أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مشير سمير - معايير النضج النفسي (3) الحدود السليمة والصحية في العلاقات – الجزء الثاني















المزيد.....


معايير النضج النفسي (3) الحدود السليمة والصحية في العلاقات – الجزء الثاني


مشير سمير

الحوار المتمدن-العدد: 2780 - 2009 / 9 / 25 - 09:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إن الحدود الصحية في العلاقات هي من أهم الموضوعات المغفلة في حضارتنا الشرقية، وذلك لما تتسم به حضارتنا الشرقية من نوعية غير صحية من العلاقات تسمى بالعلاقات الأبوية (الرأسية السلطوية غير الندية وغير المتكافئة) والتي تعمل كمناخ عام معوق لنمو الحدود الصحية والسليمة للعلاقات الفردية. فهذا النظام الأبوي في العلاقات – كما سنرى – لا يشجع نمو الهوية الفردية والاستقلال وتحمل مسئولية الذات، تلك الأمور التي هي من أهم خواص بناء الحدود السليمة للعلاقات، بل أنها على العكس تشجع على الاعتمادية السلبية والتبعية في العلاقات مع الآخرين.
وهنا لابد وأن نعطي فكرة سريعة ومختصرة عما يُسمى بالنظام الأبوي في العلاقات وتأثيره الضار على تشكيل ذاتية الفرد، قبل المضي قدماً في محاولة شرح الحدود السليمة للعلاقات.

النظام الأبوي Patriarchal/ Paternalistic System وتأثير على تكوين ذاتية الفرد

ترجع جذور العلاقات الأبوية إلى المجتمعات القبَّـلية (نسبة إلى القبيلة) فيما قبل المدنية الحديثة، حيث كانت طبيعة الحياة تحتم بدرجة شاملة علاقات الوصاية العمودية غير المتكافئة فيما بين الطرف الأكبر والأقوى متمثلاً في زعيم القبيلة/ كبير العشيرة/ عميد العائلة (الذي لابد وأن يكون ذكراً) وبين الطرف الأضعف والأصغر (أفراد القبيلة أو العشيرة أو العائلة) من أجل توفير النجاة والحماية وسبل العيش وتنظيم العلاقات الآمنة مع الغرباء، وذلك لفارق القدرة حيث كانت الحياة تعتمد أساساً على القوة البدنية. وبترسيخ هذا النظام عبر الأجيال والعصور حدث تأكيداً وتثبيتاً للفارق في القدرة والمعرفة والكفاءة بين طرفي العلاقة العمودية، فازداد الطرف الأضعف (الأبناء والنساء، والفرد المجرد "في غير سلطة" بصفة عامة) كموناً وضعفاً وانكماشاً في حين ازداد الطرف الأقوى (الزعيم وكبير العائلة، والذكر بصفة عامة) قدرة وسيطرة مما أكد سيادته وهيمنته وتفوقه على الطرف الآخر في هذه العلاقة الأبوية. الأمر الذي أدى إلى حرمان الطرف الأضعف من أن يأخذ فرصة حرة متكافئة في رؤية الحياة والتعامل معها وتقييمها والتفكير فيها والتعلم منها بمفرده واتخاذ قرارات خاصة به - الأشياء التي تعمل على تنمية ذاتية الفرد- دون تدخل فوقي سلطوي يملي عليه مقاييسه وتقييماته الخاصة. وهو ما يظهر لنا التأثير السلبي والضار لهذا النظام الأبوي على تشكيل هوية الفرد تشكيلاً مشوهاً يفتقر إلى الإحساس بالهوية الفردية والذاتية والاستقلالية وتحمل المسئولية.

وكما قلنا سابقاً أن هذا النظام لا يؤمن بالتساوي والتكافؤ والندية، فهو لا يعرف سوى الثنائيات العمودية التالية: "السيطرة/ الخضوع، الشعور بالتفوق/ الشعور بالنقص، الولاء/ الامتثال" كسمات للعلاقة، حسبما يقول د. هشام شرابي في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي"(1) والذي منه نقتبس عدة اقتباسات تالية والتي تبين كيف أن هذا النظام في علاقاته الأحادية العمودية هذه يعمل على تنمية وتوكيد الإحساس بالنقص لدى الفرد وعدم الكفاءة على التفكير والتقرير وامتلاك حقوقه وحريته، وبالتالي الانصياع والاعتمادية والامتثال بحيث يكون غير قادر على إنشاء علاقات أفقية (ندية) صحيحة وسوية ومتكافئة ربما أبداً.

وفي الاقتباس الأول، يقتبس هشام شرابي نفسه من كاتب آخر ويقول:
"قام عالم النفس الاجتماعي اللبناني علي زيعور في تحليله العائلة الأبوية في المجتمع العربي بتناول المسألة من وجهة إنتاج الشخصية. تتمحور مقولته المركزية علي "ضياع" الفرد في العائلة التي يهيمن عليها الأب والمجتمع القائم علي الأبوية المستحدثة، وتكاتف هذين الطرفين في وجه إمكانية "تحقيق الذات" إذ يقول:
إذن العائلة شديدة الوطأة ، مما يهيئ الولد لأن يطيع في شبابه، فالكثير من وسائلنا التربوية التقليدية لا تعده لأن يقارع ويناقش بقدر ما تنمي فيه الالتواء والازدواجية والاعتماد علي الكبير (الأب، الأخ الأكبر، المتنفذ في القبيلة، الرئيس)."
وهنا، وقبل أن نمضي قدماً في الموضوع، لكي نفهم شدة انحراف وتشوه النظام الأبوي لابد لنا من مقارنته بالفكر الصحيح والنظام الصحيح للحياة في العلاقة بين الشخص الكبير والشخص الصغير، ومثالاً لذلك نأخذ العبارة التالية للمفكر الإنجليزي برتراند راسل:
"الكبار والصغار سواء بسواء. ما أن يصلوا إلى سن الرشد فلهم الحق في اختياراتهم الخاصة، ولو كان ضرورياً، في أخطائهم الخاصة أيضاً. وليس من الصواب أن يستسلم الشاب الصغير لضغوط الكبار في أي أمر حيوي."(2)، مثل تلك المقولة بخصوص ندية الراشدين لا وجود لها في النظام الأبوي الذي لا يعرف سوى العلاقات العمودية، وسوف نأتي لذلك مرة أخرى لاحقاً في الحديث عن الندية والاستقلال.

من ثم نعود إلى د. هشام شرابي، فيقول:
"إن التبعية والاستقلال الذاتي نظاما قيم وتشكل اجتماعي، وفي حين ترتكز التبعية إلي الخضوع والطاعة وتنهض علي أخلاقية السلطة يقوم الاستقلال الذاتي علي الاحترام المتبادل والعدالة، ويعتمد علي أخلاقية الحرية."
"إن ما يميط اللثام عن هذه الدوامة الاجتماعية هي العقوبة التي يتعرض لها الابن حين يعصي إرادة أبيه في نمط العائلة التقليدي، إذ يصبح الابن عاجزاً ومسلوباً من حقوقه ومجرداً من ملكيته فيقع تحت رحمة أبيه. ثم إن جهود الابن تنصب علي البحث عن سبل تعمل للحصول علي غفران والده له ورضاه عنه. فيتعلم الابن عبر التجربة المؤلمة أنه يأمل في الوصول إلي هدفه المنشود بالخضوع لإرادة أبيه. هنا يُمنح الابن بعض حقوقه وقد بلغ فيدرك إنها حقوق لا يمتلكها بالأصل ولكن أسبغت عليه من سلطة عليا."
أي أن حرية الإنسان، على خلاف ما خلقه الله، هي شيئاً لا يملكه في ذاته وإنما هي منحة يعطيها الوالدين، في حدود، كمكافأة للشاب متى استحقها بطاعته وخضوعه. وهذه هي الكارثة الحقيقية هنا، والتي تظهر أيضاً في الإحساس بالتهديد الذي يشعر به الوالدان المعاصران نحو نمو الأبناء الذي يعقبه تحررهم وامتلاكهم حق تقرير المصير، مما يدفع بهما، أي بالوالدين، في كثير من الأحيان إلى التعامل مع الابن تعامل من يواجه عصياناً مدنياً، الأمر الذي يُرجعه رولو ماي الطبيب النفسي الأمريكي إلى عدم ثقة السلطة الوالدية في نفسها، وبالتالي احتياجها المريض للتعلق المسيطر على الشخص الأصغر.

"بالطبع سيصر الأباء، أو معظمهم على الأقل، ولو لفظياً على أن كل ما يريدونه هو أن يحقق الابن إمكانياته وقدراته. وهم عادة لا يدركون حاجاتهم اللاشعورية للتعلق بالشخص الأصغر. لكن واقع أنهم يتصرفون عادة كما لو أن تحقق الأبناء لن يتم إلا عبر بقائهم تحت السيطرة يكشف عن شيئاً مختلف تماماً عن ما يعلنوه شعورياً. إن تحرر الأبناء عادة ما يحرك قلقاً عميقاً في الوالد، وهو قلق يظهر مدى صعوبة أن يصدق الآباء في مجتمعنا في الإمكانيات الداخلية المتاحة للطفل (ربما لأنه من العسير حقاً عليهم أن يؤمنوا بإمكانياتهم هم أنفسهم) ويظهر لنا أيضاً مدى النزعة الموجودة في كل سلطة قائمة بأن تحافظ على سلطتها حتى ولو بثمن إخضاع الآخر."(3)

وهكذا ننتقل إلى عصر الحداثة فنرى أن الوالدين، نتيجة تطور الوعي العام، قد يدركا ظاهرياً استحالة استمرار السلطة الأبوية في مقابل العلم والفكر، إلا أنهما مع ذلك يلجئا، في المجتمعات النامية، إلى استغلال أدوات معينة كالدين في استمرار الحفاظ على الأبوية، في صورة حديثة، عن طريق إشعار الابن بالذنب واتهامه بالعقوق وعدم البر. فيستمر رولو ماي قائلاً:
"وعادة عندئذ يحاول الأبوان بدرجات مختلفة من العمق أن يقيما حجتهما الرئيسية على أساس أنه من الواجبات الدينية للشاب أن يظل تحت مظلة قيادة الوالدين، فهذه هي "مشيئة الرب" أن يظل تحت حكم الأبوين. وعادة يتلقى الشاب في هذه المرحلة من المشورة رسائل من والديه يقتبسا فيها أجزاء من العهد القديم مثل "اكرم أباك وأمك" بدلاً من تعاليم المسيح الموجودة في العهد الجديد مثل "وأعداء الإنسان هم أهل بيته" (إنجيل متى 10: 34 – 39)."(3)
وفي النهاية، تظل النتيجة كما هي من تعثر الابن وبالأخص الأنثى (التي تستمر تحت السيطرة ربما طوال العمر عن طريق تفسير مغرض لخضوع المرأة للرجل في أفسس 6: 22) في عملية الاستقلال وبناء الذاتية، ويستمر النظام الأبوي، في شكله الحديث، في العمل على إعاقة فرص الأبناء في تكوين هوية ناضجة وحدود سليمة للشخصية.
"وتتعقد الصراعات لأن الشخص الشاب الذي يصارع من أجل التحرر والاستقلال يحمل بداخله إحساساً عميقاً بالدينونة إن لم يطع والديه وأوامرهم. وهو عادة ما يكون في هذه اللحظة في حالة صراع شديد مع أحاسيس الذنب والقلق الناجمين عن رغبته في التحرر وعن جهوده في هذا السبيل."(3)

وهنا يجدر بنا العودة لنختم هذا الحديث كما بدأناه مع د. هشام شرابي، إذ يُجمل فيقول:
"ولذلك، فإن نظام الولاء يشل من فعالية أية بنية يهيمن عليها، ذلك أن هذا النظام في وضعه الامتثال قبل الأصالة، والطاعة قبل الاستقلال الذاتي يقضي علي موهبة الإبداع، وينمي فقط تلك القوي التي تساعد علي الإبقاء عليه."

قاعدة هامة: من الثابت أن القمع والسيطرة والتحكم الزائد في التنشئة المبكرة من أهم العوامل التي تعمل على تعويق نمو الذاتية وبالتالي الحدود الصحية لدى الأفراد. يليها أو ينافسها في العوامل التعرض للإيذاء والانتهاك سواء بدنياً أو جنسياً أو معنوياً أيضاً في الطفولة.

وهنا نتوقف قليلاً مع بعض المقاطع من مقالة للكاتب المصرية د. من حلمي، نـُشرت لها في مجلة روزاليوسف العدد 3918 بتاريخ 12/7/2003 تحت عنوان "النبرة المتعالية على الشباب"، تقول فيها:
"منذ أيام، شاهدت برنامجاً تليفزيونياً يناقش قضايا ومشكلات الشباب، استضاف البرنامج مجموعة من الشخصيات العامة ومجموعة من الشباب والشابات بهدف إقامة "حوار"، بدأ البرنامج وانتهى كما توقعت وكما هو السائد في مثل هذه البرامج.
أولاً: الشخصيات العامة التي استضافها البرنامج كلها من "الذكور" ويكفي هذا، لجعل أي برنامج أو مناقشة "باطلة"، والسبب أنها "زائفة" لا تعكس حقيقة بديهية، أن الحياة يقتسمها الرجال والنساء، وبالتالي فإن اكتساب أية مناقشة المصداقية يستلزم أن تضم قطبي الحياة، هذا الإسقاط لعنصر النساء يحدث في عدد غير قليل من البرامج الإعلامية، ويكون الأمر باعثاً أكثر على الدهشة، إذا كان المذيع "إمرأة" كما هو في أغلب الحالات، فإذا كان إسقاط النساء قد أغفله المُعِد "الرجل"، لأسباب كثيرة وسواء عن قصد، أو غير قصد، فإنه لا يجب أن تغفله المذيعة "المرأة"...
ثالثاً: دارت المناقشة كالتالي.. الضيوف "الرجال" مع المذيعة في "جبهة واحدة" مقابل الشباب والشابات في "جبهة مضادة". جبهة الضيوف والمذيعة هي الطرف "الأعلى". جبهة الشباب والشابات هي الطرف "الأدنى". الطرف الأعلى، يتهم ويدين، يقدم المواعظ والوصايا ويأمر وينهي، واحتكر النصيب الأعظم من الوقت. الطرف الأدنى منكمش مقهور، منسحب لم يُسمح له إلا بالصمت أو التصفيق وهز الرأس علامة الطاعة والموافقة. وبين الحين الآخر تقول المذيعة المؤرقة بالخصلات المتدلية على الجبهة: "هذا برنامج للشباب.." "لابد أن نسمع رأي الشباب" .. "الشباب هم الأمل"، "الشباب هم المستقبل"، "لنفسح الطريق للشباب".
ثم تعطي الكلمة لأحد الشباب "الذكور" لمدة دقيقة واحدة، تقاطعه لتسمه تعليق أحد الضيوف "الرجال" ويجئ التعليق متسقاً مع الروح العامة للبرنامج، فالضيف يظهر الشاب على أنه أخطأ التفكير، وأخطأ التحليل، وليس لديه النضج الكافي أو الخبرة التي تؤهله للحكم على الأشياء.
خلال البرنامج حاولت بعض الشابات الكلام أو التعليق، لكن المذيعة "المرأة" كانت طوال الوقت تسمح "للشباب" فقط بالمشاركة، أو لنقل أنها كانت تسمح بالمشاركة للشاب، أكثر بكثير مما تسمح للفتاة، ولأن الفتيات تربين على الصمت والطاعة وعدم الاقتحام والتخلي عن حقوقهن، فلم يكن لهن حضور أمام تسلط المذيعة وتحيز الضيوف "الرجال"، وهكذا اكتملت الدائرة الذكورية للبرنامج بشكل محكم. برنامج تحكمه النبرة المتعالية على الشباب، والتعالي أو العلاقة بين "أعلى" و "أدنى" لا يثمر حواراً، فالحوار يستلزم علاقة "ندية" على قدم المساواة، والاحترام والتقدير.
هذا بالنسبة للتوجه العام للبرنامج، أما عن الأفكار التي قالت بها الجبهة الأعلى (الضيوف الرجال مع المذيعة) فهي بالضرورة لا تسهم في إنارة حقيقية وسوف أناقش فكرتين على سبيل المثال:
... الفكرة الثانية، هي دعوة الشباب أن يفعل كل شئ دون المساس بالعادات والتقاليد، لست أدري كيف يمكننا التقدم دون نقد وغربلة العادات والتقاليد؟ إن العادات والتقاليد ليست سجناً للإنسان وليست كلمة نهائية، وأثبت التاريخ أن البشر قد غيروا عاداتهم وتقاليدهم، وهذا بالتحديد هو معنى التقدم وجوهر الإبداع.

والآن وقبل أن ننتقل إلى رسم بعض هذه الحدود المميزة للعلاقات السوية، دعونا نطرح أولاً مجموعة الأسئلة التالية للتأمل والتفكير بخصوص الحدود:
1- ماذا لو قمت بالاتصال تليفونياً بصديق لك فأنهى المكالمة مباشرة معتذراً بأنه منشغل ولا يستطيع الحديث معك الآن، هل تقبل ذلك بصدر رحب كحق طبيعي له أم أنك تشعر بالغضب؟
2- ماذا لو أن صديق لك يبدو أنه يخفي أمر ما خاص به عنك ولا يريد الإفصاح عنه، وحين سألته عن هذا الأمر أجابك بأنه لا يريد أن يتحدث عن هذا الأمر، فهل تقبل ذلك بصدر رحب كحق طبيعي له، أم أنك تشعر بالإهانة وعدم التقدير؟
3- ماذا لو اتصل بك صديق يخبرك أنه يرغب في زيارتك هذا المساء بعد العمل، بينما أنت لديك بعض الالتزامات المنزلية التي كنت تخطط للعمل على إنجازها طوال المساء ولا تريد تأجيلها. هل تعتذر لصديقك هذا بطريقة طبيعية دون أن تشعر بالحرج، أم تؤجل على مضض ما لا تريد تأجيله من التزامات لديك وترحب بزيارة هذا الصديق شاعراً أنه لا حيلة لك أمام هذا الأمر.
4- ماذا لو طلبتي من صديقة لك أن ترافقك في الغد للتسوق لشراء ملابس العيد فأخبرتك بأنها منشغلة جداً هذه الأيام وللأسف لن تستطيع مرافقتك، هل تقبلين ذلك منها بصدر رحب كحق طبيعي لها أم تشعرين بالغيظ وبأنها قد تخلت عنكِ؟
5- ماذا لو أن أحد أصدقائك أخذ قرار مخالف عما اعتدتم عليه كمجموعة أصدقاء وقرر أن لا يسهر معكم بالخارج بعد العمل كما اعتدتم دائماً، فهل تقبل ذلك منه بصدر رحب كحق طبيعي له أم أنك تشعر بالرفض والاستنكار وبأنه يتخلى عن صداقتكم؟

والآن دعونا ننتقل إلى شرح الحدود الصحية في العلاقات.

1 – الحد الأول: الخصوصية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أولاً لابد وأن ننفي أن الخصوصية تضاد الشفافية، فالخصوصية أوالسرية لا تعني المراءاة. فمن طبيعة الإنسان أن يكون له درجات ودوائر من الخصوصية تتسع أو تضيق بحسب اختياره، وهذا مما لا يتعارض مع شفافيته ومصداقيته في التعبير عن نفسه وإظهاره خارجياً ما يتطابق مع ما بداخله (أي عدم الزيف والمراءاة) على اختلاف علاقاته من شديدة الحميمية والخصوصية إلى العامة والسطحية. ونحن نرى ذلك في حياة السيد المسيح حيث كان له خصوصيات يشاركها فقط مع الحواريين (تلاميذه الإثنى عشر) ولا يشاركها مع الجموع (إنجيل مرقس4: 33،34)، في حين أنه في أحيان أخرى كان يـُضيق دائرة خصوصياته فيما يتشارك به لتنحصر فقط في ثلاثة منهم فقط، وهم بطرس ويعقوب ويوحنا (إنجيل مرقس 5: 35-43/ 9: 2/ 14: 32،33)، ومن وسط هؤلاء الثلاثة كان هناك مكانة أكثر خصوصية لتلميذه يوحنا الملقب بالتلميذ الذي كان "يسوع" يحبه (إنجيل يوحنا19: 26-27). وبينما في أحيان أخرى كنا نجد يسوع يختص الآب السماوي وحده دون غيره في المشاركة بأشياء أخرى لا يستطيع أن يشارك بها آخر (إنجيل متى 14: 13).

وهكذا لا نستطيع أن نقول أنه علينا أن نشارك الجميع بكل ما في حياتنا بنفس المقدار تحت شعار الشفافية، أو أن نتوقع من الآخرين أن يفعلوا نفس الشئ كدلالة على محبتهم لنا، فإن ذلك عدم نضوج وعدم فهم. فكل إنسان، حسبما خلقه الله، له مناطق حدود لشخصيته تقع تحت خصوصيته وسلطته وحده، تماماً كما هو الحال مع الدول والممالك. فمن النضج أن نتصرف بحكمة من جهة خصوصية حدودنا وكذلك من جهة خصوصية حدود الآخرين أيضاً. فاقتحام وعدم احترام خصوصية الآخرين تحت شعار الاهتمام أو الرعاية أو الشركة أو الحرص على مصلحتهم أو حتى تحت شعار الحب، هو عمل انتهاكي تطفلي استغلالي مدعيٍ وغير ناضج.
ولنستمع إلى كلمات الكاتب المسيحي الراحل الأب "هنري نووين" في خواطره الشخصية(1)، إذ يقول، تحت عنوان:
تحكم في المعبر الخاص إلى داخلك
"لابد أن تقرر لنفسك من هم الذين سوف تسمح لهم بالعبور إلى داخل حياتك ومتى ستسمح لهم بذلك. فلقد سمحت للآخرين لسنوات بالدخول والخروج من وإلى حياتك وِفق احتياجاتهم ورغباتهم. ولذلك لم تعد سيداً لمنزلك، وشعرت أكثر فأكثر بأنك مستخدم من الآخرين. ولذلك أيضاً قد شعرت سريعاً بالتعب والحنق والغضب والاستثارة.
تخيل معي منظر أحد قلاع العصور الوسطى المحاطة بخندق مائي، والجسر الخشبي هو المعبر الوحيد إلى داخل هذه القلعة. وسيد هذه القلعة لابد وأن يملك سلطة القرار بمتى يسحب هذا الجسر ومتى يمده. فبدون هذه السلطة يمكن للسيد أن يقع ضحية في يدي الأعداء والغرباء وكل من يطوف بالمكان. فلن ينعم أبداً بالسلام في داخل قلعته.
من المهم جداً لك أن تتحكم في معبرك الخاص. لابد أن يكون هناك أوقاتاً تسمح فيها برفع الجسر وتغتنم الفرصة لتكون بمفردك أو فقط مع من تشعر معهم بالقرب. لا تسمح أبداً لنفسك أن تكون ملكية عامة (مشاع) حيث يستطيع أي شخص الدخول والخروج حسبما يشاء. قد تظن أنه كرم منك أن تسمح لأي من يشاء الدخول والخروج، ولكنك سرعان ما ستجد أنك تخسر نفسك.
ولكن إن أعلنت سلطانك على معبرك الخاص فسوف تكتشف بهجة جديدة وسلام في داخل قلبك، وسوف تجد نفسك قادراً على مشاركتهم مع الآخرين."

ألا تذكرنا كلمات هنري نوين هذه بقول سليمان الحكيم "مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة" (أمثال سليمان16: 32)، أو بقوله: "مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه" (أمثال سليمان 25: 28)، أو لا تذكرنا بكلمات السيد المسيح القائلة: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟" (إنجيل متى 16: 26). فالإنسان الذي لا يستطيع أن يسيطر على حياته ويضبط حدود متزنة لعلاقاته مع الآخرين إنسان لا يملك نفسه، وكيف يستطيع أن يقدم لله ما لا يملكه. ولذا فهو يخسر نفسه.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- شرابي، هشام. "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي". ترجمة: محمود شريح. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1992
2- راسل، برتراند. "انتصار السعادة". ترجمة: "محمد قدري عمارة". المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة – الكتاب 408. القاهرة 2002
3- ماي، رولو. "بحث الإنسان عن نفسه". ترجمة: "د. أسامة القفاش". دار الكلمة، القاهرة 2006
4- Nouwen, Henri, “The Inner Voice of Love”, Doubleday. USA 1996



#مشير_سمير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معايير النضج النفسي (3) الحدود السليمة والصحية في العلاقات – ...
- معايير النضج النفسي (2) القدرة على التفرد Individuation ومقا ...
- معايير النضج النفسي (1) - العلاقة الصحية/السليمة مع الذات
- ليه لازم؟


المزيد.....




- ماذا قالت أمريكا عن مقتل الجنرال الروسي المسؤول عن-الحماية ا ...
- أول رد فعل لوزارة الدفاع الروسية على مقتل قائد قوات الحماية ...
- مصدران يكشفان لـCNN عن زيارة لمدير CIA إلى قطر بشأن المفاوضا ...
- مباشر: مجلس الأمن يدعو إلى عملية سياسية شاملة في سوريا بعد ف ...
- الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و ...
- عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها ...
- نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
- -ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني ...
- -200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب ...
- وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا ...


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مشير سمير - معايير النضج النفسي (3) الحدود السليمة والصحية في العلاقات – الجزء الثاني