|
الأفكار بين التأمل وموهبة الخلق
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 2784 - 2009 / 9 / 29 - 04:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تبدو الحياة على الأقل في الجانب المرئي منها مسرحاً تحتدم فيه أطياف متنوعة من الرؤى والاتجاهات والممارسات ، ولكنها في ملخص الأمر تعكس جملة من أساليب التفكير الإنساني في استجلاء الأفكار وبلورة التأملات وخلق طرائق التعامل مع الحياة ، وعليهِ قد ينساق الكثيرون خلف الأوهام والأساطير والتخيلات غير مكترثينَ بجدوى أحقيتهم في البحث عن سبل التقصي والتفكير والتساؤل ، بينما يبقى البعض رهن التواصل الدائم مع الأفكار والأنساق الثقافية المتعددة التي تنتجها طبيعة المماحكة المستمرة مع عالم المتغير بعيداً عن رتابة الثابت ، وهناك أيضاً ممن يركنون قسرياً إلى فعل الانشداد الذاتي للقبول بما هو متاح وبما هو سائد ومتعارف عليه ، من دون مجاهدة العقل لتحريك المياه من مساراتها المعتادة أو فتح قنوات أخرى تزيد من شدة انسيابها وتدفقها ..
وإذا ما استعرنا على سبيل المثال عبارة ميلان كونديرا في إحدى رواياته ( الحب هو تلك الرغبة في إيجاد النصف الآخر المفقود من أنفسنا ) قد نفهم أن هناكَ ممن يجيدون احتراف البحث عن الجانب المفقود من النفس بالرغبة الشديدة في تجلي الأشياء من حولهم والتي قد تكون بمثابة المكمل للنصف الآخر من الذات ..
وإذا ما نظرنا إلى أولئك الذين يجدون متعة كبيرة في الاستدلال على الأفكار وأعماق الحياة من خلال استثارة الذاكرة المفعمة بمكنوناتها السابقة الموغلة في البعيد ، والتي تشتمل على جملة من الأحاسيس والتفاعلات والعواطف والأفكار ، فأنهم بتلك الاستثارة لمخزونات الذاكرة قد يعثرون على ما يجعلهم يقفون بوضوح أمام ما تتكشف لهم من أفكار جديدة تكون بمثابة الفتح الأكثر انبهاراً لذاكرتهم الراهنة أو الآجلة ..
ربما أولئك الذين لا يخشون عن الإفصاح عن أفكارهم وآرائهم ويتحلون بشجاعة المغامرة ، وهم يعلمون تماماً بإنها صادمة للفكر المتداول بسذاجة السائد ، وخروجاً حراً على أنساق المألوف ، هم في الحقيقة يراهنون على أن ما كان مختلفاً وشاذاً سيجد طريقه إلى الواقع ذات يوم ، ربما تمثلاً بقول الفيلسوف برتراند راسل : لا تخش أن تكون شاذاً في آرائك ، فكل رأي مقبول اليوم ، كان شاذاً يوماً ما ..
وكذلك ربما أولئك الذين يعتمدون على غريزة الحدس وموهبة الخلق في استنطاق عالم الأفكار يتميزون عن غيرهم بالاتزان الداخلي والانسجام الذاتي وحرية الإبداع ، لأنهم ليسوا مضطرين للوقوع تحت سطوة الاكراهات الأيديولوجية أو المسبقات الذهنية أو التفسيرات الجاهزة ، ويجدون أن أفكارهم حرة وليست للتداول في مزاد التكاذبات الاجتماعية أو الثقافية أو الإعلانية ، ولذلك عادةً ما يفضلون العزلة والابتعاد قدر الامكان عن الاحتكاك بالناس ويمقتون النفاق الاجتماعي وبريق الأضواء الكاشفة ، لأنهم يعتقدون أن مَن يريد أن يحظى بتصفيق الجمهور ويفكر بالجمهور عليه أن يعيش في الكذب بطريقة أو بأخرى ..
وقد يكمن عذاب الإنسان وخلاصه في تلك المساحة الصغيرة من رأسه ، فماذا لو إننا تمتعنا بعقل يساعدنا على نحو آخر أكثر إشراقاً وأكثر تفتحاً في تبني ما يجعلنا نتطلع لخير الإنسان عامةً والتمتع بمباهج الحياة وممارسة المعاني الإنسانية الجميلة ، وفي المقابل لا أعرفُ تحديداً كيف يصبح العقل مصدراً لعذابات لا تنتهي حينما يكون مقيّداً بعراقيله وواقعاً في مطباته ومستسلماً لهناته ، ففي هذه الحالة يسير بالإنسان إلى عتمة الحماقات وشرور الويلات ..
وربما هنا علينا أن نتساءل عن حقيقة خلق نوع ٍ من التناغم التواصلي بين الذات والعقل المسكون بجنوحه الشهي والمغامر نحو الامتلاء بالأفكار والأحاسيس والتجارب والممارسات ، وذلك للتعبير الخلاق عن طبيعة تلك التناغمات في انعكاساتها وتحولاتها واستنطاقاتها ، وللتعبير عن مجمل تجاربها الإنسانية في الحياة ، وقد يكون الإنسان في هذا المسعى أكثر انسجاماً وتصالحاً مع ذاته التي تبحث حثيثاً عن مستويات تتخلق فتحاً وتطوراً والتحاماً جمالياً مع جوهر الوجود الإنساني ..
ولذلك أعتقد أنه كلما كان الإنسان قريباً من تأملاته ومتداخلاً فيها وباحثاً عن جديد لحظاتها في الوقت نفسه ، فأنه يكون أكثر قرباً من تلمس المعاني العميقة خلف الأشياء ، ويكون أكثر استنطاقاً لجوهر الأفكار وقيمها المعرفية ، وأعمق استجلاءً للمشاعر والرؤى ، فالتأمل يحيل التفكير الإنساني إلى مستويات رفيعة من البحث والغور في الحقائق الكامنة في التصورات ووجودات الأشياء من حوله ، ومدى توافقها مع سعيه المعرفي للكشف عن جماليات الحياة والكون والوجود ، وليس صحيحاً أن كل بحث في التأملات يقع خارج نطاق الحقيقة الوجودية للذات التي تميل بطريقة أو بأخرى لممارسة وجودها الفعلي الحقيقي في مجالات التصور والتجريب ، فكل تأمل باحث عن الحقيقة هو تجسيد عميق لوجود الذات على قيد الممارسة الحقيقية الباعثة إلى موهبة الخلق في استنطاق عوالم الأفكار من حولها ، ولذلك قد نكون بحاجة مستمرة لممارسة فعل الخلق التأملي الحر الذي لا يقف عند سطحية الأشياء ، بل ينفذ إلى أعماقها ويتلمس دروبها الغائرة في مسعىً جمالي لاستيلاد مكامنها الجوهرية ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما معنى أن يتمنّى الإنسان
-
وقاحة مفضوحة
-
الإنسانيون ( 4 من 4 )
-
الإنسانيون ( 3 من 4 )
-
الإنسانيون ( 2 من 4 )
-
الإنسانيون ( 1 4 )
-
القناعات وَهْم البدايات
-
تلك اللذة العليا
-
ثقافات بلا منطق
-
زرقة الغياب
-
بحث في بنية العقل الديني
-
الحوار الحر ينتصر للإنسان
-
الإنسان .. من الغيبية إلى العقلانية
-
الجمال والحرية .. فلسفتان في البياض الشفيف
-
حينما يأتي الربيع في أوبسالا
-
الأساس الفلسفي للأفكار الحرة
-
الانتماءات وهْم .. الحقيقة أنا وأنت
-
الخلق والتطور في الفكر الحر
-
الإنسان ... فراغ مطلق
-
حينما تصبح الأيديولوجيا بديلاً عن الإنسان
المزيد.....
-
إسرائيل تجري مشاورة أمنية لاستئناف الحرب على غزة وترامب واثق
...
-
هجوم أوكراني بـ49 مسيرة على روسيا يشعل النار في مصفاة نفط فو
...
-
-نفعل الكثير من أجلهم وسيفعلون ذلك-.. ترامب أكيد من قبول عما
...
-
إتمام ثالث عملية تبادل بين حماس وإسرائيل في إطار الهدنة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن شن غارات على أهداف لـ-حزب الله- في الب
...
-
بعد تهديد ترامب.. الصين تؤكد تمسكها بشراكة -بريكس-
-
وزير الخارجية المصري يتوجه إلى لبنان
-
الرئيس اللبناني يوجه قائد الجيش بتفقد الجنوب
-
ترامب يهاجم صحفية بعد -سؤال غير ذكي- عن تحطم طائرة واشنطن (ف
...
-
زاخاروفا: 90% من وسائل الإعلام الأوكرانية تعيش على المنح الأ
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|