|
الأمازيغ والفلسفة
فتحي بن خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 2766 - 2009 / 9 / 11 - 23:40
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الفلسفة هي أم العلوم وأعرقها .. هي مفتاح المعرفة والإدراك الفكري اللا محدود. الفلسفة هي كل العلم، وكل علم هو فلسفة في حد ذاته. لم تتأتى لي عنونة هذا المقال المتواضع من باب تمجيد الشخصية الامازيغية وتبجيلها تبجحاً وشططا، بقدر ما هي محاولة لإنصاف وإحقاق الحق لأفكار وشخصيات تاريخيةامازيغية لها باع وذراع- كما يقال – في إثراء فضاء الفلسفة الإنسانية اللا متناهي، بل ولن أبالغ إن قلت بأن فلاسفتنا الامازيغ - الليبيبون - القدامي في هذا الفضاء كمثل الكواكب السيارة والنجوم التي لن يخبو وهجها أو وميضها. فلقد تفلسف الامازيغ واستهواهم التمنطق منذ القدم، بل وقبل ظهور حركة الديانات السماوية بقرون، شأنهم في ذلك شأن جل شعوب وأمم الحضارات المدنية العريقة علي ضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط ، والتي تواصل معها أجدادنا الأمازيغ وإحتكوا بها، فأثـّروا وآثروا وتأثروا، علي عكس حال الجماعات البدائية النائية، أوشعوب الشِعاب والبداوة والتصحر الفكري والبيئئ المعزولة عن التفاعل الإنساني حتي في عصرنا الحديث هذا. فالشغف بالفلسفة شغف بالحياة وبأسرار الوجود، بالفكر والتفكر لغرض التدبير والتدبر، شغف بالعقل والعلم والفنون، تأمل فتعمق فتحليل وتدليل، تداول وتناول وتحاور مع الذات ومع الأخر. وكم هو جليل مشرف ماضي الأجداد الذي يحمل بين طياته أسماء ليبية خالدة في تاريخ العلوم والفكر والفلسفة وغيرها،.. سير وتاريخ آن أوان إنصافها ونفض غبار الجهل بها وتناسيها وطمسها. (( ... خير للمرء أن يكون بلا ثروة من أن يكون بلا علم، لأنه في الحالة الأولى لن يفتقد غير المال، بينما سيـُحرم في الحالة الثانية مما يجعل الإنسان إنسانا ، ... )) أرستبوس القوريني – القرن الرابع ق.م Aristippus Of Cyrene هو فيلسوف ليبي من مواليد مدينة: قورينا الزاهرة، وهي في أوج شهرتها وتقدمها ونمائها، أي في القرن الرابع لما قبل الميلاد(نحو 435- 355 ق.م )، ولذلك نـُسب أسمه إليها: أرستبوس القوريني أو القورينائي. تتلمذ علي يدي الفيلسوف: سقراط ، أشهر فلاسفة اليونان، وتأثر به أيما تأثر، بل وأنه تمني أن تكون نهايته وموته كما كانت نهاية معلمه: سقراط. كان أرستبوس سفسطائيا، وهو المؤسس الأول للمدرسة القورينية الشهيرة، ولمذهب اللذة. وللمدرسة القورينية ومذهبها التقدمي في ذلك الزمان، سيط ذائع وحضور شائع في أوج عصر الفلسفة اليونانية القديمة. فقوام السعادة بالنسبة لجدنا: أرستبوس ليست اللذة بحد ذاتها، بل التحكم بها، أي .. لا الحرمان منها ولا الخضوع لها، وإنما ضبطها على نحو عاقل حكيم. واللذة لدي: أرستبوس، هي تجربة اٍيجابية حية، وليست مجرد غياب للألم. وبما أنها هي الغاية الطبيعية التي تنشدها الموجودات قاطبة، فلابد أن نماهي بينها وبين الخير. ومن منظور اللذة – الغاية، فاٍن الحاضر هو وحده الذي يعتد به، ليس الماضي الذي ما عاد بحوزتنا، ولا هو المستقبل الذي لم يصر بعد لنا. ومن ثم فاٍن مصدر اللذة ليس التذكر و لاترجي الأحداث السعيدة، وإنما هي فقط اللحظة الحاضرة بكل زخمها. وللقارئ الكريم أن يلحظ مدي عمق وحكمة هكذا مذهبية في زمن تفصلنا عنه مئات القرون الغابرة ؟ ولأرستبوس نظرية ذاتوية في المعرفة ترتبط ارتباطا وثيقا بمذهب اللذة. فقد أنكر أن تكون إحاسيسنا هي التي تعلمنا ماهية الأشياء الحقيقية، وأن تفيدنا في معرفة الطبيعة، وفي الوقت الذي تفتقر فيه معرفة تلك الطبيعة إلى أي أساس موضوعي، فإنها تبقى عديمة الجدوى بالنسبة إلى تسيير دفة حياتنا. ولهذا فقد كان أرستبوس يزدري الرياضيات لأنها وبالنسبة له عبارة عن حسابات صامتة، لا تولي اٍعتبارا للخير والشر، وتضرب صفحا بالتالي عما ينبغي أن يكون القطب الذي تدور علية اٍهتماماتنا. فإن كانت احاسيسنا عاجزة عن تزويدنا بمعرفة للعالم، فيكفيها فضلا في أنها تمدنا باللذة أو تسبب لنا الألم وتعلمنا عن علل مشاعرنا، وهي تصلح بالتالي، لتـُتخذ مـُرشدا للحياة ودليلا. يقول المفكر: جان برون .. عن أرستبوس وفلسفته(المتعوية)، إن صح التعبير: ((.. إن مثل تلك المتعية، التي تـُعلـِم الإنسان أن يعيش قبل كل شيء في اللحظة وأن يجعل من حياته فسيفساء من اللذات، ما كان لها إلا أن تزود كاتبي سيرة أرستيبوس بنوادر كثيرة تصور الحياة التي عاشها حياة تهتك. بيد أن أرستيبوس لم يكن متهتكا لا يزعه وازع من ضمير، ويخطئ من يحسبه ألقيبيادس آخر. فدروس سقراط كانت أثرت فيه تأثيرا بالغا حتى أنه كان يقول اٍنه يود لو يموت ميتة معلمه: فمن سقراط تعلم أرستبوس السيطرة الداخلية على الذات، وما كان له بالتالي أن يقبل بتصور للحياة يؤكد أن كل شيء مباح، وأن طلب اللذة لا يجوز أن يقيده قيد. وكان يردد أن الفلسفة علمته أنه خير للمرء أن يكون بلا ثروة من أن يكون بلا علم لأنه في الحالة الأولى لن يفتقد غير المال، بينما سيحرم في الحالة الثانية مما يجعل الإنسان إنسانا، وعليه.. وعندما سأله: ديونيسيوس، لماذا يتردد الفلاسفة على دور الأغنياء بينما لا يقع النظر أبدا على الأغنياء في بيوت الفلاسفة،أجابه بالقول: بأن ذلك لأن الأوائل يعرفون ما ينقصهم، بينما الأواخر أي الأغنياء يجهلونه. ولهذا بالتحديد كان أرستبوس كتلميذ سقراط ، يقول : اٍنه لو زالت القوانين من الوجود، فاٍن حياة الفيلسوف لن يطرأ عليها أي تغيير بنتيجة ذلك ..)). وكما أسلفنا فقد إستحوذت فلسفة المدرسة القورينية ومذهبها، علي مقام هام ومؤثر في تاريخ الفلسفة اليونانية القديمة، واستمرت في إشعاعها وحتي بعد وفاة مؤسسها، وذلك علي أيادي الكثيرين من الفلاسفة القدامي،كا الفيلسوف اليوناني : أنتيباتر القوريني، وقد سمي كذلك نسبة إلي معلمه وأستاذه: ارستبوس الليبي، وعلي يد الفيلسوف: أنتيباتر بدوره، تتلمذ العديد من الفلاسفة العتاة كا: أنيقارس وهجسياس الملقب بمستشار الموت في تلك الحقبة، أي القرن الرابع والخامس ق.م.، وأشهر من يهمنا التطرق إليه بصدد هذا العرض الموجز هو: أرستبوس الأصغر Aristippus Junior والذي يعد الإمتداد البيولوجي والإيدولوجي للفيلسوف الليبي العظيم، فأرستبوس(الشاب) أو الأصغر، هو حفيد أرستيبوس القورينائي، والذي ولد كذلك في مدينة: قورينا نحو 360 قبل الميلاد، وواصل تعليم الأخلاق القورينائية القائمة على أساس مذهب اللذة، وله الفضل في إثراء ذلك المذهب بأن ميز بين اللذة السلبية (السكون) واللذة الاٍيجابية (الفعل والحركة
يصنف مؤرخو الفلسفة، تاريخ الفلسفة القديم إلي مرحلتين متعاقبتين ومكملتين لبعضهما البعض : - المرحلة الإغريقية، وهي الفترة التي سادت فيها الفلسفة اليونانية وعظمائها بشكل شبه كلي وكاسح: سقراط – أفلاطون – أرسطو.. ومعاصريهم. - والمرحلة الهلنستية والرومانية ( أي منذ تاريخ: 333 ق.م، إلي ما بعد ميلاد المسيح )، حيث ظهور المدارس السقراطية-الوثوقية، وتأسيس الأكاديمية الجديدة، و((الشكيّة - الفلسفة الدينية المبكرة))، إلي فترات الوثنية.. فاليهودية.. والمسيحية. وهي المرحلة التي تمييز فيها الفلاسفة الليبيون وسطع نجمهم عاليا، وتقلدوا أرفع المناصب الأكاديمية في عقر دار الفلاسفة الإغريق..، وبصموا بأفكارهم الفلسفية علامات راسخة خالدة لن تـُباد أو تـُمحي. وفي جزئنا الثاني هذا يشرفنا وباعتزاز وفخر أن نستذكر منهم :
أنيكار- س Anicar-es
فيلسوف ليبي من قورينا، أسس نحو 330 ق.م، شيعة من أتباعه واسموهم بـ : الأنيكاريون، نسبةً إليه. و كان: أنيكار- س، من الأنصار الكلبيين لمذهب اللذة، والكلبيون: هم أنصار المبداء "السقراطي" القائل بأن: السعادة تكمن في الفضيلة لا في المتعة.؟،ودعوا للتقشف وحياة الكفاف، لكن: أنيكار- س، حاول أن يعطي منهجه معنى إنسانيا متفائلا، فخلع قيمة مطلقة على كل ما يربط الإنسان بمجموع الناس، كالصداقة والأسرة ووشائج الوطن والانتماء. وقد وضع ثقته في العادة والتعود أكثر مما وضعها في العقل، وأكد بالتالي على دور التربية والبيئة في التكوين الفكري.
(( حتي : كرنياد – س، لن يستطع حلها )) مثل يوناني قديم.
كرنياد – س Carnead-es
هو فيلسوف ليبي قوريني الأصل والمنشأ أيضا، ( 214 - 182 ق.م )، وكان من ألمع ممثلي المدرسة الأفلاطونية، ويجمع كبار الفلاسفة والمفكرين القدماء على اعتباره،مع: خريزيبوس، أهم فيلسوفين في الفترة الفاصلة بين أرسطو وأفلاطون. وكان كرنياد – س، عدوا لدودا ومنتقداً لاذعاً للمذهب الرواقي، وهو الدافع الرئيسي الذي حسن به الرواقيون فلسفتهم وهذبوا به مذهبهم، وكان خصما لكل ما يذهب لليقين والوثوقية، بحيث أن عـُرف مذهبه الخاص باسم: الاٍحتمالية،أي في المحصلة الأخيرة: الشكية، ويُعتبر رائد هذا التوجه العريق، والذي كما أشرنا في مقدمة هذه الحلقة يعتبر من أهم توجهات المرحلة الهلنستية والرومانية للفلسفة، والتمهيد الأولي للفلسفة الدينية المبكرة، وهو المذهب الذي امتد تأثيره القوي حتى إلي عصر الفلسفة الأوربية الحديثة ومؤسسها الحقيقي: رينيه ديكارت، وكذلك: كانت وغيرهما. تولى جدنا: كرنياد – س، زعامة "الأكاديمية الجديدة" من عام 152 ق.م، إلى يوم وفاته، وكان ذا موهبة خطابية و"كارزما" قوية لا تضاهى، لدرجة أن خصومه ومناوئيه كانوا يتوارون ويولون الأدبار حالما تقع أنظارهم عليه في مجمع ما، وظلت سير وحكايات مواقفه ومواجهاته الفكرية وبعد زمن طويل من بعد وفاته تتردد على الألسن، وأشهرها قول سائد بصدد المسائل العويصة والمستحيلة الحل فيقال : (( .. حتى ولو أخلى العالم السفلي ( أي عالم الأموات ) سبيل: كرنياد - س، فاٍنه لن يستطيع أن يذلل هذه الصعوبة )). ومما يؤسف له أن فيلسوفنا: كرنياد – س، لم يكتب شيئا، ولم يدون له تلامذته وأتباعه بشكل مباشر. ولكن تعليمه تركز وكما يذكر الفلاسفة: شيشرون وسكستوس أمبيريكس،على ثلاث نقاط : نظرية اليقين المؤسس علي الشكية - وجود الآلهة - والخير الأعظم . وبصدد هذه النقاط الثلاث جميعا كان يذهب إلى عكس ما يذهب إليه الرواقيون من أن السعادة تكمن في ضبط الرغبات والأهواء، عبر الأخلاق والمـُثل والتي يجب أن تحتل المكانة المحورية الاسمي، مع إهمال الدولة ونظمها والتي تحتل حيزاً هامشياً في تفكيرهم.
ويقول: جان برون، عن هذا الفيلسوف الليبي الكبير: ((... يمكن القول إن أهمية: كرنياد – س، في تاريخ الأفكار الفلسفية، تتأتى بوجه خاص من الاٍنتقادات اللاذعة التي وجهها إلى الرواقيين ومدرستهم العتيدة، والتي أرغمت هؤلاء على توضيح مذهبهم وتحسينه رداً على اعتراضات ذات عمق ووزن ..))
وقال الفسلسوف : أكليتوماخو- س عنه: *" لقد أنجز كرنياد – س، عملا هرقليا، فقد طرد من عقولنا ذلك الغول المخيف المسمي: التسرع في الحكم والإستعجال".
و ... اكليتوماخو- س Clitomachus
بدوره هو فيلسوف ليبي كذلك، ولد في قرطاجا ( 180 - 110 ق.م )، وقد قاد الأكاديمية الجديدة ابتداء من عام 129 ق.م، خلفا لمواطنه ومعلمه : كرنياد – س، ومن المحتمل أن: اكليتوماخو – س، قد مات منتحرا، وربما تأثراً بمذهب الفيلسوف: هجسياس، تلميذ المدرسة القورينية، و الملقب: "بمستشار الموت"، نظراً لتبجيله لمبداء الانتحار، كنهاية مطاف البحث عن اللذة. وكان الفيلسوف الروماني العظيم: ماركوس توليوس شيشرون، يجل الفيلسوف الليبي: اكليتوماخو– س، كثيراً، وقد استوحاه في إنتاجه: "الأكاديميات"، وهي المرجع النموذجي للتعبير اللاتيني الكلاسيكي. وقد خلف أكليتوماخو- س،على زعامة الأكاديمية الجديدة الفيلسوف اليوناني الشهير: فيلون اللاريسي، والذي حاول جاهداً، التوفيق بين مذهب الشكية لـ: كرنياد-س، وحقائق الواقعية
في مرحلة الفلسفة الوثنية – المسيحية، وكما كان الشأن في ما سبقها من مراحل، برز عدد من الفلاسفة والقساوسة المسيح الليبيين البارزين، وكانت مدينة: قرطاجا، في ذلك العصر هي منارة الخطابة والبيان في المنطقة، ومنها برز:
ابوليوس امادوري Apuleius Madauros كاتب وفيلسوف أمازيغي، ولد حوالي سنة 125 م في جهة: مادورا، ( شمال غرب الجزائر حالياً ) عند تخوم جيوتوليا و نوميديا بإفريقيا الشمالية، نسب إلي جهته كما هي عادة تسمية كبار الفلاسفة والمفكرين والقادة الأمازيغ من قبل الإغريق والرومان، وكان من أسرة كريمة الأصل وميسورة الحال. تلقي علومه الأولية ودرس الخطابة في: قرطاجا الزاهرة، ثم انتقل في البداية إلي اليونان حيث تضلع في أثينا بفلسفة أفلاطون. وكان شغوفاً جداً وأراد أن يعرف كل شيء من العلوم الطبيعية والفلك والطب، إلي الموسيقى وقرض الشعر، وكان يحب الأسفار والتنقل، فطاف بعدة بلدان وأقطار وأحتك بالعديد من الحضارات والثقافات، وبعد غيبة طويلة حافلة، عاد أدراجه ليقيم في موطنه الأصلي: شمال أفريقيا، فأستقر في: طرابلس حينا، ثم بمدينة: قرطاجا، إلي حين مماته فيها نحو سنة 180 م. وأهم حدث في حياة جدنا: ابوليوس، والذي فجر فيه طاقاته الفكرية واللغوية الفذة، تمثل في واقعة الدعوي المغرضة التي أقامها عليه في: طرابلس، ذوو أرملة ثرية تسمي: بودنتيلا، واتهموه فيها بأنه أرغم هذه المرأة علي الزواج به عن طريق السحر والرقية الخبيثة، طمعا منه في مالها، وقد أبرأ نفسه من هذه التهم في مؤلفه الضخم الشهير: "في السحر أو دفاع ابوليوس"، وهو عبارة عن مرافعة يقدر بأنه ألقاها بين سنوات 155 - 158 م، أمام محكمة والي أفريقيا الروماني، وقد لاقت تلك المحاكمة إقبالاً غزيراً من قبل النخب المثقفة الطرابلسية في تلك الآونه. وكتاب: "في السحر أو دفاع ابوليوس"، هو الشهادة الوحيدة التي خلفها العصر الإمبراطوري الروماني على البلاغة القضائية باللاتينية.؟؟ ومن هنا لنا أن نلحظ أهميتها ودلالتها التاريخية لكونها جاءت علي لسان أفريقي أمازيغي الأصل(أي أعجمي- بربري)، وهو شأن عظماء الأمازيغ مع ثقافات وحضارات الوافدين علي مدي التاريخ، وهو الخطاب، الذي نعته مواطنه القديس الأشهر: أوغسطين، بأنه: (( عظيم الغزارة كثير البلاغة )). أما في الشطر الثاني من حياته فنجده في: قرطاجا، وقد صار موضع تكريم الناس، ويضرب بدروسه أمثلة جديدة على بلاغة باهرة لم ينطفئ بريقها قط، وكان جمهور: قرطاجا، المثقف يقبل على سماع محاضراته ومجالسه، بمثل الحماسة التي كان جمهور: طرابلس، قد أقبل بها على حضور محاكمته، حيث كان يستثير إعجاب السامعين بفصاحته وجهوريته، فقد كان متحدثاً فصيحاً يجيد اليونانية واللاتينية بطلاقة وبالتناوب. ومن مؤلفاته الصغرى: "أفلاطون و عقيدته"، وكتاب: "جني سقراط" الذي عرض فيه المذهب الديني للفيلسوف الشهير: سقراط، وكذلك كتابه: "في العالم"، والذي هو مجرد ترجمة بتصرف لمقالة الفيلسوف: أرسطو: "في الكون". أما أشهر أعماله الأدبية علي الإطلاق فهو مؤلفه الخالد: "الأمساخات"، والذي سمي أيضاً بـ: "الحمار الذهبي"، وهو عبارة عن قصة في أحد عشر جزءا، وصف فيها مغامرات الشخصية الرئيسية للقصة وهو فتى يُعرف باٍسم: لوقيوس، امسخ حماراً- أي تحول إلي حمار، بفعل مرهم سحري، ثم عاد بعد مغامرات وأحداث رمزية شتى إلى صورته الإنسانية، وتنتهي قصة: "الاٍمساخات"، بالإشادة بالأسرار المقدسة، وتحديداً الجزء الحادي عشر الذي يتخلل مطلعه فرح ديني وجل، يتحول شيئا فشيئا وحتى النهاية، إلى قصة رائعة تدور حول الرؤى والمشاهدات والاٍنجدابات والنزعات الصوفية التي ترسم شخصية المؤلف بوضوح في قسمات البطل الذي لا يعود على حين غرة، هو ذلك الفتي اليوناني: لوقيوس، وإنما وبكل جلاء هو مجرد إنسان فيلسوف من جهة: مادورا النوميدية، وهو: ابوليوس الأفريقي، وفي: "الاٍمساخات"، تتجلى فعلاً كل عبقرية المؤلف ونبوغه، الذي كان من أكثر كتاب العصور القديمة اٍتصافا بالصفة الشخصية من حيث الأسلوب.
ويقول العالم الفرنسي: هنري أنطوان، عن جدنا الفيلسوف الأديب: ((.. إن من أول ما يلفت الاٍنتباه في فكر: ابوليوس، هو شساعة المعارف أو بالأحرى شمولها وكليتها، وكذلك تنوع المواقف وطراوة الموهبة التي تتعاطى مع جميع العقليات، لقد كان إذا جاز القول: "ديدرو" عصره)).
وتقول الروائية الفرنسية أني إرنو عنه كذلك: ((.. ستظل قصة: ابوليوس، (أمور وبسيشة)، تـُقرأ مادامت هناك نفوس ظمأى إلى ما هو عجيب وقلوب حساسة بالحب)).
ترتوليان - س Tertulianus كوانتوس سبتيميوس ترتوليان: هو لاهوتي ومنافح متشدد عن العقيدة النصرانية. ولد فيما بين سنة 155 و 160 م، في مدينة: قرطاجا كذلك، وهو واحد من أشهر الكتاب المسيحيين في عصره، وما هو معروف عن تفاصيل حياته أقل مما هو معروف عن تطور فكره المتدين، الذي يشف عنه زهاء أربعين نصا في المنافحة والتنسك والأخلاق، والي حين مماته في عام 230 م. كان: ترتوليان إفريقيا من أسرة وثنية، تلقى في: قرطاجا، تأهيلا أدبيا وقانونيا معا، وعاصر في شبابه مجالس وخطابات الفيلسوف المفكر: ابوليوس، وما اندماج جانبي الأدب والقانون في فكره، إلا السبيل الذي أتاح له أن يصيب الشهرة التي أصابها في ممارسة المنافحة والتناظر، التي كان المتقدمون عليه من الكتاب باللغة اليونانية قد أرتقوا بها أصلا إلى مستوى رفيع من الكمال. وتفيد بعض الاٍعترافات المتضمنة في مؤلفاته جزأً من الخطايا التي اقترفها في شبابه، فهو يتهم نفسه بأنه مقترف للزنا وأنه تردد كثيراً على أماكن الفسق والدعارة. وما نعرفه عن مجونه وتمرده هو أكثر على كل حال مما نعرفه عن اٍعتناقه للنصرانية و زمن تدينه، والذي يـُقدر قريباً من العام 190 م، وربما في أثناء مقام له في روما. وتحمل تلميحاته على الاٍعتقاد بأنه انفعل أشد الاٍنفعال حينئذ لبطولة المسيحيين وهم يساقون إلى الموت و"الشهادة"، وبأن قدرتهم الهائلة على الإقناع قد أدخلت في ذهنه أنهم يجسدون الحقيقة التي لا تقاوم،(( والتي لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها ؟؟؟)) فتحمس الفيلسوف الشاب حيينها للعقيدة الجديدة، ولدرجة الشطط والتطرف، وكما هو حال أحفاده من بعده، وإلي يومنا هذا ؟ كان: ترتوليان، متزوجا، وأيضا كان كاهنا، وتشهد مقاطع كثيرة من مؤلفاته على ذلك. وكتاباته في الفقه الكنسي والمحاجة والأخلاق تؤشر إلي الحماسة والذكاء معا، وتنم عن قوة في الشخصية، واٍن كانت بلاغته لا تخلو من ثقل أحياناً، ولا تقارن ببلاغة مواطنه ومعلمه: ابوليوس، ولئن كانت حججه القانونية وحرارة اٍقتناعه وقوة ردوده الملتهبة تستثير الإعجاب، فاٍن: ترتوليان، لا يعرض عن ركوب مركب التحيز الذي يولده الميول والهوى الذاتي، فإذا بالسخرية والتهكم والضغينة تتقدم في كثير من الأحيان على تقديم الحقيقة. انضم: ترتوليان، ومن شدة غلوه وإسرافه، إلى شيعة: مونتانوس المتطرفه. وتجلي تشدده في نصوصه ذات النزعة الأخلاقية، فهو لا يتردد في تصنيفاته: "ضد المسارح" ( 198 - 202م )، و"التوبة" (203 - 204م)، وفي "الأخلاق" (200 - 206م )، في إبداء آراء تتناقض تناقضا فاضحا مع إجماع مذهب الكنيسة، فهو يدين إدانة قاطعة مثلا، في كتابة: "الحض على العفة" 208م، الزواج الثاني ويعتبره ضربا من الزنى.؟ كذلك فاٍنه يستبعد، في كتابه: "تاج الجندي" (211-212م)، النصراني من الخدمة العسكرية، بل وأنه لا يعترف للنصراني، في رسالته التي تحمل عنوان: "في الهرب من الاٍضطهاد" 212م، بالحق في الحرية والهرب من الاٍضطهاد، إلتزاماً بتعاليم المذهب المونتانوسي، مع أنه كان ذهب من قبل إلى العكس من ذلك باسم الإنجيل والكنيسة.؟ وهذا التشدد، الذي أبعده نحو عام 213م عن الكنيسة، اقتاده فيما بعد إلى أن يؤسس، هرطقة جديدة تحمل اسمه، وتُنسب إليه: الترتوليانيه، والتي لم يرتد عنها آخر أتباعها إلا علي يد مواطنه القديس: أوغسطين. ومن مؤلفاته الغزيرة كذلك: : "الدفاع" 197م – "رسالة التعليمات ضد الأمم"- "الرد على مرقيون" 200م – "الرد على: هرموجانس" 202-203م – "في أصل النفس" 203م - "الرد على اليهود"197م – " في الصبر" 200- 203 – "في النفس" 208-211م – "رسالة اٍلى سقابولا" 212م- " الرد على براكسياس" 217-222م – "في الزواج الأحادي" 217م.
ويقول الفيلسوف الفرنسي الفذ: ديدرو، عن: ترتوليان: (( ترتوليان، ذلك الأفريقي المندفع الذي كان لديه من الأفكار أكثر مما لديه من الألفاظ )).
وحول "ظاهرة": ترتوليان، إن صح التعبير، يقول أشهر الفلاسفة الفرنسيين المعاصريين: جان جوليفيه:" جاء ترتوليان، إلى المسيحية في الثلاثين من العمر، بعد أن خيبت آماله وتطلعاته المذاهب الوثنية، ومن ثم فقد قدر أنه بلغ أخيرا إلى الحكمة والحقيقة، وبات لزاما عليه بالتالي بعد أن اٍمتحن الفلاسفة ، أن يدينهم جميعا لأنهم لم يفلحوا في رأيه أن يعرفوا ولو نزرا يسيرا مما يعرفه أبسط مسيحي، وهكذا عارض أثينا بأورشليم، والأكاديمية بالكنيسة، ولئن رفض مبدأ: الغنوصية تحديداً: أي تركيز الجهد على دمج الفلسفة والنصرانية معا، فلأن: الغنوصية، تدل بوضوح على أن الهراطقة يولدون من الفلاسفة : ففالانتينوس ولد من الأفلاطونيين، ومرقيون من الرواقيين، والأبيقوريون ينفون خلود النفس، والشيع جميعا تنفي البعث، وزينون يؤله المادة ، وهراقليطس يؤله النار، وأرسطو اٍخترع قواعد الجدل، أي أدوات الهرطقة بذاتها، وهذا مع أن قاعدة الإيمان تستكفي بنفسها : فالعلم الحقيقي والتام هو أن يجهل المرء كل ما ينقضها، ولا مجال لحل وسط مع الفلسفة ".
ويبقي القول عن : ترتوليان، "بأنه كان مثالاً لا ينسى في العصر المسيحي القديم على تلك السقطات المؤلمة المريرة، التي من الممكن أن ينزلق معها بوجه خاص صفوة المفكرين الأذكياء"، من أبلغ ما قيل عنه. وبالرغم من كل هذا فقد ظل فكر ونهج هذا القسيس الفيلسوف ذا تأثير علي العديد من معاصريه وتلامذته، فها هو القديس: ييرونيموس يقول: (( لقد كان القديس: كبريان- س، من أكثر المعجبين به حماسة، وكان يتخد من كتبه قوته شبه اليومي ))، فمن هو:
القديس: كبريان - س Saint ;Cyprianus هو من آباء الكنيسة اللاتينية، ولد في مدينة: قرطاجا، نحو عام 210 م، ومات على مقربة منها في 14 أيلول 258م . كانت أسرته أفريقية وثنية وذات مال وجاه، وقد أصاب أول الأمر شهرة كبيرة كمدرس للبيان في: قرطاجا، ثم اٍعتنق النصرانية نحو عام 245 م، وخلف في عام 249 م : دوناتيوس على أسقفية قرطاجا. ومن أبرز مواقفه الفكرية والفلسفية، احتجاجه على عبادة الأوثان في كتابه: "الآلهة" 249م، وقد حارب الوثنية بحجج مستمدة من فلسفة ونهج مواطنه ومعلمه ومثله الأعلي: ترتوليان، الذي عاصره في شبابه، وأعلن في مؤلفه: " الشهادات"، عن أفول نجم اليهودية، أمام بيان المسيحية وسماحة خطابها،وترتبط بنشاطه الأسقفي تصنيفاته المتعددة في التأمل والأخلاق كما في مؤلفه: "في سلوك العذارى" 249م، و"في نفع الصبر" - "في الحسد والغيرة" 256م، وقد دخل القسيس: كبريان، في نزاع مع كنيسة روما حول مسألة معمودية الهراطقة، وقال بضرورة تجديد عمادهم، من باب قبول الأخر، على أن كنيسة روما وكنيسة اٍفريقيا عادتا إلى ما كانتا عليه من وحدة لما شن الأمبراطور: فاليريانس، حملة اضطهاد النصارى، فاعتقل الأب : كبريان، في منتصف عام 258 م، بسبب أرائه ومواقفه ونفي، وكان آخر كتبه: "الحض على الشهادة"، ثم أعدم بقطع رأسه في 14 أيلول 257 على مرأى من أتباعه ومناصريه.
بعيداً عن كل غلو أو مبالغة، وبكل ثقة ويقين نستطيع القول بأن أسلافنا كانوا فلاسفة عظماء، مفكرون وأدباء نوابغ، أثروا الفكر الإنساني القديم بالشئ الغزير، وبـُنيت علي قيمهم ومبادئهم الفلسفية، مسارات ومذاهب علمية وسياسية وعقائدية كونية، لا تزال وستظل شواهدها ودلالاتها بقاء الإنسانية.... ...
سابليو- س Sabellius هرطوقي مسيحي أصله من القيروان بليبيا،( اسم ليبيا كان يطلق علي عموم أجزاء القارة الأفريقية المعروفة في القدم )، ولد وعاش في القرن الثالث الميلادي، اعتنق في روما مذهب الأحوال القائل باٍن: الأب والاٍبن والروح القدس ليسوا أقانيم متمايزة، بل أحوال ثلاث لله، فأنزل به البابا: كاليكستوس الأول، الحرم الكنسي نحو عام 217 م، وفي زمن لاحق، أي في عام 381م، أدان المجمع المسيحي بالقسطنطينية: "السابليين"، أي أتباع الفيلسوف: سابليو – س.
أرنوبيو- س Arnobius ولد أرنوبيو- س الأكبر، بإحدى قرى نوميديا – بأفريقيا الشمالية، في أواسط القرن الثالث الميلادي، وكان كاتبا وخطيبا وشاعرا وثنياً، تنصر في أواخر سنين عمره، فتضلع في المسيحية بشكل قوي نظراً لخلفيته الخطابية وبيانه العريق. وقد عايش محنة المسيحيين من قبل أتباع قيصر وجنود الرومان الوثنيين. ومن أهم كتاباته: "ضد الوثنيين"، سنة 300م بأجزائه السبعة، وهو مكتوب بطريقة نثرية شاعرية؛ وتحامل في هذا الكتاب على الوثنيين وعباد الأصنام ، وبين فيه أن عبادة الله هي السبيل للفوز وضمان حسن الآخرة والنجاة الآمنة. وكانت ثقافته تجمع بين التطرف والأرثوذوكسية، و توفي سنة 327 م. ومن أشهر تلامذته النوابغ:
لاكتانسيو- س فرميانو- س Lactance Firmianus وهو فيلسوف ومنافح مسيحي. ولد كذلك في: نوميديا، نحو عام 250 م ،ومات في: تريفين بألمانيا عام 330م، عاصر عصر الأمبراطور الروماني: قسطنطين الأول، والمعروف بـ: قسطنطين (العظيم)، وأخذ عن مواطنه القديس: أرنوبيوس، فدرس فن الخطابة والفصاحة والبيان، وأصاب شهرة حملت الإمبراطور: ديوكليسيانس، إلى دعوته نحو عام 290م، لشغل منصب كرسي الفصاحة اللاتينية في: نيكوميديا، وغالباً ما أنه اعتنق هناك النصرانية، وقد طالته لاحقاً حملة الاضطهاد التي شنها: ديوكليسيانس، فاضطر إلى مغادرة: نيكوميديا، ثم عهد إليه الإمبراطور: قسطنطين الأول، والمعروف بمناصرته وحمايته لمعتنقي المسيحية، بتربية اٍبنه: خريزيبوس. من مؤلفاته بعد اعتناقه المسيحية: في صنيع الله - التعاليم الاٍلهية - في غصب الله - في موت المضطهدين - تغريد طائر الفينق.
أريوس أمونيوس Arius هرطوقي ومحدث شهير ليبي الأصل، ولد في عام 256م تقريباً، في مدينة: قورينا، وتوفي في العام 336 م. أخد العلم عن القديس الورع المتقشف: لوكيانوس الأنطاكي، ويعتبر من أشهر تلامذته وجلسائه، وسمي كاهنا، وأستحدث مذهبه الذي كان يقول فيه: (( اٍن الله واحد غير مولود، لا يشاركه شيء في ذاته تعالى . فكل ما كان خارجا عن الله الأحد إنما هو مخلوق من لا شيء بإرادة الله ومشيئته. أما " الكلمة " أي المسيح فهو وسط بين الله والعالم، كان ولم يكن زمان، لكنه ليس أزليا ولا قديما، بل كانت هناك فترة لم يكن فيها " الكلمة " موجودا، فالكلمة مخلوق، بل اٍنه مصنوع، والقول بأنه مولود، فبمعنى أن الله تبناه، ويلزم عن ذلك أن "الكلمة"، غير معصوم، ولكن استقامته حفظته من كل خطأ وزلل، فهو دون الله مقاما، ولو كان معجزة الأكوان خلقا، وقد بلغ من الكمال ما يستحيل معه أن يكون شيء أكمل منه رتبة ..)). أخد ينشر آراءه قبل سنة 320م، بقليل، فكفره من أجلها مجمع للكنيسة عقد في: الإسكندرية، فلجأ علي إثر ذلك إلى فلسطين حيث ألف كتابا باليونانية بعنوان: تاليا، أي (المائدة)، تعمد فيه أسلوبا يجمع بين النثر والشعر ترويجا لمذهبه بين أهل الحرف والصناعات وعموم الشعب. لقد كان مؤدي مذهب آريوس الواحدي إنكار لاهوت المسيح وتصوره إنسانا محضا، واٍن يكن لا متناهي العظمة . لذا اتخذ آباء الكنيسة المجتمعون في: نيقيا سنة 325 م قرارا باٍدانته وتكفيره ، وباٍعلان المسيح مساويا للأب في الذات والجوهر . ثم جاء مجمع القسطنطينية ( 371 م) ليكرس عقيدة الثالوث وليعطيها الصيغة المشهورة : " اٍله واحد في ثلاثة أقانيم " . وقد رفض عدد من الأساقفة في الشرق والغرب مسايرة مجمع نيقيا في إدانته للآريوسية، وأنتصروا لها كما انتصر لهذه الهرطقة ، التي عرفت شيوعا كبيرا في الشرق ، بعض الأباطرة والملوك، وبالمقابل شن عليها آباء الكنيسة الكبار، من أمثال: غريغوريس النازيانزي - وغريغوريوس النيصصي - وباسيلوس القبادوقي ، حرب عشواء وصدام عنيد. ويقول أعظم البحاث المعاصرون في تاريخ الفلسفة في العصر الوسيط، المفكر الفرنسي: إتيين جلسون، عن جدنا أريوس : (( .. يبدو أن هرطقة آريوس تولدت، إلى حد كبير، من الرغبة في إرجاع الدين إلى حدود العقل .؟؟. وقد واجه: غريغوريوس النازيانزي – وباسيلوس، موقفا مشابها لموقف التأليهيين الطبيعيين في القرن السابع عشر، أي عقلنة للعقيدة المسيحية، قام بها مفكرون شاعرون بالقيمة التفسيرية للإيمان المسيحي ، وحريصون على رد ما ينطوي عليه من أسرار إلى معايير المعرفة الميتافيزيقية. ولهاجس العقلانية الذي طغي علي مذهب: الآريوسية ، الدور الأكبر في ما لاقيه من نجاح هائل وشعبية تنوعت بين مختلف شرائح الشعوب ونخبها وحكامها. وقد كان محور الصراع الذي خاضه ضده آباء الكنيسة هو معرفة ما إذا كانت الميتافيزيقا هي من في استطاعتها استيعاب العقيدة، أم أن العقيدة هي التي تستوعب الميتافيزيقا ؟ )).
فولغانسيو- س فابيون كلاوديوس Fulgenceus Fabius Claudius لاهوتي ليبي ولد سنة 368 م، في مدينة: ثالبطا، بأفريقيا الشمالية، ومات في سنة 533م، في: روسبا، كان أسقفا للكنيسة الأفريقية، فانطبعت حياته بطابع التنازع بين الصبو إلى الحياة التأملية وبين المتطلبات العملية للحياة الكهنوتية. تزعم المقاومة الكاثوليكية الأريوسية، فنفي علي إثر ذلك إلى: سردينيا، حيث حرر هناك في منفاه، مؤلف: "كتابات ضد الآريوسين"، كما كتب ضد البيلاجيين(والذين يذهبون إلي أن الإنسان مخلوق في أصلة بدون صفات أخلاقية):"في حقيقة الجبر والنعمة الاٍلهية"، وعاد عام 523م إلى ضاحية: أبرشيته في روسبا، ولما شعر بدنو أجله أعرب عن رغبته في الاعتكاف والاٍختلاء بنفسه متعبداً في أحد أديرتها، لكن أبناء: أبرشيته، أصروا على عودته، فرجع إلى: روسبا، وإنما فقط ليوزع أملاكه على الفقراء وليموت فيها، هذا وقد طوبته الكنيسة قديسا تخليداً وتكريماً لذكراه.
سينازيو- س القورينائي Synesios Of Cyrene فيلسوف ليبي الأصل أفلاطوني محدث، ولد في مدينة: قورينا نحو عام 370 م، ومات فيها نحو عام 413 م . ينحدر من أسرة ليبية أصيلة كريمة، نشأ على الوثنية وتردد على المدارس العليا في الإسكندرية، ومكتبتها التاريخية. أخد بين 390 و 395م، عن الفيلسوفة المصرية العظيمة: هيباثيا، وفي عام 396م، كلفته مدينته: قورينا، بمهمة لدى الإمبراطور البيزنطي :أركاديوس، مما اضطره إلى الإقامة في القسطنطينية حتى عام 400م، ثم رجع إلى: قورينا، وتزوج هناك وعاش فيها عيشة مالك عقاري ثري مثقف كريم وخدوم، وعليه، ولما شغرت أسقفية: بطليمائيس سنة 409م، وقع اٍختيار الرأي العام عليه لخلافته، وكان يميل منذ وقت طويل إلى النصرانية، ولكنه من غير الثابت بأنه اٍعتنقها، وسمي أسقفا، وبحزمه وكرمه أفلح في تهدئة فتيل المنازعات التي كانت ناشبة بين مختلف السلطات الكهنوتية، وكذلك نجح في لجم جشع الضباط الإمبراطوريين. أقدم أثاره الأدبية المكتوبة، خطبة ألقاها عام 399م، أمام الإمبراطور: أركاديوس، بعنوان: "في الملكية"، وله رسالة ظريفة في: "مديح الصلع". ويروي في كتابه: "المصريون"، صراع: طيفون و أوزيريس،لكنه كان يستهدف في واقع الحال أحداث عصره، أما كتابه: "في المنامات"، فهو عبارة عن دراسة للأحلام، ومحاولات لتفسيرها على ضوء المذاهب الأفلاطونية المحدثة. وإنما أبلغ إجتهادته الفلسفية فقد كانت: "في طراز العيش"، إذ حاول فيه أن يبني ضربا من فلسفة وسطية تكون بمثابة جسر بين الحياة الطبيعية والحكمة العليا. ومن تصانيفه أيضا موعظتان وخطابان يعودوا إلى زمن أسقفيته، وعشرة أناشيد باللهجة الدوريه المحلية (أي الليبية الأمازيغية)، ومائة وتسع وخمسون رسالة كتبها بين 399 و 413م، وتزخر بالوقائع والأحكام والمناقشات بصدد الأمور اليومية، وهي مصدر حافل بالمعلومات بالنسبة إلى المؤرخين والباحثتين المتخصصين
ولا أفخر و أعطر من أن نختم سردنا هذا بسيرة جدنا الليبي، القس الأعظم، والمفكر الأشهر في تاريخ عصر الفلسفة الرومانية - المسيحية :
القديس أوغسطين- س Augustin, Saint
(( القديس أوغسطين هو أعظم سلطة بعد رسل الكنيسة )) بطرس الموقر.. أشهر قساوسة القرن الثاني عشر.
((يحتل الأب أوغسطين بلا منازع المكانة الأولى، بين آباء الكنيسة )) مارتن لوثر.. مؤسس المذهب البروتستانتي .
(( أوغسطين الذي لا يضاهي ، ذلك المعلم المتوقد الذكاء ، ذلك المعلم الأستاذ ... نسر الآباء ... فقيه الفقهاء)) بوسويه.
(( القديس أوغسطين أول آباء الكنيسة، كل كلامه دفق من فضيلته . كتبه تخرج من حرارة نفسه )) سان – سيران
(( القديس أوغسطين يتكلم أحيانا بطريقة يبدو معها أنه اقتبس كلامه من ديكارت؟؟ أو أن ديكارت اقتبسه منه)) الأب بواسون.
هو: أوراليو أوغسطين، أشهر آباء الكنيسة اللاتينية، ولد في مدينة:طاجسكا بنوميديا، تسمي اليوم بسوق: اهراس بالجزائر، في 13 تشرين الثاني 354 م، ومات في: أيبونا في 14 آب 430 م ، كان أبوه وثنيا ويدعى: باتريكيو، وأمه نصرانية تدعى: مونيكا. درس أولا في مسقط رأسه، ثم انتقل اٍلى: مادورا، ليدرس الخطابة، أولع باللاتينية وبالأدب اللاتيني، وكان غير ميال لليونانية التي لا يبدو أنه أتقن منها سوى بعض المبادئ الأولي. وعلى الرغم من أن أمه المتدينة قد حضته مبكراً على العماد إلا أٍنه لم ينتصر، وعاد اٍلى: طاجسكا، حيث عاش حياة منحلة، ندم عليها فيما بعد كما يشهد على ذلك كتابه: (الاٍعترافات). تسنى له أن يواصل دراسته، وفق أمنية أبيه، فارتحل اٍلى: قرطاجا، حيث تردد فيها على مدرسة البيان والبلاغة، وكان شغوفاً بمباهج المسرح وألعاب السيرك ومولع بها أشد الولع، وهناك تعرف إلى فتاة من أسرة متواضعة رافقته على مدى 12 عاما، وأخلص لها كما لو أنها زوجة شرعية، ورزقا ابنا اسماه: آديوداتس (هبة الله). كشفت لجدنا: أوغسطين، قراءته مؤلف: هورتنسيوس لشيشرون، عن دعوته الفلسفية، ومن يومئذ شغف شغفا منقطع النظير بجمال الحكمة الذي لا يبطل، وتأدت به دراسة الحكمة الوثنية اٍلى الاٍطلاع على المذهب المسيحي، فقرأ الكتاب المقدس، فخاب أمله فيها، ولم يستوعبه..؟ وانتمى وهو على ما هو عليه من تردد وحيرة، إلى الشيعة: المانوية، والتي كانت واحدة من الشيع النصرانية المتعددة في زمانه، وقد تحكم سببان في اختياره هذا: اٍستحالة قبوله باٍيمان مفروض، غير مبني على العقل..،ومسألة مفهوم الشر التي ستشغله طيلة حياته. لما أنهى دراسته عاد وعائلته اٍلى: طاجسكا، حيث انصرف اٍلى تعليم الخطابة ونشر مذهب: المانوية، وجمع حوله عددا من التلاميذ، ومنهم: ليقنتيوس - نبريديوس، وتبعوه فيما بعد اٍلى: قرطاجا. بين عام 380 و 381 م، كتب كتابه الأول في مجلدين أو ثلاثة: (في الجمال واللياقة)، وعندما قدم الأسقف: فاوستوس، من روما إلي قرطاجا، وكان فقيها مانويا شهيرا، استقبله الشاب: أغسطين، استقبال من به شوق لأن يبدد كل شكوكه، لكن أمله خاب، فقد بدا: فاوستوس، لـ: أوغسطين، خطيبا مفوها، ولكن جاهلا وعاجزا عن اٍلقاء أي ضوء على أي من المسائل، فبردت حماسته للمانوية، وعقد العزم بعدئذ على السفر اٍلى روما علي أمل أن يصيب فيها شيئا من الثروة والمجد، وما كانت أمه ترغب في أن يرحل، خصوصاً بعد موت ابيه في سنة 379م. لم تمنحه روما ما كان يتوقع من أمال وأماني، فألم به مرض عضال، ولم يجن ثراءً كبيراً من تدريس الخطابة، مع أنه شغل منصب أستاذ للخطابة في ميلانو،إلا أن أحواله تحسنت، وكان له من العمر يومئذ 30عاما. وأستقدم لاحقاً امرأته واٍبنه، وفي العالم التالي أمه وتلاميذه الأوفياء . على الرغم من أنه بات مذاك فصاعدا مطمئنا إلى مستقبله المباشر، إلا أن القلق ظل يعتمله، وكان في أثناء مقامه في روما قد انجذب إلى شكية: أركاسيلاوس، أكثر منه اٍلي شكية مواطنه: كرنيادس، وبات بحكم موقعه يستمع إلى مواعظ القديس: أمبروزيوس، أسقف ميلانو الكبير، لكن أمورا ثلاث كانت لاتزال تبقي: أوغسطين، بعيدا عن الايمان وكنيسة الكاثوليكيين: - استحالة تصور جوهر لامادي مطلق في لا ماديته. - واستحالة الاستغناء عن النساء ؟؟. إلا أنه تمكن فيما بعد من اجتياز المانعين الأولين بقراءاته للأفلاطونيين، أو بالأحرى الأفلاطونيين المحدثين "وربما أفلوطين نفسه"، ووجد لديهم حول الماهية الاٍلهية وطبيعة الشر تصورات فتحت له سبلا جديدة. فقد فهم أن الله نور، جوهر روحي وكل شيء تابع له وهو غير تابع لأحد؟؟؟ أما مشكلة الشر فقد تبدي له حلها في أن الأشياء بحكم ارتباطها بالله ، لا تحوز لا الوجود المطلق ولا عدم الوجود المطلق، فهي غير موجودة وجودا مطلقا، لأنها ليست هي الله.. وعلى هذا فما هي بقابلة للفساد اٍلا بقدر ما تشارك في الخيرية الاٍلهية، ولو تجردت من الخيرية لامتنع أصلا حتى فسادها.. فما الفساد إذن إلا فقدان للخير وعدم وجود.؟ ولئن أمسى: أوغسطين، مقتنعا على هذا النحو بالحقيقة، فاٍنه لم يغير مع ذلك شيئا في طراز حياته. وبناء على إلحاح أمه التي كانت راغبة في تزويجه بفتاة من أسرة كريمة، صرف رفيقته، واٍنما ليتخد له محظية أخرى ..؟.. وعندئذ حدثت النبوءة الحاسمة : فقد طلب لنفسه ذات يوم الوحدة والسكينة تحت شجرة في بستانه، فإذا به يسمع على (ما تراءى له)، صوتا يهتف به أمراً: (( خذ واقرأ .. إقراء ؟ ..)) فعجب للأمر، وتساءل بينه وبين نفسه عما يمكن أن يكون ذلك الكتاب، وسارع يأخد مشورة أحد أصدقائه، فوقع بصره لديه على رسائل: بولس الرسول، ففتحها بغير ما تعيين، فطالعته هذه الفقرة: (( لا تمضوا حياتكم في الولائم وملذات المائدة، ولا في الفسق والفجور.. بل البسوا سيدكم يسوع المسيح، وحاذروا من تلبية شهوات الجسد الفاسدة ))، فقرر على الأثر، وقد ((حلت به النعمة)) كما يقول، أن يعتكف في بيت صديقه: فيركوندوس، في: لومبارديا، مع تلاميذه وأصدقاءه وأمه وابنه، وهناك أمضوا وقتهم في الصلاة والدراسة والنقاش، وهناك أيضا رأت النور كتاباته الفلسفية الشهيرة: (ردا على فلاسفة الأكاديمية - في الحياة السعيدة - في النظام - مناجاة النفس)، ثم استقال من عمله كمدرس للخطابة، وتعمد في ليلة 24 – 25 نيسان 387م، على يد القديس: أمبروزيوس، ووقف نفسه مذاك فصاعدا على خدمة الله، وكتب في ميلانو: (في النفس الخالدة)، وارتحل صيفاً إلى موطنه: أفريقيا، لكن موت أمه في 387م، أعاده إلى اٍيطاليا، ومكث في روما اٍلى صيف 388م، وأثناء مقامه في إيطاليا، ساند البابا: سيريسيوس، في صراعه ضد المانويين، وكتب رسالتين ضدهم، وكان ذلك مبتدأ تصانيفه الكثيرة في المنافحة عن أصول العقيدة الكاثوليكية. في روما أيضا كتب: (في عظمة النفس)، وهو مؤلف صوفي تجلت فيه بوضوح مواهبه كعالم نفس، والجزء الأول من كتاب:(حرية الإختيار)،"سوف يؤلف الأجزاء الأخرى في أفريقيا سنة 395 م"، وتطرق فيه اٍلى مسألة الشر، وبعد أن أقام لفترة وجيزة في: قرطاجا . عاد في خريف 388م، اٍلى: طاجسطا، وهناك باع جزء مما كان يملكه ووزع ثمنه على الفقراء، وطلب من الذين يرغبون في اتباعه أن يفعلوا مثله. وفي أثناء مقامه الذي دام سنتين في: طاجسكا، أنجز كتابه: (ردا على المانويين - المعلم - في الموسيقى)، وفي سنة 390م كتاب: (في الدين الحق)، وفيه طور الحجج التي كان أوردها في مؤلفه: (الرد على فلاسفة الأكاديمية). في هيبونيس سنة 390م، اصبح كاهناً وأسس الرهبانية التي تحمل اسمه، ووضع لها دستورا، ثم عـُين نائبا للأسقف التقي والطاعن في السن: فالاريوس، وعهد اٍليه بمهمة الوعظ ، فأداها على أحسن وجه حتى مماته تقريبا، وكان في المدينة الكثير من الهراطقة الدوناتيين وعلى رأسهم: بروكولايانوس القوي، والمانويين ومنهم واحد يدعى: فورتوناتوس. وفي أعقاب مناظرة عامة مع الكاثوليكيين(في 28 -29 آب 392 )غادر المدعو: فورتونانوس، المدينة مغلوبا على أمره، وقصة هذه المساجلة هي موضوع الكتاب الذي وضعه الأب: أوغسطين، بعنوان: (ردا على: فورتوناتوس المانوي)، وكان ذلك فصلا من فصول المعارك الشرسة والمتعددة المشاهد التي خاض غمارها على جميع الجبهات ضد الشيع الهرطوقية والاٍنشقاقية التي كانت تتهدد العقيدة القوية الكاثوليكية: المانويين، الذين كانوا ينكرون وحدة الكنيسة ورسالتها - البيلاجيون الذين كانوا ينكرون الخطيئة الأصلية وفعالية النعمة، والوثنيون الذين كانوا لا يزالون ينكرون رسالة المسيح ويكذبونه. وهكذا كتب: (في نفع الاعتقاد)، واتبعه بكتابين: (في ثنائية النفس 392م - في سفر التكوين 393م). وفي مجمع الأساقفة الأفريقيين الكاثوليك، الذي دعا اٍلى عقده في هيبونيس الأب: أوراليوس، أسقف: قرطاجا، ألقى ضد الدوناتيين العظة الشهيرة المعروفة باسم: (في الاٍيمان والرمز)، ثم كتب بعدها مباشرة: (ردا على رسالة دوناتيوس الهرطوقي)، وبين نهاية عام 395م، وبداية عام 396م، عـُين بعد وفاة: فالاريوس، أسقفا على: هيبونيس، فأوفى بجميع فرائض منصبه الجديد على أكمل وجه، وكان في آن واحد راعيا واٍداريا وواعظا وقاضيا. والعظات الـ 300 التي خلفها الأب: أوغسطين، ما هي إلا جزء يسير مما ألقاه، وبعضها كـ: (المواعظ)، هي من أجمل ما تحوزه الكنيسة من شروح، ولا تقل أهمية عن عظاته: (الرسائل)، والتي وجهها اٍلى خصوم وأصدقاء وأغراب ورهبان وعلمانيين علي السواء. وفي عام 396م، حرر جزء من: (المذهب المسيحي)، وفي عام 401م، نشر الأجزاء الثلاثة عشرة التي تتألف منها: (الاٍعترافات)، ولنا هنا أن نعرج علي فيلسوف ليبي عظيم، ذكره: أوغسطين، في الجزء السابع، الا وهو: فكتورين كايوس، والذي كانت سيرتة المجلجلة إلي النصرانية، وردوده علي الفيلسوف: أريوس، عنصراً حاسماً في إهتداء: أوغسطين، ومسير فلسفته. وفي نحو عام 400م، شرع الأب: أوغسطين، في تحرير رسالته الفلسفية واللاهوتية الكبرى التي تحمل عنوان: (في الثالوث)، التي عمل فيها زهاء 15 عاما متواصله. وبعد انقشاع الخطر المانوي، وجه كل حربه ضد الدوناتيين الذين ارتأى أن خطرهم على وحدة الكنيسة كبير، فشارك في المجمعين الكنسيين المعاديين للدوناتية اللذين عقدا في: قرطاجا سنة 403 و 411 م، وتولى وحده تقريبا عبء النقاش، وقد كرس لصراعه هذا ضد الوناتيين عددا كبيرا من النصوص، ومن أشهرها: (في العماد ردا على الدوناتيين 401م - وردا على الرسالة الدوناتية أو وحدة الكنيسة 405م) . في 2 أغسطس 410م، اقتحم القوط بقيادة ألاريك، روما وأعملوا فيها نهبا وسلبا ثلاثة أيام بلياليها، فتدفق اللاجئون بأعداء غفيرة على افريقيا، وزرعوا فيها الرعب والفوضى وأشاعوا أن المسيحية هي المسؤولة عن مصائب روما، وتفنيدا لهذه الشائعات كتب: أوغسطين،(مدينة الله)، وهو الكتاب الذي يبقى أرحب تصور للتاريخ الاٍنساني كما يراه مسيحي، وقد خاض: أوغسطين، صراعا ضاريا مع: سيلاستيوس، تلميذ: بيلاجيوس،عن طريق المواعظ والمجامع الكنسية، الذي تجسدت حصيلتها في عدد من الرسائل المضادة للبيلاجية، ومنها: (في الطبيعة والنعمة ردا على بيلاجيوس 413 – 415م) و(ردا على دفاع: يوليانوس، عن الهرطقة البيلاجية 423م). وكتب أيضا بروح أكثر نظرية وأقل جدالية: (في النعمة وفي حرية الاٍختيار- في الفساد والنعمة 426م). ولم ينج الآريوسيون بدورهم من لذع فكره وقلمه، فكتب ضدهم رسالة في عام 419م ، ثم خاض بعد عشر سنوات غمار مناظرة عامة مع الأسقف الآزيوسي: مكسيموس، تمخضت عن رسالة بعنوان: (ردا على الأسقف الأريوسي مكسيمونس). وفي عام 429م، شرع باٍعادة النظر في جميع تآليفه، فكانت نتيجة المراجعة كتاب: (الاستدراكات). اجتاحت موجات الغزو القوطي اٍفريقيا الرومانية، ففي عام 429م، اٍجتازت قبائلهم بقيادة: جنسريك، مضيق جبل طارق، وزرعوا الخراب في أكثر مدن اٍفريقيا المسيحية، ولم تبق قائمة في وسط الأنقاض سوى كنائس: قرطاجا وسرتا وهيبونس، وفي الشهر الثالث من حصار مدينة: أوغسطين الأسقفية ، سقط الأب المتعب المنهك فريسة للمرض ومات في 14 أغسطس 430 م.
ردا على العقل الذي يسأله في: مناجاة النفس: " ماذا تريد أن تعرف ؟ " ، يجيب أوغسطين: " الله والنفس - لا شيء آخر - لا شئ أخر"، ففلسفة: أوغسطين، هي عبارة عن محاورة محتدمة، وغير منقطعة بين المخلوق والخالق، بين الإنسان الذي يطلب الله، والله الذي الذي يأتي لملاقاته، رحلة روحية للموجود المتناهي نحو الموجود اللامتناهي. ومعرفة الإنسان لذاته في الماهية الحقيقية لوجوده تعني في نظر: أوغسطين، المعرفة بأن الله موجود، وملاقاته على طريق المحبة هي رحلة حب ..؟ أي فلسفة تصوفية عميقة عريقة، فيها أن الإنسان، موجود مفكر لأنه يشارك في الحقيقة، والله هو الحقيقة، وأن نتعقل يعني أن نحب كثيرا، ولكن هذا لا يعني أن: أوغسطين، كان من أنصار المذهب المضاد للعقل، وسنخون فكره روحا وحرفاً، فيما لو نسينا أن فلسفته تندرج بصرامة في خط المثالية الأفلاطونية وأن جل طموحها أن تكون ترجمة مسيحية لها، وحذاري أيضا من الخطأ المعاكس الذي يحول: أوغسطين، اٍلى منطيق مجرد وصوري : فالحقيقة ليست عنده رؤية للذهن، واٍنما حياته بالذات، الحقيقة ليست موضوعا برسم التأمل فيه من الخارج، كما لو أنها شيء متميز عنا، بل هي تـُتعقل شيء وتـُحيا داخليا لأنها والاٍنسان شيء واحد . "التفلسف" عند: أوغسطين، هو ارتداد الاٍنسان نحو ذاته ليجد ذاته وليجد فيها حقيقة تتجاوزه.
اٍن القديس: أوغسطين، هو احد آباء الكنيسة الذين دارحولهم أعظم جدال في العالم المسيحي : فالكاثوليكيون والبروتستانتيون، الجانسينيون واليسوعيون، احتموا وراء سلطته ليعقدوا اٍزار النصر لمذاهبهم. والحق أن فكر: أوغسطين، وبحكم كثرة المعارك التي خاض غمارها وتعدد الخصوم الذين واجههم، مطبوع بطابع التناقض وقابل للتفسير في اتجاهات متباينة(وقد تراجع غير مرة عن بعض أفكاره في أثناء مساجلاته)، بل حتى ديوان التفتيش نسب نفسه اٍليه، لأنه وجد عنده تعريفا مفصلا لعقيدة التعذيب في موضوع الدين؟؟ والنقطة التي ثار حولها عبر العصور أهم جدال هي تلك المتعلقة بالجبر والنعمة، أي ما يعرف لدي العقائد الأخرى بالقضاء والقدر، وجدلية هل الإنسان مـُسير أم هو مـُخير؟ فقبل: أوغسطين، كان كل آباء الكنيسة يتفقون على الاٍعتقاد بأن الله قدر للبشر قاطبة الخلاص أوالهلاك، والكنيسة الشرقية، التي لم تقبل قط بعقيدة الخطيئة الأصلية التي فرضها على الكنيسة الغربية القديس: أوغسطين،( إدانة مجمع أفسس سنة 431م، للبيلاجية)، بقيت وفية لذلك المذهب، وبالفعل لئن يكن: أوغسطين قد أقر في صراعه مع المانويين الذين كانوا يلحون على الطبيعة الشريرة جوهريا للإنسان، بدور للحرية الإنسانية، إلا أنه اختزل بالمقابل في سجاله مع البيلاجيين، الإنسان إلى عجز يسترقه كامل الاٍسترقاق للنعمة الإلهية، والحل الذي اقترحه لمسألة خطيئة آدم وانحطاط ذريته، أن الإنسانية في نظره غارقة في الخطيئة اٍلى حد أن طبيعتها، التي غدت كتلة من الخطيئة والفساد والهلاك، تحول بينهما وبين أي صبو نحو الخير، وعلى هذا فاٍن الخلاص لا يمكن أن يكون اٍلا من صنع الله وحده، والله يضن على بعضهم بما يمنحه مجانا لبعضهم الأخر، وهو يبدي عن رحمته في شخص أولئك الذين يتركهم للهلاك؟؟ والواقع أن هذا المذهب فيه نفي لقيمة الأفعال، ولم تقبل به قط الكنيسة الكاثوليكية بتمامه، ولئن كانت لا تجرؤ على المساس بما جاء بشأنه في كتابات: أوغسطين، فإنها تحاول بالمقابل أن تأوله وتخفف من غلوه، وعلى نحو ما فعل اليسوعيون حينما سعوا مع: مولينا، إلى التوفيق بين حرية الاٍختيار والنعمة، أما في أوساط البروتستانتيين فقد قال: لوثر، مؤسس المذهب بالجبر، فافترق عنه بصدد هذه النقطة: ميلانختون، الذي رأى في الخلاص نتيجة لتعاون بين الاٍنسان والله. يقول أوغسطين:" أفعالنا هي أفعالنا، بسبب حرية الاٍختيار التي أنتجها،وأنها كذلك أفعال الله بسبب نعمته التي تجعل حريتنا هي المنتجة لها ".
ويقول عنه : فينيلون : " لا مراء في أن القديس أوغسطين، كتب في زمن فاسد بالنسبة اٍلى الذوق، و طريقته في الكتابة تحمل أثر ذلك ظاهرا، فقد كتب بلا نظام وعلى عجل، وبفرط من خصوبة الذهن، بقدر ما كانت حاجات التعليم أو الدحض تلح عليه، فأفلاطون وديكارت ما كان عليهما اٍلا أن يتأملا في هدوء، وأن يكتبا متى شاءا، بدون أن يعني هذا أن هذين الكاتبين براء من العيوب، فلو جمعنا جميع الفقرات المتفرقة في مؤلفات القديس: أوغسطين، لوجدنا أن لديه من الميتافيزيقا أكثر مما لدى ذينك الفيلسوفين.. إني لن أكون مغاليا مهما أعجبت بتلك العبقرية الوسيعة ، المشرقة ، الخصبة ، السامية ".
" يبقى: أوغسطين، أيا ما كان اٍسهام المتقدمين عليه الرائد المؤسس والمحرك للفكر الكاثوليكي وللفلسفة المسيحية " (موريس بلونديل)
" ما من أحد خضع مثله، وبمثل تصميمه وتواضعه لمعطيات إيمانه، ومع ذلك ما من أحد أراد أكثر منه ألا يفعل بإيمانه، بل أن يتعقله وأن يستكشف كل محتواه " (ب . دي لابريول)
" إن سر عظمته ككاتب، وكذلك كمفكر، يكمن في انه يحيا ما يتأمله ويستشعر بعمق ما يقوله... أرفع المسائل ردها اٍلى أناه الخاص، واللاهوت استدخله، والفكر المجرد صهره في بوتقة قلبه، والايدولوجيا حلق بها إلى سمائها، وإنما بأجنحة من نار ... وبهذا النداء اٍلى التجربة الداخلية للفرد، وكذلك بقلقه المشبوب، يمكن القول مع التحفظ المطلوب اٍنه الرومانسي الأول في الغرب، الإنسان العصري الأول " ( جيوفاني بابيني)
" القديس: أوغسطين، لا يكف أبدا عن اٍلقاء دروس وفي الجنة، وأمام الله سيستهل درسا في التباكي، اٍنه يثرثر على مد النظر، إن نوميدي روما هذا، أو روماني نوميديا ؟؟؟ هو أقل الناس يونانية " ( أندريه سواريس)
ويقول الفيلسوف الفرنسي الشهير: فولتير: " كان القديس: أوغسطين، أول من اعتمد تلك الفكرة الغربية (الخطيئة الأصلية) الخليقة بالرأس الحامي والخيالي لأفريقي فاسق وتائب، مانوي ومسيحي، غفور وظالم، أمضى حياته يناقض نفسه ".
" الأسقف القديس: أوغسطين يتبدى لنا في إهاب شيشرون مسيحي، وصحيح أنه يتكلم لغة أخرى ؟؟؟، لكنه يخلط مثله الخطابة بفلسفة أشد قلقا وأكثر حمية في نشدان الحقيقة " (فريدريك شليغل)
" .. عندما أنهل من ما كتب القديس: أوغسطين، بغزارة وقوة، أتساءل: ماذا لو كتب بلغته الأم ؟" (يوحنا بولس الثاني – بابا الفاتيكان الراحل).
#فتحي_بن_خليفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا ليبي رغم أنف القذافي
-
إسرائيل و الجماهيرية همجيتهم ورُقِينا
-
الجماهيرية القذافية.. جماهيرية الميز والعنصرية....تيريت* ...
...
-
الاٍيدز السياسي
-
هو تطرف تقولون .. إذن فليكن
المزيد.....
-
الحكومة الإسرائيلية تقر بالإجماع فرض عقوبات على صحيفة -هآرتس
...
-
الإمارات تكشف هوية المتورطين في مقتل الحاخام الإسرائيلي-المو
...
-
غوتيريش يدين استخدام الألغام المضادة للأفراد في نزاع أوكراني
...
-
انتظرته والدته لعام وشهرين ووصل إليها جثة هامدة
-
خمسة معتقدات خاطئة عن كسور العظام
-
عشرات الآلاف من أنصار عمران خان يقتربون من إسلام أباد التي أ
...
-
روسيا تضرب تجمعات أوكرانية وتدمر معدات عسكرية في 141 موقعًا
...
-
عاصفة -بيرت- تخلّف قتلى ودمارا في بريطانيا (فيديو)
-
مصر.. أرملة ملحن مشهور تتحدث بعد مشاجرة أثناء دفنه واتهامات
...
-
السجن لشاب كوري تعمّد زيادة وزنه ليتهرب من الخدمة العسكرية!
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|