أصبحت عند السيّاب تعانقُ وتنصهر وتذوب مع عوالم بائدة أو على حافة التلاشي .
ولم يأتِ شاعر قبل السيّاب مازج وقاربَ بين الشعر العربي والأوروبي الإنجليزي منه خاصة مثل هذه المقاربة الشفافة والحميمة . وقد ذكر السيابَ ذلك في لقاء صحفي معه في إذاعة لندن حيث قال أن قصيدة الشاعر الإنجليزي شلي وهي بعنوان القبرّة " the sky lark " كانت الحافز الأساسي له لكتابة الشعر الحر حيث شبّه شلي في سطورها الأولى طيران الطائر في الهواء وفي سطرها الأخيرة رفرفته وتحليقه . في نظام تدويري للقصيدة لا ينقطع المعنى بين كل بيت وآخر فيه ِ.
صرنا نجد نفس التقنيّات التي في القصيدة الإنجليزية ونفس الرؤى وطرق التعبير في شعر بدر وهذا تجديد جريء وخطوة مباركة تُحفظ له .فقد كان من الشعراء الحقيقين الأوائل الذين إستفادوا من إطلاعهم على الآداب الأخرى وهضم جمالياتها جيّدا .
كان مثل جذوة ألم عظيم وما شعره غير تطاير الشظايا عن هذه الجذوة. وفي ظنّي أن السيّاب لم يتجاوز مجايليه شعريا الاّ بفضل هذا الألم فتفوّق على شعراء العراق ومنهم البياتي ونازك الملائكة وعلى شعراء عرب منهم صلاح عبد الصبور ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم . لأن بدر إندفع بكل طاقته وبكل قواه للشعر وساعده إنفعال طبيعي على التمّيز والتفوّق الكمّي والنوعي .
ورغبة متقدة الى الثورة والتجديد في ضوء الإنقلابات السياسية وغليان الشارع العربي وإنهيار القيم القديمة التي نادت بها القومية العربية وإحتلال فلسطين . كل هذا الى جانب كبير من الحساسيّة الرومانسية .المتطلعة الى عالم آخر أو جنة ضائعة أو يوتوبيا عُليا .
يحاول بها أن يلغي غربته ويردم الهوّة بين روحه وجسده.
وهنا يجوز أن نقول أن قاموس السيّاب الشعري قاموس إستثنائي , هكذا أعتقد . لأن تعابيره الشعرية وخيالاته وتصوراته ورؤاه كأنها تأتي من مكان آخر .لا من هذه الأرض التي نحيا عليها وخاصة من العراق الذي يُملأ كل ساعة دما ودمعا وظلما .
إن هذا التغيير الذي إبتدعه يحتاج الى كثير من الذكاء والمكر الشعري مع الحفاظ على الجدّة والأصالة العروضيّة العربية .
ورغم خروجه عن العمود الشعري الخليلي فإن له ما لا يقلُّ عن نصف إنتاجهِ الشعري يشهدُ له بأنه ظلَّ وفيّاً حتى ساعته الأخيرة للموروث العربي ولأصالته . وما محاولاته التجديدية إلاَّ مراعاة لنفسه الثائرة وتحقيقا لها في عصر شعري متغيّر يختلف عن أمس المتنبيّ وأبي تمام . ومكان مختلف عن أمكنتهم.
نفس بدر التي لم تجد في الخيال الشعري القديم وفي أوزان الخليل الفراهيدي ضالتّها المنشودة, بل لم تجد ذلك الإتسّاع الكافي والأفق الرحب لتفجير طاقة فنيّة جبارة كانت خاتمة حتميّة للكلاسيكية الشعرية العربية بمفهومها الجماعي الأشمل . ولا أقصد الكلاسيكية الفردية . بل انتهاء القداسة للعامود الشعري وتكسيره .
بعدما كانت القصيدة قبل ثورة السيّاب أشبه بتمثال خزفي لا نبضاً حارقاً فيه للحياه . يعمدُ إليه الشعراء الخزافون فيهذبونه ويقلمون رغباته ويقيدونه بالأصفاد الأدبية والأخلاقية .بخلاف شعراء الشعوب الأخرى الذين ينفثون قصائدهم كالبراكين مهما كانت حجارتها ومعادنها خاماً .ما دامت أشكالها أروع للرائي من تلك التماثيل الخزفية . وما دام فيها ذلك الوهج الأبهى من ألف شمس .
كانت قصائدهم تكتبهم بتفجّرها وإنثيالها على هواها حاضنة ً رؤى طازجة وباحثة عن مسارب جديدة .
وهذا الشيء وجد صداه في نفس شاعرنا المتأثرة بأبعاد الشعر الكوني والحسِّ الجماعي .ذلك الحس ُّ الذي نما عنده بعد إنخراطه المبكرِّ بالحزب الشيوعي العراقي .
عايش بدر أزمته الروحية الشعرية بكل معانيها حتى النخاع وإصتبغت حياته بها . أزمة المبدع العربي المثقّف والبرجوازي الفقير والمحروم حتى من عطف وحدب المرأة التي يحبُّ . ممّا ولدَّ عنده أحساسا طاغيا بالضياع العاطفي وبالفراغ الروحي لازمه حتى غروب أيامه . ورفد قلبه بأجمل المزامير والألحان التي أثرت سمفونية الشعر العربي الحديث . وأغنت تجربته . ومهدّت السبيل للحداثة العربية ولما بعدها وتشظّت في أصوات شعراء الستينيات والسبعينيات وشكلّت مرجعية هامّة لهم ولم أتوا بعدهم .وأصبح هذا الريفي الحالم الثائر الطموح بروميثيوس شعرنا الحديث ومؤسسُّ حريته ومؤثثُّ لغتنا بالنار بعدما أثقلت بجليد التقليد . فجاءت تجربته مفصلا هاماً وعلامة فارقة ً في أصعب مراحل شعرنا وأدقِّ ظروفه
وأشدّها حساسية . وبعدما آن له أن يشبَّ عن الطوق ويتبع َ الأحصنة المجنحّة الأخرى .


ديسمبر 2007


**********************

رحلة أودوسيوسية


تهويمات في رواية "هل تريد أن تكتب رواية " للكاتب ناجي ظاهر


الكتابة الروائية كما يقول الكثيرون عمل ملزم أكثر من كتابة أي نوع أدبي آخر كالشعر ,والمقالة والقصة. ومشروع بحاجة الى جهد والى مثابرة وتضحية فعلية وإمتزاج الذات بالواقع.وأيمان جميل بالفكرة والكلمة كأيمان كاتبنا .كي يخرج بصورة لائقة كما خرجت رواية الكاتب والقاص النصراوي
ناجي ظاهر."هل تريد أن تكتب رواية" والتي نحن بصددها الأن.
الرواية في رأيي الذي استخلصته من قراءتي الممتعة لها .نشيد أناشيد الكاتب ,هي ملحمة واقعية ذاتية هادئة راح الراوي فيها يتحدث عن همه الحياتي من خلال التركيز على بؤرة الضوء الكامنه في روحه وهي فتاة في العشرين من عمرها دخلت عالمه الخاص وأراد أن ينصت الى هم تجربتها من خلال علاقتها به .وصياغتها في عمل إبداعي . زاحمه في حلمه هذا شاب آخر في مثل سنها فهم الحداثة بصورة خاطئة ولم يستطع أن يصل الى جوهرها.
في هذه الرواية يتجلى لنا دخان الكلمة التي حلم بها الكاتب وحاول أن يقولها .تماما كما حلم جبران بكلمة كتابه النبي المتراقصة في سكينة روحه كالضباب. وإذا كانت الرواية تذكّر نوعا ما بكتاب جبران الساحر "الأجنحة المتكسرة "من حيث صياغة الحلم والهروب الى عالم مثالي فسيح حاشد بالرؤى وبالقيم النبيلة وحتمية الحب فهو تعانق أجواء لا غير . فهي منزوعة من لحم الواقع .
وترابية الحياة .رغم حملها البعد الرمزي أو بعد ألأنا/ الآخر الميتافيزيقي .ومشحونة بغيبيته وتوتره ومفاجآت كثيرة داخل السيلق السردي, وهذا ما نلمحه في مسحتها البرجوازية المستمدة من عوالم بلغت حد الروعة في كتابات بلزاك ومحمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.
رغم سيكولوجية النص الناعمة والحوار الداخلي الرائع المنطلق الى الكون الخارجي . ورغم النشيج الخفي والتراكم الزمني والرغبة المكبوتة والسريالية الخافتة والظاهرة إلا ان قوة التشويق وفنية السرد عاليتان ومبطنتان في أحيان كثيرة بمرارة وخيبة
وإسترجاع ماض تهدم .ومكابدة حنين غير نمطي الى ذكريات بيضاء بعيدة وغائمة .يصيب الراوي المسكون بقريته سيرين بجوها وترابها وأشيائها الغاربة الى الأبد .سيرين الأم والتراث الروحي الجمالي .ذات الجرس والوقع الأسطوري .
وكأنها منزوعة من عالم ألف ليلة وليلة . أو ربما هي تداعيات شوق الى الأمس الضائع .أو ربما هي المرأة/الحلم التي راحَ يحدثنا عنها ويقارب ما بين زمنه وزمنها بوجع متفلت .ويحلم بكتابتها في لا وعيه الصافي طيلة ثلاثة عقود.بلغة ثائرة متمردة محتشدة بالشوق الى الحرية والكمال . تليق بجمالها وتحرّقه الأبدي .
هي الأنثى الموعودة التي ملأت عالمه الخاص وحواسه بالأطياف الزاهية وذهب خلالها يبحث عن فتاته الأخرى ومعناه المجرّد وعن أجوبة لأسئلة وجودية كثيرة أضنته كما أضنت جلجامش.
انَّ أروع ما في رواية كاتبنا هو هذا المونولوج الداخلي مع الطبيعة أولا ومع نفسه ثانيا ومع فتاته أخيرا .حوار يبدأ من خصوصية حميمة وينطلق الى أرجاء العالم الفسيحة محللاً وكاشفا ومسلطاً النور على مناطق معتمة داخل النفس البشرية والذات المبدعة تحديدا من خلال أستشهادات وفلسفة راقية عميقة لكتاب وروائيين كبار مثل ساراماغو وتوفيق الحكيم الذي أحسست تأثر الكاتب بأسلوبه.
وأفكار استقاها الكاتب من قراءاته المختلفة .وكانت حصاد ثقافة عميقة واسعة زينّت المشهد الدرامي بصور رائعة ودقيقة بعيدة كل البعد عن المباشرة والتقريرية والأنفعالية .بل تتخذُ المجاز والأيحاء البليغ والأستعارة .لباساً قشيبا وشفافا لدلالات ومعان ظاهرة ومضمرة مبعثرة هنا وهناك في حنايا الرواية. حيث يأخذنا بمهارة عالية من حالة الى أخرى مع زخم تعبيري واضح لخفايا نفسيّات أبطاله
ولواعجهم الى حرقة الإنتظار كل هذه السنين ليكتمل الحلم .أو النبوءة .أو الأمل الذائب في نفسه لتحقيق ما فاته وهو في شبابه الغض.بواسطة تمثلّه تجربة فتاته وأحتضان حاضرها وماضيه وجعل الناصرة مدينته التي أحب شوارعها وحاراتها وأزقتها مركز هذا العالم وبؤرة ضوئه .
يحاول الكاتب أن يستعيد أحلامه المفقودة وماضي مجد الحضارة العربيه التي ينتمي اليها معنويا في مواجهته الشاب المتأورب أو المتأمرك ربيب العولمة الداعية الى طمس الهوية الانسانية التي تؤثث حياتنا بالغنى الروحي والتطلع الى غد اكثر اشراقاً وجمالا من الأمس. غد مغسول بالطمأنينة
ترمز اليه نهايه الرواية المعلّقه والمفتوحة على الأنعتاق .
ولقد نحسُّ أن الكاتب جعل من هذه الفتاة العشرينية صدى هائما للحياة التي يبحثُ عنها .كمن يفتشُ في سادوم الجديدة عن فردوس مفقود .أو ربما كانت تذويب لحظات الحريّة والأنفلات داخل نفسه الحزينة الصارخة في عالم فوضويِّ قاسٍ معذّب نُصاب فيه بقلق وجودي عظيمْ.فالشوارعُ يصفها الكاتب بالقسوة في لهجة طافحة بالمرارة واليأسْ .
كذلك الحياة أيضا تريدُ أن تفترسه وكأنها تنين ضارٍ
مرعب,حتى في مناجاته للشجرة التي تحمل عدة أبعاد ,لا يخفى هذا الحس بالضياعْ وبالأزمة المصيرّيه الملحة على نفسه وعلى كيننونته كأديب,
حتى في حواراته نلمسُ التمزقَ الروحي يقف كالشبح خلف الكلمات وثنايا النص الموغل في الكشف عن سحرية الحياة والحب.المصاغ بشعرية عالية لا نسمع الاّ رفيفها ,وبكثافة رائعة.تختزل قصر الرواية أختزالا جميلاً ,وتتركها مشرعة ومقنعة وموجعة في الآن معا .
" هل تريد أن تكتب روايه" فاتحة خير في أدبنا المحلي وخطوة جريئة الى الأمام ,وقنديلٌ فضيٌّ
جريح في مملكة الظلام .أتمنىّ لحامله الكاتب الأخ ناجي ظاهر أن يستمرَّ في طريقه تلك .المحفوفة بالتحدّي الأكبر ويتحفنا بروائع أخرى كهذه علّه يجد فيها ضالته ُ أو يصل الى شاطئ مجهول بعد رحلة ٍ
أودوسيوسيه أرهقته كثيرا ً . فله الحياه ودوام الأبداع الجميل كروحه.

*********

ماركيز ويوسا : رحمةً بنا



كثيرةٌ هي الروايات التي أمرُّ بها عرضاً, كما تمرُّ الريح الجنوبية في أغنيةِ الشاعر الإنجليزي شلي, وأكثرُ منها الدواوين الشعرية, المتأرجحةِ في مدىً من التلاشي والانسياحِ المتوَّهم, من دون أن أجنيَ منها قطرة رحيقْ.
كثيرةٌ هي الروايات التي لا تستحقُ منَّا أن نضيعَ ساعةً واحدةً في الوقوفِ على لا جدواها وعدمِّيتها,وقليلةٌ الروايات العصيةُ المخاتلة للذات.
ولكنني أجدُ دائماً الصنف الثاني منها وأفرحُ بهِ أيمَّا فرحٍ, محتفياً بفرادتهِ وعمقِ مغزاه وفلسفتهِ المؤَّسسةِ على أفكارنا وبداهتنا الإنسانيةِ .

لذلكَ أعلنُ أنهُ إذا ما إستمرَّ ضغطُ غابرييل غارسيا ماركيز الروائي الكولومبي وماريو فارغاس يوسا الروائي البيروفي على مخيَّلتي فسأستقيلُ من الحلمِ يوماً, ومن البحثِ عن الشعر ومنابعِ الجمال والمثاليةِ واستدعائها .
دائماً أحسُّ بأنَّ هناكَ ذاكرةً إيروسيَّة ملوَّنةً بألوانِ الطيفِ تولدُ فيَّ, في مكانٍ ما من وجداني, وتضغطُ عليَّ بيدٍ حريريةٍ خفيفةِ الندى, تمسُّ روحي وتزوَّجُ الجمالَ للحريَّةِ والثورة للعدالةِ الإنسانيةِ المطلقةْ .
في هذا الوقتِ بالذاتِ لا تستهويني إلاَّ الحدَّة المفرطة في إكتشافِ معنى الحياةِ وسرِّ جمالها وسعادتها, ولا أصلُ إلى الضالةِ المنشودة من دونِ أن أركبَ على حصانِ هذين الكاتبينِ المُجنَّح .
كتابتهما لا ينقصها شيءٌ من لذعِ بهار أمريكا اللاتينية, لا تسبحُ إلاَّ في فضاءٍ من سحرِ الوقوفِ على أعلى قممِ النفسِ الشعوريةِ, ولا ترفرفُ إلاَّ بأجنحةٍ من نورٍ نسائيٍّ وتساؤلٍ وتفاؤلْ.
في حضرتهما لا تستطيعُ التفلَّتَ من تحرِّشِ الحقيقةِ بكَ. لا تستطيعُ إلاَّ أن تصرخَ معهما كالذئبِ في براري الشتاءْ .
هنالكَ إلمامٌ عبقريٌّ بخبرةٍ فرديةٍ قلمَّا نجدها في أعمقِ الرواياتِ الحديثةِ , وأكثرها احتفاءً بطبيعةِ المشاعرْ,هنالكَ حديقةٌ للحواسِ يانعةٌ .
ماركيز ويوسا جناحانِ أزرقانِ يحلِّقانِ في سماءِ الروايةِ اللاتينيةِ الإسبانيةِ ويرفعانها عالياً عالياً حتى الشمس. كثيراً ما أثقلا دمي بالنوارس.
في لحظاتٍ بلورِّيةٍ ثمينةٍ تقدسُّ مشاعركَ وترفعها كالقربانِ الأخيرْ, هما لا يدعاكَ تتنصلُّ من مهنةِ الحُبِّ الملازمةِ لأعضائكَ. ومن رائحةِ المرأة الموعودةْ. التي استقالتْ منكَ منذ زمنٍ بعيدٍ في فضاءِ نصٍ مفتوحٍ على التجلِّياتْ .
منذُ أن حملني ماركيز في ذاكرةِ غانياتهِ الحزينات وقبلها في مئةِ عامٍ من العزلةِ, إلى أعلى قمةٍ للكثافة التعبيرية والإيحائيةِ, منذ أن أبحرَ بي في بحر يوليس , وأنا لا أستطيعُ الهبوطَ ثانيةً من الأولمب التصويري الخارق, لا أستطيعُ حتى المحاولة أو التفكير في النزولْ .
إستعنتُ بيوسا مرةً في دفاترِ دون ريغو بيرتو "التي كرَّستُ لقرائتها شهرين كاملين لكثافة إيحاءاتها مع أني عادةً ما أقرأ روايةً في يومٍ واحدٍ" ولكنني لم أذهبْ إلاَّ بعيداً نعو علاءِ الضبابِ, علاءِ التماهي في الروايةِ حتى النخاعْ.
كنتُ أقرأ وأعيد قراءة ما أقرأهُ ثانية ً , العمق في هذه الرواية عصيٌّ , والرهافة في تكثيف الأحاسيسِ عاليةٌ وتداعيات الحلم موجعةٌ هناكَ بعد فلسفي ورمزي للجنس والحبِّ, هناكَ إعتراف بخسارةٍ ما, أو غضبٍ مُبرِّحٍ " كتبها يوسا بعد فشلهِ في إنتخاباتِ رئاسةِ بلدهِ البيرو عام 1990".
لوكريثيا هنا وهي بطلة رواية يوسا تحركُّ مجرى الأحداثِ بهدوءِ كما يحرِّكهُ عجوز ماركيز "الذي تستيقظُ غريزتهُ وبقوَّةٍ مفاجئةٍ في نهاية الشوط" في ذاكرة الغانيات الحزينات, وفونتشيتو يلتقي لقاءً عفويَّاً مع ديلغادينا بطلة ماركيز أيضاً .
ولا أدري ما هو سبب التهويم على أيغون شيلي الرسام النمساوي الخليعْ , أهو من بابِ الاحتفاءِ بموتيفِ الجسدْ والذوبانِ في هيولى الجنسِ ؟
هناكَ مكانٌ فسيحٌ في الروايةِ لهُ وكأنها كُتبت من أجلهِ وحدهُ, ولتقصِّي رغباتهِ وشهواتهِ وتفكيكِ غموضِ رسومهِ وموديلاتهِ .

ولكنني لا أعرفُ بالضبطِ أين يلتقي كلا الكاتبين وأين يفترقانْ وما هيَ أوجه الشبهِ بينهما بالرغم من أنَّ أحدهما يتقاطع معِ الآخر بصورةٍ خفيَّةٍ, ويتداخل معهُ في تآلفِ وتناغمٍ مدهشٍ, وفي أنبلِ وأعلى تضحيةٍ للإبداع, " أن تكتبَ بحبرِ روحكَ ".

كلاهما يرتكزُ في أعمقِ أعماقهِ على نقطةِ ضوءِ إيمانهِ وتبتلِّهِ لما يصنعُ, لينجزَ عملهَ على أتمِّ وجهٍ وفنٍ ودهشةٍ وغرابةٍ, وهنا أستذكرُ سفَرَ ماركيز إلى القريةِ النائية في بلدهِ كولومبيا ليستحضرَ أحلام وتخييلاتِ كتابهِ الرائعِ أو ملحمتهِ الخالدة "مئة عامٍ من العزلة "وهناكَ انقطعَ عدة شهورٍ ليكتبها بعدَ أن إمتلأ بها وعاشها روحياً .
لن أذهب إلى ما ذهبَ إليهِ البعض بأنَّ ماركيز متأثرٌ ببعضِ كتاباتهِ وخصوصاً هذه الروايةِ الفذَّة, بألف ليلةِ وليلة " سفر العرب" أو هو مشتبكٌ بصورة أو بأخرى في رواية ذاكرة غانياتي الحزينات بعناقٍ واضحٍ وجليٍّ بالكاتب ياسوناري كاوباتا الذي يوردُ في مستهلِّ روايتهِ الآنف ذكرها مقطعاً افتتاحياً لهُ, الحقيقة أنني لم أقرأ بعد ياسوناري لأحاول الربط بين الاثنينْ, واختزال المسافةِ بين بطلة ماركيز "ديلغادينا" وبينَ بطلةِ ياسوناري كاوباتا في روايتهِ " بيت الجميلاتْ النائماتْ ".
أظنُّ أن يوسا وكاوباتا وماركيز يلتقون جميعهم تحت جسر واحدٍ, هو جسر توظيفِ الجنسِ في الأدبِ وفلسفتهِ بلغةِ الحلمْ .

النص الحقيقي هو في رأيي ذلك النص الذي يأتي من حنايا الطفولةِ, من أقصى الحنينِ إلى الغيابِ الضروري لاستشعار الخسران .
هو ذلك الطفل الأبدي الذي يعيشُ في الطفولةِ, مخضبَّاً بالأوهام والأحلامِ والعبثِ الضعيفِ والهشِّ الذي يحتفي بهِ يوسا في دفاتر دون ريغو بيرتو, عبث عاشقي الكواكبِ والجبال ووعدِ المواطنين بالقمرْ.

الرائعِ في أعمالهما أنها تأتي في أغلبِ الأحيانِ من المُتخيَّل, كما يقولُ ماريو فارغاس يوسا في حوارٍ معهُ بأنَّ الرواية هيَ مملكةُ الكذب, بينما الشعر هو عاطفة الإنسانيةِ الحقيقية .
ثمَّةَ اندفاعٌ نحو الحلمِ البريء, والفراشاتِ الصفراءْ , يجعلكَ تلمسُ هذهِ الطاقة البالغة القوَّةِ والهائلةَ الساكنة المفردات بحركةٍ وانفعالٍ عجيبْ .
في الروايات التي ذكرت هنا لم أتخيَّل نفسي لحظةً واحدةً أقرأ نثراً عادِّياً أو ما يقارب النثر , هو نمطٌ فريدٌ جديد, شعرٌ وأجملٌ من الشعر , تجربة لا محدودة ومفتوحةُ التأويلْ على الاحتمالاتْ.
تذويبُ الكلامِ هنا يعطينا أشجاراً ونساءً دائراتٍ وخارجاتٍ عن مدارِ الرتابةْ, أشياءً غامضةً, واضحةً , تكتظُ فينا بالزهورِ , حتى لننزفَ شذى ومخلوقاتٍ من وهجٍ وأقواسِ قزحٍ وبياضٍ وياسمينْ .
ها أني أكتظُ بالعبارةِ والمعنى , بالإشارةِ واللمحِ .
لم أكن أحسبُ أنني سأتلاشى مع كلِّ هذه الجماليات المتقنةِ حدَّ اللعنةِ والهذيانْ.


13.7.2008

**********


مهزلة " أمير الشعراء " المُبكية



أظُّنُ أن الشاعر المصري العملاق أحمد شوقي كان سيزهد بلقبهِ الشعري الأثير على قلبهِ " أمير الشعراءْ " لو كشفت له حُجُبُ الزمن قليلاً ممَّا أخفتْ .
ولو حملَ لهُ وحيَهُ الشعري أنباء الغد, لكان ألقى هذا اللقب إلى جُبِّ يوسفَ عليهِ السلام .
فما يحدث هناك في إمارةِ أبو ظبي. رابية الغنى الخليجيةِ وبحبوحة الإنتعاش الإقتصادي النفطي, وشاطئ راحتها المُتعبْ يبعثُ فعلا على الخجل وإتهام الذات بوصمةِ السذاجة العربية , ذلك أنَّ متابعتي لبرنامج المسابقة الشعرية ( الأكثر رواجاً وأهميةً على إمتدادِ الجسدِ العربي الجريح ) المُسمَّاةِ "أمير الشعراء" على فضائيات " بيفرلي هيلز العرب وأخواتها " أصابتني بصدمة جديدة متمثِّلةً بجرعة يأس أخرى من جرَّاءِ إنكساري أمامِ مسكنةِ الشعراء المتسابقين وقلةِ حيلتهم تجاه مزاجية وقسوةِ النقَّادِ المُحكِّمين .
لا أعرف لماذا يقيمون مثل هذهِ المسابقات التي لا تهدف إلاَّ لتقزيمِ القامات الشامخة , وإعلاءِ شأنِ الأقزامِ من المتشاعرينْ , لا أفهم سرَّ ارتباطِ الشعر بالسلطةِ المادية , ما دامَ هو خبز الروح في عشائها الأخير ؟
بغضِّ النظرِ عن جدِّية بعض النصوص المتمسِّحة بأعتاب ذوي النفوذ والبريق, فإنَّ سخطي يصبُّ على مشاركين ممتازين لا أعرف كيف اقتنعوا أن يسوِّقوا مهزلة هزيلة تبعثُ على البكاءِ قبلَ الضحكِ كهذهِ .

وأريدُ أن يقنعني أحدٌ بجدوى إقامتها في أبو ظبي بالذات "حاضرة الذهبِ الأسود", أو ربمَّا بمسألةٍ أقلَّ خطرا وساذجة أيضاً وهي تحديدُ عمر المشاركين بينَ سنِّ الثامنة عشرة حتى جيل الخامسةِ والأربعين , لماذا هذه السذاجة , ألا يبدعُ المرءُ بعدَ الأربعين, وقبلَ الثامنة عشرة ؟

لا يورثُ المشهدُ غيرَ الحزن في النفسِ أمام الأشجار اليانعة المُقصَّفةِ الكبرياءْ , قبالة تهكمِّ واضحٍ سافرٍ وجلَّيٍ من طرف اللجنةِ المُوَّقرة التي تضم نقاداً متفرغين وضاجِّين بالمللِ العربي الفكري الرتيب . ولستُ أنسى أن كُلَّ مشارك لهُ من سخريتهم المُرةِ واستخفافهم بقدرهِ وأشعارهِ نصيبٌ .
هناكَ قصائد جميلة وصلت حدَّ الدهشة والروعةِ ولكنها كُنست سريعاً وبغيرِ سببٍ بمكنسةِ الغبارِ عن أرضيَّةِ المسابقةِ لسببٍ أجهلهُ. ربمَّا يرجعُ إلى مزاجيةِ اللجنةِ "المُوَّقرة" أو نرجسِّيةِ الروحِ العربيةِ الناقدة .

منح شاعرٍ جائزة مثل هذه " مليون درهم إماراتي " على بضعةِ قصائدِ قليلة مجازفة في غايةِ السخفِ والمجانيةِ وتحملُ بعداً سطحياً مجحفاً بحقِّ تجارب أخرى, تعملُ في صمتٍ وتنسجُ الحرير في الظلامْ من دونِ إنتظارِ أيِّ مردودْ .
لا أؤمن بأحكامِ نقادٍ هم أنفسهم بحاجة إلى إكتسابِ أسسِ النقد ومعرفة مواطن الروعة في النصِّ , وبحاجة إلى تفكيكِ القصيدة على ضوءِ علمٍ محايدٍ وإحساسٍ عميقٍ بنبض الشعرِ , وليسَ إلى إلقاءِ الكلامِ على العواهن .

أنا على يقينٍ قاطعٍ أنَّ للفضائيات الشعرية دوراً رائداً في حراسةِ نار الإبداع وسدانة دارهِ . ولكن ليسَ بهذا الشكل الإنتقائي المثير للشكِ , وكما قالَ قائلٌ من المتسابقين بأنَّ أجمل النصوصِ وأروعها وأعلاها قيمةً فنيةً وشعريةً ذُبحت بسيوفٍ ظالمةٍ على أعتابِ بكارتها في المسابقة ولم ترحم اللجنة النقدية صراخها وعويلها, قصائدُ لا تدري بأيِّ ذنبٍ قُتلتْ . في وقتٍ كانت تُتوَّجُ قصائدُ عقيمةٌ لا أدري بأيِّ حقٍ تُزفُّ هي الأخرى إلى خدرِ النبوغ والجوائز .

بلى أستطيع أن أفهم كلَّ هذه المفارقات حينَ أرى السيَّاب في حُلُمي ينامُ على رصيفِ الجنونْ .

أستطيع عندها أن أفهم حتى النهاية .

**********************

شيء عن الأيديولوجيا الضالَّة والحُبِّ والحربْ




في البدءِ حيثُ كانَ الحُب أصرخُ صرخةَ قلبٍ مسحوق ومحروق بالفوسفورِ غير المرئيِّ " أحبُّكِ غزَّة أحبُّكِ " أيتُّها القدِّيسةُ العالية. أحبُّكِ وأتساءلُ في خضّمِ هذهِ المعمعةِ غيرِ المنتهيةِ المجنونة الملتهبة. ألا يوجدُ في هذا الكونِ الموبوءِ بالظلمِ ومزاجِّيةِ الجنرالاتْ وعاطفةِ الروبوتِ الأحمقِ من يوقفُ شلاّلَ دمكِ النورانيّْ ؟
من يمنعُ ذبحكِ أيتها العذراءُ بسيوفِ الأعرابِ الدخلاءِ والأصلاء ؟
من يُنـزلكِ عن الصليبِ العامِ العربيِّ والأجنبي ؟
أتساءلُ وأتألَّمُ بكلِّ ما في الصباحِ الشتائيِّ من وجعٍ وحمَّى . ما قيمةُ ما يُكتبُ ويذاعُ ويُنشرُ ويُلقى في محافلِ الصمتِ أمامِ دمِ صغاركِ الملائكة ؟
ما قيمةُ هذيانِ كلِّ شعراءِ العالمِ المحمومِ وعويلهِم في شوارعِ العالمِ المتحضِّرْ والمغسولِ بالظلامِ لا بالنورِ ؟
وما قيمةُ ركضهم ككلابِ بابلَ في شوارعِ وسهوبِ العالمِ الثالثِ أو العاشرِ أو ربَّما المنسيِّ إلى أبدِ الآبدينَ وقيامةِ إخوةِ يوسفَ من الجبِّ ؟
أتساءلُ وأتخيَّلُ نفسي شاعراً في مقهى مسائيٍّ بقلبِ فضائكِ المخزونِ بالألوان البيضاءِ والودِّ الدافئ .. أتخيَّلُ نفسي مسيحاً آخرَ يُرجمُ حتى الموتِ ويُرفعُ على جلجلتكِ الطاهرةِ.. ولا أحدَ في العالمِ يُجيبُ صدى صُراخهِ المسكوبِ على أعتابِ القطبِ الشماليِّ الأصمِّ .
أحبُّكِ غزَّةَ وأحملُ وجعي وأرقى إلى سدرةِ المنتهى.. أرقى إلى سدَّةِ الكونِ وأبكي بخضوعْ... بخضوعٍ كأنني في حضرةِ عشتارْ .
أحبُّكِ وأتساءلُ ما معنى أن يترككِ العالم في هذا الليلِ التتريِّ القاسي .. أينَ التأثيرُ الفعليُّ للشعوبِ والحُكَّام ؟ أليسوا بشرا مثلنا.... ألسنا بشراً مثلهم ؟
كلُّ ما يحصلُ من شجبٍ واسنكارٍ لا يوقفُ دم طفلٍ واحدٍ يسيلْ على صدرِ الأرضْ .... أنتِ وحدكِ يا غزَّة ونحنُ العربُ نتفرَّجُ على مسرحيَّةِ موتكِ المُعلَّقةِ على تاريخِ هزيمتنا فهل نحنُ بشرٌ.. هل حكَّامنا بشر ؟ لستُ في محفلٍ لتعريةِ الذاتِ أو جلدها.. أبداً.. ولا أقصدُ سخريةً ما في قولي هذا فنحنُ اليوم أبعدُ ما نكونُ عنها ولستُ هنا بصددِ مناقشةِ فكرة أيديولوجية أو أرمي إلى استفهامٍ حولَ الهوِّيةِ العربيِّةِ البائسة .. لا شيءَ غيرَ ما يلتاعُ بي من تلكَ الحادثةِ المستنكرةِ الغريبةِ والتي تذكرتها الآن وكانَ حدثَّني بها صديقٌ صدوق حينَ قالَ لي أنهُ تراسلَ كتابياً عبر الشبكةِ العنكبوتية مع فنانةٍ تشكيليةٍ وكاتبةٍ من أصلٍ عربي تعيشُ في عاصمة ألمانيا برلينْ منذُ سنواتٍ عديدة . وحاولَ أن يسألها بفضولِ جاهلٍ عن طبيعةِ الحياةِ هناك وما إذا كانَ هناكَ تشابه معيَّن بينَ الحياةِ في دولةٍ عربيةٍ والحياة في دولةٍ أوروبيةٍ كألمانيا ؟ وحاولَ أيضاً بسذاجةٍ أن يستفزَّها بسؤالٍ آخر حولَ الفوارقِ الأساسيةِ التي يتميَّزُ بها الإنسانُ الغربي عن الإنسانِ العربي المقيم في الأقطارِ العربيةِ.. فأجابتهُ حينها إجابةً لاذعةً واصفةً العربَ بأقلِّ من بشر وقالت كلاماً ظلَّ في نفسي كالجمرِ المتوقدِّ لا يخبو أبداً .
ردَّت الفنانةُ التشكيلية والكاتبةُ العربية بسؤالٍ آخر وهو " هل العرب بشر "
حتى نقارنَ بهم الشعوب الأخرى المتحضِّرة ؟ ونصحتهُ أن لا يستفزَّها بشأنِ أبناءِ جلدتهِ العربْ وأن يبتعد عن هذهِ الأفكار التي تزعجها والسخيفةِ أشدِّ السخفِ في نظرها. وقالتْ أنهُ إذا أرادَ أن يقارنَ العربَ بشيءٍ فليقارنهمْ أوَّلاً وقبلَ كلِّ شيءٍ بغيرِ البشرْ وبعدها بأيِّ شيءٍ آخرَ يدبُّ على قدمينِ أو أكثرْ . ولكن حتى الحيوانات الضارة لا يجوزُ قتلها بهذه الطريقة فما بالك بالبشرْ .. كلُّ الضلالية والإنفصام النفسي والبعدِ عن الحقيقةِ لدى المنشقِّين عنَّا من " المفكرِّين والكتَّابِ والفنانين " لا يبرِّرُ قتلَ طفلٍ واحدٍ منَّا .
الآن وفي ظلِّ عجزنا وعدمِ تأثيرنا وهواننا على الناسِ يطفو على السطحِ هذا السؤالْ ويسيتيقظُ في الضميرِ الإنساني في أحلكِ الفتراتِ التي واجهت وتواجه أهلَ غزَّة خصوصاً والفلسطينيينَ عموماً ويقفُ حيالها العالمُ عاجزاً لا عن توفير العيشِ الكريم للإنسان العاديِّ بل من أجلِ وضعِ حدِّ لهذا الوضع الذي لم يعد يطيقهُ حتى الحجرْ.. ومن أجلِ وضعِ حدٍ نهائيٍّ لشلالاتِ الدمِ والدموعِ.
أعترفُ أن سؤالَ الكاتبةِ المُتأوربةِ يثيرُ الاشمئزاز وهو لا يصدرُ عن عقلٍ سويٍّ ويحملُ كلَّ معاني الوجعِ وهو متجذِّرٌ لا شكَّ في أعماقِ الخسارةِ.. لكن لا أستطيعُ أن أعبرَّ عمَّا ينتابني أنا أيضاً لرؤيةِ هذا الدمار الشاملِ الذي لا يستطيعُ عقلٌ أو خيالٌ منطقيٌّ أن يتقبلاهُ .
اليوم عندما أتذكرُّ كلامَ ذلك الصديق أحسُّ بالمرارةِ وبرمادِ الخسرانِ على طرفِ لساني ولا أستطيعُ أن أشمَّ من كلامِ الكاتبةِ العربيةِ المتأوربةِ أيَّ حقدٍ أو روح انهزاميةٍ أو ضلالٍ.. فقط أجلسُ أمامَ مرآةِ العالمِ وأتوجَّع بصمتٍ ولكن بعنفٍ أعمقَ وأشدَّ من ذي قبلْ .
أتوَّجع لا من أجلِ ما حدثَ وما سيحدثُ في الآتي والغدِ بل من أجلِ هذا السؤالِ التائه ومن يقيني بأنهُ لا يوجد في هذا الكونِ قوةٌ واحدةٌ عادلةٌ تقفُ إلى جانبِ العربْ وحقهم المهضوم والضائع في اختيارِ مصيرهم... قوة واحدة لا غير تملكُ ضميراً إنسانياً يقظاً بل ومتوهجاً.. تفصلُ بينَ الطرفين وتفضُّ النـزاعَ العبثيَّ الدائرَ منذُ ما يقربُ المئةَ عامٍ وأكثرْ .
نحنُ لسنا مخلوقاتٍ هلاميةٍ ولا كائناتٍ سرياليةٍ تعيشُ على هذهِ الأرضِ الحبلى بالألمِ منذُ النبيِّ آدم.. والمحمولةِ كصخرةِ سيزيف على أكتافِ بنيها.. نحنُ بحاجةٍ إلى حلِّ موضوعيٍّ ونهائيٍّ لهذهِ القضيةِ المتأرجحةِ على كفِّ عفريتٍ أجنبيٍّ.. حلٍّ يمكِّنُ الشعبينَ من العيشِ بسلامٍ وأمنٍ عادلين وشاملينْ .. ولسنا بحاجةٍ إلى حربٍ ودماءٍ وأشلاءٍ وجنونٍ ومعاركَ استنـزافٍ سياسيِّ عقيمٍ لا يغني ولا يسمنُ من جوعٍ... وكفى .



********************




الشاعر الفلسطيني الشاب نمر سعدي
في لقاء خاص "بالقدس" الفلسطينية :


*دواويني التي ارسلها لقسم الثقافة العربية نامت على الرف نومة أهل الكهف في حين طُبعت سخافات كثيرة أخرى**عندنا الشعر على مستوى بعض الأفراد الذين تكرّمهم دائرة الثقافة
* ضلّ من يقول أن الشاعر يكتب لنفسه فقط* اقول أن أغلب المحررين الأدبيين في الصحف أرباع مثقفين بل ربمّا أصفار مثقفين، ولا يتمتعون بثقافة راقية، وذوق سليم، فهم إما يخلطون الغث بالسمين، والدر بالحصى، أو يطرحون النص في سلة المهملات، لجهلهم بمواطن الفن والسحر فيه، وهذا ما حصل فعلا معي ومع غيري من الشعراء
رام الله-القدس-امتياز المغربي
هو الذي قال في احد قصائده التي اسماها لهفة الفينيقْ روحي تنامُ على تنفُّس...مائِها الدُريِّ في...أشعارِ هولدرلينَ...فيما جلدُها الرخوُ المضمّخُ...بالنعاسِ وبإنسيابِ العاجِ...يشهقُ في شراييني...ويعوي في شتائي...لم أقترنْ بفضائها اللغويِّ...إلاَّ كي أردَّ النقصَ....عن أسرابِ موسيقايَ...أقطف حكمة بيضاء...من بستان فردانيتي...أنا لهفة الفينيق...في غدها المحّنى بالحدائق...والرماد الارجواني المعطر...، كان هذا مقطع شعري للشاعر نمر أحمد نمر سعدي، الذي ولد في قرية بسمة طبعون، وهي قرية في الجنوب الشرقي من حيفا، وهو ناشط في المجالات الثقافية ويطمح في يوم ما الى تجسيدها بصورة اكثر فاعلية، أما اهتماماته فهي كتابة الشعر وقراءته واستكشاف خفاياه وكتابة المقالة. وقراءة الرواية والدراسة الأدبية عربيا وعالميا , والإطلاّع على ما ترجم من الشعر العالمي إالى اللغة العبرية .والنشر في جرائد محلية وفي بعض المواقع الأدبية مثل دروب والحوار ودنيا الوطن والجبهة. وكان لنا هذا اللقاء الخاص بالقدس مع الشاعر الفلسطيني الشاب نمر سعدي.
1. حدثنا قليلا عن بداياتك عن العائلة والقرية والاصدقاء ومكان الدراسة واكتشاف نفسك أو من اكتشف موهبتك في الشعر والادب؟ حدثنا عن أول قصيدة وسببها؟
البدايات ترجع ربمّا الى أواخر الثمانينيات أو بداية التسعينيات .فأنا لا أعرف بداية شغفي باللغة والأدب ولكنني لا أذكر وقتا من حياتي لم أكن ميّالاً الى الأدب ففي دراستي الأبتدائية كنت أقرأ كتاب حقول في اللغة والأدب السنابل الذي كانت تقرره دائرة المعارف . وفق منهاج اللغ العربية . في الأ سابيع الأولى من الفصل الدراسي الجديد متعرفا على نماذج عديدة من الشعر العربي والعالمي وقصص من الآداب العربية والروسية والصينية والأوروبية .
هذا الى جانب الجمال الطبيعي لشمال فلسطين والقرية التي تربيّت فيها الذي ربىّ داخلي ما يشبه الحنين الى مكاشفة حية بيني وبين الكون . وأوجد نزعة خافتة الى تغيير أو خلق شيء ما.
أقرُّ أن نصف موهبتي يرجع الى بيئتي القروية الهادئة وترابية الحياة فيها
وهدوئي النفسي في فترة الطفولة وما بعدها بقليل . أظن أن الابداع الحق لا ينمو ويتطوّر الاّ في ظل الطبقة الاجتماعية البرجوازية وهذا ما حصل معي بالفعل . فالعائلة كانت تمنحني الحرية المطلقة في تسيير بعض الأمور الشخصية . وهذا ربما جزء صغير أعزو اليه عدم جديتّي في إستكمال الدراسة العليا ولكن من يدري . ربمّا أستكملها في يوم ما ,أصدقائي في هذه الفترة كانوا مشغولين عن الإهتمامات التي شغلتني .كان همهم اللعب واللهو . كنت أكبر من جيلي . فكريا وعاطفيا .
كان مكان دراستي قريتي الوادعة نفسها . وكان اكتشافي لنفسي في سن مبكرة نسبياً .ولم يكتشف موهبتي الاّ استاذ الإنشاء والتعبير في أواخر المرحلة الثانوية . أي أواخر1994 وبدايات 1995.
بالنسبة لأوّل قصيدة فهي لا تحضرني . ولكنني أذكر أنني بدأت كلاسيكياً بحتاً .معنى هذا أن مخزوني الشعري والثقافي الأوّل كان بالأساس مخزوناً تراثيا عربيا بحتاً بالإضافة الى النماذج التي تعلمتها في المدرسة وهي من الأدب العالمي .أماّ سبب الشعر أو الدافع وراء كتابة القصائد الأولى عندي فهو دافع خفي يدعوني في بداية الأمر الى تقليد أو مجاراة الجاهليين او الأمويين أو العباسيين من خلال نصوصهم التي تعلمناها .
2. هل أثرت الطبيعة المحيطة بك في أشعارك؟
بالطبع كان التأثير كبيرا هناك نزوع طبيعي لدي واستعداد نفسي لإستيعاب كل ذرات الجمال الخارجي للطبيعة . أو تقاسم التناسق الجمالي لهذه البقعة الطيّبة التي تمتد على جسد الجليل كله حتى بحر حيفا غربا .
قلت أن نصف موهبتي يرجع الى الجمال الطبيعي الذي يتصف به شمال فلسطين بجباله وسهوله وتضاريسه المكونة لجزء من طبيعة بلاد الشام يتميّز بغناه وصفاء هوائه وروعته . يمتد حتى أعالي لبنان ماراً بشرقي سوريا . في النهاية كل أشعاري تستند على هذا الإرث الجمالي الطبيعي الهائل الذي ورثته النفس وتمتعت به وتغنت بحسنه.
3. إلى أي المدارس الشعرية تنتمي؟
أنا من الشعراء الذين يرون أن النص الشعري بوجه خاص أو الكتابي بوجه عام ينتمي الى الكاتب بصفته منتجه . أي ينتمي الى لا وعيه أولا . وثانيا الى ثقافته وقراءاته وثالثا الى بيئته وزمنه . النص هو نتاج نفسي معّين يدل على الكاتب ولا يدل على سواه وهذا ما ذهب اليه بعض النقاد وفسّروه . مسألة المدارس عندي مسألة تتعلق بالجماعة أكثر من تعلقّها بالفرد . اليوم لم يعد عندي أية ثقة بالشعارات الأدبية . كأن يقولون هذا من مدرسة الاحياء وهذا من مدرسة الديوان وهذا من مدرسة التفعيلة وهذا من مدرسة شعر النثر . هذا عبث نقّاد لا غير . نقاد لم يقدموا الكثير أو المهم بالأحرى خلال قرن من الزمن. بالرغم من أن النقد عندنا كانت له جناية كبيرة على الأدب .النقد عندنا لم يتطوّر بصورة فعلية الاّ عندما أخذ يحتك بالغرب ويطبّق نظرياته وقد اعترف مارون عبود أن نقده ما هو الاّ وجهات رأي قد تصيب أو تخطأ . وكذلك الأمر مع الآخرين أمثال نعيمة والعقاد وطه حسين . تجربة نعيمة في الغربال تجربة أنضج قليلا وخالية من الشك ولكن كل هذه المحاولات لم تكن الاّ ارهاصات في سبيل نقد أدبي علمي ازدهر على يد محمد غنيمي هلال ومحمد مندور . وأعجب لقول ناقد ومترجم كبير عندما يقول أن الشعر النثري هو الحالة النموذجية الأصيلة والحتمية الشعرية التي توّصل اليها الشعر العربي . أو هو أمتداد طبيعي له. في نظري لا توجد قصيدة نثر أو شعر نثري . هنالك نص لا غير . نص يحتفي ربما بصور شعرية أو يعبّر عن حالة شعورية , كان التأثر بهذا النوع من الشعر مستجلباً من الغرب . وكان شعراؤه الأوائل مأزومين على صعيد المثل . فعبّر عن ثورة ورفض مع بدايات محمد الماغوط الذي قال انه بدأ كتابة الشعر النثري في سجن المزة وكانت قصيدته الأولى تعبّر عن انقلاب وهياج وتمرد وضياع روحي .ثم طورّها أدونيس وانسي الحاج فأحتضنت أبعادا شتى . منها الغزل والنثر الذاتي .وتناولها شعراء نثر مثل قاسم حداد وعبده وازن وكتبها شعراء التفعيلة كسعدي يوسف ودرويش وقباني . ولا أجد مبررا لكتابتهم هذه وهم المتمرسون بالعروض والتفعيلة .
أماّ مدرسة الإحياء فأذكر أن عميدها شوقي أثرّ عليّ كما لم يؤثر شاعر آخر عربي أو أجنبي علي , حتى بت أقول أنني لولا شوقي لما صرت شاعرا ً أذكر أنه سيطّر عليّ السنين الشعرية الخمس الأولى وطغى عليّ شعره الصافي الجزل المشرق الموسيقي السلس . شوقي أكثر الشعراء العرب الكلاسيكين احتفاء بالوسيقى الشعرية وهذا الأمر أعجبني جداً
خصوصاً لامتلاكي أذناً موسيقية مرهفة . أعتقد أنني قرأت كل ما كتب شوقي من شعر وأمتلأت به وتمثلته في فترة ما من حياتي دعيتها الشوقية. حتى أخرجني السيّاب من سجنه ودائرته في عام 1996 في أوائل أكتوبر , فوقعت في اسر السيّاب محب وتلميذ أحمد شوقي ثانية . ولكن السيّاب لم يكن كشوقي . كان برجوازيا ثائرا مسكوناً باللهيب حتى الموت. كان ثائرا على مجتمعه وعلى أغلال القصيدة العربية .
في النهاية آمنت بمدرسة الشعر الحر ورأيت في شعر التفعيلة أفقاً جديدا يشرع التحدي أمام أنصاف أو أرباع المواهب من أنصار قصيدة النثر التي يحاولون بها تخريب الشعر العربي بنماذجهم الرديئة القريبة من التقرير اليومي العادي . ولم أستطيع أن أتصوّر الشعر العربي بدون وزن وموسيقى مارشية مهيبة كما في العروض العربي . هناك موسيقى خارجية يشي بها الوزن العروضي وموسيقى داخلية تشي بها الحروف.
رغم كتابتي لشعر النثر والقصيدة العامودية انا من اتباع التفعيلة .التي أعتبرها الوريثة الشرعية الوحيدة للشعر العربي.
ولكن الشاعر أخيرا هو تابع نفسه . أو نصه بالأحرى.
4.ماهي الرموز والدلالات التي تستخدمها في شعرك، ولماذا؟
كل كتاباتي أو أشعاري تتمحوّر في نهاية المطاف حول مسألة مكاشفة الوجود . واكتناه أسراره . والإجابة على الكثير من الأسئلة الكبيرة حتى لو كان النص مكتوباً بلغة الحب ومحاورة الجماليات الكثيرة . القصيدة هي سبر غور الذات في كثير من الأحيان . وفهم المتناقضات الكثيرة .
أقول أنه كلماّ ازدادت المتناقضات في الحياة كلما وجدت حاجة في نفسي للكتابة والشعر . وكلما ازدادت الحياة قسوة . وجددت في روحي نزوعا صلبا وطاغيا لتجميلها وتفتيت قساوتها بالشعر .لا داعي هنا الى تعديد المتناقضات . فهي ملأى من حولنا .
سؤال الحرية هو سؤال مركزي في شعري وأحاول في العديد من التجارب الشعرية أن أثير بعض القضايا المتعلقة بها .
مثلا ديوان عذابات وضاح آخر . يتحدث عن اشكالية الحب وتحقيقه .
في عالم الواقع لا في عالم الخيال . الا يوجد هناك عناق خفي مع روميو وجولييت ومجنون ليلى وأنطونيو وكليوبترا . حيث وجد مسيح الحب وجد أيضا يهوذا البغض واستحالة الوصال والأمن. والحب المتبادل.
شعري وصف لعيني السا جميلة ضائعة في غابة من المتناقضات يحاول افتراسها ذئب المفارقة والمستحيل .
استخدامي لهذه الرموز والدلالات هو ما سيضمن لشعري العيش بعد أن يموت كل شعر كان يعبرّ برخص وابتذال عن قضايا صغيرة.
5. اصداراتك الشعرية حدثنا عنها؟
منذ أواسط التسعينات وأنا أكتب الشعر وبدأت نشر البواكير في الأتحاد الحيفاوية بفضل الكاتب يوسف فرح . كتبت عدة دواوين منها عذابات وضاح آخر وأوتوبيا أنثى الملاك الذين نشرتهما بنسخ محدودة عام 2005 رغم أن الأول جاهز للطبع منذ أيار 2003 . في مرحلة ما بعد النشر في الاتحاد عام1999.توقفت عن النشر في الصحف المحلية . الى أن بدأت مع مطالع عام 2005 بالنشر مجددا في عدة صحف منها الاتحاد وكل العرب والأخبار التي تصدر في الناصرة ويرأس تحريرها الكاتب محمود أبو رجب . الذي كان له دور أجّله وأعترف أنه ساعدني كثيرا في النشر ساعة تخلىّ عني الجميع وأبرز اسمي في حين كان الآخرون يحاولون طمسه.
في الداخل هناك أزمة حقيقية لشاعر موهوب فهو إن لم تتبناه المؤسسه الثقافية ان وجدت أصلا فأنه في النهاية لن يستطيع أن يفعل شيئا . لن تصدر دواوينه ولن يترجم الى أي لغة ولن يلتفت اليه أحد . هناك الكثير من الضبابية والفساد القائم هنا حيث يستطيع كل شخص يملك المال أن يكتب كلاما سخيفا وفارغا من كل مضمون وخال من أية ثقافة وينشره وينال عليه الجوائز والتكريم . ولا أعرف لمن أتوجه ليكون لي عونا في نشر شعري وديواني الذي لو جمعته لجاوز العشر مجموعات من الشعر .الوضع هنا مزري ولا مستقبل لكاتب أو شاعر في الوسط المحلي الا بقدر محدود هذا هو رأيي الشخصي الذي ربما أختلف مع غيري به . أما في الوسط اليهودي . فربما كاتب ناشئ لا يتجاوز الخامسة والعشرين يكتب رواية وتترجم الى عدة لغات أوروبية وتتبناها دور النشر المختلفة
وتكون لصاحبها سبب نجاح باهر .ادبي ومادي . هذا ما يحصل عند الغير . وفي الدول المتقدمة المتحضرة.
وينطبق على المؤسسه عندنا البيت التالي
لقد اسمعت لو نديت حيّا ولكن لا حياة لمن تنادي .
6. في صيف عام 1991 بدأت رحلتك الشعرية ونشرت ألبواكير في الاتحاد الحيفاوية حدثنا عن ذلك بالتفصبل؟
الطريق الى الشعر الفصيح عندي بدأت في هذه السنة بالذات من خلال حبي واعجابي وشغفي بالشعر الشعبي وهذا تطور عندي الى ان جرّني الى العروض وتفاعيل الخليل والشعر العربي والأدب العالمي . روايات فرنسية عديدة مترجمة الى العربيه تركت أثرها الوجداني علي في تلك الفترة . وأنغام تجويد القرآن أيضا كانت تسحرني . وروايات جرجي زيدان في مرحلة متقدمة على قراءة المتنبي وأبو تمام وأمراء الشعر الأموي والعباسي وشعراء الإحياء وعلى رأسهم شوقي .ثم قراءة جبران ونعيمة في أواخر الثانوية . جبران ونعيمة كاتبان خطيران جدا في تشكيل هوية المثقف في حداثته أي في مرحلة الثانوية الخاصة . ولا يستطيع أي قارىء أن يفلت من تأثيرهما الخارق .
جبران ونعيمة كاتبان عالميان استوعبا كل ميزات الكتاب العالميين في نظري ولا أكون مجاذفا اذا قلت ان موهبة جبران لا تقل عن موهبة الروائي الفرنسي العظيم مارسيل بروست . ولكن ظروفه لم تساعده ليكتب مثلما كتب بروست . بروست ذخر طاقته في البحث عن الزمن الضائع . وجبران بددها هنا وهناك .بالرغم من أن حياتيهما كانتا متشابهتين . وعلى وتيرة وطول لا يختلف كثيرا . مات مارسيل في سن الواحدة والخمسين أما جبران فمات مسلولا في الثامنة والأربعين .
7. شعرك أثار الجدل في الاوساط الثقافية خصوصا بعد ان نشرت مجموعتين من الشعر الحداثي بعنوان عذابات وضاح آخر وأوتوبيا انثى الملاك، حدثنا بالتفصيل عن ذلك؟
من خلال قراءاتي وتأثري بالشعر العالمي والعربي نشأت عندي ميزة خاصة وسمت شعري وهي المعانقات العديدة والمصافحات مع الكثير من الشعراء والكتاب الكونيين . وبرز تمثل افكارهم ومحاورتهم ثقافيا .
وذهنيا وحضاريا وشعوريا . شعرية التجاور هذه اعجبتني ولكن البعض اعتبرها عرض عضلات غير مبرر.ولكنها في الأخير محاولة لإستنطاق الأنا والوصول اليها من خلال الغير .وأيضا تبنّيت أسئلة غير مطروحة بشفافية عالية ومهارة شعرية والتزام فني في الشعر المحلي مثل أسئلة الحرية والحب كما في ديوان عذابات وضاح آخر .أيضا الموسيقى داخل قصيدتي تعبرّ عن حالة شعورية يصعب تجاهلها.وهناك أجواء موّشاة جميلة وعوالم أقرب الى عوالم رمبو ولوتريامون ألذي تأثرت بسرياليته وأحببت غرابته وظرافة وجدة صوره . في حين كان الشعر المحلي يقيم سدا بينه وبين التجديد على نطاق الموضوع والتركيب والرؤيا . أكاد القول أن الكثير من شعرائنا سوى قلة قليلة لم يفهم حتى هذه اللحظة معنى ومكونات القصيدة القبل حداثية فكيف يفهم الحداثة أو كتابة ما بعد الحداثة .
عندنا الشعر على مستوى بعض الأفراد الذين تكرمهم دائرة الثقافة ما يزال يعيش في النصف الأول من القرن الماضي على مستوى اللغة ,والموضوع والرؤيا والطرح.
8.متى بدأت تنشر على الانترنت ولماذا؟
بدأت النشر على النت مطالع عام 2005 لأنني أعتبر ان العصر الذي نعيش فيه هو عصر النت والتقنية الالكترونية الفاتحة لمجالات لا نهائية تمنح القصيدة كونيتها التي طالما حلمت بها وتعطيها أيضا لا محدودية تليق بها وتشرعها على الجهات الأربع حتى حافة الأرض . وهذا فتح تكنولوجي جديد وباهر .
9.متى تكتب الشعر؟
أعتقد أن كل الأوقات صالحة للكتابة .وأعتبر ان الشاعر او الكاتب الحقيقي يستطيع أن يبدع متى شاء أنّى شاء . هذا متعلق بتركيبته . أكثر مما هو متعلق بالزمان والمكان . أنا أكتب خلال اليوم في أغلب الأحيان ونادرا ما أكتب خلال الليل.
10.ماهي رسالتك من الشعر؟
ضلّ من يقول أن الشاعر يكتب لنفسه فقط . يكتب لنفسه نعم ولكن يكتب ايضا للآخر المختلف . الكتابة عملية للتبعثر في كل الفصول . والعيش في كل العصور . أنا أحاور في كتابتي فرجيل وهوميروس الذين قرأتهما وتسكن نصوصهما لا وعيي الخاص. الشعر عندي هو فنية الكشف والتعرية الوجودية . والتمازج مع موروث آخر . يسحرني ويقنعني .
حتى الشعراء المغمورين العرب والأجانب فأنني اعيد صياغتهم بلغتي فأنا في النهاية مشارك حيوي في غزل وإتمام هذا النسيج الشعري الكوني ورسالتي ان أكون أنا وأن لا يتلاشى صوتي مع أصوات غيري . وأن أحقق ذاتي الشعرية الأخرى التي ورثت الكثير عن جدها المتنبي وصنوه بايرون . وأن أسكت هذا النداء الى المجهول الجمالي المطلق.الصارخ أبداً. الى ما لا نهاية.
11. ماهي الابداعات الادبية والصور الشعرية التي تجلت في شعرك؟
أنصح بالرجوع الى قصائدي واستجلاء الصور التي لا مجال لحصرها هنا فهي كثيرة وعديدة ومتنوعة وغنية ومستمدة من خيالات وثقافات لا تعدُّ ولا تحصى .هذا سؤال فضفاض ويحتاج الى دراسة أطمح أن يقوم بها أحد هؤلاء المخلصين للشعر والفن الكتابي .في يوم ما .
12. ماهي المواضيع التي تطرق لها شعرك والسبب في اختيارها؟
المواضيع التي تطرق اليها شعري كثيرة ومتنوعة وقد أتيت على ذكرها عندما تحدثت عن الدلالات والرموز في شعري . أما السبب في اختيارها فلظنيّ انها تشكل بؤرة مهمة يجب تسليط الضوء عليها . الحديث عن الهم الجماعي في النص المكتوب ينبع من ميل ونزعة لصياغة هم فرداني ملحّ وهذا يتجلى عند شعراء كثر .كالسياب مثلا.وينبع ايضا من حلم بحياة أفضل للجميع على هذه البسيطة.
13. هل من الممكن ان تسرد لنا ثلاثة اقوال لنقاد حول شعرك
كتبت عني بعض المقالات النقدية . وممن كتب الروائي الفلسطيني سهيل كيوان والدكتور بطرس دلة والدكتور منير توما والسيد شاكر فريد حسن والدكتور الناقد العراقي ثائر العذاري وغيرهم .
والمقالات منشوره على النت ولا يحضرني الآن شيئا من أقوالهم .فمن أراد البحث عنها فهي موجودة ومنشورة في عدة مواقع أدبية معروفة.
14. هل لك ان تسرد لنا القليل من ديوانك الشعري الأخير ؟
هاتان قصيدتان من نتاج عام 2005
ألنوارس في دمي تبكي

سألمُّ يوماً ما تناثرَ من صدى
قدميكِ حولَ ضفافِ قلبي
مثلَ عطرِ النارِ يفجأُني
النوارسُ في دمي تبكي
لأوَّلِ مرَّةٍ في الروح ِ
تملأني بدمعِ شقائقِ النعمان ِ
قلبي زائدٌ عن حدِّهِ
أو ناقصٌ من وردهِ
شفة ً تقلِّمُ لي حنانَ الأرض ِ
وهو يفيضُ عن وجهي
وعن لغةِ إرتحالي في الضبابْ
سألمُّ يوماً ما
بأهدابي زهورَ بحيرةِ ألحُمَّى
تهدهدُ روحَ لامرتينَ
في شفقِ العذابِ
تضيئني لغتي
بلا قمَرٍ رخاميٍّ
ويطفئني عراءُ جمالكِ
الممهورِ بالموجِ الحزينِ
على ذبول الصمتِ
والمهدورِ بالنعناعِ
في أبدِ السحابْ

**************

لهفة ُ الفينيقْ


روحي تنامُ على تنفُّس ِ
مائِها الدُريِّ في
أشعارِ هولدرلينَ
فيما جلدُها الرخوُ المضمّخُ
بالنعاسِ وبإنسيابِ العاجِ
يشهقُ في شراييني
ويعوي في شتائي
لم أقترنْ بفضائها اللغويِّ
إلاَّ كي أردَّ النقصَ
عن أسرابِ موسيقايَ ........
بيضاءّ أقطفَ حكمة ً
من بستانِ فردانيَّتي ....
أنا لهفة ُ الفينيقِ
في غدِها المُحنَّى بالحدائق ِ
والرمادِ الأرجوانيِّ المُعطّرّ ِ
بالحنينِ الى مكانٍ
لستُ أعرفهُ
الحنينِ الى زمانٍ
ليسَ يعرفني ....ولوعة ُ أسئلهْ
ترفو عذابَ الليلِ
في قلبي ......ونارُ قرنفلهْ
بدمي أراها في الهواءِ الرخص ِ
تنحلُّ القصيدة ُ دونَ قُبلتها
ووحدي لا أرى
عطشَ الإباحييّنَ ينضحُ من أصابعها
على قمرِ القرى
في القلبِ وهو يخبُّ في جمرِ
لعينيها الغوايةِ كائناً / صفة ً
ويلحقُ قيصرا.

15. كيف تحدثت عن المرأة في شعرك؟
المرأة في شعري تحتلُّ مكانا بارزا لشدة تأثيرها على الشاعر بوجه خاص فهي ملهمته وعلى العالم بوجه عام . الأنوثه متشعبة في كل شيء وتطال كل شيء هناك من يقول ان الحضارة أنثى . وأن الشمس أنثى وأن الطبيعة أنثى , وهذا ما آمن به الشعراء على مرِّ العصور .هي من الأشياء التي يجدر أحتفاؤنا بضوئها الخفي . والهائل في الوقت ذاته .هناك شعراء كان دافع الكتابة لديهم الحب .فهم غارقون في فيوضاته وهيولاه .أماّ
حديثي عن المرأة من خلال كتابتي يركزُّ على دورها وخصوصيتها في الحياة بصفتها العنصر الأهم والمكّمل للرجل . وبصفتها أيضا رافدا من أهم وأغزر الروافد ألتي تخص كل فن وأدب . كل القطع الموسيقية في العالم ترتبط ارتباطا وثيقا بالحب والمرأة كذلك الشعر والنثر والرواية الحديثة . فهي تصوير للمرأء وصدى علاقتها مع الرجل في أبهى تجلّيات هذه الصلة والعلاقة . المرأة أساس غنى عاطفي يستطيع الأنسان أن ينطلق منه ويكوّن فنه . هي اذن قبل كل شيء النواة والبذرة حتى قبل أن يتكلم الشاعر عن همومه الذاتية والحياتية والحرب والسلم وأوجاعه وأفراحه وملذاته وأحزانه .
لا يوجد هناك شاعر واحد أو كاتب لم يكتب عن المرأة . ولا يوجد موسيقي قديم أو حديث لم يكن عمله صدى لعلاقة حب وتخليدا لها.
16. ما سبب توجهك ايضا لكتابة المقال وماهي المواضيع التي تتطرق إليها؟
أنا مقل في كتابة المقال الأدبي الذي أحاول فيه أن أشرح بعض آرائي وأسلّط الضوء عمّا خفي من تجربتي الشعرية .وهو كثير .وعلاقتي بالشعراء, وإبراز نظرتي وإعجابي وتأثري بنصوص مختلفة لشعراء وكتاب مختلفين.
17.ما رأيك في الشعر الفلسطيني الحديث، وبماذا يختلف عن الشعر القديم؟
الشعر الفلسطيني في العشرين سنة الأخيرة عند شعراء مثل محمود درويش وسميح القاسم وغسان زقطان وعز الدين المناصرة والمتوكل طه ويوسف أبو لوز . وسواهم من طبقتهم وجيلهم يحتل مكاناً مهما في صدارة الشعر العربي . وأعتقد أن الشعراء الفلسطينيين يقاسمون اخوانهم الشعراء العراقيين والسوريين واللبنانيين أمارة الشعر الحديث . في حين تزدهر في مصر والسعودية وبلاد المغرب الرواية ويعلو النص النثري وصوت المقالة والنقد.
اختلاف الشعر الفلسطيني عن الشعر القديم يرجع الى اختلاف طرق التعبير والهم الذاتي والمرحلة والبحث عن هوية يحاول الحاضر طمسها . الشعر الفلسطيني شبيه بالشعر العربي الى حد التماهي . بالشعر الجزائري مثلا في كثير من الأحيان لا أستطيع أن أميّز شعر عز الدين ميهوبي عن شعر سميح القاسم .وبما أن جيل كامل من الشعراء العرب تأثروا بهذا الثلاثي الرائع وأقصد محمود درويش وسميح القاسم وعز الدين المناصرة . فاننا نستطيع أن نجد تشظّيهم في أصوات شعرية عربية كثيرة . ونلمس أصداءهم البعيدة الرجع في المشهد الكلي للشعر الحديث متجاورة مع أصداء أدونيس وسعدي يوسف والمقالح وأمل دنقل.
18.مارأيك في الشاعر الفلسطيني اولا والعربي ثانيا؟
الشاعر الفلسطيني اليوم يعيش حالة من الضياع الثقافي فهو من ناحية يسعى جاهدا للحفاظ على ماضيه والتمسك بهويته التاريخية والحضارية ومن جهة اخرى يحتضن المنفى مرغماً ويفتشُّ في بلاد وثقافة غيره عن ملجأ لوجعه وإنكساراته . أغلبية الشعراء الفلسطينيين الكبار مشردون عن أوطانهم . ويفيضون حنيناً الى طفولة بيضاء . كانت لهم في ظلال شجر السنديان . جلهم في الشتات يعيش أزمة مصيرية ثقافية أما هنا نحن في الداخل . فالتواصل ضعيف الى حدّ ما مع الخارج العربي .مما يجعلنا نعيش في شبه انقطاع لولا ما يتيحه النت . أما صورة الشاعرالعربي فلا تختلف كثيرا عن صورة الشاعر الفلسطيني .
فالنخبة امثال أدونيس وسعدي يوسف . لم يستطيعوا أن يجدوا الحرية الفكرية المرجوّة في بلادهم . ولم يفلحوا في ايجاد هرمونيا مع الواقع الثقافي والفكري في أوطانهم , بالاضافة الى ظروف كثيرة اجتمعت لديهم ,أبرزها سطوة السلطة وتجبرها . مما حدا بهم الى الرحيل الى الغرب والإنتماء ولو كان ذلك في أقصى دخيلتهم الى الغرب حضاريا وثقافيا.
19. هل هناك شعر مستهلك ولماذا؟
يوجد هناك شعر مكرّر حتى أنه فاقد للونه الأصلي . ويوجد أيضا شعارات مستهلكة عندنا في الشعر العربي وهي كثيرة .
نتيجة عدم الانفتاح وعدم التحاور الثقافي والأستفادة من موروث الغير الجمالي . لم يتطور الشعر العربي بصورة فعلية الاّ بعد احتكاكه بالأداب الأخرى .وتمثلِّ جمالياتها اللا نهائية . وهضم موروثها من الألياذة الى مؤلفات شكسبير مرورا بكوميديا دانتي الالهية.
20.ماهي مشاكل الشاعر الفلسطيني المعاصر؟
مشاكل الشاعر الفلسطيني المعاصر متعددة منها . استحالة البقاء أمام تيّار العولمة الداعية الى تهميشه . الخوف من تلاشّيه وخسران هويته الثقافية الحضارية وموروثه التاريخي . استمرارية النزاع الدائر على وطنه . فقدان استراتيجية الدفاع عن الحلم بالمستقبل .الوصول الى ايجاد أفق أوسع للحرية الذاتية .
هنا أعني حالة الشاعر الفلسطيني المقيم في الشتات.أولاّ . وثانيا الشاعر الفلسطيني المقيم في وطنه .

21. هل ان تسرد لنا مقطعين شعريين من شعرك؟

سأسرد قصيدة بعنوان لي ولها
لي ولها


كلُّ ما تتمخضُّ عنهُ القواميسُ
لي ولها
كلُّ ما تتمخضُّ عنهُ النفوسُ
التي إحترقتْ مرةً
في فضاءِ البنفسجِ
وهيَ تزينُّ صلصالها
بأغاني النجومِ..........
ألحياةُ التي أفحمتْ شاعري
بالفراغِ البريءِ
وما تتمخضُّ عنهُ المزاميرُ
لي ولها
لي جنونُ أبي الطيّبِ المتنبي
وخسرانُ سلمِ بن عمرو
وموتُ إمرىء القيسِ
من غيرِ معنى يؤكدُّ
ماهيّةِ الرملِ والشعرِ
أمّا لها
فالنهارُ الذي يسكبُ الآن َ
فوقَ جفافِ الكلامِ جدائلها
والحمامُ الخفيُّ الذي
يتساقطُ كالدمعِ
من ناطحاتِ السحابْ
لها قسوةُ الأمنياتِ
وكلُّ إحتضارِ الضبابْ.

22. في رصيدك مئات القصائد الغير منشوره بسبب التعتيم الاعلامي والحصار الذي يضرب على كل ما هو جميل وجيد في الحياة، بماذا تعلق على ذلك؟
أقصد بهذا القول أن أغلب المحررين الأدبيين في الصحف أرباع مثقفين بل ربمّا أصفار مثقفين ولا يتمتعون بثقافة راقية وذوق سليم فهم إما يخلطون الغث بالسمين والدر بالحصى أو يطرحون النص في سلة المهملات . لجهلهم بمواطن الفن والسحر فيه . وهذا ما حصل فعلا معي ومع غيري من الشعراء .
23. ما هو دور المؤسسات الثقافية في دعم الشاعر الفلسطيني؟
أجبت على هذا السؤال سابقا .
لا أظن أنه توجد مؤسسات ثقافية فعلية وذات تأثير ملموس لدعم الشاعر الفلسطيني . أنا أعتقد أن الثقافة والشعر والفن عندنا نحن العرب في أسفل سلمّ الأفضليات إذا كان هناك سلّم أصلاً . دواويني التي بعثتها لقسم الثقافة العربية نامت على الرف نومة أهل الكهف أو أكثر بقليل وطبعت
سخافات كثيرة . في كل دقيقة يطبعون لمن هبَّ ودب َّ وعندما أستفسرُّ عن كتابي يقولون لا توجد ميزانية.أعتقد أنه توجد هناك عصابة رخيصة تحتكر هذا الذي يدعى بدائرة الثقافية العربية. وتدير بيروقراطية النشر والدعم فيه. أنا أعتقد أنه لا توجد مصداقية وتوجد علاقات عامة ورياء ومحاباة وجهل وجاهلية وتخلّف .
24. مواقف حدثت معك ولن تنسها في رحلتك عبر بحور الشعر؟
أذكر موقفا طريفا مع الشاعر الكبير سميح القاسم . كنت في الناصرة قبل مدة وأحببت أ أمر لأسلّم على الشاعر سميح القاسم وكانت معي جريدة الأخبار وفيها منشورة قصيدة لي . رأيت سميح الكبير في غرفة أشبه بردهة تميل الى الصغر . كنت قد أهديته ديوانين من قبل , رحبَّ بي وصبَّ لي القهوة بنفسه . أبدى اعجابه بالديوانين . مدَّ لي سيكارة بارلمنت . ودخنّا سوياً . تناول مني الجريدة وقرأ قصيدتي بصوته الجهوري الصافي . لا أنسى أنه أستاذ كبير في فن الإلقاء .
كان كريما صريحا شفافاً لم أكن قد قابلته من قبل ولم أعرف شيئاً من نبله وبشاشته . أثناء الإلقاء نبهنيّ الى وجود خطأ عروضي داخل القصيدة وأكدَّ ذلك . وتداركت هذا معه . كنت وقتها أعتقد أنني تمرستُّ في علم العروض وأستظهرت خفاياه . ولكن لكل جواد كبوة أو كبوات وفوق كل ذي علم عليم . تعلمت أيضا أن سميحاً هذا شاعر كبير وإنسان أكبر . لا تخفى عليه في علم ولا في أدب خافية . ويستحقُّ مكتباً أكبر بكثير من مكتبه في كل العرب.
25. الى ماذا يحتاج الشاعر الفلسطيني؟
الشاعر الفلسطيني . بحاجة الى تطوير أدواته الشعرية والحد من القلق الوجودي الذي يتأكل روحه . منذ أكثر من نصف قرن . الشاعر الفلسطيني بحاجة الى فسحة ضوء وعطر وحرية وجمال وحب , تغسل الدم النازف من أرضه وتاريخه.وماضيه وحاضره.والى لغة تخاطب خارقة وعابرة للقارات يستطيع ان يكسب بها الرأي العم العالمي ويقنع بها خصومه . ولا بأس اذا صيغت من فراشات ملونة حديدية وندى ناري . واذا حملت كل صخب الأرض وهدوء السماء .
26. ماهي طموحاتك المستقبلية؟
لا أطمح بشيء لا أستطيعه . أطمح بأشياء بسيطة لا علاقة لها بجدي المتنبي . القائل
اذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم ِ
أن أستمر في الكتابة هذه المهنة المقدسة والملعونة في آن معاً , وأن أجد الأمن الذي لم يجده السيّاب . وراحة أبي تمام الكبرى ,والرضى النفسي .وفي النهاية أن أجد دار نشر تساعدني في طبع أعمالي.وأن أترجم إلى عدة لغات . وأحظى ببعض الدراسات الأدبية مثل غيري .
27.ماذا تقول لكل الشعراء؟
لا أجد ما أقوله للشعراء الاّ الذي قلته هنا .
* عن جريدة القدس
25/12/2007







**********************



الشاعر الفلسطيني - نمر سعدي – في لقاء أدبي لزمان الوصل :
حاوره : مرهف مينو – زمان الوصل



الصورة من ندوة لتكريم الشاعر
لو كنت لا أعرف نمر سعدي لظننت أنه شاعر ستيني، فحرصه على تقاليد قصيدة التفعيلة حد التقديس يشجع على مثل هذا الظن..فضلا عن انتهاجه نهج الستينيين في محاولة غزل خيوط الواقع ونسجها في نسيج رومانسي يتخذ من عناصر الطبيعة وعاءً لقضايا الفكر.
ثائر العذاري - ناقد عراقي -

لم اجد اجمل من هذه الكلمات لوصف الشاعر نمر سعدي .....
عرفناه شاعرا متمكنا مجيدا يحلق في سماء الشعر بأسلوب مميز يظهر جليا في قصائده التي يبدو وكأنها تنسلخ من روحه المبدعة سنحاول في هذا اللقاء أن نسلط الضوء أكثر على هذا الشاعر ونتعرف عليه عن قرب

• • تعرفنا على الشاعر نمر سعدي من خلال ما قرأناه من خلال الصحف والدوريات الثقافية او ما يصلنا من خلال شبكة الانترنت .. نريد ان تحدثنا عما لا نعرفه عن نمر سعدي كبداية .

أوّلا أنا عربي مسلم أعيش في فلسطين المحتله في بقعة تدعى الجليل . من عائلة متواضعة من ضلع فلسطين وملح أرضها تسكن في قرية بسمة طبعون في الجنوب الشرقي من مدينة حيفا الساحلية .
وثانيا أنا كائن مملوء بالأحلام والطموحات والرؤى النبيلة ومسكون بعشق الحرية . وليست الكتابة عندي الاّ محاولة جريئة مني لتجسيد هذه الأحلام وممارسة الحرية ومنحها بعض الشرعية الوجودية لكي تتنفس في رئة حياة باتت جامدة وتتواجد في صخب هذا الواقع الذي بات يثقل كواهلنا بماديته وضيق أفقه ومحدوديته . .........أخيرا لكل شخص أن يفسرّني كيف شاء هواه من خلال قصيدتي .

في ليلةٍ ما عندما يصحو الندى
في حنطةِ الأيام ِ
سوفَ يضيئني وجعي الذي أدمنتهُ
زمناً ...وتركضُ في مفاصلِ وردتي
نارُ المجوس ِ.....
يحيلني ندمي
الى أنقاضِ فردوس ٍ
يحيلُ دمي
فقاعاتِ النبيذِ المُرِّ
في قلبِ إمرئِ القيسِ
المُعذَّبِ بالجمالِ الحُرِّ
أو بلحاقِ قيصرْ

• • من الملاحظ أن المرأة تحتل مساحة واسعة من شعرك ؟

في الفترة الأخير أحاول أن أعطي المرأة بعدا رمزيا في قصيدتي وأمنح هذه العلاقة الملتبسة بعض الشفافية ليحاول الآخر أن يستشف ما يخفى عليه داخل جوهر الأنوثة . فنحن كبشر رجالاً ونساءً يكملُّ أحدنا الآخر ولا تقتصر صلتنا بعضنا ببعض على الحب أو ألنوازع البيولوجية فقط . هناك في بعض القصائد الأخيرة إستدعاء للمرأة المعجزة أو إمرأة اليوتوبيا الموعودة التي لا تتحقق الاّ في داخلنا وفي أعماق وهمنا وفردوسنا المفقود ولا نجدها في واقعنا . هذا الأحساس ينبع من خوف فقدانها وخسارتها كقيمة جمالية كبرى . كل كاتب أو شاعر أو فنان يستشعر هذه الخسارة الإفتراضية وهذا الفقد الوهمي قبل أن يقعا لذلك فهو متطرفٌّ الى أبعد حد بمثاليته الغنية الثرّة .من جانب آخر نحن نحاول دائماً التغنيّ بمزامير الطريق ولا نصل أبداً وهذا هو سر الجمال والسعادة هنا . المرأة كمدينة مسوّرة سحرية اذا وصلتها ضاع كل شيء . وقيمتها الجوهرية الفذة تكمن في هذه الضبابية التي تحيطها بالغموض والمجهول.

• • تعددت أساليبك الشعرية فتارة تكتب بالتفعيلة وتارة القصيدة العمودية .... فلما التنقل من مدرسة لأخرى ؟

أنا بالأساس شاعر عمودي أي بدأت عمودياً ولا زلت أكتب قصائد عمودية كشعراء كثر وهذا لا يضير فهناك شعراء عموديون وتفعيليون في نفس الوقت كنزار قباني ومحمد علي شمس الدين وسميح القاسم ولكني وجدت فيما بعد أن التفعيلة هي الصورة الحية المقنعة لتطوّر القصيدة العربية والأمتداد الطبيعي للموروث الجمالي الشعري لدينا . أعتقد أن التفعيلة حاولت بكل صدق أن تذهب بعيداً وتحتوي تجارب صادقة وأن تعبّر جليّا عن مكنونات الشاعر العربي في الوقت الراهن .القصيدة العمودية مرتبطة ذهنيا عندنا وقبل كل شيء بخيام البدو وأبلهم وظبائهم .ولكنها إستطاعت أن تتطوّر عندما كتب بها شعراء موهوبون . الشكل الشعري لا يهم كثيرا هنا. ما هو الاّ وعاءً أما المهم فالسائل الذي يملؤه .
التجربة النثرية مثيرة للجدل والإهتمام لأنها إستوعبت الكثير من العناصر والجماليات الجديدة . وأتمنى أن لا يكون هناك فجوة عميقة بين تطوّر هذه وحضور تلك . لأن النثر في النهاية يرجع نثرا مهما بلغ من الروعة والبلاغة ويحسب علينا كذلك في المستقبل . هناك مثلا تجارب النفرّي وأبن عربي وأبن حزم الأندلسي هي حسب مقاييس الغرب لقصيدة النثر تجارب شعر محض ولكنها في موروثنا تجارب نثر فنيّ أو صوفي أو نثر جمالي ذاتي وجداني . أما الشعر فلا مبّدل له . هل يستطيع أحد أن يغيّر شعر المتنبي ؟ أو شعر أبي تمام . لا أظن ذلك .
• • ما رأيك بالحركة الشعرية المعاصرة " الغير ملتزمة بالتفعيلة أو القصيدة العمودية " عربيا ؟

هناك بعض الضبابية أنا لا أستطيع أن أميّز موهبة كبيرة حقاً .
وكل الشعر يبدو لي متشابها بعض الشيء . نحن نسير حسب قول أينشتاين الى الكارثة الثقافية . المشكلة أن الشعراء النثريين لدينا مثقفون وكاتبو دراسات نقدية وأبحاث وعلى مستوى عالٍ من الإطلاع وهم واعون جيداً لمشكلة هيمنة النثر الجمالي . لا أعرف سر هذه الحملة على الإيقاعات العربية . هناك شعراء مثل سعدي يوسف الذي فتح المجال أمام اليومي والشائع ومثل أدونيس الذي أغرى الآخرين بالشعر الفكري المشبع بالرمزية والغموض والذهنية والتقريرية أحياناً.
أنا ضد هيمنة القصيدة العمودية ولكنني أيضاً ضد هيمنة قصيدة النثر . حتى أدونيس" رغم إعجابي بشعره وتنظيره الجريء "في كثير من كتاباته لقصيدة النثر غامض وغير متسلسل وتغلب عليه الذهنية والفكرية أحيانا . أنا أحب شعره التفعيلي أكثر . وأحترم ريادته وتجديده في الأوزان العربية وفي المحتوى والمضمون .
• • نمر سعدي ... هل أنت متأثر بتجربة شعرية حديثة أو قديمة ؟

من الصعب عليَّ أن أجزم بكلمة واحدة أنني متأثرٌ بتجربة بعينها قديمة أو جديدة . أؤمن أن المبدع اذا توقفّّ عن القراءة فقد أنقطع وحيه وجف نبعه. تجاوز الذات شيء مهم لدي وانقلابات الشاعر على نفسه أيضا . أحيانا تجربة واحدة غنية ومتنوعة كتجربة "ماركيز" تغنيني عن تجارب عدة فقيرة .
كل يوم جديد أكتشف تجارب جديدة تقنعني بضرورة المتابعة والكتابة .في النهاية أنا متأثر بالمجموع الكلي للتجارب الجيّدة الحقيقية ولست متأثرا بتجربة واحدة فقط .

• • لمن تحب أن تقرأ ؟

لشعراء وكتاب كثيرين عرب وأجانب لا مجال هنا لحصرهم جميعا , ربما أقرأ في الصباح في رواية من روايات مركيز وفي الليل أقرأ في ديوان المتنبي . هناك تنويع كبير ولا محدودية في القراءة الموزّعة على الشعر والرواية والمقالة النقدية ولكنني في أحيان كثيرة أقرأ طويلا متأملاً في وجوه الناس والطبيعة والأشياء . وأجد في ذلك كنزاً عظيماً وحكمة.

• • هل تعتبر نفسك تعبر عن جيل من شعراء الحداثة ,ام ان نمر سعدي نسيج خاص ؟

بل أجد نفسي في آن واحد أعبرُّ عن جيل من شعراء الحداثة ابتدأ بالسيّاب والبياتي ونازك الملائكة وأمل دنقل وحجازي وقباني واستمرَّ حتى شوقي بزيع وعبد العزيز المقالح ومحمود درويش وحسب الشيخ جعفر وأدونيس . وأحاول من جهة ثانية صنع نسيج خاص بتجربة منفصلة تنمو رويدا رويدا وعلى حدة .
• • وجدنا بعض قصائدك العمودية الكلاسيكية قد كتبت بشكل شعر تفعيلة ما السبب ؟

لا يوجد أهمية عندي لتقسيم وتوزيع القصيدة . التوزيع التفعيلي للقصيدة العمودية نجده عند شعراء كثر مثل محمد الفيتوري ونزار قباني وشوقي بزيع وعلي جعفر العلاّق والبياتي وهذا أمر يعدُّ ثانويا في كتابة الشعر . ربما هذا نوع من التجديد في العمود الشعري على مستوى الشكل . كل شاعر حرٌّ بتقطيع قصيدته ما دامت سليمة من الكسر في وزنها .وكل قارئ ذكي يكتشف لعبة التقطيع تلك من السطر الأول .عدا أن هذا الأمر لا يضير القصيدة شيئا بل يقوم بتحديثها وتقديمها بصورة مفاجئة ومغايرة تتناسب مع الراهن أكثر . وهناك قصائد كثيرة لعلي جعفر العلاّق موزعة توزيعاً تفعيلياً وهي قصائد عمودية بالأساس .


حب بلا امرأة يغلف نومَه
المرئي بالكلمات تقطرُ من
دموع النورس البريِّ
.. كان غناؤها المائيُّ
يجرحهُ كزقزقة العصافير
الغريبة عن سماء الله
كانَ معبّأً بالبرق من أعلاهُ
حتى أخمص القدمين
يبحثُ في خلايا الأرضِ
عن منفى ومفردةٍ بلا ماضٍ
يؤنثها يُعيد بها تفاصيل
الرواية أو يدقُ بها
على الروحِ التي نامت
على وجع الترابِ
بلا مراودةٍ ويحتضنُ الفضاءَ
بلا يدين وقبلتينِ
من السرابِ الهش
ينظرُ دونما شفق
بعين غزالةٍ مذبوحةٍ
بهلال شهوتهِ/ مرايا للغيابْ



• • هل قرأت لشعراء سوريين وهل تعتبر الحركة الشعرية السورية مؤثرة في الأدب العربي ... طبعا في الفترة الراهنة ؟

قرأت لكثيرين منهم أدونيس ومحمد الماغوط ومحمد منير خلف
وياسر الأطرش ونوري الجراح ونزيه أبو عفش ومحمد الصالح الحسين وبهيجة مصري وغالية خوجة . كلهم كبار ويستحقون القراءة . وأعتبر الحركة الشعرية في سوريا من أقوى الحركات التي تحتضن المشهد الشعري في العالم العربي . وهي مؤثرة ومتطوّرة بشكل مذهل . وقد قمت بالإطلاع على الدواوين التي يصدرها اتحاد الكتاب عندكم فأصبت بالذهول من نضوج التجارب الشعرية وغناها بالمقارنة بما يجري في فلسطين .
أنتم تتفوقون علينا أضعافا مضاعفة .

• • غزة ...؟؟؟ أنت في قلب الحدث نتاجك الشعري الذي وصل لم يتناول ما يستجد من أحداث على أرض فلسطين ؟

منذ شغفي الأوّل بالشعر وأنا أحاول أن أتخلّص من شعر الحدث والمناسبات الذي رحل زمنه مع أن مصيبة غزة ليست مناسبة .
أحاول أن أصوغ مأساة غزة في كل ما أكتب من شعر ممزقّ بين الواقع والخيال والحرية والظلم ولكني قلت شعرا كثيراً لفلسطين كلها ولا أريد أن أجزأها فهي حاضرة في كل ما كتبت وما سأكتب حتى لو كان شعرا بسيطا أو شعرا يعبرُّ عن قضايا كبرى . يجب على الشعر أن يعبّر عن الحدث بصورة غير مباشرة ومن هنا تنبع قوته وحدته . الشعر عندي ليس شعارا ولا تقريراً يومياً. أنا أعبرُّ عمّا يحدث في كل بقعة موبوءة بالظلم في العالم بصورة مغايرة وجماعية أكثر .

• • نلاحظ انك تنشر الكثير من موادك في زمان الوصل فهل من الممكن شرح السبب ؟

لا لغير أنه يحتفي بنصوصي دائما وينشرها . وأود أن أتمنى له دوام الإستمرار والنجاح .

• • نمر سعدي ... تفضل النشر الالكتروني أم الورقي ... السبب ؟

أفضلُّ النشر الورقي بالصفة الأولى والألكتروني بالصفة الثانية .
وقد يكملُّ أحدهما الآخر. اليوم بالذات النشر الألكتروني مهم لأنه يتيح المجال أكثر لإنتشار النص الأدبي .ويشرع تحدِّ آخر أمام الكاتب ليتقن أدواته ويبدع ويجاري غيره . ولكنني أظن أن في النص المنشور ورقياً حميمية خاصا تربطه بصاحبه .










الشاعر نمر سعدي في حوار
مع وكالة الأنباء الفلسطينية وفا


نمر سعدي: من الصعب إثبات الشاعر نفسه في ظل الثورة المعلوماتية .


حاورهُ الأديب ناجي ظاهر



الناصرة 25-12-2007 وفا- يقول الشاعر نمر سعدي، إنه من الصعب على المرء أن يكون شاعرا في فترتنا الراهنة، فترة الانفجار المعلوماتي عبر الشبكة العنكبوتية.
ويضيف السعدي، في حديث لـ"وفا"، أنه في الفترة السابقة، فترة ظهور رواد الشعر الحديث تحديدا، كان مطلوباً من الشاعر فقط كتابة قصيدة جيدة، وبهذا كان يشار إليه بالبنان، أما في فترتنا الحالية يجهد الشاعر في إبراز نفسه سواء كان في المواقع الالكترونية المتعددة ، أو لدى المعروفين من الكتاب والشعراء.
ويبلغ السعدي الثلاثين من العمر، وابتدأ رحلته مع الشعر منذ أكثر من عقد من الزمن، وهو من أبناء قرية بسمة طبعون العربية، واصدر خلال عامي 2005 مجموعتين شعريتين هما:"اوتوبيا أنثى الملاك" و"عذابات وضاح آخر".
ويذكر كتابته للشعر في سن الرابعة عشرة حتى السابعة عشرة، تركت آثاراً واضحة على مسيرته الحياتية، وإن اختياره للشعر جاء من أجل أن يعيد إلى ذاته بهجة الحلم المنكسر.
ويكتب السعدي ما يطلق عليه اسم شعر التفعيلة، وأثار شعره منذ بداية نشره لنماذج منه في أواخر الألفية الماضية، في صحيفة" الاتحاد" الحيفاوية، ، العديد من ردود الفعل المحبذة، تمثلت في عدد من المقالات وفي تحيات وصلت إليه من قراء عبر أصدقاء له من الشعراء والمثقفين كما يشير.
ويلفت السعدي، إلى أن السهولة في النشر، ترافقت بصعوبة قصوى، في التعامل فيما بينه وبين الحياة الثقافية، فهناك سهولة في التواصل مع شعراء في الدول العربية المجاورة، إلا أنه كثيرا ما يجد صعوبة في الوصول إلى شاعر في بلاده.
ويعزو ذلك لسكنه قي قرية بعيدة، ما يضطره في كثير من الأحيان للانتقال من قريته إلى مدن مجاورة مثل الناصرة أو حيفا، لينشر قصيدة له وليشرف على طباعتها حتى لا تحوي أخطاء مطبعية.
من ناحية أخرى تمكن السعدي من إقامة علاقة مع واحد من الشعراء من أبناء جيله، هو سامي مهنا، ابن بلدة البقيعة، ومشاركته في إقامة ندوتين شعريتين إحداهما أقيمت في منطقة حيفا والأخري في مدينة عكا، بمبادرة من مؤسسة الأسوار للتنمية الثقافية الناشطة في المدينة.
وبات الشعر، بكل ما يتضمنه من رومانسية، واحدا من أبعاد السعدي الشخصية، التي يعرف بها في العديد من الأماكن بما فيها أفراد من المجتمع وأفراد من العائلة والبلدة.
ويجري السعدي الاتصالات عبر البريد الالكتروني التابع له، مع عدد وفير من الكتاب والشعراء من دول العالم العربي المحيط بنا، وتمكن من اخذ مكانه إلى جانب شعراء ومبدعين، لم يلتق بهم ولم يتعرف إليهم إلا عبر صفحات الصحف والمواقع الالكترونية، ولم يكن يحلم أن تنشر نماذج من أشعاره إلى جانب أشعارهم وبأكثر من لغة غير العربية.
ويتطلع السعدي إلى التفرد في القول، وأن يعمل من أجل أن يكون له صوته الخاص به وبصمته مهما كثر عدد الشعراء.


*************










.



































#نمر_سعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مجموعة قصائد جديدة
- تأمُّلات حجريَّة
- أُنوثةُ القصيدة لدى الشاعر شوقي بزيع
- سلامٌ على قمرِ البنفسجِ في عينيكَ
- نشيدُ الإنشاد
- مجموعة قصائد
- يا قَمَراً يُصوِّبني إلى نفسي
- هذيَانُ ديكِ الجنِّ الحمصيِّ الأخيرُ
- مقالات وحوارات في الأدب
- قُبلةٌ للبياتي في ذكرى رحيلهِ العاشرة
- يُخيَّلُ لي
- محمد علي شمس الدين..
- إغمدي قُبلةً في خفايا الوريدْ
- مُعضلةُ الصَداقةِ اللدودةْ
- وشمُ نوارسْ
- في حضرةِ الماء
- أمشي كيوحنَّا
- كائنُ الشمسْ
- لعلَّ أزهاراً ستُشرق
- في مرتقى شفةٍ


المزيد.....




- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نمر سعدي - مقالات أدبية