مديح الصادق
الحوار المتمدن-العدد: 2781 - 2009 / 9 / 26 - 07:59
المحور:
كتابات ساخرة
حين يلفى المرء نفسه محاصرا بالأشرار من كل جانب بحيث يغلقون عليه المنافذ من كل اتجاه , والشر مومس لا مقاييس له , يتلفع بالدين إلى حد الإفراط المقرف , أو بالإنسانية المقيمة للحق , وأحيانا برداء المصلحة العليا للقوم , ووحدتهم , وتحل الطامة الكبرى إذ يغلب الجهل على النسبة الكبرى منهم ؛ حينذاك على الشريف أن يحسم القرار , فإما أن يستسلم - مقتنعا أو غير مقتنع - وحشر مع الإسلام عيد كما يقال , أو أن يسبح عكس التيار الجارف مهيِّئا نفسه لأقسى الاحتمالات التي قد تودي به إلى حد قصم الظهر , أو قطع اللوزتين
أما { شرهان } فقد خالف القياسين والعرف السائد : { إن لم تتحمل جارك المسيء فعليك بالرحيل من الدار } وهي ليست مشكلة لديه , ما هي إلا خيمة , ورواق , يطويها على ظهر بعيره الصابر , ومتاع الراحلين دوما خفيف , كخفة ظل الحكماء , والعيال تابعون لرأسهم
فهي سنة الحياة , والرحيل عن دار يحكمها ظالم لا يخشى الأرض ولا السماء هو خير من ربقة ذل لا تليق بالفرسان , فالكف الواحدة
لا تصفق حين يختفي أنصار الحق خلف الستار , منهم طامع بالفتات
ومنهم يؤثر الصمت للنفاذ بالجلد
تفحص كيسا يربطه على الهميان بكل اهتمام , مد يده وعدََّها واحدة واحدة فهو يعرفها باللمس , هذه { حميدية } وتلك { رشيدية } , حسنا فعلت إذ اشترطت على الصائغ أن يكون عاليا العيار , عندما يشتد عليك الخطب فالرصيد المنقذ إما كنز ثمين تعتاش منه , أو صديق صدوق تتكئ عليه , أو كلاهما وتلك أفضل الأحوال , وإن غادرت دارك - مُجبرا - فاترك نخلة أو بئرا لتستمر من بعدك الحياة
تأكد { شرهان } من أن وصايا الوالد تلك قد أحكمها بقبضتيه , ودَّع المقربين , وانسل في ظلمة الليل مهتديا بالنجم القطبي , واصل الرحلة بحثا عن { أولاد الحلال }, إن كنت هاربا من ظلم فلا تحتمي
إلا بأولاد الحلال , لأنك إن اخترت { غيرهم } فلن تأمن على
عِرض لك , أو سمعة , أو مال , وابشر حينها كما استبشر ذلك
المسكين الذي غيَّر دينه تاركا قومه المسالمين ؛ لكنه أفاق صباح
اليوم الثاني ليمسح بالحائط كفيَّه , فلا مال , ولا حلال , ولا جاه , وأحرق داره , وهام على وجهه مرددا أبياتا يحفظها كثيرون
وهل تقرأ الكف يا { شرهان } لتستدل عليهم ؟ أو مكتوب على جباههم ما تبحث عنه ؟ أظن أنك سوف تسأل الرعاة أو تصغي لموواليهم , فالرعاة لا يخافون حين يختلون , وقد تسمع منهم أسرارا , أو فضائح عقابها قطع الرؤوس , لا هذا ولا ذاك
يامرأة جفف عقلها الطبخ والنفخ فما عادت تزن الأمور بميزان
ليس سهلا أن نعثر على { ابن الحلال } في هذا الزمن الصعب , وليس صعبا أن نميز المعدن الثمين من الردئ , { حكّ المعدن يظهر
ألأصيل وغير الأصيل } لا عليك يا بنت العم , لا عليك , الشمس
اتكأت على المسند الغربي , وسوف نمر على الأحياء , حيا حيا , فهم عند الغروب يكثرون الدعاء لمسح ذنوب النهار ويبدأون المشاوير
في ارتكاب الجديد من الذنوب , { ومنهم من يتاجر بالأخلاق والمثل العليا وتحت عباءته ما قدر الله مما يزكم الأنوف } ؛ لكنني - إن شاء الله - سأهتدي إلى من غادرت أهلي لأحظى عنده بحسن الجوار
ألقِ رحلك { ياشرهان } فالحي هذا عامر بأهله , و { المضيف } يغص بالرجال , لعل نصيبنا قد ساقنا { لأولاد الحلال } الذين سنأمن عندهم على كل غال ونفيس , ألا تسمع { رنَّ الهاون } ؟ ضرب الفناجين , النار موقدة , والخدام ماثلون في حضرة { الشيخ } , انظر
كم هو تقي يُقرِّب في حضرته رجال الدين , ويأمر بالعدل والتقوى , ولا بد أنه يتفقد { الأرامل } آناء الليل ليَطمَئِن على نومهن هنيئا بعد فقد الرجال , لقد تحدث الرعاة عن أنه يحج البيت كل عام , وهو عادل مع الثلاثة , لا ضير إن كان يروم التربيع , أظن نصيبنا قد
ساقنا إلى مَن نريد , فلنبنِ هنا الدار , الدار هنا حتما ستمسي خير الديار , وننشر السعي في المراعي , ويلعب الأولاد مع الصبيان , والبنات مع البنات , وحتما سيفرد لك الشيخ موضعا ويستأنس بما أوتيت من فصاحة اللسان , فالحكمة ليست حكمة إن ألقيت على الجهلاء , وخير المحدِّثين من يفهم مقدما إلى مَن يوجه الحديث
تريثي يامراة , بالله عليك تريثي , وسوف تنجلي الأمور , فالعاقل
مَن لا يخدعه السراب , والرقص على أي طبل ضرب من الجنون , هيا احضري ابنتك الصغرى , وناوليني مقص القماش
أمسك بثوب الصبية فأحدث فيه بعض { الفتوق }, أرسلها إلى حيث اجتمع القوم , وقفت عند باب { المضيف } انتفض { الشيخ } بأعلى صوته زمجر ساخرا: ما هذا الهراء ؟ , أتلك هدية { القادم الجديد } لي , أيبعث لي ببهلوان هذا المعتوه ؟ ومن كل جوارحه استغرق في ضحك طويل , جاراه فيه كل الحاضرين , فعندما يقرع الدفَّ ربُّ البيت تجد أهل داره كلهم راقصين , وتلك سجايا المنافقين سرعان ما
يرددون الذي يردد الأسياد بوعي أو بلا وعي , وبئس القوم الذين يقهقهون ساعة يسخر منهم الزعيم , وهو لن يذرف دمعة حين عليهم تنقلب الحتوف
عادت الصبية تجرأذيال الخيبة , تجفف الدموع بأطراف ثوبها
الممزق , تستجمع قواها لتحكي لوالدها { شرهان } كل الذي دار
طوى الخيمة ناويا الرحيل , فالحي الذي { لا يرتق الفتوق }لا يستحق
أن يُستجار به , والجمع الذي يميل مع الريح تبا له من جمع , سيعثر حتما { بأولاد الحلال } والمشوار طويل ولا يزال هناك المزيد من الأحياء ؛ لكنه عاهد النفس ألا يجاور إلا { أولاد الحلال } وإن طال
المطال , فهذا مطلب عسير جدَّ جدَّه في البحث عنه , وهو ليس
كمن يطلب المال , أو الحلال , أو سلعة مما يباع ويشترى في السوق
اجتاز الأحياء كلّها , والغربال نفس الغربال , الشيخ يستهزئ والحاضرون يقلدون الفعل , وفي كل مرة لا تسلم الزوجة من نظرات العتاب على رأي تسرعت به حين حكمها على ظاهر الأمور , يطوي الخيمة والقرار الرحيل
كاد اليأس يغلب ما تبقى من فسحة للأمل في أنها لن تخلو من أهل الخير , وإلا فهي من علامات الفناء , أليس هو القائل يوما : { لا تبتئس ياشرهان إذا رأيت المراكب , كلَّها , تسير في نفس الاتجاه
واعلم حينها أن بعضا منها يناور التيار في لجَّة الإعصار } وما هذا
الشعور باليأس عند أهل العلم بغريب في حين أنهم يبددونه عند الآخرين , والله , لُهي لغز تلك الحياة , وما أتفهه من لغز
حثَّ الخطى نحو الحي القادم , تلفع بظلمة ليل البراري , استرق السمع , وأمعن النظر , هم ليسوا كغيرهم , شيخهم يصب الماء بنفسه على أيدي الضيوف , والقهوة يسقيها , وذلك عنده فضل هو أولى به
لأنه صاحب الدار , وإن بدأ الحديث حكيم أطبق الصمت على الحاضرين مستلهمين العبر والدروس , ولا استهزاء من جاهل أو معتوه , فالحي فيه العاقل , وفيه المجنون , وليس عدلا أن نختار الصالحين ونلقي الطالحين بالنار , والكلاب عندهم تجيد تمييز الخيرين بالشم , وعطايا الكرام تُمدُّ من خلف الأستار , بلا ضجيج
استبشر { شرهان } خيرا فالعلامات تلك علامات الصالحين , وإن صدق الظن فهم قوم يستحقون الجوار , والجار قبل الدار , فالشاعر قبلنا قد قال : ناري ونارُ الجارِ واحدةٌ وإليه قبلي تُنزَل القِدرُ
دفع الصبية ذات { الثوب المفتوق } حيث اجتمع القوم , اتجهت نحوها الأنظار , حكيم بجانب الشيخ نهض من مجلسه , لفَّها بعباءته , أخرج من كُمِّه { مخيطا وخيطا } وقام برتق فتوق الثوب وكسوة من جديد القماش كساها , ومسحة والد حنون مسح الرأس
والحاضرون قد باركوا الفعل النظيف
هيا اضرب خيامك ياشرهان , فالقوم أولاء هم الذين عنهم بحثت
هم أولاد الحلال , ابن الحلال هو الذي { يرتق الفتوق } , ويُكسي العراة , ويُخلي الطرقات من الأشواك , ويستبدل الخبائث بالطيبات
إن عاهد فلن يُخلف العهد , وإذا استؤمن صان الأمانات , لو اضطر للنزال لا يطعن الظهر, ولا يعطي حلاوة من طرف اللسان وزاده سمُّ زعاف , وهو أعمى حين تمر أمامه الجارات , لا يرضى الظلم ولو خُيِّر بين الموت والحياة
أنزل أحمالك , نم قرير العين , فالدار هذي دار خير وأمان ما داموا
في جيوبهم يحفظون { المخائط والخيوط } لرتق ما يستجد من فتوق
سيداتي , سادتي , لا أضيف جديدا , فربَّاط الحديث مقروء من العنوان , وأنتم تفهمون الإشارة لأنكم أحرار؛ لكنني أمارس دور القارئ إذ أقول : ستستمر الحياة رغم الذين ترفَّعنا عن ذكر الصفات فيهم والأسماء ؛ لأن في كل حي من أحيائنا أولاد حلال
مديح الصادق
25 - 9 - 2009
#مديح_الصادق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟