لا نريد التطرق إلى أحداث 11 من سبتمبر ( أيلول) الماضي في واشنطن ونيويورك والبحث في اسبابها وظروفها التي لا يزال يكتنفها الغموض والشك والكثير من الأسئلة التي لا تزال تنتظر جوابا، بقدر ما نريد فهم سياسة أمريكا الخارجية الموسومة بالحروب والإرهاب الدولي وأهدافها الغامضة التي نظرت ووضعت أسسها الأجنحة اليمينية المتشددة .
لم يكن في مقدور أمريكا قبل 11 من سبتمبر القيام بحرب استطاعت أن تكسب الكثير من التأييد العالمي لها، مما جعلها تتوسع سريعا وتنتشر قواعدها في الجمهوريات الإسلامية، حتى بلغت مشارف روسيا شمالا على الحدود الجورجية، وقد كان الوصول إلى تلك الأراضي يعد بمثابة حلم بالنسبة للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبالرغم من هذه القفزة الكبيرة للسياسة الأمريكية الخارجية والتي استطاع صناع قراراتها اخراج الولايات المتحدة عبرها من أزمة اقتصادية كادت أن تؤدي بها السنة الماضية إلى حافة الإنهيار ، كما مكنتها من تجاوزإنتقادات عالمية حول سياستها فيما يخص الكثير من المعاهدات الدولية التي تخص البئية والتمييز العنصري وسباق التسلح..، وإن كانت سياسة تحويل الفشل الداخلي والأزمات المحلية إلى حروب خارجية وحملات دولية لصرف أنظار الرأي العام الداخلي شيء ليس بجديد، إلا أن الجديد هذه المرة هو طموح أمريكي أكبر يتلخص في تحويل القرن الحالي إلى قرن الأمبراطورية الأمريكية، لسد الفراغ الذي تركته الإمبراطوريات الأوروبية وأحدث فوضى في العالم، كما يقول منظروها .
من ريغن إلى بوش الإبن..وحروب الإرهاب التي لم تنته
لم يكن عنوان السياسة الأمريكية الخارجية في عهد رونالد ريجان تختلف عن الشعار الذي رفعته ادارة بوش الحالية، بل كانت تحمل نفس الشعار وتتبع نفس الأساليب والتكتيك، لقد حملت ادارة ريغان المنتمية إلى نفس الحزب الحاكم اليوم شعار " Evile Scourge of Terror" أو السوط الشرير للإرهاب" كمشروع أساسي لسياستها الخارجية ، وهو مشروع حرب وارهاب وتغيير للأنظمة بالقوة ، وكان الشرق الأوسط وأمريكا الوسطى مسرحا له، ومن عجيب القدر أن يكون دونالد رامسفيلد أهم وجوه تلك الحملة عندما كان ممثل الرئيس ريغان في الشرق الأوسط، لقد خاضت أمريكا الثمانينيات حربها عسكريا واعلاميا على ما سمتها آنذاك بالإرهاب ضد الحكومة النيكاراغوية التي اعتبرها الرئيس رونالد ريغان سنة1986 تهديدا للأمن الوطني ولسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية ، وفي نفس ذلك الوقت كان وزير خارجيته جورج شولتز يهدد في خطاباته للكونغرس بحرب عالمية لا حدود لها، محذرا بوجوب اجتثاث ما سماه بالسرطان النيكاراغوي بكل الوسائل..، ثم امتدت حرب ريغان على الإرهاب إلى ايران التي قررت خوضها إلى آخر جندي عراقي، ثم استدرج الإتحاد السوفييتي إلى مقتله بأفغانستان، وضرباتها لليبيا..، ثم توجت تلك الحروب في عهد بوش الأب بحرب الخليج الثانية وانهيار الإتحاد السوفييتي والتبشير بالنظام العالمي الجديد ، و انتهت تلك المرحلة التي اتسمت ببروز القطب الأمريكي الأوحد منتصرا في حروب تمت معظمها بالنيابة عنه، واستطاع عبرها تمرير سياساته وتحقيق أهدافه الإستراتيجية...، لكن ومع بداية القرن الحالي وعودة الجمهوريين إلى الحكم تم تطوير تلك الحروب ضد ما يسمى بالإرهاب بعد أن تم التنظير لها ووضع استراتيجياتها الجديدة لتصبح ارهابا دوليا شاملا ، الهدف منها كما تقول نظرياتها تنظيم شؤون العالم الذي اعتبرته فاشلا، وتهيأته ليرقى إلى مستوى ثفافة وايديولوجية المنظرين لامبراطورية القرن والواحد والعشرون.
لم تكن أحداث 11 سبتمبر كما قلنا، هي البداية هذا الطرح الإستعماري العولمي الجديد إنما كانت شرارة انطلاقه وبدأ تنفيذه والزج في سبيله بكل القدرات والطاقات وتوظيف كل الإمكانات ، لتحقيق أكبر قدر من الإستراتيجية البعيدة المدى للدور الأمريكي في القرن الحالي، من أجل بسط النفوذ و السيطرة الكاملة على مقدرات العالم، ليتحول باقي شعوبه إلى خدم للرجل الأبيض ومستهلكة لنتاجه الإقتصادي والثقافي، هذا هو التصور الذي وضعه تجمع من الجناح اليميني في الولايات المتحدة عام 1997م قبل وصوله إلى السطلة، لإقامة مايسمى بشمروع قرن أمريكا الجديد (PNAC) وكان من بين هؤلاء المنظرين ديك تشيني نائب الرئس الأمريكي بوش، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمركي و shbu bJe أخ الرئيس الأمريكي الحالي وحاكم ولاية فلوريدا، وPaul Nolfwiz نائب وزير الدفاع، وقد أعلنت هذا التجمع في تلك الفترة أن الديمقراطيين _في عهد ادارة الرئيس كلنتنون_ قد فشلوا في وضع استراتيجية للدور الأمريكي في العالم، ثم استمر التنظير لهذا المشروع الأمريكي عبر الكتاب والمفكرين حتى كان آخرهم صاحب العمود بالواشنطن بوست Sebastian Mallaby عندما كتب في مجلةForeign Affairs في عددها لشهر أبريل الماضي تحت عنوان " الإمبريالي المقاوم: الدول الفاشلة وقضية الإمبراطورية الأمريكية" حيث يعرف في هذا الموضوع المثير للجدل، الخطر العظيم المحدق بأمريكا والذي يعتبر مايسميه بـ "الدول الفاشلة" مصدره القادم ، فيه كما يرى مرتعا لـ "الإرهاب وتجارة المخدرات" ويقول الكاتب، "يجب على السياسية الأمريكية الخارجية الإستجابة للتطورات المتغيرة... إن الإمبريالية الحديثة تجبر ادارة بوش على المقاومة وبشدة، إن الفوضى في العالم تشكل تهديدا لا يمكن تجاهله، وقد جربت الوسائل الحالية في التعامل مع هذه الفوضى ووجدت غير كفأة في التعامل مها ، إن وقت امبريالية جديدة قد حان، وقد أصبحت أمريكا ملزمة بحكم قوتها الفعالة لعب دور قيادي فيها" ثم يعطي الأمر وكأنه أضحى واقعا بقوله "والسؤوال ليس هل ستقوم أمريكا بسد الثغرة التي تركتها الإمبراطوريات الأوروبية، لكن هل ستدرك أمريكا أن هذا ما سيتم فعله، وعند ادراك هذه المهمة فقط ستكون الإستجابة فعالة" ثم يشدد على ضرورة اضفاء الشرعية الدولية على ذلك المشروع حتى يكون مقبولا محليا دوليا، فيقول: "إن دعاة الأحادية يجب أن يعرفوا أن الدول الفوضوية ميالة أكثر بقبول البناة المتعددي الجنسيات الذين يتمتعون بالشرعية الدولية"، ويضيف تأكيدا لضرورة الغطاء الدولي "كما أن استطلاعات الرأي الأمريكية أظهرت أن مسألة الشرعية الدولية مسألة مطلوبة داخليا في أمريكا كذلك...، إن أحسن أمل لمصارعة الدول الضعيفة تكمن في تنظيم هذا الخليط من القيادة الأمريكية والشرعية الدولية " ثم ضرب مثلا لهذا التجانس بالبنك الدولي ومنظمة النقد الدولية وهما كما قال "تعكسان التفكير الأمريكي" ، ثم دعا إلى ضرورة بناء جهاز آخر بديلا عن الأمم المتحدة التي وصفها بـ"الأسيرة للفيتو التثبيطي لدول مثل روسيا والصين"..
غير بعيد عن هذا التنظير الذي تنبعث منه رائحة الإستعلاء للرجل الغربي الأبيض الذي غمرته نشوة انهيار المعسكر الشرقي، فراح يستهتر بقيم وشعوب العالم، متصورا أنها تعيش في فوضى واختلال وظلام، مفتقرة إليه مرة أخرى ليقوم بحملات تحضير وتنظيم وتثقيف تلك الشعوب وانقاذها مما تعانيه من تنامي الإرهاب والجريمة المنظمة وتجارة المخدرات..، وغير بعيد عن منظري تلك الحروب الإستعمارية في الولايات المتحدة ، ارتفعت أصوات منظرين آخرين لهذا المشروع في القطب الآخر للكرة الأرضية، بل كانوا أكثر حماسا ووضوحامن نظرائهم الأمريكيين، فتحت عنوان "إعادة تنظيم العالم" كتبRobert Cooper مستشار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير للشؤون الخارجية "إن مرحلة مابعد العالم المتقدم والتي تكون فيها تلك الدول خاضعة لقيادات متعددة الجنسيات- أي عولمية-" ويضرب مثلا بأوروبا "في هذه الحالة لا تقوم هذه الدول بغزو بعضها البعض، لأن الأمن يكون سائدا شفافيا وسائدا..،
ثم يبررCooper إرهاب الدولة بقوله "إن التحديات التي تواجه الدول مابعد المتقدمة تجعلها تستعمل فكرة إزدواجية المعايير، وتتعامل تلك الدول فيما بينها وفق نظم القوانين الأمنية، لكن عندما يتم التعامل مع أكثر الدول تأخرا خارج دائرة الدول فوق المتقدمة ، تكون الحاجة إلى التحول إلى الوسائل القاسية للعصور الأولى عبر القوة والهجوم المباغت والخداع وبكل ماهو ضروري للتعامل مع ءولائك الذين لا يزالون يعيشون في عالم القرن التاسع عشر" وقال مؤكدا على تلك الإزدواجية "إننا فيما بيننا نتمسك بالقانون ، لكن عندما نعمل في غابة يجب علينا استعمال قوانين الغاب.."
القرن الماضي ، ويذهب إلى أبعد من كلامه الأول ليصل إلى تفسير المهمة القديمة الجديدة للرجل الأبيض المستعمر فيقول"إن السبيل المنطقي للتعامل مع الوضعية الحالية هي الإستعمار، لكن وبما أن ذلك أصبح غير ممكن اليوم، فإن البديل هو نوع جديد من الإمبريالية تكون مقبولة القيم الإنسانية والعالمية، إنها امبريالية مثل جميع الإمبرياليات تهدف إلى إعادة القانون والنظام".
ويبين ضروب هذه الإمبريالية الجديدة فيقول هناك"نوعان لإمبريالية الدولة مابعد المتحضرة ، أولا امبريالية الإقتصاد والمال الذي يعمل عبر مؤسسات دولية مثل البنك الدولي ومنظمة النقد الدولية، وهناك نوع آخر، وضرب لها مثالا بالبوسنة أي المحميات الدولية".
إن هذا الكلام هو منطق الإستعمار ذاته الذي حملته البعثات الإستعمارية تحت شعار "مهمة التحضير" ، وقد شرح لنا بعض هؤلاء المنظرون أهداف وخطة الحرب التي تتزعمها أمريكا والتي أطلقت عليها مسمى الحرب على الإرهاب، وهي الحرب التي تحولت من دفاع مشروع عن النفس إلى ارهاب دولي تمارس أعظم دولة في العالم لتحقيق مآرب سياسية وسيطرة دولية وبث الرعب والفوضى في العالم وعندما نصف ماتقوم به الولايات المتحدة اليوم بالإرهاب فإننا لانقول ذلك جزافا إنما نستند على التعريف الأمريكي ذاته للإرهاب الذي حمله الدليل التعريفي للجيش الأمريكي سنة 1984 حيث يعرف الإرهاب بـ"الإستعمال المحسوب للعنف أو التهديد بالعنف للوصول إلى أهداف ذات طابع سياسي أو ديني أو اديولوجي". فعبر مسار الإرهاب الذي تورطت فيه ادارة بوش وورطت العالم معها في مآسي دولية وأقليمية، وتصفيات حسابات واعتداءات وتجاوزات صارخة في حقوق الإنسان والحريات المختلفة ، كل ذلك يتحت شعار مكافحة مايسمى بالإرهاب الذي فتحت أمريكا الباب له واسعا وتعمدت بتركه مبهما غامض التفسير ، إن اتساع دائرة الحملات الأمريكية وطنطنتها على دول العالم بقضية الإرهاب واختزال كل القضايا والأزمات الأخرى فيها، سينقلب سلبا على مجتمعات العالم بما فيها أمركيا ، وسيكون وباله أكبر على الشعوب الفقيرة والدول الضعيفة .
إن ادخال امريكا العالم في متهات مايسمى بحرب الإرهاب المبهم، قد جرت العالم اليوم إلى تحديات كبرى وحروب وأزمات لا يمكن التنبأ بها وأدت إلى بروز الكثير من الملفات العالقة والقضايا الساخنة والخلافات المستعصية ليتم حسمها حسما أحادي الجانب في ظل الحرب على الإرهاب، كما أججت الحملة الأمريكية الإعلامية والعسكرية إلى زيادة العداء بين الشعوب والدول وبين الأقليات والقوميات في تلك الدول وأوجدت مناخا مناسبا لنمو الأجنحة القومية المتطرفة وزحفها السريع نحو الحكم، وتعتبر سياسة ايجاد أجواء حروب وظلم ملؤها الخوف والترقب وفقدان الثقة، وكثرة التحذير من الإرهاب المزعوم، والزج به من قبل أمريكا في أجندة المحافل الدولية الإقتصادية والسياسية والثقافية والرياضية، سياسة فاشلتة ستنقلب سلبا على صاحبها، وأبرز تلك السلبيات التي حصدها الأمريكان من سياسة الحرب وإرهاب الدولة هي كره شعوب العالم لها وافتضاح دعايتها حول ما يسمى بالإرهاب التي تحطمت على انقاض قرى فلسطين، عندما توج قائد الحرب على الإرهاب شخصيا شارون بصفة رجل سلام أثناء مجازره الأخيرة في الضفة الغربية، وبهذه السياسية ضيعت الإدارة الأمريكية الفرصة على نفسها عندما كانت تحضى بتعاطف العالم برمته في مصابها، عندما كان من الأجدر أخلاقيا وإنسانيا التصدي لما حصل عبر البحث عن جذور تلك الأعمال لمعالجلة أسبابها السياسية والإقتصادية بتعاون تام مع المؤسسات الدولية، وهناك فقط كانت الولايات المتحدة تكسب احترام العالم، وراح الشعب الأمريكي عوضا عن ذلك ضحية الإرهاب والإرهاب المضاد الذي يمارسه باسمه جناح متطرف داس على كل الأخلاق والقيم الإنسانية وحرية الشعوب، مستعملا المعايير المزدوجة وتوسعت شهيته لتتجاوز مايدعو إليه وتتحول تدريجيا إلى استعمار من نوع جديد لإمبراطورية القرن.
*نائب المدير الإقليمي للإتحاد العالمي للإعلام وإستطلاعات الرأي- لندن.