|
الستالينيون (5) : تزوير التاريخ
يعقوب ابراهامي
الحوار المتمدن-العدد: 2780 - 2009 / 9 / 25 - 15:58
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مر أحدهم برجلٍ يعلم شيخاً طاعناً في السن القراءة والكتابة. سأله: ماذا تفعل؟ قال: أغسل حبشياً لعله يبيض.
"في العام 1944 شكل بيريا لجنة اسمها اللجنة اليهودية لمكافحة النازية وضمت اللجنة العديد من الشخصيات اليهودية حصراً ورئيس اللجنة هو لافرنتي بيريا . فهل يمكن أن يكون بيريا غير يهودي رئيس لجنة لا تضم إلا اليهود واسمها الرسمي اللجنة اليهودية ؟" (فؤاد النمري)
لن أفهم أبداً من أين يستمد فؤاد النمري هذه "الجرأة" على سرد "حقائق" تاريخية رغم أنه يعلم ، قبل غيره ، أن لا أساس لها من الصحة. ألا يعرف النمري أننا نعيش في عصر الإنترنيت وإن المعلومات لم تعد سراً ، بل هي في متناول الجميع ، مكشوفة لكل من يريد أن يعرف الحقيقة؟ ألا يعرف النمري أن عهد تزوير حقائق التاريخ (على غرار "تاريخ الحزب الشيوعي البولشفي" الذي كتبه ستالين) قد ولى إلى غير رجعة؟ أم إنه يعرف كل هذا ، ورغم ذلك يهزأ بقرائه ولا يحترمهم ؟
المعلومات التالية يستطيع أن يحصل عليها كل من يبحث في Google: إسم اللجنة التي يتحدث عنها فؤاد النمري هو : "اللجنة اليهودية لمكافحة الفاشية (The Jewish Anti-Fascist Committee) " وليس "مكافحة النازية" . اللجنة تأسست سنة 1942 وليس سنة 1944. (إما لماذا "أسسها" النمري سنة 1944 فهذا سؤال سنبحثه فيما بعد). لافرنتي بيريا لم يكن عضواً في تلك اللجنة لذلك لم يستطع أن يقف على رأسها. (من المؤكد أن اللجنة لم تكن تقوم لولا موافقة بيريا، رئيس الشرطة السرية، على ذلك. كل مناحي الحياة في الإتحاد السوفييتي ، في عهد ستالين ، كانت تحت سيطرة أجهزة القمع ورقابة الشرطة السرية). رئيس اللجنة كان الممثل والمخرج المسرحي اليهودي شلومو ميخائيليس (وليس بيريا كما يدعي المؤرخ فؤاد النمري). سكرتير اللجنة كان الصحفي آفشتين (ليس بيريا). اللجنة ضمت عدداَ من كبار المثقفين ، الكتاب والفنانين اليهود في الإتحاد السوفييتي ، من ضمنهم : الصحفي والكاتب إيليا أهرنبورغ ، الشاعر بيريتس ماركش ، الشاعر إيتسيك فيفر ، العالمة لينا شيران ، اللغوي والناقد الأدبي إيزاك نوسينوف ، قائد الغواصات والحائز على وسام " بطل الإتحاد السوفييتي" إسرائيل فيسانوفيتس (سقط دفاعاً عن الإتحاد السوفييتي سنة 1944). لافرنتي بيريا لم يكن أحداً منهم. لماذا يحكي لنا فؤاد النمري ، إذن ، إن بيريا وقف على رأس اللجنة؟ هذا سؤال على النمري أن يجيبنا عليه.
لماذا "أسس" فؤاد النمري "اللجنة اليهودية لمكافحة الفاشية" عام 1944 وليس عام 1942 (كما هو الواقع)؟ هناك جوابان مختلفان لهذا السؤال. الجواب الأول هو أنه بعد سنوات من تزوير التاريخ وإخفاء الحقائق يصعب على خريجي "مدرسة ستالين في علم التاريخ" قول الحقيقة حتى في امور تافهة لا أهمية لها. إخفاء الحقيقة أصبح عادة يصعب التخلص منها.
الجواب الثاني هو أن فؤاد النمري يريد أن يخفي عن القراء حقيقة النشاط الذي قامت به "اللجنة اليهودية لمكافحة الفاشية" لدعم المجهود الحربي للإتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية. وبدون إخفاء نشاط "اللجنة" بهذا الخصوص، بدون طمس دورها في تجنيد الرأي العام العالمي لنصرة الإتحاد السوفييتي في الحرب ضد ألمانيا الهتلرية ، لا يستطيع النمري أن يفسر لماذا قام ستالين بعد ذلك بقتل معظم أعضاء "اللجنة " وسجن الآخرين. كيف يستطيع فؤاد النمري أن يخفي الحقيقة عن نشاط "اللجنة اليهودية " في دعم المجهود الحربي للإتحاد السوفييتي؟ ليس هناك أسهل من ذلك. الحرب العالمية انتهت سنة 1945. لذلك إذا أخرنا قيام "اللجنة" بسنتين فقط ، أي إذا قامت عام 1944 بدلاً من عام 1942 ، لن يبقى لها ما تفعله ، خصوصاً وإن الجيش الأحمر كان آنذاك يطارد فلول الجيوش الهتلرية المندحرة.
للذكرى وللتاريخ: في عام 1943 (أي قبل أن "يؤسس" فؤاد النمري "اللجنة اليهودية") قام ممثلو "اللجنة" ، ميخائيلوس وفيفر ، بإذن من السلطات السوفييتية ، برحلة إلى الغرب استمرت سبعة اشهر ، زارا خلالها الولايات المتحدة ، المكسيك ، كندا وبريطانيا لكسب التأييد الشعبي والرسمي للإتحاد السوفييتي. في الولايات المتحدة تأسست لاستقبالهم لجنة خاصة برئاسة آينشتاين. وفي 8 تموز انعقد اكبر اجتماع شعبي في الولايات المتحدة حتى ذلك الحين (50000 شخص) تأييداً للإتحاد السوفييتي ، استمع فيه المجتمعون إلى ميخائيلوس يدعو إلى نصرة الشعب السوفييتي. إضافة إلى الدعم المالي للمجهود الحربي السوفييتي (16 مليون دولار من الولايات المتحدة ، 15 مليون من بريطانيا ، مليون من المكسيك و 750 ألف من فلسطين) حصل ممثلو "اللجنة اليهودية لمكافحة الفاشية" على مساعدات أخرى : مكائن ، أجهزة طبية ، أدوية ، سيارات اسعاف وملابس. وفي 16 تموز كتبت "برافدا" : "إستلم ميخائيلوس وفيفر برقية تقول إن مؤتمراً خاصاً سيعقد لتمويل ألف سيارة اسعاف للجيش الأحمر". الرحلة إلى الولايات المتحدة ساهمت أيضا في دفع الرأي العام الأمريكي للمطالبة بدخول الحرب في أوربا (حتى ذلك الحين كانت الولايات المتحدة تحارب على الجبهة اليابانية فقط).
النهاية : في الساعة السابعة من صباح 13.1.48 وجدت جثة ميخائيلوس مغطاة بالثلج في الطريق المؤدي إلى فندقه في مينسك. ورغم أن الطبيب الذي فحص الجثة رأى بوضوح أثار الطلقة النارية في جمجمته ، تحدث التقرير الطبي عن "حادثة طرق". لم يصدق أحد هذه القصة طبعاً. ولكن تسانابا ، رئيس الشرطة السرية في مينسك ، حصل بعد بضعة أيام على "وسام لينين" ل"امتيازه في تنفيذ مهمة حكومية خاصة". الشاعر إيتسيك فيفر ، الذي رافق ميخائيلوس في رحلته لنصرة الإتحاد السوفييتي ، أعدم مع معظم أعضاء "اللجنة اليهودية لمكافحة الفاشية" ليلة 13.8.52 ، بما أصبح يدعى فيما بعد ب"ليل الشعراء القتلى". كل الضحايا ، قتلى ومسجونين ، برئت ساحتهم بعد موت ستالين.
ستالين: "نحن نقرر ما هي الحقيقة". في مقالة سابقة طلبت من فؤاد النمري أن يوضح للقراء من أين استقى معلومة "بيريا اليهودي". قلت: إذا كان النمري لا يستطيع أن يقول لنا من أين استقى هذه المعلومة فإن الأستنتاج الوحيد هو أنه اختلقها بنفسه.
وهذا هو تفسير النمري: بيريا وقف على رأس لجنة كل أعضاءها يهود. إذن فهو يهودي. _ لكن بيريا لم يقف على رأس اللجنة. _ أنا أقرر من وقف على رأس اللجنة ومن لم يقف. هل هناك قارئ واحد يوافق النمري على هذا المنطق العجيب؟ أين أنت يا أبو العظيم؟
هكذا بالضبط حيكت خيوط "المؤامرات التروتسكية-الزينوفنيفية-البوخارينية-اليمينية-اليسارية" في عهد القيصر الأحمر: إثناء محاكمة "زمرة زينوفييف-كامينيف" استمعت المحكمة إلى "اعتراف" أحد المتهمين الذي وصف بالتفصيل كيف تلقى من سيدوف ، ابن تروتسكي ، الأوامر باغتيال قادة الإتحاد السوفييتي في لقاء عقده معه في فندق "بريستول" في الدانمارك. يقال إن ستالين ، أثر الضجة التي قامت عندما اتضح إن الفندق المذكور هدم عام 1917 ولم يكن له وجود إثناء اللقاء المزعوم، صرخ في وجه رجال التحقيق : لماذا فندق ؟ لماذا لم تختاروا محطة قطار؟ الكل يعرف أن محطات القطار تبقى في مكانها دائماً ، أما الفنادق فهي معرضة للهدم. (القصة منقولة عن كتاب "ستالين: بلاط القيصر الأحمر").
الصهيونية والصهاينة في كل مكان: "عند استلام الشيوعيين السلطة في تشيكوسلوفاكيا في العام 48 سمّى بيريا 12 عضواً في قيادة الحزب منهم 11 يهودياً وهو من أعطاهم أمراً بتزويد فرق الصهاينة في فلسطين بالسلاح، فهل يفعل كل هذا غير يهودي صهيوني ؟" (فؤاد النمري).
نحن نعرف إن ستالين تدخل في شؤون الأحزاب الشيوعية في "الديمقراطيات الشعبية". ولكننا لم ننحدر يوماً إلى حضيض الدعاية المعادية للشيوعية ، على نمط أيام الحرب الباردة ، ونزعم إن ستالين (أو بيريا) هو الذي عين أعضاء اللجان المركزية في الأحزاب الشيوعية. لفؤاد النمري مصادر أخرى ولا نناقشه في ذلك. (مصادرنا تقول إن ستالين لم يعينهم بل اكتفى بقتلهم).
غير أن إقحام الصهيونية والصهاينة في كل نقاش سياسي أو فكري هو موضوع آخر، وهو موضوع جدير بالإهتمام لأنه ، كما قلت في مكان آخر ، يكشف الإفلاس التام للفكر الماركسي الستاليني ، وهو مظهر مؤلم من مظاهر أزمة الفكر اليساري العربي. أريد أن أبقى في حدود ما قاله فؤاد النمري: 1. السلاح من تشيكوسلوفاكيا لم يصل إلى "فرق الصهاينة في فلسطين" بل إلى دولة اسرائيل والجيش الإسرائيلي. إخفاء الحقيقة المرة وراء كلمات خادعة (اسرائيل المزعومة ، الكيان الصهيوني ، العصابات الصهيونية وفرق الصهاينة) خدم دائماً ، وفقط ، اعداء الشعب العربي الفلسطيني. 2. قرار التقسيم وقيام دولة إسرائيل حظيا في حينه بتأييد القوى التقدمية والأحزاب الشيوعية في العالم بما في ذلك الأحزاب الشيوعية العربية. قرار التقسيم دعا ، كما هو معروف ، إلى إقامة دولتين: عربية ويهودية. 3. ممثل الحزب الشيوعي الإسرائيلي هو أحد الموقعين على "وثيقة الإستقلال" التي قامت بموجبها دولة إسرائيل. 4. الحرب التي شنتها الأنظمة الإقطاعية الملكية العربية عام 1948 ، لإحباط مشروع التقسيم ومنع إقامة الدولتين ، كانت حرباً رجعية أنزلت النكبة بالشعب العربي الفلسطيني. 5. حرب عام 1948 من جانب إسرائيل كانت حرباً عادلة ، وفقاً لكل المقاييس لحرب عادلة ، والشيوعيون الإسرائيليون حرصوا على تأمين النصر لإسرائيل في هذه الحرب ، بما في ذلك ضمان تزويدها بالسلاح من دول أوربا الشرقية. 6. يمكن تفسير أحداث التاريخ تفسيرات مختلفة ، بل وحتى تفسيرات مغايرة. طبيعي ومفهوم تماماً إن "القصة العربية" للصراع العربي-الإسرائيلي تختلف عن "القصة الإسرائيلية" لهذا الصراع. لهذا السبب بالضبط يدافع اليسارالإسرائيلي عن حق عرب إسرائيل في سرد "قصتهم" ومن أجل إدخال "النكبة" في مناهج التعليم الإسرائيلية. غير أن الإختلاف في تفسير حوادث التاريخ لا يعني الحق في تزوير حقائق التاريخ.
قانون فيزيائي جديد: "مقولة ستالين حول اشتداد الصراع الطبقي كلما تقدم البناء الاشتراكي هو قانون فيزيائي لا يعرفه الإبراهامي متواضع المعرفة كما يبدو". متواضع المعرفة.
#يعقوب_ابراهامي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الستالينيون (4) : حسقيل قوجمان ضد فريدريك انجلز
-
الستالينيون (3) : الكذبة المفيدة
-
الستالينيون (2) : فقر الفلسفة (كطول المقال)
-
الستالينيون (1) : دكتاتورية البروليتاريا بين المأساة والمهزل
...
-
الديالكتيك المستباح (أخيرة) : ما للماركسية ولنشأة الكون؟
-
الديالكتيك المستباح (4) : الأنفجار العظيم
-
(الديالكتيك المستباح (3
-
الديالكتيك المستباح (2)
-
الديالكتيك المستباح (1)
-
حسقيل قوجمان -يؤمن- بماركسية بلا كارل ماركس (أخيرة)
-
حسقيل قوجمان -يؤمن- بماركسية بلا كارل ماركس (3)
-
حسقيل قوجمان -يؤمن- بماركسية بلا كارل ماركس (2)
-
حسقيل قوجمان -يؤمن- بماركسية بلا كارل ماركس (1)
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|